دور المسيحيين العرب كجسر ثقافي بين الاسلام والغرب

د.ميلاد حنا
 
 
منذ‏11‏ سبتمبر‏2001,‏ زاد بشكلٍ ملحوظٍ عدد النّدوات والمؤتمرات الدوليّة والإقليميّة التي تُناقش قضايا الهويّة ـ العولمة ـ الحضارات ـ المعايشة المشتركة ـ مصير هيئة الأمم ـ التّجمّعات الإقليميّة ـ وما إليها‏,‏ فقد ثبت أنّ تحرّك المثقّفين والمفكّرين له أثره، والذي قد يكون بطيئاً أوّل الأمر، ولكنّه فاعلٌ ومؤثّرٌ، بل وضاغطٌ على دعاة الحرب، الذين يتوهّمون أنّ بقدرتهم رسم خريطةٍ جديدةٍ للعالم وفق هواهم‏؛‏ فدرس التاريخ أنّ القوى الخيّرة تنتصر في نهاية المطاف على قوى الشرّ، حتّى وإنْ طال الزّمن‏,؛ والدليل هو أنّ التّحالف الدوليّ ضد الإرهاب كان واسعاً وقويّاً في أكتوبر عام‏2001‏، عند غزو أفغانستان‏,‏ بينما تجد أميركا صعوباتٍ ومقاومةً، حتّى من شعوب وقادة بعض دول أوروبا في تنفيذ مخطّطها لغزو العراق في أكتوبر عام ‏2002م.‏
 

ومن هنا آثرت أن أستمرّ في كتابة ذات المسلسل الذي بدأته ـ وهو قضيّة جديدة تماماً، وربّما غير مسبوقة...

في مقالي الأوّل لهذا المسلسل، تحت هذا العنوان‏ (‏الأهرام‏8/27)‏، طرحت القضيّة، ورسمت محاورها‏,‏ وفي المقال الثاني‏ (‏الأهرام‏9/10)،‏ قدّمت معلوماتٍ وأرقاماً عن الخريطة الدينيّة في أميركا‏,‏ وكيف أنّ البروتستانت هناك فريقان كبيران‏:‏ أوّلهما مخترقٌ باليهوديّة منذ سنواتٍ طويلة‏ٍ,‏ فسمّوه المسيحيّة المهوّدة، وهو تيّارٌ متعصّبٌ متماسكٌ، يرتكز عليه نظام الحكم الجمهوريّ الرأسماليّ اليمينيّ‏,. ولكن ما أبرزته هو أنّ هناك تيّاراً أقوى، ومن المؤكّد أنّه أكثر عدداً، متعاطف مع قبول الآخر، أي غير كارهٍ للإسلام والمسلمين. ولكننا لم نقترب منه بشكلٍ كافٍ لنكسبه، وهو أمرٌ ممكنٌ في المجتمع الأميركيّ المفتوح، ولكنّه في حاجةٍ إلى خطّةٍ وجهدٍ؛ وما هذه المقالات إلّا ما أتمنّى الوصول إليه‏,‏ من خلال المسيحيين العرب. وفي المقال الثالث‏، (‏الأهرام‏9/24)‏، سجّلت رسالتين يستحسنان ويؤيّدان الفكرة‏,‏ إحداهما تعبّر عن نظر الكنيسة الأسقفيّة في مصر، حيث لها صلاتها بإنجلترا وأميركا والسودان‏,‏ والآخر أحد أقطاب الكنيسة الإنجيليّة المسيحيّة الوطنيّة، ومن مميزاتها أنّ لها صلاتها المتجدّدة مع الكنيسة المشيخيّة الأميركيّة، والتي انتخبت مؤخّراً رئيس محفلها العام د‏.‏قس فهد أبوعقل، وهو أميركيّ جذوره عربيّة فلسطينيّة كما ذكرت في مقالي‏.‏

وسوف أركّز في مقالي هذا على شرح الخريطة الدينيّة المعقدة للمسيحيين العرب فهم الطرف الآخر من المعادلة‏,‏ فالجسر الثقافيّ يعبر بالمودّة والتّفاهم بين طرفين عبر الأطلنطي‏.‏

لقد لاحظ كثيرون محدوديّة المعلومات المتاحة للشّعوب، بل وللقادة العرب، عن جزر الطوائف والملل والمذاهب المسيحيّة التي تعيش معنا‏,‏ فهي مجموعات بشريّة مسالمة قديمة الوجود في عالمنا العربيّ‏,‏ متناثرة تحيا في هدوءٍ، وتُمارس طقوسها وعباداتها الدينيّة عبر قرونٍ، دون صعوبةٍ تُذكر، وعلاقتها مع الفرق المقابلة الإسلاميّة الوطنيّة تحمل مشاعر الودّ والأخوّة في الأغلب الأعمّ‏.‏

وسوف أحاول ـ قدر المستطاع ـ وفي إطار المسطح المتاح ـ أن أقدّم في إيجاز ـ تاريخ ألفي عام من المسيحيّة المشرقيّة في هذا المقال لأستكمله في مقالي القادم‏.‏

لقد اصطدمت المسيحيّة في القرون الثلاثة الأولى من بدايتها‏,‏ مع الإمبراطوريّة الرومانيّة القديمة‏,‏ إلى أنْ انتهى الصدام في عصر دقليديانوس الإمبراطور القاسيّ، الذي عذّب وقتل كثيرين‏,‏ فقرّر مسيحيّو مصر أن يكون عام ‏284‏ م، وهو بداية حكم هذا الحاكم الشرير، ليكون أيضا بداية تقويم الشّهداء القبطيّ، وأبقوا على ذات أسماء الأشهر الفرعونيّة المعروفة، والمستخدمة في تحديد مواسم الزراعة في ريف مصر إلى الآن‏:‏ توت ـ بابه ـ هاتور‏....‏إلخ‏.‏

ومع تغيّر القوى السياسيّة وانتشار المسيحيّة في المشرق، انتقلت عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة القديمة من مدينة روميه‏ (روما‏)‏ إلى مدينة بيزنطة في آسيا الصغرى ‏(تركيا الآن‏)‏، وأنشأ قسطنطين ـ أوّل إمبراطور للدولة البيزنطيّة الصّاعدة ـ مدينة القسطنطينيّة على اسمه، وأعلن عام ‏313‏ م ـ من خلال مرسوم ميلانو ـ نهاية اضطهاد المسيحيين‏. ومن عجبٍ ـ كما يحدث كثيراً ـ عندما رفع الاضطهاد وتحوّل الدين إلى سلطة‏ٍ,‏ زادت الخلافات اللاهوتيّة‏ (‏وهي اللفظ المناظر لعبارة الفقه أو علم الكلام‏)،‏ فظهرت البدع‏ (‏ويسمّونها هرطقة‏)‏، وكان أهمّها ـ وربّما أخطرها ـ ما بدأه كاهنٌ مصريٌّ روّج في مدينة الإسكندريّة، عام‏318‏ م، لنظرته، أو بدعته ‏(التي لاقت انتشاراً واسعاً‏)،‏ وتتعلّق بدرجات ترتيب‏:‏ الأب والابن والروح القدس‏,‏ فكان أوّل وأهمّ شقاقٍ ضخمٍ في المسيحيّة‏,‏ واضطرّ الإمبراطور قسطنطين إلى عقد أوّل مجمعٍ مسكونيٍّ ‏(وتناظر بلغة العصر‏,‏ مؤتمر دوليّ لمتخصّصين‏)‏، الذي عقد في مدينة نيقيه ‏(قرب القسطنطينيّة‏)‏ عام‏325‏ م، والذي أمكن ـ بعد صراعٍ طويلٍ ـ صياغة العقيدة المسيحيّة، في ما صار يُعرف بـ "قانون الإيمان"، أو "وثيقة نيقيه". وكان الفاعل الرئيسيّ للصياغة هو بابا وبطريرك الإسكندريّة الأنبا أثناسيوس فلقّب بـ "الرسولي"‏.‏

وتوالت الصّراعات والخلافات والرؤى اللاهوتيّة، ومن ثمّ توالت المجامع المسكونيّة‏,‏ وكان أهمّ محطّاتها في مدينة "أفسس" عام‏431‏ م، ثمّ الانشقاق الأكبر في مجمع خلقيدونية عام‏451‏ م. ومازالت آثار هذا الخلاف العقائديّ سبباً للفرقة بين المذاهب المسيحيّة المختلفة حتّى الآن، فاستقلّت بعض الكنائس ‏(مثل مصر وأرمينيا وغيرهما‏)،‏ فتمسّكوا بنصّ وثيقة نيقيه، وعارضوا ما طرحه "نسطور"، وكان بطريرك القسطنطينيّة، أي أنّهم أصرّوا على ما صاغه الأقدمون‏.‏ ومن هنا، أطلقوا علي أنفسهم عبارة المذهب الأرثوذكسيّ، وهناك الكثير من كنائس العالم معتزّة بهذه التّسمية الأرثوذكسيّة، في مقدّمتها روسيا واليونان وأرمينيا‏...

المصدر: (بتصرّف)/الأهرام

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك