التّسامح بين المسيحيّة والإسلام

إلهام كلاب البساط

 

 

إنّ تاريخ التقاء المسيحيّة بالإسلام، تاريخٌ طويلٌ متشعّبٌ، تنوّعت محطّاته بين التّسامح، والعنف، والدّمار، والمودّة.

 

والوقائع الكبرى، التي كتب التاريخ على إيقاعها، وضعت المسيحيّة والإسلام في مواقع العراك والعداوة، لأنّ التاريخ لم يكتب إلّا على ضجيج المعارك ومعادلات الغلبة؛ ولذا قيل إنّ الشّعوب الهانئة ليس لها تاريخٌ، من خلال هذا المعنى التّقليديّ الضّاجّ للتاريخ.

ولكن يغيب عن أذهاننا، أنّ أغلب المعارك التي جرت بين الشّعوب الإسلاميّة والشّعوب المسيحيّة ـ وهنا يجب التوقّف عند معنى التّسميات الإجماليّة وتبدّلها تاريخيّاً ـ وهذه نقطة بحثٍ أساسيّة، تجدر العودة إليها، كانت معارك لا تمتّ إلى مضمون العقيدة، قدر ما كانت معارك سيطرة وسلطة.

فالمعارك التاريخيّة، التي جرت بين المسيحيين أنفسهم، وبين المسلمين أنفسهم، كانت اقسى وأشدّ ضراوة من المعارك التي جرت تاريخيّاً بين المسيحيين والمسلمين، وهما ينتميان إلى دينين مختلفين، ممّا يُثبت أنّ المعارك، لا تتّقد بالضّرورة في اختلاف الأديان، ولا تُقاد في سبيلها. كما أنّ الفكر لا يصرع في المعارك، إلّا عندما يكسوه التهديد بعصبيّته، فيزدادا شراسةً معاً.

إنّ هذه، مراحل من التاريخ، عديدة، نأنف ونخشى من ذكرها، ونضعها في هوامش كتاباتنا التاريخيّة، لأنّنا نعتقد، أنّ عدوّنا هو الآخر، في خارجنا، في دينه الخاصّ، بينما تقبع العداوة في داخل كلٍّ منّا، وأمام الأخ الموازي في العقيدة والإيمان. لأنّ العصبيّة إنّما هي بالتّحديد موقفٌ يتحيّن موقعاً.

إنّ الحروب التي جيّشت تحت العناوين الدينيّة الكبيرة، كانت أبعد ما تكون عن حقيقة التّعبير الدينيّ في سموّه الروحيّ، لأنّ العنف تعبيرٌ عن التّرسّب السّهل لعصبيّة الدين، والتّسامح هو حصيلة الوعي الحقيقيّ الصّعب لرسالة الدين.

في هذا السياق، جرت القراءات التقليدية للتاريخ، وفي هذا السياق، كانت القراءة الأحادية المقصودة للتاريخ الإسلامي عند "هانتينغتون"، معادلة أوّليّة للتعرّف إلى حروب التاريخ.

حيال هذه القراءة التقليديّة، يجدر بنا التصدّي في قراءة معاصرة للتاريخ، تعود لمراجعه المكتشفة تباعاً، وإلى قراءة تقابل بين ضفتي الحدث، قراءة تقوّض تاريخاً منمّطاً للمنطقة العربيّة وللعالم الإسلاميّ، ساهمت الهوامات والأحلام والعصبيّات والقراءات المبتورة في صياغته، وساهم جهلنا في تبنيه.

الأمثلة كثيرة، ولكن سأتوقف بإيجاز، كي أعطي مثالاً لمحطّات تاريخيّة، يجدر بنا استعادة كتابتها، من خلال رؤية تتعدّى العراك العقائديّ والتسلّط السياسيّ، في تفكيك موضوعيّ لمختلف العناصر التاريخية المتاحة تباعاً.

أذكر على سبيل المثال دون الحصر، المرحلة الأندلسيّة، حضارة العصر العبّاسيّ، عصر صلاح الدين، الحروب الصليبيّة، وجدليّة علاقة المسيحيّة الشرقية بالإسلام وبمسيحيي الغرب.

لم تعرف المرحلة الأندلسيّة ازدهاراً في الشّعر والأدب والهندسة والفنون، إلّا نتيجة تلاقي الحضارات والأديان، وتشاركها في رحابةٍ وتسامحٍ، بالرّغم من تصادم الاختلاف.

ومع أنّ المسلمين دخلوا الأندلس في القرن التاسع كفاتحين، يحملون حضارةً مختلفةً، وديناً مختلفاً، ولغةً مختلفةً. ومع أنّ المسيحيين، في استعادتهم للأندلس، بنوا كنيستهم القوطيّة، عنوةً، داخل أعمدة جامع قرطبة، فإنّ المرحلة الأندلسيّة، ما تجلّت كحضارةٍ، إلّا نتيجة فسحة التّسامح المتبادلة قسراً، أو طوعاً، أو تفاعلاً ثريّاً. ولقد ذاق الطرفان في تاريخ الأندلس، الاضطهاد المتبادل، والتّسامح المتبادل في ديناميّةٍ فريدةٍ، تستحقّ متابعتها في دراسة هذه المرحلة، التي تتالى إشعاعها في مجالات الحضارة العربيّة والغربيّة.

وكانت حضارة العصر العبّاسيّ، التي شعّت على العالم منذ القرن العاشر، بالعلم والفلسفة والأدب والشعر، نتاج حضارة التسامح والتعايش بين شعوب وأديان ومعتقدات. وفي رصدٍ لعدد الأدباء والفلاسفة والمترجمين المسيحيين والسّريان في العصر العباسيّ، ما يُذهل المؤرّخين من مدى الانفتاح الفكريّ الذي ميّز هذا العصر الذهبيّ.

وفي استقراء لكلّ النتاج الفنيّ والإبداعيّ لعصر الأيوبيين، نجد أنفسنا أمام فنٍّ استبطن كلّ التأثيرات والتصوّرات الدينيّة في المنطقة العربيّة، وعبّر عنها باطمئنانٍ وجمالٍ، في ظلّ حكمٍ إسلاميٍّ، أفسح في المجال، أمام الفنّان وأمام إبداعه، دون استرضاءٍ أو وجلٍ.

أمّا مرحلة الحروب الصليبية، وهي العقبة الفكريّة الكبيرة في فهم تاريخ القرون الوسطى، وعلاقة المسيحيّة بالإسلام، فعلينا، نحن أهل الشرق، استعادة قراءتها المتأنيّة من مصادرها المتقابلة، لكسر هذا الوهم الكبير، بين الدّعوة الدينيّة والأزمات الاقتصاديّة والمعارك الحربيّة والسيطرة السياسيّة، والتي، اذ تجلّت، عنواناً كبيراً بين المسيحيّة والإسلام، فلقد اختزنت في عناوينها الجزئيّة، صراعات دمويّة داخل كلّ دينٍ، تقوض الكثير من النمذجة الفكريّة واللغويّة التي درجنا على التمثّل بها في كلامنا عن الحروب الصليبيّة.

وتقودنا هذه المرحلة، إلى جدليّة العلاقة بين المسيحيّة الشرقيّة والمسيحيّة الغربيّة والإسلام، وهي علاقة موّهت عناصرها، وشوّهتها تاريخيّاً، الحروب الصليبيّة ورواياتها.

فالمسيحيّة الشرقيّة، تُحاور الإسلام، براحةٍ ورحابةٍ وقرابةٍ، تتخطّى بكثيرٍ، إمكانيّة حوارها مع المسيحيّة الغربيّة. والمسيحيّ الشرقيّ، في بنيته الذهنيّة، وفي طريقة مواجهته الفكريّة والعمليّة للعالم، وللإيمان، أقرب إلى المسلم منه إلى المسيحيّ الغربيّ.

ولتقويض هذا التناغم، نشهد الآن، في بعض الكنائس الأميركيّة، محاولات مغرضة لتسليط الضّوء على ما يصدر عن بعض الحركات الإسلاميّة المتطرّفة، واستخدامه كدليلٍ للاضطهاد المقبل للمسيحيين العرب.

والغرب الآن، مصطلح صعب التحديد. والمسيحيّة في الغرب أيّ غرب؟، مساحة من القيم والمعتقدات والممارسات، يصعب تأطير حدودها فكريّاً، وحتّى جغرافيّاً.

والإسلام، في المدى الذي ندعوه الآن العالم الإسلاميّ، مدارس وتفاسير ومناهج وفتاوى مختلفة، ممّا يجعل أيّ حكمٍ إطلاقيٍّ، حكماً خاطئاً، إذا لم يأخذ بالاعتبار، تموّج الواقع، وتفاصيله، وسيرورته التاريخيّة.

إنّ التّاريخ، الذي شهد مراحل قاتمة في تاريخ علاقات الشّعوب المختلفة في انتمائها الدينيّ، إنّما عرف أيضاً مراحل مضيئة تناقلت إرثاً طويلاً، ومنذ بدء الدّعوة الإسلاميّة، من التّعايش الإسلاميّ المسيحيّ.

هذا الإرث الذي تقاسمه المسيحيون والمسلمون في الشرق لحقبات طويلة، كان يمتهن ويشرذم عندما تجد السلطة مصلحة لها في العداء المتبادل، وكان يزهر تفاعلاً وتعاوناً وتسامحاً في مراحل ازدهار، تبلور ثقافة جديدة ثريّة للمجتمعات العربيّة.

واذ أعود إلى لبنان، حيث تراكم هذا الإرث، فلأنّ الحضارات والأديان والثقافات والأعراق المتنوّعة التي صنعت تاريخ اللبنانيين إنّما هي حريّة بتحويلهم من أبناء حضارات متنوّعة إلى أبناء مفهوم للحضارة التي تقبل وتتسامح وتتفاعل. حضارة حوّلت هذه البقعة من وطن يتعدّى حدوده الجغرافيّة إلى وطنٍ تصوغ آفاقه الحضارات العديدة التي أزهرت على أرضه فحوّلت حدوده آفاق حضاراته.

ولكن، التحدّي اليوم، وليس بالنسبة للبنان، بل بالنسبة إلى كلّ مجتمعاتنا العربية، هو في كيفية تحويل هذا الإرث التاريخيّ الثمين، من التسامح المتبادل والذي نفخر به تاريخيّاً، إلى إرادةٍ تحقّق في الحاضر، وإلى خيارٍ مقصود، نصنعه، ونُحافظ عليه، بيقظةٍ متواصلةٍ ووعيٍ مستقبليٍّ.

إنّنا نرد غالباً على الاتّهامات التي تُساق عن حاضرنا المُصاب بالعصبيّات والأصوليّات الدينيّة، باستعادة إنجازاتٍ مجيدةٍ من الماضي. إنّنا نردّ على هفوات الحاضر بذكر أمجاد الماضي، ممّا لا يُقنع الآخر، ولا يُقنعنا نحن.

إنّ تراث الماضي، حافزٌ متينٌ لصياغة رؤيةٍ مستقبليّةٍ لمفاهيم التّسامح الذي يؤسّس لكلّ حوار، ولكنّه حوارٌ لا يتأسّس، إلّا على رؤيةٍ متطوّرةٍ لبناءٍ اجتماعيٍّ، يؤمن العدالة والكرامة الإنسانيين، ولديمقراطية سياسية حافظة لحقوق الإنسان، أيّ إنسان مهما كان انتماؤه.

عقبات أمام ثقافة التسامح :

لا يبدو العالم، في بداية هذا القرن، موقعا رحباً للتضامن والتسامح، في ظلّ حساب توازنات القوى المقبلة، بين عولمة كاسحة، وفقر متعاظم، وإرهاب مفاجئ، وحروب إثنية، وتوازن دولي ظالم، ومحاولات سيطرة لقوى عالمية تستعيد حلم الإمبراطوريات القديمة.

تبدو المشكلة الآن، بين عالمين لا بين دينين، بين العالم الغربيّ والعالم الإسلاميّ، وأكرر هنا ما تحتمله الكلمات من تعميمٍ. وتتكثف المشكلة في ربط التصنيف الحضاري بالتصنيف الدينيّ. وبالتالي نمذجة التصنيفين، والتنبؤ بعدم إمكانيّة اللقاء أو التشابه، وعدم قابليّة حضارة الدين للتطور، ورسم حدود عداء، يُطيح بثقافة التسامح، ويمنع أيّ اقتراب وأيّ حوار.

وتتعمق المشكلة، عندما تحاول الحضارة الغربية، أو الأخرى، أو الأقوى، تأكيد هيمنتها، وفرض نماذجها على العالم، من خلال السيطرة الكونية للعولمة.

فإذا بها تهيمن من جهة، وتحفز العصبيات، وتستنفر الثقافات المهمشة من جهة ثانية، ممّا يستثير عنف المرفوضين، ويؤجّج الصراعات الانفعالية، ويستنفر الإرهاب، ويصلب الحوار الحضاريّ.

وتزداد المواقف تباعداً، بسبب الحملات الهادفة لتشويه صورة الإسلام في الغرب، ولربطه بالعنف والإرهاب، وتساعد أحداث العنف الدمويّ التي تعكس شعارات دينية، وتطيح بضحايا ابرياء، في ترويج هذه الصورة، وتزكيتها، وإسباغها على الجميع.

كما، ويعزّر العصبيّات:

1. تنامي الخطاب الدينيّ التحريضيّ والسجاليّ، لفظاً وترميزاً.

2. انبعاث الأصوليّات الإسلاميّة والمسيحيّة في الشرق وفي الغرب، والتأويلات النظرية المترافقة معها، والنهج الفكري الإطلاقي.

3. استمرار اعتماد الصور النمطية ونمذجة الآخر.

4. تراجع مستويات الحوار، وسوء اختيار الموضوعات ونوعية المتحاورين، وجماهيرية المناظرات والمفاضلات، واعتماد المسايرة والمجاملات.

5. محاولات محو الذاكرة المسيحية والإسلامية في الأراضي الفلسطينية.

6. استخدام الدين للتنافس السياسي، وبالتالي للوصول إلى السلطة والاستئثار بها.

7. غياب العدالة الاجتماعية، والاحساس بالغبن الاجتماعيّ أو السياسيّ عند فئةٍ دون أخرى.

8. تضخيم الخوف من التهديد المتنوع الذي يشكله العالم الإسلامي، سواء في التهديد الديمغرافيّ الثقافيّ من المهاجرين المغاربة، أو في التهديد الاقتصادي من دول الخليج، أو في التهديد الأمني والسياسي من دول الشرق.

آفاق التسامح وموقعه في عالم اليوم :

إنّ الدول الإسلاميّة، بمعناها السياسيّ، لا تعني الإسلام، كما أنّ الغرب المعاصر، بمعناه السياسيّ، لا يعني المسيحيّة. ولقد عاش المسلمون والمسيحيّون، خلال عصور التاريخ، وبالرّغم من تقلّبات التّاريخ ومراحل السياسة، فهماً مشتركاً للمبادئ الروحيّة السماويّة؛ ولذا، فإنّ استشفاف آفاق التّسامح في عالم اليوم، قد تكون في:

الالتفات إلى الذاكرة الإيجابيّة للتاريخ، أو كتابة الوجه الآخر لكلّ حدثٍ تاريخيٍّ، في إيجابيّات اللقاء، والتّفاعل، ومواقف اللا عنف.

إبراز القيم الإيجابية عند الآخر، والمساعدة على تطويرها.

التمهيد لحوار متكافئ، يرفض أن يكون دعوة، ويرفض أن يكون تبشيراً.

إقامة مؤسّسات فاعلة، للحوار المستمرّ والصّادق.

التعرّف على الآخر، من خلال تعريفه هو لذاته.

تضمين المناهج التربوية، تعريفاً بكلّ الأديان لكلّ التلاميذ من كلّ الأديان، للتربية على معرفة الآخر، وعلى دور الأديان في صياغة قيم الإنسانيّة الواحدة.

العودة المتواصلة إلى الخبرة الميدانية، والتّجارب الحياتيّة، التي تشكّل الرابط الحقيقيّ بين النّاس.

مقاربة واحدة لقضايا العدالة الاجتماعية، والحروب، والحريات، والتضامن الاجتماعي.

تعزيز الانتماء إلى مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل المواطنية.

السعي إلى نظامٍ سياسيٍّ ديموقراطيٍّ عادلٍ.

تحييد الدّين عن صراعات الدول.

تكاتف مسيحيّ إسلاميّ، لوقف تيّار <<الخوف من الإسلام>> وإزالة الجهل به. هذا الجهل، الذي لا يفرق بين تعاليم الإسلام السمحة، وبين حركات أصوليّةٍ متشدّدة، تتشارك في منطقها كلّ الأديان.

تفهم مسيحيّ إسلاميّ للأبعاد السياسيّة والعقائديّة التي تحرّض أو تتهم العالم الإسلاميّ باضطهاد المسيحيين العرب.

إنّ المرجعية التي نعود إليها، اليوم، للبحث في موضوع التّسامح الدينيّ، تعدّت كونها نصوصاً دينيّةً وأخلاقيّةً تعامل، تشكّل الخلفيّة الأساسيّة للمؤمن في علاقته بالآخر. لقد أخذت المرجعيّة شكلاً آخر، إذ أصبحت العصبيّة الدينيّة نظاماً، وصعبت إمكانية الرد عليها، بإيراد تعاليم الدين، أو باعتماد نسق حياةٍ متسامٍ.

إنّ معضلة التسامح في عالمنا الحاضر، ليست في التنازع بين المسيحية والإسلام، بقدر ما هي في تنازع المصالح، الذي يعتمد الدين كآليّة لردود الأفعال، وكموقع للانفعال الغريزيّ العميق.

إنّ احتفاليّات العنف المُعاصر في كلّ المجتمعات، والتي ترتدي طقوس الدين المناسبة، إنّما تُثبت قطعاً، أنّ الأديان، لا تصنع الحروب، إنّما تستخدم السلطة الأديان دوماً لصناعة العنف والحروب، ما دام حلم القوّة، هو حلم قادة الشّعوب، منذ روما القديمة حتّى اليوم.

المصدر: جريدة السفير

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك