مداخلات في العنف

مداخلات في العنف

تأليف
فضيلة الشيخ
د.سلمان بن فهد العودة

مقدمات

الثمرة المرّة ( )
ينام الناس ويصحون على وقع التهديدات الأمريكية الظالمة, التي حوّلت هدوء الخليج صخباً! وجعلت سكينتَه قلقاً لا يهدأ! فها هي الحرب الثالثة خلال عقدين من الزمان تدمر كل شيء بأمر ربها !، وها هو الطموح الأمريكي يتحول إلى "حركة عالمية لتحرير الشعوب!".
ويشعر الجميع بالعجز أمام هذه القوة المتغطرسة، وهذا الاندفاع التوسعي، حكاماً ومحكومين.
وها هي دول العالم تتسلل لواذاً من التحالف ضد الإرهاب ارتياباً بالدوافع الحقيقية واستقلالاً بالمصالح الذاتية.
بينما المعنيون بهذه الحرب - من المسلمين والعرب وأهل الخليج - ربما هم أقل الناس رفضاً واحتجاجاً، وكأن الأمر لا يعنيهم!
صحيح أننا لا نطالب بتوقف الحياة وبرامجها وأعمالها، فهذه الحرب الظالمة ليست نهاية التاريخ، وربما يجعل الله من ورائها دحراً للقوى المتسلطة، وإرغاماً لأنوفها ولو بعد حين.
ولكن من الوعي والرجولة أن تكون مواقف الناس واضحة لا تحتمل اللبس. وأن يعلنوا رفض العدوان الأمريكي, وتدخله السافر في بلاد لها وجودها, واستقلالها, وامتدادها التاريخي الكبير.
لقد تعودنا على تبرئة أنفسنا, بصورة تلقائية, وإدانة خصومنا قريبهم وبعيدهم بأنهم المسؤولون عن مصائبنا, وعن تخلفنا, وعن عجزنا. وهذا سر فشلنا وإخفاقنا، أننا لم نطرح السؤال الصحيح، ولم نجب الإجابة الصحيحة!
السؤال الصحيح هو: (أَنَّى هَذَا؟) ما هي الثغرات التي أُتِينا منها ؟ وكيف حدث هذا لنا ؟!
وليس أن نسأل: من فعل هذا بنا؟
والجواب الصحيح (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم).
وتعجبني هنا كلمة الأستاذ مراد هوفمان: ليس الاستعمار هو سبب تخلف العالم الإسلامي، ولكن التخلف هو سبب استعمار العالم الإسلامي.
إن خطورة الموقف التاريخي الذي تعيشه الأمة بشعوبها وحكوماتها يقتضي قدراً كبيراً من المصارحة والوضوح والمكاشفة, التي لا تقوم على التلاوم والسباق في التخلي عن المسؤولية، ولكن على العمل المخلص لاكتشاف مواضع المرض ومعالجته.
إنك تسمع كلاماً كثيراً، وتحليلات، وعواطف صادقة، وترى وجوهاً أمضَتها الجراح، وعيوناً أنهكها السهر, وأضنتها الدموع، ولكن هل يكفي أن نتبارى في الأزمات؛ أيّنا أندى صوتاً، وأقوى عبارة، وأشد وطأة!
وهل يكفي أن نتململ في الأزمة الطارئة كرد فعل عضوي، وكأن حالنا وحياتنا وأمورنا عادية لولا الأزمة؟ أم يجب أن نعي أن الأزمة مقيمة بيننا راسخة في عقولنا وقلوبنا وأنماط حياتنا.. وربما قال قائل فصدق أو كاد: إن لدينا ملياراً ومائتا مليون أزمة.. بعدد أفراد هذه الأمة المنهكة العليلة!
إن مظاهر هذه الأزمات هي الثمرات المرة لذنوبنا وأخطائنا التي نرفض بإصرار الخلاص منها، وربما تجرأنا فألبسناها ثوب الدين والشريعة لمنحها مزيداً من الرسوخ والاستقرار، وحجبها عن عيون الناقدين والمصلحين!
وحين نقول الذنوب يجب ألا نمارس انتقائية غير مفهومة, تعتبر أن المعاصي هي انحرافات السلوك الشخصي فحسب، أو الإخلال التعبدي فحسب، فهذه ذنوب، لكن ثمت ذنوب الجماعة والأمة في تخلفها عن أداء دورها الرسالي، وعن تحصيل المصالح العامة، وامتلاك ناصية العلم، ومواصلة المسيرة التي بدأها أولونا.
فمن المؤكد أن ثمت انقطاعاً في مسيرتنا العلمية والحضارية منذ قديم، واختلالاً في مفاهيمنا وانفصالاً بين الشريعة والحياة، وبين السلوك الشخصي والجماعي، وبين العبادة والمعاملة.
وهذا القهر القاتل المدمر الذي يعانيه الفرد المسلم اليوم؛ هو ثمرة مرة لهذه الأحقاب المتطاولة من الغياب والانقطاع الإسلامي، وما لم نفلح في تحويل مشاعر القهر إلى برنامج عملي رشيد طويل النفس فسنظل كما نحن، نصرخ ولكن دون جدوى على قاعدة المثل العربي: أوسعتهم شتماً, وراحوا بالإبل.
فهل تفلح هذه الأزمات الطاحنة المتلاحقة في صناعة مستقبل أفضل لأجيالنا؟! أم ترانا سنورث لهم سجلات من الشتائم فحسب؟!
وهل ستضع هذه الحركة العالمية التي تستهدف وجودنا وإيماننا وثرواتنا وتاريخنا.. أقدامنا على الطريق الصحيح أو ستزيدنا انشقاقاً, وتخالفاً, وهزيمة نفسية تضاف إلى الهزيمة الحسية الواقعية؟!
وهل سنتعاطى المهدئات الوقتية, ريثما يهدأ القصف, وينتهي الفصل الأول من هذه المأساة المحزنة... أو ترانا سندرك أن الموقف يتطلب ما هو أوسع من ذلك وأبعد..؟
اللهم لا يأس من روحك وفرجك. فألهم عبادك المؤمنين رشدهم! وخذ بنواصيهم إلى طريق العزة والكرامة والمجد. واكفهم شر نفوسهم، وشر كل ذي شر.
والحمد لله وحده.

* * *
حوار أم تصادم ؟! ( )
هذا التساؤل يتحدث عن خيارين متقابلين في العلاقة بين الناس، وكثيرًا ما تردد على ألسنة الباحثين والساسة في توصيف طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب, خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي اعتقادي أن هذا التساؤل جديرٌ بالعرض عند الحديث عن العلاقة داخل المجتمع المسلم, بين الأطياف والتيارات المتنازعة.
والإسلام أسّس للتعايش بين المختلفين, حتى في الدين.
وقد عايش النبي  الوثنيين واليهود والمنافقين بالمدينة, ومات ودرعه مرهونة عند يهودي؛ وهذا من باب المصالح المشتركة. فالنبي  اشترى؛ لأن في شرائه مصلحة له ولأزواجه, ولا يضيره أن يكون في هذه الصفقة مصلحة لليهودي البائع؛ فالحياة لا تقوم على السعي المستميت في حرمان الآخرين من مصالحهم، ولكنها تقوم على السعي في تحصيل مصالحنا, وإن تضمنت مصالح للآخرين.
بل إن الإسلام ترقّى في العلاقة إلى ما هو أبعد من ذلك؛ وذلك للحرص الإضافي على مصالحهم متى كانوا غير محاربين.
والمجتمعات الإسلامية تشهد حالات من الصدام؛ حولتها إلى ميادين مفتوحة لحروب داخلية، تستخرج أسوأ ما في النفس البشرية من مشاعر، وتعوق مسيرة الإصلاح والدعوة والبناء والتنمية. وهذا مصدر حزن وقلق وتعاسة لكل الذين يعنيهم مستقبل هذه الأمة وهذا الدين.
وأحد مظاهر هذا الصراع - وليس هو الوحيد - ما تقوم به بعض الجماعات الدينية المتشددة من حمل السلاح, ومحاولة فرض الرأي بالقوة, وهذا ما جرى في مصر والجزائر والسعودية وغيرها.
وأعتقد أن أهم المآخذ على هذه الجماعات هو استخدام القوة في غير موضعها, وشهر السلاح بغير مسوغ.
إن المجتمعات الإسلامية، ومنها المجتمع السعودي مُهيأة للصدام إذا لم تشرع لها قنوات الحوار المسؤول.
وفي السعودية أعلنت الدولة عن مشروع الحوار الوطني، وبغض النظر عن استباق الحكم على نتائج الحوار, والتي لم تتبلور بعد بصورة واضحة؛ إلا أنني أعتقد أن الحوار كمبدأ يجب ألا يكون محل خلاف, وأن يشاع ويتخذ عادة في العلاقات على صعيد الأسرة والمدرسة والمؤسسة, والمسجد, والوسيلة الإعلامية, والسلطة السياسية.
وليس الهدف من هذا الحوار هو أن يتحول طرف إلى ما يريده الطرف الآخر, أو يغير مذهبه أو قناعته، وإن كان هذا ممكنًا, وأثرًا من آثار الاستماع إلى الآخرين, والتسليم بحجتهم, ومنطقهم, ولكن الهدف الأول هو الاتفاق على كيفية التعامل, والمصالح المشتركة, وتجنب الصدام ما أمكن.
فالمجتمع السعودي متنوع عقديًّا؛ فهناك: السنة, والشيعة, والصوفية, وغيرهم...
وفقهيًّا؛ فهناك المذاهب الأربعة.
وفكريًّا؛ فهناك: التيارات الإسلامية, والليبرالية, والوطنية...
وأجد أنه بسبب أحداث العنف التي تشهدها البلاد برزت أطروحات إعلامية مدعومة من بعض أطراف رسمية بصورة علنية؛ تحضّر -ولو بغير قصد- لنوع من الصدام داخل المجتمع تحت دعوى مكافحة الإرهاب، مع توسيع مصطلح الإرهاب؛ ليشمل مع العنف الأفكار المتشددة التي لا تخلق عنفًا, والاتجاهات المعتدلة التي لا تتفق مع مشربهم !!
وثمة صوت جريء يُعلن الانقلاب على كثير من قيم وموروثات المجتمع، ويسعى لتمرير هذه الأجندة من خلال إدراجها ضمن مشروع ((مكافحة الإرهاب)).
نعم ليس كل ما في المجتمع من موروث يجب التسليم له؛ لكن لا بد من:
أولاً: الاتفاق على مرجعية شرعية محكمة، وذات تمثيل مؤسسي واقعي صادق؛ لضبط المسار، وحماية المجتمع من الانهيار.
وثانيًا: الهدوء في المعالجة.. فأنا لا أؤمن بالحركات الانقلابية؛ لأنها تكرس المشكلة, ولا تحلها.
لقد قلت هذا الكلام قبل أيام، ثم سمعت (ليلة الجمعة 5/6/1425هـ) في برنامج حواري مع أستاذ سعودي من جامعة هارفارد تعبير (الثورة) حرفيًّا!
يجب أن ندق ناقوس الخطر، ومن الأمانة والنصيحة لمجتمعنا أن نحذّر من خطر قادم، ولو بعد عشر سنوات، أو عشرين سنة، يتمثل في صدام بين التيارات الدينية، وهي ذات امتداد, وعمق, ورسوخ في مجتمعنا, شاء من شاء، وأبى من أبى، وهي هنا غطاء واسع يشمل: الرسمية منها وغير الرسمية، التقليدية والحركية، المعتدلة وغير المعتدلة..
وبين التيارات الأخرى الليبرالية, وما يندرج في سلكها، الرسمي وغير الرسمي، البعيد والقريب.
والمعروف أن القوة نوعان:
أ – القوة الصلبة، وهي السلاح والبندقية.
ب- القوة الناعمة، وهي الإعلام ووسائل التأثير والضغط.
والشيء الذي يثير استغرابي أن بعض هؤلاء المتحدثين يدعو إلى التهدئة مع أطراف داخلية يقر بوجود خلافات تاريخية معها، وهذا بحد ذاته أمر مفهوم.
لكن.. لماذا لا نتعامل مع ما نسميه بالتيارات الدينية الظاهرة، والخفية بالأسلوب ذاته، مع اعترافنا بأنها واقع قائم وموجود؟!
لماذا لا نؤسس للتنوع, والاختلاف في الرأي، ونجعل الحوار الموضوعي البعيد عن التشنّج وتصفية الحسابات الشخصية؛ هو السبيل إلى أن يفهم بعضنا بعضًا؟!
لماذا لا تسعى الأطراف كلها إلى إشاعة قيم التسامح, والعفو, وحسن الظن, والتجاوز والتعافي, بدل التراشق, والتهم, وكشف الأوراق؟!
إن أهواء الناس ومقاصدهم لا تتناهى، وحمل المجتمع على هوى فئة أو أخرى ليس رشيدًا, ولا ممكنًا أصلاً، ويبقى الحل الصحيح -في نظري- هو الاستعداد لفهم الآخرين بصورة صحيحة، ومحاورتهم بحكمة وهدوء، والتسليم بحق الاختلاف ضمن المرجعية الشرعية الواسعة، والاتفاق على حفظ مصالح البلد وأهله، والوضوح في التعامل بعيدًا عن المكايدات والحيل الخفية.
ويشهد الله أني لا أقول هذا إلا من منطلق الخوف على هذا المجتمع من انفراط عقده وتشتت وحدته!!
والله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين.

* * *
التطرف والتطرف المضاد( )
ربما كانت كلمة ((التطرف)) من أكثر الألفاظ إلحاحاً على ألسن الكتبة والإعلاميين والساسة في هذا الوقت، ولعل أحداث نيويورك وتداعياتها دفعتها دفعاً إلى مقدمة المصطلحات الدارجة التي تعبر عن بعض مكنونات النفس وتغني عن تطويل وسرد عريض، وهي كلمة مولدة غير أصيلة، ويفترض أنها تعني عند من يطلقها وقوف الإنسان في طرف بعيد عن مركز الوسط.
ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء.
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، كما كان يقول أرسطو، وقرر هذا علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).
إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية "الوسطية" فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك، فهذا يمين، وهذا يسار، وذاك يمين اليمين، وذاك يسار اليسار، وهذا متطرف، وهذا غير متطرف.
ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات وتقدير قيمتها واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم.
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال، وهذه قيمة شريفة، ونعمة غالية، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل، فلا تبغي إحداها على الأخرى، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس.
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها، كصفة الغضب، أو صفة الشهوة، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس، وأحياناً العكس، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطة في مناهج التفكير والتربية، بل والعلم والمعرفة.
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً، وأعظم وقعاً.
ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة.
ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس.
ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق والتأثر به والتسليم له، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية.
ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية، والقلب الغافل بالأرض الميتة، قال الله جل شأنه: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون".
ثم عقب بقوله: "اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون".
قال ابن كثير في تفسيره: فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها...
وفي البخاري (77) ومسلم (4232) وأحمد (18752) من حديث أبي موسى الأشعري  عن النبي  أنه قال: (مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماءً ولاتنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
فيتحصل من هذا المعنى أن الاعتدال يقوم على ركنين:
الأول: الاتباع الصادق لما جاء عن الله ورسوله، وتحكيم الوحي في كل شاردة وواردة، وصغيرة وكبيرة.
الثاني: قابلية المحل لذلك، بكون المرء مستعداً لذلك في تكوينه وجبلته.
فالوحي هو النور، والمحل القابل لذلك هو كالمشكاة التي ينبعث منها النور، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح..." على أحد الوجوه في تفسير الآية الكريمة (انظر: ابن كثير 3/290).
والوحي هو المطر، والمحل القابل هو الأرض الطيبة المستعدة كما في النصوص الأخرى.
وبهذا يكون المعيار هو الوحي الرباني من الكتاب والسنة، والناطق بهذه الحجة هم أهل الاعتدال من حملة الشريعة في كل زمان ومكان، وهذا المعنى ظاهر في الحديث المرسل من طرق: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين) وانظر التمهيد (1/59).
فهذا النص ومثله كثير، يكشف أن المهتدين بنور الكتاب والسنة من أهل العدل والإنصاف والتوسط هم الجادّة التي يرد إليها من نفر عنها.
والغلو بكل صوره وأشكاله هو الاستثناء الذي يعزز القاعدة ويؤكدها.
ولهذا حذر النبي  من الغلو، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائي (3007) وغيره أن النبي  قال: (بمثل هؤلاء فارموا ـ يعني حصى الجمار ـ وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).
وكان الصحابة رضي الله عنهم هم الوسط العدول الشهداء على الناس، والذين يرد إليهم من غلا وأفرط، أو جفا وفرط.
والتطرف في الإطار الإسلامي هو تعبير عن فهم منحرف، أو تطبيق منحرف للتعليمات الشرعية، وإن كان قد يتكئ على حجج شرعية، أو ينطلق من غيرة دينية، كما في أول وأقسى نموذج في التاريخ الإسلامي، وهو نموذج الخوارج الذين لم يقنعوا بمستوى فهم وتطبيق الصحابة حتى انشقوا عن نسيج الأمة، ووجهوا سهامهم إلى نحورها، بل كان أصلهم يمت إلى صاحب النفس المريضة الذي اعترض على النبي  في عدله، وخاطبه قائلاً: اعدل يامحمد. فكانت تلك نواة الشريحة التي تصطفي نفسها، وتستشعر صدقها وطهارتها وإخلاصها، وتزن الآخرين بالجور أو الحيدة عن الصراط السوي.
لكن من الخطأ أن يتم تقديم هذا الأنموذج دائماً على أنه صورة التطرف، حتى يقع في نفوس الكثيرين أن التطرف بضاعة إسلامية، بينما يتم التغافل والتجاهل للتطرف اليهودي، والذي تمثله أحزاب وجماعات رسمية وكبيرة تتبجح بغلوها، ولا تستحي من الجهر بمطالباتها الصارمة إزاء خصومها، دع عنك الغلو المرسّم المبرمج الذي أصبح جزءاً من السياسة اليهودية، وغدا قاسماً مشتركاً لدى جميع الأطراف.
ومثله التطرف المسيحي الممثل في الجماعات والمنظمات الكثيرة في الولايات المتحدة، والتي تجاوز عددها المائة، ويقدر أتباعها بعشرات الملايين.
ولقد كانت الأحداث الأخيرة فرصةً لهؤلاء ليكشفوا مكنوناتهم ضد الإسلام والمسلمين، وكان منهم من يطالب بسحق كل ما هو إسلامي، ومنهم من يطالب بتدمير مقدسات المسلمين، وتعالت أصوات رسمية تتهم الإسلام ذاته، وتعتبره ديناً سيئاً وشريراً!
والتوجه الرسمي الآن الذي يقيم للمسلمين والعرب ديكتاتورية خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ويستثنيهم من النظام العام، ويبخل عليهم بالحقوق التي يتملكها كل من سواهم... هذا التوجه هو نفسه ضرب من التطرف المقيت، كما أن إسراف الحلفاء في غطرسة القوة، وتجاهلهم لأبسط حقوق الإنسانية، وعدوانهم على شعب أفغانستان، واستهانتهم بالدماء وحقوق الإنسان، لهو صورة صارخة من التطرف البغيض، لكنه تطرف القوي الباطش الذي لا يحتاج إلى برهان على ما يفعل والله المستعان.
فنحن في غابة الأشرار منطقها
من كان ذا قوة فليلق تمكينا
وهناك التطرف العلماني في العالم الإسلامي الذي يصر على نقل التجربة الغربية، بل على استنساخ المجتمعات الغربية في ديار الإسلام، ويزيد على ذلك اقتباس الجانب الدموي المتعسف من التجربة الشيوعية لملاحقة المتدينين ومحاصرتهم، إعلامياً ووظيفياً واجتماعياً وسياسياً.
إن دائرة ردود الأفعال لا تنتهي، والتطرف يولد التطرف، ولعل أفضل بيئة لتشجيع الفكر المنحرف هي البيئة التي تحرم الناس من حقوقهم الفطرية والشرعية، وتصادر هم، وتحرمهم من فرصة الهدوء النفسي والاستقرار العاطفي، وتمتحنهم في أنفسهم وأديانهم وأهليهم وأموالهم.
إن التطرف الذي هو (تجاوز عدل الشرائع السماوية والفطر الآدمية) هو أزمة بحق، وتاريخ الحضارات كلها يكشف عن نماذج كثيرة لهذا التطرف، وتعد رسالة الإسلام الأنموذج الأول والأمثل لمعالجة هذا الانحراف، لكن مع هذا كله فلسنا هنا بصدد أن نعيش ردود أفعال ونتبادل مع الغرب والعالم الأوصاف، إن هذه معركة ربما تكون غير ملحة، وقد لاتصنع شيئاً لصالحنا، لكن المهم أن ندرك أهمية بناء الوعي في أفراد الأمة؛ لنعرف مواقع التطرف الخارجة عن الإطار الإسلامي، ولعل من حسن الفهم هنا أن ندرك أن الغرب يمارس صناعة التطرف، ويصدرها، وقد تكون بعض الأطراف مستهلكاً لشيء من هذا، لكن لابد أن ندرك أن الأزمة ليست في التطرف يوم يكون حالة تعرض لدى بعض الفئات، لكن يصبح الأمن العالمي مهدداً حقيقةً حينما يكون التطرف قانوناً له شرعيته كما ترسم ذلك دوائر سياسية ومؤسسات متنفذة في الأوساط الغربية قد يتجاوز تأثيرها إلى دوائر شتى، ولعل الأنموذج اليهودي هو المرشح عالمياً لهذا لو أعطيت الشعوب حرية الموقف والتعبير.
إننا هنا أمام ضرورة توسيع مساحة التفكير، وألا نسمح للغرب أن يرسم مفهوم التطرف، وأن نعي أن التطرف يتجاوز دائرة القانونية ليتحول إلى رسالة حضارية تٌطَالَب عقولٌ في العالم كله وليس في الغرب أو الشرق أن تستوعبه كحضارة راقية.
هنا ندرك أن الغرب يعيش أزمة، وأن كنا نعيش شيئاً منها، فيجب أن نكون مستعدين لتجاوز مشكلتنا.
وتجاوزها يتم عبر الحفاوة بالاعتدال وترسيمه، وإشاعة المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تنهي حالة الاضطراب والتناقض.

* * *
التوظيف الإيجابي للحدث( )
كان الغرب يعد العالم بالرفاهية والاستقرار، وبعالم لا يسمع أزيز آلة الحرب، ولكن خلافاً للتوقعات افتتح القرن الجديد بتلك الحرب العمياء الظالمة التي أصبح فيها هو الخصم والحكم ضد شعب أفغانستان المسلم.
وقد صدرت التصريحات المسؤولة تتحدث عن استهداف مواقع أخرى، ربما تصل إلى ستين موقعاً في العالم.
وهاهي الحرب كما توقعنا سابقاً تلتف على عنق الشعب العراقي المسلم العريق من خلال هذا التحالف العسكري والاستخباراتي القائم على الجور والعسف والاستعباد، فيجب على المسلمين جميعاً أن يوحدوا صفهم لصد العدوان ورده عن بلادهم.
إن المسلمين جميعاً يدينون هذه الضربات التي تستهدف شعباً أعزل بريئاً، وتحصد المدنيين وغيرهم، وهاهي الأصوات الإسلامية تتنادى في كل مكان وتطالب بممارسة الضغوط لمنع الحرب وصد خطرها، بل هاهي الأصوات الشعبية في سائر بلاد العالم تنظم المسيرات الحاشدة الرافضة لقانون الحرب وشريعة الغاب، يحدث هذا في أنحاء أوروبا وأمريكا واليابان والدول الشرقية والغربية.
ولكن كما قيل:
ودعوى القوي كدعوى السباع
من النـاب والظفر برهانها
فقد عودتنا إسرائيل أنه إذا جرح جندي على الشريط الحدودي ردت إسرائيل بغزو لبنان.
وكما يقول صاحب (فكرة أمريكا): ومن جورج واشنطن إلى جورج بوش، فالنهم الأمريكي لسفك الدماء يخلق لديهم أبداً ذهنية المأزق.
ويقول أحد المؤرخين: إنهم مثل اليهود مسكونون دائماً بهاجس الخطر الذي يهدد وجودهم وثروتهم، إنه خطر الهنود، وخطر الكاثوليك، وخطر الإسلام وخطر الأيديولوجيات الخارجية وخطر المهاجرين الغرباء...
وهم يعلقون دائماً على صدور الجثث: لقد كنا في حالة دفاع عن النفس..!
إن لديهم فلسفة أمنية تقتل حتى على مجرد الظن، وفي تراثهم المقدس فضاء واسع من الاستعارات العمياء التي قد تتصل ولو على سبيل المصادفة بحادثة معينة أو شخص مغاير ليصبح سفك الدم عملاً مقدساً.
ولا أعتقد أن الدافع لإذكاء نار الحروب هو مجرد الخوف الحقيقي على النفس، بقدر كون النظام الرأسمالي يعاني بطبيعته انسداداً وأزمات لا يخرج منها إلا بحرب يعدّ لها بين عقد من الزمان وأخر، وقد يتم من خلال الحرب ترحيل بعض مشكلاته أو استئصالها.
إضافة إلى تحقيق الأهداف التوسعية والوصول إلى مناطق النفوذ في جهات كانت تشرئب إليها الأعناق.
إن هذا يعد جزءاً من استثمار الغرب للحدث وتوظيفه لمصا لحهم.
فهم سيقومون بمراجعة وتصفية عدد من الملفات القديمة العالقة أمنياً وعسكرياً.
وسيراجعون الوضع الاستراتيجي من الناحية الأمنية والاقتصادية والسياسية.
وسيعملون على إعادة البناء بسرعة (فهم أسرع الناس كرة بعد فرة)، وبحجم الخسائر الهائلة التي تحيق بهم إلا أنهم يعملون على تحويلها إلى مكاسب، ويقومون بتحويل الفواتير إلى جهات تتولى سدادها.
وسيملأون الآذان حديثاً عن الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
ولقد علمنا القرآن الكريم كيف نستفيد من الأحداث، وأكد أئمة الإسلام أن الله لايخلق شراً محضاً، ولابد في النوازل التي تقع على الأمة من جوانب خير ومصلحة تخفى على قوم وتبين لآخرين، وقد تظهر اليوم أو غداً، وإن غداً لناظره قريب، ومن الخير أن تفتح الأحداث أبواباً من المقاومة بكل معانيها ودلالاتها، وأن تربي المخلصين والجادين على الرقي بالنظر والتفكير والعمل إلى مستوى أفضل، وعلى التوجه نحو الاهتمامات الفاضلة والمقاصد العليا بدلاً من الاسترسال وراء الجزئيات ومواطن الخلاف.
وكانت الآيات تنزل في مناسباتها، حرباً أو سلماً، نصراً أو هزيمة، حادثة فردية أو جماعية، أو حتى أسرية أو شخصية لتربي المسلمين من خلال الحدث، كما في الآيات في آل عمران تعقيباً على هزيمة أحد، وفي الأنفال تعقيباً على بدر، وفي الأحزاب تعقيباً على تحزب طوائف الكفر وملله ضد المسلمين، بل وفي المجادلة تعقيباً على مشكلة عائلية خاصة، فهذا منهج قرآني، وفي سورة الحشر تعقيباً على إحدى المعارك مع اليهود يقول تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"، وفي قوله تعالى:"إن مع العسر يسرا" تصريح بقانون يقول بأن كل أزمة أو نكبة فهي في الوقت ذاته فرصة جيدة إذا أحسن استخدامها، واليسر هنا (مع) العسر، وليس (بعده) كما يقول بعض الناس، و(لن يغلب عسر يسرين) ومن اليسر أن ينهمك الناس في حركات تصحيحية جادة على الصعيد الفردي والأسري والجماعي والشعبي والحكومي، ربما كان متعذراً في وقت ما، لكن يبدو ممكناً عند حدوث الزلزال الذي يهيئ النفوس للتغيير !
وفي سنة الرسول  يقول: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
إن البعض قد يضيق من انخراط الناس وانهماكهم في أعمالهم الصالحة و في أعمالهم الدنيوية وقد يظن أن هذا يتنافى مع احتدام الشعور بالحزن أو الغضب على ما يجري، والواقع أن هذه وصفة نبوية، فالحياة مستمرة، والدعوة قائمة، والجهاد قائم، والعلم قائم، والناس عاملون، هذا في دنياه، وهذا في أخراه، وهذا في زرعه، وهذا في بره، وهذا في بحره، وهذا في فضائه، وهذا في ميدانه "قل كل يعمل على شاكلته"حتى يأذن الله بخراب الكون.
وخطابنا يجب ألا يركز على النُّواح بقدر ما يركز على العمل، و العمل الجاد.
وهذا هو التوظيف الأول للحدث: توظيفه باتجاه الأعمال الجادة النافعة على قاعدة (فليغرسها).
الثاني: توظيفه باتجاه بناء الوعي، ولهذا جاء في القرآن الكريم " الم * غُلِبَتِ الرُّومُ"[الروم:1-2].
يجب أن يثمر الحدث وعياً وإدراكاً سليماً وتصوراً جيداً.
إن وسائل الإعلام قد تؤدي دوراً جيداً إذا أحسن استثمارها وقد تساهم في قتل الوعي وتغييبه، وقد يقرأ الإنسان خبراً صغيراً في زاوية لا يعلم مصدره ولا مصداقيته ثم يبني تصوره كله عليه ويظن أنه أدرك ما فات الآخرين، بينما هو يعيش في عصر المعلومات، ويملك أن يحصل على أدق المعلومات من مصادرها في بضع ثوان، وأن يحصل على معلومات كافية ودقيقة، وليس مجرد معلومة مجتزأة أو ناقصة وربما كانت مجرد إشاعة!
إن الوعي هو الذي يجعل الأمة تستشعر قضاياها وتعيش مشكلاتها، ولقد سمعت خبراً مدهشاً ثم خرجت إلى الشارع فرأيت شباباً يرفعون الأعلام على سياراتهم فقلت: وحزين يتسلى بحزين..
فإذا هم يهتفون للنادي الرياضي بحرارة!
إنه حقاً عصر المعلومات، ومن الخطورة أن يكون عقلاؤنا وذوو الرأي فينا غائبين أو معتمدين على شائعات تطلق هنا أو هناك.
الثالث: توظيفه بإحياء المفاهيم الشرعية الغائبة، كمفهوم الولاء للمسلمين وما يترتب عليه من محبتهم والفرح بنصرتهم والوقوف معهم، ومفهوم البراءة من الكافرين على حد قول الخليل عليه السلام:" إنابرءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ".
وفي مثل هذه المناسبات يكون الطرق والحديد ساخن، كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ".
وقد سمعنا مالا نعتبره فلتات لسان، بل تيار غالب في وسائل الإعلام الغربية، وفي كثير من التصريحات الرسمية التي تدين الإسلام وثقافته وعقيدته وتاريخه وأهله وتهددهم وتوعدهم، وهي تحضر اليوم لضرب العراق كحلقة ثانية في مسلسل الحرب على الإرهاب... والله وحده يعلم أين تكون ضربتها الثالثة ؟!
قضينا من تهامة كل وتر
وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت
قواطعهن:دوساً أو ثقيفا
في الشدائد نحتاج إلى قيم الصبر والحلم والتلاحم والتفاؤل والبر.
الرابع: توظيفه باتجاه الفاعلية والإيجابية، فيجب أن نحدد أولاً: ما هي الواجبات التي يتحتم علينا فعلها ؟
ثم نحدد: ما هو الممكن من هذا الواجب ؟
ماذا نستطيع أن نفعل تجاه أنفسنا وتجاه إخواننا المسلمين ؟
إن تحولنا إلى منظرين نوزع المسؤوليات والتبعات على الآخرين ليس حلاً، ولايزيدنا إلا فرقة، وليس من حكمة الشريعة ولا من سواء العقل أن نلقي باللائمة حيناً على أمريكا، وحيناً على اليهود، وحيناً على الشيطان، و حيناً على الحكام، وحيناً على الشعوب، و حيناً على قادة الفكر والعلم والرأي، ونخرج نحن دون مسؤولية وكأننا لسنا من هذه الأمة، بينما النص القرآني يقول: "هو من عند أنفسكم ".
لنحاول المستطاع المقدور عليه، ومن ذلك الإغاثة والنزول فيها بقوة دون أن نشعر أننا متهمون أو نتقبل التهمة.
ومنه استثمار الحدث للدعوة، فقد نتمكن من تواصل كان مقطوعاً مع إخواننا في العراق، وقد تفتح لنا آفاق في المجاهدة والإصلاح الإعلامي والاجتماعي والتعليمي والسياسي لم تكن متاحة من قبل، وقد قيل:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فعقبى كل عاصفة سكون
الخامس: توظيفه باتجاه كسر الحواجز مع أفراد الأمة وشبابها، فهم ميدان الدعوة، والدعوة وظيفتنا، وهؤلاء هم درء الإسلام وحرسه وحماته، ولذا لابد من تحقيق التواصل مع كافة أفراد الأمة، مهما اختلفنا معهم في الآراء والمواقف والاجتهادات، ومهما فصلت بيننا وبينهم الاهتمامات والتوجهات.
السادس: توظيفه باتجاه تحقيق وحدة الأمة بكافة أطيافها والقضاء على التنازع والخصام، إنه ليس من حق الإسلام ولا من حق المعركة أن ينشغل المسلمون بعضهم ببعض لا باللسان ولا بالسنان.
ومن الخطورة بمكان أن يتأول أحد في قتل أخيه المسلم بتأويل أو غيره، وفي الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) (لاترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها.." الآية، وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) وعند أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله  قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلّح) وعنه  قال: سمعت رسول الله  يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً) وعن عبادة بن الصامت  قال: قال رسول الله : (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) قال خالد بن دهقان سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: اعتبط بقتله قال: الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله يعني من ذلك قال أبو داود: فاعتبط يصب دمه صباً.
السابع: الانخراط في النقد والإصلاح داخل إطار المجموعات الإسلامية والتخلص من نمطية الفرد والرمز، إلى روح الشورى والمراجعة والتصحيح والتدارس، وهكذا داخل مؤسسات المجتمع الرسمية، وغير الرسمية، والأزمة تنبعث من داخلنا، وحلها هو من عند أنفسنا لا غير.
الثامن: الانخراط في النقد والإصلاح داخل المجتمعات الإسلامية باتجاه العودة الصادقة إلى الله والتوبة من المنكرات والذنوب الفردية والجماعية، الاقتصادية منها والإعلامية والإدارية والسعي الجاد في التصحيح.
التاسع: إحياء القضية الكبرى قضية فلسطين، وهنا فرص كبيرة لربط الأحداث بها، وأنه لن يحصل سلام إلا إذا عاد الحق لأصحابه.
إن من أهداف الحملة الأمريكية على العراق حماية أمن إسرائيل، وتدشين السلام على الشروط اليهودية في ظل انكسار عربي نهائي كما يظنون ويقدرون، فعلينا أن نصر على حقنا، وأن نقف وراء المدافعين عن الحوزات، الحارسين للحرمات من أبطال فلسطين الأشاوس.
العاشر: الحذر من امتداد اللعبة إلى مواقع أخرى في كشمير أو الشيشان أو منطقة الخليج والجزيرة واليمن، وما أسهل أن يفتح ملف التسليح السوري أو الإيراني، أو ملف حماس وحزب الله، أو ملف الأقليات وحقوق المرأة وقضايا التعليم وربطه بالإرهاب في هذا البلد أو ذاك، وأن تقحم الأمم المتحدة في الأمر لإعداد التقارير والمتابعة والتهديد ثم الحصار... ثم... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون.

* * *

العنف التربوي

إنه العنف( )
قد يكون العنوان ذاته دليلاً على تَشرُّب العنف, فماذا لو عبّرنا بالرحمة؟!
إن الوصف بالرحمة تعبير متفائل حقاً, ولكنه أقل كفاءة في نقد الواقع وتصويره. لكن دعونا نعترف بأن في العنوان قسوة أو تعميماً, وأعفونا من البحث عن المعاذير.
حَسنٌ أن نمارس من البداية نقداً, فالكثيرون ضمن مجتمع العنف يمارسون قسوة على الآخرين, ويوزعون المسؤوليات, ويستثنون أنفسهم!
إن العاطفة الحية هي المادة الرابطة بين لبنات البناء, وبدونها يقع الاحتكاك وينهار البرج المشيد.
فكيف إذا فُقدت هذه الرابطة, وحل محلها النقيض, وهو القسوة والجفاء؟!
ثمة مجالات كثيرة للأذى إذا فقدت القلوب ترابطها...
وحتى الأذى لا يستطيع القانون أن يمسك به ولا يدينه؛ لأنه من الخفاء بمكان.
أرأيت لاعب الكرة حين يتلطّف - ويا له من تلطّف!- في تعويق حركة صاحبه, أو إسقاطه دون أن ترصده كاميرات التصوير, أو يلاحظه الحكم؟
إنها القصة التي تتكرر كل لحظة في مكان ما... في البيت, أو العمل, أو المتجر أو ساحة الحياة.
قسوة الصحراء تطبع أخلاقيات المجتمع، فيتعامل الناس كالتروس الصماء, تسمع صرير احتكاكها من مكان بعيد.
لقد وردت كلمة (القسوة) في القرآن الكريم في سبعة مواضع كلها في سياق الذم, وكفى بهذا تنفيراً وتحذيراً؛ منها: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ"[البقرة:74]، " وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ"[الأنعام: 43] "فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ"[الزمر:22]، "وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً"[المائدة:13]، وفي البخاري (أَلاَ إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ...)، وهم أصحاب المال الكثير المختالون الذين تعلو أصواتهم في خيلهم وإبلهم وحروبهم, ونحو ذلك...
وفي حديث أنس أن النبي  استعاذ من القسوة. رواه الحاكم والبيهقي.
وبالمقابل وصف الله ذاته بالرحمة, وكتبها على نفسه, وسبقت رحمته غضبه, والرحمة لا تُنزع إلا مِن شقي, والشاة إنْ رحمتَها رحمك الله, وإنما بعث الله نبيه محمداً رحمة للعالمين.
فالرحمة أسلوب الأقوياء المسيطرين على دوافعهم ونوازعهم، والقسوة أسلوب الضعفاء البطاشين.
نحن نتحدث عن مجتمعنا الإسلامي والعربي وفي كل مكان؛ لأننا نحس بمشكلته, وندري فداحة الضرر من تنامي مشاعر العنف فيه أكثر من غيره, وإن كنا ندرك أن العنف أصبح شعاراً معولماً في عالم السياسة, والإعلام, والحركة الاجتماعية.
يجب أن نتصارح؛ لأن بناء المستقبل وصناعته تقوم على الترقي والتصحيح والوضوح في تعرف الأخطاء ومعالجتها.
ويجب أن نستشعر العار من هذه السوأة, ونسمح لها بالرحيل غير مأسوف عليها.
هناك ألوان من العنف تحتاج إلى مبضع الجراح:
أ- فالعنف الاجتماعي، كالعنف ضد المرأة، أو ضد الأطفال، أو ضد الضعفاء، أو الغرباء، أو قيم العنف التي أصبحت ثقافة يتلقاها الناس.
ب- وهناك (عنف المثقفين) الذين يقدمون أنفسهم –أحياناً– على أنهم ضحايا العنف، وهم أساتذته.
ج- وهناك في قمة الهرم (العنف السياسي) سواء تمثل في عنف الأنظمة وبطشها، أو في عنف الجماعات المعارضة، وكلاهما مدان ومرفوض.
ولعلي أجد فرصة لشيء من بسط الحديث حولها.
إن الإنسان يقرأ طبيعة البلد من عنوانه, ومن أول وهلة، فموظف الجمارك أو المطار أو رجل المرور أو البائع أو موظف الاستقبال هم النموذج الذي يكوّن الانطباع الأولي عن حالة الناس.
والعنف يتحول إلى قيم اجتماعية مقبولة ومعتادة, وتمارس بصورة طبيعية مثل:
(أ) صرامة الملامح والقسمات, والترسم الإمبراطوري المتعاظم، وهي حالة نفسية, ولها آثار سلوكية عديدة, وقد يستقر في ثقافة البعض أن قوة الشخصية تعني صناعة الرعب, وأنك حالما تظهر يتجمد الآخرون مكانهم.
وقد قال جرير  ما حجبني النَّبِيّ  منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي.
(ب) العدوان اللفظي بالأصوات العالية والصخب والضجيج والصراخ, والتشاتم والتهديد بالكلام, وحتى عند المواقف العاطفية قد نستخدم لغة خشنة.
أهدت إحداهن لزوجها ساعة.
فسأل: كم ثمنها؟
فأخبرته.
فقال: مضحوك عليك، "الثمن غالٍ جداً, وما تستاهل".
وأهدى الأخرى زوجُها وردة جميلة؛ فشمتها ثم ألقتها, وقالت: مالها ريحة!
وقد قال : (الكلمة الطيبة صدقة).
(ج) العدوان ضد الأشياء, فالأبواب تُضرب بعنف, والكراسي والطاولات, والأثاث يُبعثر, والأدوات والكتب, والكتابة العشوائية الرديئة على الجدران والأماكن العامة, وتكسير الأدوات, وتهشيم النوافذ, وإشعال الحرائق.
وهذا مدرج لتكسير القلوب, وتهشيم العواطف, وإشعال الخلافات, وقد نهى النبي  عن قطع السدر لغير مصلحة.
(د) العدوان ضد الآخرين بالضرب والمهاجمة, أو القتل, وهذا ما نشاهده في ألعاب السيارات بـ(التفحيط) والسرعة القاتلة.
والعدوان على الحقوق المادية والأدبية للناس, وخاصة ممن نسميهم أحياناً بـ (الأجانب), وهم حقيقة إخوة أحبة لهم الحقوق نفسها, والبلد بلدهم، فالسعودية مثلاً تستقبل عشرات الملايين من المسلمين من المقيمين أو الزائرين في حج أو عمرة أو تجارة أو لأي غرض كان...
وهناك ثقافة لدى بعض الشباب, وغير المتعلمين, وربما تمتد لمثقف أو مسؤول تقوم على نظرة ازدراء وتهميش واستخفاف بهؤلاء, فليس لهم حقوق يطالبون بها, وليس من حقهم أن يحتجوا, أو ينتقدوا.
من هم حتى يفعلوا ذلك؟!
بينما نقرأ ونتعلم أن المؤمنين إخوة, وأننا أصبحنا بنعمته إخواناً.
إننا بحاجة ضرورية إلى جهة علنية مسؤولة عن معالجة حالات العنف الاجتماعي والعدوان بأنواعها، يلجأ إليها كل من وقع عليه ظلم أو ضيم من أي كان؛ ليجد النجدة السريعة دون إبطاء, والوقوف إلى جانبه دون تردد, ولطالما انتظر من تعرض لسرقة أو اعتداء طويلاً دون أن يجد من ينصفه, حتى إن أحدهم سرقت سيارته فسارع بالتبليغ ليقول: سرقها إرهابيون... حتى يجد التحرك السريع.
وأن نعمم الثقافة الأخلاقية التي تربي الفرد على احترام الآخرين, ورعاية حقوقهم, وحفظ المصالح العامة, والتزام الذوق السليم, واختيار الأحسن من القول والفعل, تحقيقاً لقوله سبحانه: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"[الإسراء:53]، وقوله: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ "[الزمر:18]، وقوله: "وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم"[الزمر:55].
وما أحوجنا إلى إحياء هدي الأنبياء عليهم السلام في هذا الجانب وغيره, وتعليم الناس أنه من السنة, وأن العبد ينال به الثواب الجزيل, والدرجات الرفيعة.
وفي الحديث عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِي قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ).
والله المستعان.

* * *

لماذا نقسو؟! ( )
1. وكيف لا يقسو من نشأ في أسرة جافية فقيرة العواطف يصدق عليها وصف الأول: تحيّةُ بَينِهم ضربٌ وَجيعُ؟!
أثبتت الدراسات أن (50% ـ 80%) ممن يضربون زوجاتهم رأوا آباءهم من قبل يضربون أمهاتهم!
ويستدل بعضهم خطأً بالآية الكريمة: "وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ"[النساء: 34]، ويظن أنها تفويض بالضرب!
وهذا..
أولاً: خاص بحال النشوز والعصيان وليس إذناً مطلقاً.
ثانياً: جزء من منظومة متكاملة في التعامل تحدد الحقوق والواجبات ولا يجوز تناولها بمفردها معزولة عن غيرها.
وثالثاً:هو آخر المطاف بعد فشل الوعظ والتذكير ثم فشل الهجر في المضجع أي: يهجرها في الفراش دون أن ينتقل إلى غرفة أخرى.
ورابعاً: فسره النبي  بأنه ضرب غير مبرّح فهو حركة تعبر عن التأديب وليس الأذى أو العدوان وهو ضرب الحبيب الذي قالوا عنه إنه كأكل الزبيب.
وأما حديث: (لاَ يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ). الذي أخرجه أبو داود والنسائي في (الكبرى) وابن ماجه والبيهقي وأحمد عن عمر فهو حديث ضعيف لأجل عبد الرحمن المسلي قال عنه الذهبي: "لا يعرف إلا في هذا الحديث".
وعلى فرض صحته؛ فمعناه -والله أعلم- نهي الناس أن يسألوا الرجل عن السبب؛ لأن هذا من الفضول والتطفل على حياة الآخرين، ورواية المسند تدل على هذا..
وليس المقصود أنه لا يسأل يوم القيامة بل يسأل المرء عن كل شيء ولا يقصد ألا يسأله الحاكم بل الحاكم يلزمه شرعاً النظر العادل في أي قضية شكوى ضد زوج اعتدى على امرأته بالضرب دون وجه حق وقد ورد في قصة جميلة بنت أبيّ ما يدل على هذا.
وأما حديث: (وَلاَ تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْهُمْ أدباً) فهو ضعيف. رواه البيهقي وفيه انقطاع بين مكحول وأم أيمن ورواه أحمد وفيه عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ، ورواه الطبراني في الكبير وفيه عمرو بن واقد القرشي وهو كذاب.
ومثله حديث: (علق السوط حيث يراه أهل البيت) رواه ابن عدي والطبراني والبخاري في الأدب المفرد وغيرهم، وهو ضعيف قال في المقاصد: في سنده من هو ضعيف وقال في أسنى المطالب: طرقه ضعيفة.
إن العنف ضد المرأة ظاهرة عالمية على رغم مدونات حقوق المرأة وما يسمى بـ (اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة).
ويكفي أن واحدة من كل ثلاث نساء في العالم تعاني من مشكلات صحية خطيرة لها علاقة بتعرضها للضرب أو الاغتصاب أو أشكال أخرى من العنف، ومن آثار ذلك تورط المرأة في إدمان المخدرات أو التدخين أو الشيشة - على الأقل - فضلاً عن الأمراض النفسية، كالاكتئاب والتوتر وقد تصل إلى الانتحار أو محاولة الانتحار.
حدثني أحدهم أن جارتهم تأكل كل ليلة من زوجها السكير وجبة ساخنة من الضرب الموجع ويسمعون صراخها يقطع القلوب ثم تأتيهم في الصباح متجلدة وكأن شيئاً لم يكن حتى فقدوها مرة... فوجدوه قد قتلها قتله الله.
لا إحصائيات رسمية في العالم العربي فهي معاناة صامتة في الغالب والمرأة أعجز من أن ترفع شكواها أو توصل صوتها إلى الجهات القضائية أو غيرها...
ويا للحزن الشديد!
كم من امرأة تعيش القهر المدمر في ظل زوج لا يرى لها حقاً ولا يقيم لها وزناً ولا خيار لها غيره!
وكم من فتاة تقطع العمر حسرات وآهات تحت ولي يعضلها ويمنع عنها الخطّاب؛ لأنها محجورة لابن العم أو لأنه يصادر مرتبها ويقتات عليه.
وهكذا العنف ضد الأطفال: (فدى لهم من لا يحن عليهم)، فالطفل ذو النشاط الزائد أو المتخلف يتلقى عبارات قاسية تزدري شكله أو خلقه أو مستواه الدراسي ويتعرض للضرب والحرق فيترك الطعام ويصاب بالأرق فلا ينام ويضعف دراسياً ويصاب بالاكتئاب والعزلة ويفقد السيطرة على نفسه، وهذه الأعراض بدورها تسبب له دورة أخرى من التحقير والازدراء وتكاد الدمعة تطفر من عيني وأنا أكتب هذه الكلمات الحزينة.
أين التغني بالطفولة وبراءتها؟!
أين استشعار البهجة في وجود الأطفال في المنزل وأن زعيقهم وصياحهم أعذب لحن في آذان الآباء الناضجين؟
ماذا لو كنت عقيماً ترى الصبيان وأنت منهم محروم؟
ماذا لو مرض طفلك وذبل، أيظل قلبك في مكانه؟
ماذا لو مات...؟
فأي إحساس سينتابك وأنت تتذكر تلك اللحظات القاسية التي تَمَلَّكَك فيها الغضب، فقهرت تلك الزهرة الغضة البريئة؟!
ما الذي يحملنا على سرقة الفرحة من عيونهم في المناسبات والأعياد والاجتماعات؟!
أين هدي المصطفى : (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا)، (إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ).
من قدوتنا الحقيقية؟! محمد  أم ذلك الأعرابي الذي استغرب تقبيل النبي للصغار وأجابه النبي  بقوله: (أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟!).
لماذا نسمح للجفاف العاطفي أن يتسلل أو يحكم علاقتنا بصغارنا؟
لماذا نربيهم على الثأر والانتقام من الآخرين؟
لماذا نجعل حالات الطلاق والانفصال مجالاً لأن يعصر قلب الطفل اللين بين تناقضات والديه؟
أو أن يكون وسيلة ضغط من الأب أو من الأم؟
ألا نشفق على مستقبله أن ينشأ مشوهاً معقداً عليل النفس؟
أطفالُ مَن هؤلاء الذين يفترشون الشوارع ويتراكضون عند الإشارات ومراكز التجمعات للتسول وإراقة العزة ووأد البراءة؟
"وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ"[التكوير8-9] صدق الله العظيم.
2. وكيف لا نقسو ونحن خريجو مدارس هي أحياناً أشبه بالثكنات العسكرية تعتمد على حشو المعلومات وحقنها وتنحاز للجانب المعرفي على حساب التربية وبناء الشخصية، ولقد قرن الله بين العلم والرحمة فقال: "فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا"[الكهف:65].
فالعلم بلا رحمة غلظة وجفاء والرحمة بلا علم تدليل وضياع.
ولقد حبب إلينا العلم الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي -رحمه الله- بابتسامته الساحرة وخلقه النبيل.
ثم من بعده سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في صبره ولطفه العظيم. وفي كل علماء الإسلام خير.
ألا يجدر أن يقرر على البنات والأولاد منهج في التهذيب والأخلاق والعلاقات الاجتماعية؟
إنه مقرر يجدر ألا تخلو منه مرحلة دراسية من الابتدائي إلى الجامعة.
3. وما لنا لا نقسو ووسائل الإعلام تعرض مشاهد العنف والقتل، وتقدمها للكبار والصغار سواء أكان هو العنف الترفيهي في الأفلام والمسلسلات وبرامج التلفزيون والفيديو والسوني (playstation) والكمبيوتر أو العنف الإخباري الذي هو صدى للإرهاب العالمي؟!
4. وما لنا لا نقسو والأحداث العالمية تصنع القسوة؟! فحسب الدراسات العلمية فإن الاستفزاز من أهم مكونات العنف؛ لأنه يؤثر على إفرازات الغدد في الجسم فيحدث الاضطراب النفسي والفكري الذي يصاحب العنف والعدوانية.
إنسان تم استفزازه يمكن أن يحطم كل شيء أو يقود السيارة إلى الهاوية، و(85%) من الصراعات الشبابية ترجع إلى الاستفزاز.
5. وكيف نتعجب من القسوة والخطاب الديني يعتمد لغة خشنة في العديد من مواقعه مع أن الأصل في الشريعة الربانية الرحمة كما يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي وما جاء وعيد إلا وسبقه وعد ورحمة.
وحتى النار يقول سفيان الثوري فيما رواه الطبري وهو صحيح: (خلقت رحمة يخوف الله بها عباده لينزجروا عن المعاصي).
ومع أن (بسم الله الرحمن الرحيم) هي ما نقوله في بدء أعمالنا وأن (السلام عليكم ورحمة الله) هي ما نقوله في ختم صلاتنا فإن التراشق حين الاختلاف وقساوة اللغة والاتهام والتخوين والتفسيق والتبديع والتكفير دون وجه حق وبحق أئمة وأكابر من المتقدمين والمتأخرين فضلاً عن عامة المسلمين، كل هذا وغيره لا يدل على التأدب بأدب القرآن والسنة.
6. ولا يغيب عن البال عنف المتنفذين بالمصادرة وإهدار الحقوق والهيمنة على المجالات والفرص وما يقع في العديد من البلدان من الاحتجاز التعسفي وصور التعذيب وغياب المحاكمات والقتل خارج القانون، كما يسمى.
إن الممارسات التي سجلتها كتب التعذيب في السجون ("البوابة السوداء" و"نافذة على الجحيم" وغيرها...) ليست سوى رأس لجبل من الجليد بل من الجحيم والضابط الذي يمارس التعذيب لا يلعب بمستقبله الوظيفي بل بمستقبل الأمة.
إن المقابر الجماعية والقبضة الحديدية وسيطرة الخوف على العلاقة بين السلطة والناس، في العراق -مثلاً- جعلت المجتمع مرشحاً للانهيار عند التحدي الخارجي؛ لأن الناس بانفصالهم العاطفي وسيطرة روح الغضب عليهم قد يتصورون ألا وضع أسوأ مما هم فيه ويتولد لديهم أمنية خفية بالتغيير على أي جواد كان ومهما كان برنامجه المستقبلي، وصدق الله حيث يقول: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ"[آل عمران:159]، فها هنا نص على أن الناس تجمعهم الرحمة وتفرقهم الفظاظة والغلظة ومَن أصدق من الله قيلا؟!
7. وأخيراً فإن التاريخ والجغرافيا ذات أثر وحضور، فالثأر مثلاً من أهم مكونات الشخصية العربية خصوصاً في القبائل والصحراء، ومن ذلك ما يسمى بجرائم الشرف وهي فعلاً جرائم.
ومن أمثالنا الشعبية: (قوي نارك تغلب جارك)، (الحيطة الواطية ينطو عليها الكلاب)، (الدم بالدم ولو كانوا أبناء العم).
من الأمثلة التاريخية: العنف السياسي فالحجاج والبطش السلطوي من جهة وثورات الخوارج التدميرية من جهة أخرى وضياع الاحتجاج الشرعي على الاستبداد والظلم.
ومن الأمثلة ما ورد في السنة من استنكار ضرب الرجال لزوجاتهم وحدوث ذلك والنهي عنه.
وبعض العرب كانوا يعتبرون المرأة إنساناً ولكن من الدرجة الثانية.
البيئة تصنع مناخاً ملائماً للجفاء وهو باب يطول ذكره.
وقد رأى العمري الزاهد امرأة في الحج فوعظها، فرفعت رأسها إليه وقالت: أنا ممن قال فيهن الشاعر:
مِنَ اللاءِ لَم يَحجِجنَ يَبغِينَ حِسبَةً
وَلَكِن لِيَقتُلنَ البَريءَ المُغَفَّلا
فأعرض عنها وقال بإشفاق: (أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار).
يعلّق سعيد بن المسيب -رحمه الله- بقوله: هذا ظرف أهل الحجاز, ولو كان من المغالية من أهل العراق لقال: أغربي قبّحك الله.
أستغفر الله أن أكون قسوت على أهلي ومجتمعي، ولكن الباحث حين يقصد إلى معالجة ظاهرة ما يتجه إلى حشد النظائر واستكمال الرؤية, ولو أردنا أن نتحدث عن مظاهر الرحمة وآثارها في علاقاتنا وحياتنا لفعلنا. والله وحده المستعان.

* * *
وداعاً للقسوة.. ! ( )
تتسم الشخصية القاسية عادةً بعبوس الوجه، وتقطيب الجبين، وغياب الابتسامة، وحينما يحاول صاحبها أن يبتسم تتجمد ملامحه، ويحسّ بالخجل، وقد يذهب به الوهم إلى أن البسمة تسبب له الازدراء وتزيل هيبته لدى الناس.
وكأن النبي  عناه حينما ضرب مثلاً للبخيل الذي لبس جبّة أو جنّة و(كُلَّمَا هَمَّ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ؛ فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ) رواه البخاري ومسلم.
لقد تضخمت عنده (الأنا)، واكتمل لديه الترسم الإمبراطوري، حتى أضحى جلده كجلد التمساح، ودموعه كدموعه، وبالتالي ضعف إحساسه بالآخرين، وغابت روح الجماعة، وحينما يتحدث عن (التعاون)؛ فهو يريده من الآخرين، دون أن يضع نفسه معهم على قدم المساواة، وهذا ناتج عن ضعف سيطرته على نفسه، واسترساله وراء النوازع الشريرة، كحب الذات وسوء الظن بالناس.
وهو يعاني -ولابد- من الجفاف العاطفي، وربما كانت العاطفة يوماً جذوةً قابلة للاشتعال، ولكن ضعف التعبير عنها رَاكَم عليها التراب حتى صارت في عداد الموتى. لا يستطيع لسانه أن يقول لولده: أحبك. أو أن يقول لزوجته كلمة ملاطفة أو وداد. هو يقول: هذا معروف، ولا يحتاج إلى تعبير أو حديث، والحقائق تقول: الحب والعاطفة شجرة يسقيها التعبير عنها بالقول وبالفعل، ويقتلها الصمت.
الشخصية القاسية مفرطة الثقة بآرائها وقناعاتها، عسيرة التحول عنها، ولذا لا يستفيد الإنسان العنيف من آراء الآخرين، ويفشل في إقناعهم بالرأي والمشروع الذي لديه، كما أنه يتعامل مع الناس بخوف وريبة، ويتعامل مع الجديد بتوجس وحذر مفرط، وينظر إلى الأشياء والأفراد والأفكار من جانبها السلبي دون الإيجابي.
هذا هو "أَلَدُّ الْخِصَامِ" الذي إذا "قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ "، "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا"، وقد نطقت هذه الآيات الكريمة بسماته وخصائصه النفسية والسلوكية؛ فسبحان من أنـزل الكتاب تبياناً لكل شيء!
إن شيوع هذه القسوة، كظاهرة اجتماعية سبب في ذبول الشخصية وضعفها، وتحطيم المواهب والطاقات والكفاءات، وإشاعة الجبن والتردد والارتباك، والخوف من المحاولة والخطأ، والجزع من كلام الآخرين، وفقدان السعادة والاستمتاع بالحياة، والقسوة المنعكسة على نفسه ومن حوله، وبالتالي تفكك الأسر والدول والجماعات والمؤسسات والمجتمعات.
ولعل انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية من أهم أسباب تخلفنا، ولله درُّ عمرو بن العاص  حين قال في وصف الروم: "وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ" صحيح مسلم، وجعل هذا من أسباب بقائهم وكثرتهم ونفوذهم إلى يوم القيامة.
ولعل الحملة على القسوة بكافة صورها وأشكالها أحد محاور الإصلاح الصحيح في المجتمع المسلم؛ فكيف نتخلص من العنف؟
لعل من أهم ما يعين على ذلك:
1- التدريب على الحوار وآلياته وطرائقه وتقنياته.
-الحوار مع الصغار من الأطفال في التعليم والترفيه والتوجيه.
- الحوار مع المرؤوسين لتفهم وجهات نظرهم وكسب ثقتهم وتحقيق انتمائهم للعمل وشعورهم الصادق بالإخلاص فيه.
- الحوار مع الطلاب في قاعات الدراسة وغيرها، وفي قصة موسى والخضر أسوة وعبرة.
- الحوار داخل شرائح المجتمع وأطيافه للاتفاق على كلمة سواء.
- الحوار مع المنحرفين – أياً كان انحرافهم - لكشف الضلالات عن عقولهم، أو المؤثرات على سلوكهم.
المطلوب إصلاح شامل، وليس إصلاحاً سياسياً فحسب.
هب أن المرء ليس لديه أي قوة إدارية أو سلطوية، أليست لديه قوة العقل وقوة الأخلاق ليؤثر بها على الآخرين بالإقناع، وليس بالفرض والإجبار؟!
2- بناء مؤسسات المجتمع المدني، وإشراك الناس في تحمل مسؤولياتهم، والتفكير في حاضرهم ومستقبلهم، والدأب على روح العمل الجماعي، والعمل على إشاعة ثقافة الفريق، وليس العمل الفردي المعزول.
3- العدل والإصرار على نشر لوائه بين الناس، ولتسقط الشفاعات والوساطات الجائرة التي تحرم الناس حقوقَهم؛ لتحوزها إلى الأقارب أو الأصدقاء أو من يدفعون أكثر.
إن القسوة تتجلى في مجتمع لا يأخذ الضعيف فيه حقه من أي كان، وقد جاء عنه : "لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ"رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وإنني أتطلع إلى اليوم الذي يصبح الناس فيه سواسية أمام حكم القانون العادل (وليس القانون هنا شيئاً آخر غير الشريعة)، فيتساوون في الوظيفة والفرصة، وإمكانية النقل أو الترقية أو غيرها، والعدل واجب حتى مع المخطئ، فللسجين حقوق، وللمحكوم عليه حقوق "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلاَ يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلاَ يُثَرِّبْ..." متفق عليه، بل الذي يساق إلى حتفه له حقوق " فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"صحيح مسلم.
4- الترويح النفسي المعتدل، فإن النفوس إذا كلّت عميت كما يروى عن علي  وأن يكون للفرد أو المجموع أوقات وأماكن يستمتعون فيها بتسلية مباحة تزيل عن النفوس همومها وغمومها وتعيد توهجها وإشراقها، فذلك ينفي عنها شرّة الانفعال ويصنع لها التوازن والهدوء الضروري ويجدد الأنسجة والخلايا بعد تلفها أو عنائها ويبعث فيها الهمة والنشاط.
5- إشاعة الكلمة الطيبة الهادفة والخلق الكريم والابتسامة والنظرة الحانية، وللقدوة دور كبير في ذلك، ولتكن أنت بالذات -قارئ هذه الأحرف- أحد النماذج والقدوات التي تتطوع لتقديم هذا العمل السهل الممتنع مهما يكن رد الأطراف الأخرى، إنها صدقة تملكها وإن كنت صفراً من أرصدة المال.
عوّد نفسك أن تبتسم ملء شدقيك، وبصدق وصفاء لمن تلقاه من إخوانك، محاولاً أن تكون الابتسامة تعبيراً عن شعورك القلبي، وليست ابتسامة صفراء.
6. نشر ثقافة التسامح والعفو والصفح "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا"[النور:22] "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[المائدة:13] "فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"[الزخرف:89]، وهذا هو مظهر القوة الحقيقة، والسيطرة على المشاعر والانفعالات العدوانية، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" متفق عليه. لم لا أجرّب العفو عمن ظلمني، ولو بعد ما تسكن حرارة الغضب وأن أسامحه حيث يعلم الناس أو لا يعلمون، ومهما تكن دوافعه لهذا الظلم؟!
سامحْ الناس ودعْ عِرْ
ضَك وقفاً للسبيلْ
وأعرْ سمعك وقراً
عند إكثار العذولْ
وحينما أضع رأسي على الوسادة تهيؤاً لنوم عميق، لم لا أنخرط في دعاء صالح للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، دون أن أستثني؟ بل لم لا أخص أولئك الذين ظلموني أو أساؤوا إليَّ بدعوة خالصة صادقة أن يهديهم الله ويسامحهم...؟!
إنه موقف صعب..."وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"[فصلت:35]، لكن جرّب أن تقسر نفسك على هذا المعنى الرفيع، ثم انظر...
كم من الراحة وجدتها في نومك؟
وكم من السعادة قفزت إليك حالما استيقظت؟
إن التجربة تؤكد أنك الرابح الأول بلا تردد.
وحتى في الآخرة، فلن يضيع لك أجر.
وحينما تألّم أبو بكر من تنكر مسطح بن أثاثة لجميله وانهماكه في حديث الإفك، وحلف ألا ينفق عليه، أنـزل الله "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[النور:22]، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا. قَالَ: فَلَقِي اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ"، وفي رواية للنسائي "إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ...".
إنني أؤمن أن هذا المبدأ يجب أن يشاع بين الناس، لكنني لا أوافق أصحاب فكرة (اللاعنف) كما في كتاب (سيكولوجية العنف) للدكتور خالص جلبي وكما في موقع (اللاعنف) في الإنترنت.
فقد فشل الكتاب وتوابعه في صناعة توازن أخلاقي بين التسامح النابع من قيمة معنوية صادقة وبين القوة العادلة التي هي ضرورة وجودية تمثلت في قوة العقل أو المادة والتي هي سر من أسرار الإصلاح "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ"[البقرة:25]، وهي حماية للإنجاز البشري من تسلط البربرية والوحشية المدججة بالسلاح.
إن تصور التاريخ كله بلا حرب... هو تصور أخرق قد يكون أي شيء آخر إلا أن يكون هو تاريخ البشرية.
7. إن الخطاب الديني مسؤول بصفة أساسية عن إشاعة الرحمة بين الناس، في الخطب والدروس والمحاضرات والكتابات؛ بل والممارسات كافة، وقد كان عبد الله بن المبارك يقول:
يا مَعْشَرَ القُرَّاءِ يَا مِلْحَ البَلَدْ
مَا يُصلحُ المِلْحَ إذا المِلحُ فسدْ!
قد تَحْمِلُنا النكاية أو الغيرة على الانتقام أو المواصلة إلى النهاية، لكن روح الإيمان الصادق تحجز المرء وتقيده، وقد قال : "الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن" رواه أبو داود بسند صحيح.
ولنردد مع عمر بن عبد العزيز دعاءه الصادق "اللهم إن لم أكن أهلاً لبلوغ رحمتك، فإن رحمتك أهل لأن تبلغني، وسعت رحمتك كلّ شيء، وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين".

* * *

العنف الداخلي
التفجير وتداعياته! ( )
1 - تسامع الجميع بالتفجيرات؛ التي حدثت في الرياض, ليلة الثلاثاء الموافق 12/3/1424هـ؛ والتي استهدفت مجمعات سكنية؛ يفترض أنه يقيم فيها أجانب, وراح ضحيتها عشرات القتلى, ومئات المصابين, من الأمريكان, والسعوديين, وغيرهم!
وأي معالجة للحدث يجب أن تكون منطلقة من إدانة صريحة واضحة, لا لبس فيها لهذا العمل الشائن المحرّم !
فالشريعة جاءت بحفظ الأمن (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا) (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْف).
وحفظ الدماء (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).
وحفظ العهود (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ).
ومدار الشريعة على تحقيق المصالح وتكميلها, ودرء المفاسد وتعطيلها، ومثل هذه الأعمال تشكل الشرارة الأولى لإثارة الفتنة, والاحتراب الداخلي الذي يدمّر الطاقات, ويشتت الجهود ويهدر المكتسبات, ويعيق التنمية في مجالاتها المختلفة, ويؤخر مسيرة الإصلاح والدعوة ويفتح الباب أمام الطموحات الكامنة, والتناقضات المذهبية, والقبلية, والإقليمية, والفقهية التي لا يخلو منها مجتمع.
وربما شكل فرصة مناسبة للتدخلات الخارجية؛ التي تتذرع بملاحقة الإرهاب, كما تسميه, أو بالمحافظة على المصالح الاقتصادية, أو بتحرير الشعوب إلى آخر المعزوفة المعروفة!
إن الموقف المبدئي الشرعي الصريح يجب أن يكون قدراً مشتركاً لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاء برفض هذا العمل وتحريمه, وإدانته شرعاً؛ وبإدراك الآثار السلبية الناجمة عنه محلياً, وإقليمياً.
2. وهذه الإدانة يجب ألا تكون محاولة لتبرئة النفس من الاتهام, وكأن المتحدث يريد أن يبعد التهمة عن شخصه فحسب!
إن المسؤولية أعظم من ذلك, ونحن جميعاً في خندق واحد, وسفينة واحدة, والخرق فيها يفضي إلى غرق الجميع, ويجرنا إلى دوامة من العنف لا يعلم نهايتها إلا الله! وانفلات الأمن أسهل بكثير من إمكانية ضبطه وإعادته.
وهذا الإحساس الجاد بالمسؤولية هو الذي يحمل المرء على رفض هذه الأعمال! أياً كانت مبرراتها.
لقد دأبت بعض وسائل الإعلام على توسيع دوائر الاتهام, ومحاولة جرِّ أطراف عديدة إلى الميدان؛ لتصفية حسابات شخصية, أو حزبية, أو ما شابه.
وهذا يجب أن يتوقف, ولا يجوز أن نعيد إنتاج التهم الأمريكية؛ التي أدانت الإسلام والعرب والسعودية؛ واعتبرت المجتمع بمؤسساته العلمية والسياسية والتربوية مسؤولاً عما يحدث.
والإحساس بالمسؤولية الشرعية، بل والوطنية؛ يقتضي عزل الحادث في أضيق نطاق, وعدم توسيع دائرة التهمة؛ لأننا بهذا التوسيع نصنع تعاطفاً معه, ومع منفذيه لدى شرائح جديدة في المجتمع.
لقد فتحتُ حواراً موضوعياً -بعيداً عن التكلف والتصنع والمجاملة- مع شرائح من طلاب الدراسات الشرعية, ومن طلابي في الحلقة العلمية؛ فوجدت إطباقاً على رفض العمل الذي وقع وتحريمه، وإن كان الناس يختلفون في الجهة المسؤولة عنه, أو في الحديث عن أسبابه, وهذا من حقهم أن يختلفوا فيه.
إن السعي للوصول إلى مكاسب شخصية, أو فئوية لطرف ما بتوظيف هذا الحدث؛ هو استثمار خاطئ لأزمة حقيقية, لن تستثنى أحداً من تبعاتها وآثارها !
3. إن من أعظم المخاطر أن تتسع شقة الانشطار, والانشقاق في المجتمع, وأن يجد الناس أنفسهم في مواقف متقابلة يتداخل فيها الشرعي بالقبلي بالمنطقي بالشخصي، وهذه هي الفتنة بعينها: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
وقد تكون الشرارة الأولى عملاً فردياً؛ يفتح الباب أمام الطموحات المتناقضة, ويتم توظيفه من الأطراف المختلفة, كل حسب رؤيته الخاصة، وهذا يُحتّم على المسؤولين في هذه البلاد أن يتعاملوا بمنتهى الشفافية مع الحدث وتداعياته, وأن يقطعوا الطريق على المزايدات التي تصب الزيت على النار.
يجب العدل في التعامل مع المتهمين, وعدم استخدام أساليب الترهيب النفسي معهم, أو مع أسرهم وذويهم, أو التعذيب, أو التجاوز؛ لأن هذا ليس من الإسلام, ولا يزيد الحقد إلا تأججاً، والعقل والحكمة تقتضي إلجام الغضب, والعدل أساس الملك (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
4. الموقف من الإدارة الأمريكية, ورفض سياساتها التعسفية الاستعلائية الانفرادية؛ ليس حكراً على بلد متدين كالسعودية, ولا على دول عربية ولا إسلامية؛ فالكراهية لتلك السياسات الفاسدة تتنامى في سائر أنحاء أوروبا, وأمريكا الجنوبية, والصين, وغيرها!
وثمت عامل إضافي يخص العالم الإسلامي وهو أنه المستهدف الأول بدينه وثقافته وأرضه وخيراته ومنهج حياته, كما هو مشاهد للعيان.
والعربي والمسلم بطبيعته يرفض الذل, ولولا قيد الدين وأثره في منع الناس من الاندفاع، لكان الأمر أشد وأعظم وأنكى! وفي الحديث يقول النبي : "الإيمان قيد الفتك؛ لا يفتك مؤمن".
لقد تجاوز الأمريكيون الحد في الاستخفاف بالشعوب, وتجاهل إرادتها! ومع هذا؛ فإن من الحكمة القول: بأن الإدارة الأمريكية, أو بعض متطرفيها قد يطيب لهم اضطراب الأمن في أي بلد إسلامي؛ لأنه قد يمنحهم ذريعة حاضرة, أو مستقبلية في التدخل بحجة المتابعة الأمنية, أو الحفاظ على المصالح، أو إغلاق هذه المؤسسة, أو تلك، وقد تتطور الأمور بشكل لا يمكن التحكم فيه.
وعلينا أن ننفذ غضبنا على هؤلاء المتطرفين, من خلال آلية عملية واقعية؛ كالمقاطعة الاقتصادية على مستوى الأفراد, والشركات, ورجال الأعمال والحكومات.
ومثل ذلك المواقف السياسية الناضجة, وتهيئة البدائل في العلاقات, والاتفاقيات.
ومثله الدعوة في الولايات المتحدة, وتدعيمها, وبناء المؤسسة الجادة؛ التي تدافع عن قضايا العرب والمسلمين في أمريكا وأوروبا.
ومن ذلك الإعداد لتطوير بلادنا, وتقويتها, وتعزيز روح الشورى, والمشاركة والتعاون, والوقوف أمام التجاوزات بصراحة وحزم, ولكن بشكل سلمي, لا يعتمد العنف وسيلة للتغيير.
5 - يجب صناعة الجو والمناخ الصالح؛ الذي تشيع فيه روح العدالة والإنصاف, وتحفظ فيه حقوق الناس كافة؛ ويتمتع الفرد فيه بذات الفرصة التي يتمتع فيها أخوه الآخر، ويملك الفرد أن يعبِّر عن رأيه ووجهة نظره؛ بالكتابة, أو الخطابة, أو أي صورة من صور التعبير الرشيد؛ ويتحمل مسؤولية هذه الكلمة وتبعتها في الدنيا والآخرة, ويحاسب كل من أخل بمبدأ, أو تجاوز حداً, أو تعدى على مقدس, أو أساء إلى أحد, ضمن المعايير الشرعية التي يتفق عليها الجميع. وضمن هذا الإطار تأتي شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب دعمها, وتنظيمها, وتطوير آلياتها, ومجالات عملها.
إن المجتمع العادل الذي يتمتع بالحقوق والحريات المضبوطة بضابط الشرع فحسب هو مجتمع محروس بعناية الله، محفوظ من الانسياق وراء الاعتبارات الخاصة، والرؤى الضيقة, وهو الذي يشعر كل فرد فيه بمسؤولياته تجاه القضايا والقرارات الصغيرة والكبيرة.
والمعروف أن أساليب التعبير العنيفة- ومنها القتل, والتفجير, والاغتيالات- تأتي عادة في ظل انسداد السبل الطبيعية, وعدم قدرة الناس, أو فئة منهم على التعبير والحوار الحرِّ؛ ويعمقها الشعور بالغبن, والحيف, والظلم, والتهميش!
ومثل هذا الحدث -مهما يكن مؤلماً- يجب أن يكون منطلقاً لحركة تصحيحية إصلاحية جادة داخل مؤسسات الدولة.
والإطار المبدئي الذي يمكن الانطلاق منه لهذا الإصلاح؛ هو مبدأ الحوار النزيه, المحتكم إلى مسلمات الشريعة ومقرراتها (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). ومن حق كل إنسان أن يشارك ويقدم ما لديه؛ فالبلد بلده, والمصلحة له ولمن بعده, ولا يُستبعد من هذا الحوار صاحب فكر بحجة الغلو أو غيره؛ فالفكر يعالج ويصحح بالفكر, والحوار, والحجة, والبرهان.
وأفضل الفرص لنشوء وانتشار الفكر المنحرف؛ هي الأجواء المغلقة الخانقة! المهم هو عدم الاحتكام إلى السلاح والقوة في حل الإشكاليات, أو تحقيق المطالب.
6. إن أوضاع الشباب في السعودية تحتاج إلى معالجة شاملة؛ لتوسيع مشاركتهم في العمل الاجتماعي, وإعطائهم الفرص المناسبة للحياة الكريمة, وتشغيلهم, وتأهيلهم عبر مؤسسات رسمية وخيرية, وملء فراغهم بالمفيد النافع, والأخذ بأيديهم إلى الجادة المعتدلة, وتعزيز التيار المتوازن الملتزم بالقيم, وعزل الأطراف الموغلة؛ بالتساهل, أو التشدد. وهذه مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى ثم رجال الأعمال ورجال التربية.
إن أكثر من0 6% من الشعب السعودي؛ هم من الشباب دون سن العشرين. وهؤلاء يكادون أن يكونوا محرومين من الفرص التي يستحقها أمثالهم؛ من الناحية المادية والوظيفية التي تحقق احتياجاتهم, وتمنحهم الخبرة والتجربة.
إن الشباب قنبلة موقوتة, مرشحة للانفجار في أي اتجاه! وعلينا ألا ننتظر لكي تقع المشكلة حتى نعالجها؛ بل أن نمتلك رؤية مستقبلية ناضجة؛ تستطيع أن تقرأ أثر المتغيرات, وأن ترسم الحل, وأن تنفذه.
ونحن بحمد الله دولة نفطية؛ لديها إمكانيات مادية هائلة, وخبرات بشرية جيدة, ومساحات متسعة من الأرض, ومستقبل واعد -بإذن الله- إذا توفرت الإرادة للإصلاح؛ كما قال سبحانه (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً).
إن الحدث ناقوسُ خطرٍ يعلن عما وراءه! وعلينا أن نفهم الرسالة جيداً, ونتعامل معها بمسؤولية وتقوى على مستوى الحاكم والمحكوم وعلى مستوى المرسل والمتلقي.
والله أعلم

* * *
أحداث الخبر.. تدق ناقوس الخطر! ( )
أحداث الخبر وما سبقها من أحداث هي امتداد لسلسلة من الممارسات الخاطئة والأعمال التي طالت أفراد البلد الطيب واستهدفت كثيرًا من الأبرياء: من المواطنين والمقيمين والآمنين وغيرهم... وأصبحت واقعاً مؤلماً اتفق الجميع على إدانته، مدركين لخطورة هذا الاتجاه وهذا الفكر وآثاره السلبية؛ سواء كانت آثارًا شرعية من حيث إظهار الإسلام للعالم كله وكأنه دين القتل والتعطش للدماء وليس دين الرحمة والخلق والسماحة، أو من الناحية الاجتماعية لحصول الانشقاق والانفصال والتباعد والقطيعة والاحتراب الداخلي والإطاحة بالقيم والأخلاق والعلاقات، أو الآثار الاقتصادية المدمرة.. وقبل أسبوع لقيت أحد المسؤولين في إحدى الشركات، وقال لي إن خسارة بعض الشركات ربما تصل أحياناً إلى مئات الملايين بسبب هذه الأحداث، وهذه كلها يدفعها المواطنون المسلمون.
إن الإجماع على إدانة مثل هذه الأعمال أمر يجب الابتهاج به؛ فكل العلماء والفئات الإسلامية الخاصة العامة اتفقوا على الإدانة، ويعلنونها بلا مواربة أو تورية. وفي نظري أن هذا مكسب، وإن كان بدهي وطبيعي؛ إلا أنه أيضاً مكسب لحصار هذا الفكر وهذا الاتجاه. وأدعو إلى تأكيد هذا الإجماع وقطع الطريق على كل من يوظف بعض الأحداث توظيفاً شخصياً أو يشكك في هذا الإجماع، وأعتقد أن الحكمة والسياسة تقتضي النظر إلى هذه الفئة على أنها فئة معزولة اجتماعياً وشرعياً وفكرياً، وأنها ليست فئة ممتدة في المجتمع متغلغلة في أنسجته وفي مفاصله. ومن الخطورة بمكان أن ينجرّ البعض وراء هذه الأحداث؛ ليحاول أن يمارس الدور الأمريكي الذي مورس من قبل على المسلمين وعلى العرب، وعلى البلاد السعودية على وجه الخصوص؛ بإلصاق تهمة الإرهاب بها من خلال أحداث سبتمبر.. هؤلاء يرتكبون خطأ كبيرًا حينما يحاولون توسيع دائرة الاتهام داخل المجتمع السعودي.
الرسالة الواضحة التي أفهم أن وسائل الإعلام كلها من صحافة وتلفزة وإذاعة وغيرها تحاول نشرها -وهي مصيبة في ذلك- هي: أن هذه الفئة فئة معزولة عن المجتمع، ولا تمثل إلا نفسها، لا كما تسوق له بعض الأطروحات التي تُسمع أو تُقرأ وتحاول أن توسع الدائرة، وتجذب أطرافًا أخرى كثيرة لسبب أو لآخر لتصفية حسابات أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنها بهذا شاءت أم أبت تقدم خدمة لهذا الفكر ولهذا الاتجاه، لأنها تعطيه دعمًا وشعبية وامتدادًا.
إن هذه الأحداث أصبحت واقعاً ملموساً، ولم يعد الأمر فيه خيار عند أحد في ضرورة الوضوح في إدانة الأحداث هذه سواء من الناحية الشرعية البحتة، أو بالنظر إلى الآثار السيئة المدمرة التي تنتجها.
لقد بادر عدد كبير من الأساتذة والدعاة الذين لهم قدرهم إلى إدانة هذه الأحداث والتحذير منها قبل وقوعها، وقبل أن يفطن أحد إلى أن هذا الخطر قادم إلا القليل، عبر بيان الجبهة الداخلية الذي تبناه موقع (الإسلام اليوم)، الذي نُشر في الصحف واطلعت عليه كثير من الدوائر والأطراف، فموقع (الإسلام اليوم) قبل حصول الأحداث بأكثر من سنة أصدر بيان الجبهة الداخلية لإقامة الحجة على هؤلاء الشباب قبل أن ينزجّوا فيما وقعوا فيه؛ لأن الرجوع حينئذ قد يكون صعباً.
إن البيان النظري أو القولي نعتبره ضروريًّا لأنه نوع من الإعذار إلى الله سبحانه وتعالى ولعلهم يتقون، ومثله وخير منه ما سمعه الجميع وقرؤوه من بيانات لهيئة كبار العلماء وللأطراف المختلفة من مؤسسات وأشخاص؛ إلا أن كثيرًا من هؤلاء الشباب -دعك من أولئك الذين وقعوا في هذا السياق- ممن قد يكون عندهم نوع من ضعف البصيرة وليس لديهم قدرة كافية على إدراك أبعاد الأمور، وربما يكون بعضهم محبطاً أو يائساً أو مصدوماً بفعل أحداث خارجية أو مشكلات شخصية أو أسرية أو غير ذلك..؛ فمثل هؤلاء يحتاج الأمر إلى نوع من الاستيعاب والتواصل معهم وتمكينهم من الحديث والبوح، وأخذ ما في صدورهم، ثم التجاوب معهم بأسلوب علمي وشرعي وعاطفي، وتمكين الدعاة كذلك من الوصول إلى هؤلاء واستيعابهم بطريقة أو بأخرى.
إن كثيراً من هذه الانحرافات ليست قناعات عقلية تناقش بالمنطق؛ ولكنها تأثّرات نفسية تحتاج مع المنطق والعقل إلى نوع من العاطفة ونوع من التأثير، ونوع من التخويف من عقاب الله سبحانه وتعالى، كأن تقول له: إن المشكلة ليست أن تخسر دنياك، ولكن المصيبة أن تخسر آخرتك أيضاً، وأن تقدم على الله سبحانه وتعالى وأنت على غير هدى، وأنت قد بؤت مثلاً بقتل مسلم أو بترويع مسلم أو ما أشبه ذلك من المفاسد العظيمة.
هذه مهمة جليلة، وحقيق أن يشترك الجميع للقيام بها، الجهات الرسمية والشعبية والعلمية والتعليمية والإعلامية،؛ لأن الأساليب الفردية البحتة مهما كانت تظل محدودة.

* * *
مداخلة حول العنف والدعوة( )
أحداث العنف التي تعيشها السعودية اليوم نمط مشابه إلى حد كبير لما كان يجري في مصر والجزائر قبل سنوات.
وإذا اختلفت الأسماء بين الجماعة الإسلامية والجهاد في مصر والجماعة المسلحة في الجزائر إلى تنظيم القاعدة؛ فالأمر كما قيل: تنوعت الأسماء... والموت واحد!
وقد تلتقي عند هذه الأعمال التدميرية آمال المحبطين واليائسين والمقهورين أو حتى المظلومين وأحياناً من لا يزالون في مقتبل سني حياتهم ولم يتلقوا من النظر العقلي الراشد أو من التجربة الحياتية الغنية ما يجعلهم يتقنون فن التقويم ويضبطون زاوية الرؤية.
هذه الأعمال انتحار لأن أصحابها أغلقوا على أنفسهم المنافذ وسدوا الأبواب وأحكموا الحصار؛ فلم يعد أمامهم المزيد من الخيارات.
والمقطوع به في سجل الحياة أن الإنسان كلما وسّع الخيارات على نفسه كان أرشد وأوفق؛ لأنه قد يبدو له في الغد ما لم يكن اليوم له في حساب ورحم الله العقاد إذ يقول:
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا
وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
وفي القول أو الفعل؛ أن تجعل لنفسك العديد من الخيارات فذلك أصوب من ركوب طريق قد تحملك عليه لجاجة أو غضب أو تؤزّك عليه نزوة تزول؛ فإذا أنت مكبّل اليدين في الدنيا عاجزاً عن التدارك أو معايناً للخسار في الآخرة ولات ساعة مندم.
وما بي هنا أن أدخل أحداً جنة ولا ناراً لكنه الحساب.
وقد تأملت سياسات الدول الكبرى فرأيتها لا تحكم بخيار واحد ولكنها تضع نفسها ما استطاعت في الدائرة التي تمكنها من تطوير خياراتها ومراجعة مسيرتها وعدم الاستئسار أو الالتزام بطريق لا محيد عنه.
وهذا ممكن في حالات كثيرة ولكنه يعز على مَن حمل السلاح واحتكم إلى البندقية وأحرق السفن.
ثم هي أعمال تدخل في دائرة التدمير باعتراف أصحابها قبل غيرهم؛ فهي لا تبني بيتاً ولا تؤسس جامعة ولا تنشئ مدرسة ولا تقيم مصنعاً ولا تفتح شارعاً ولا تُعلِّم جاهلاً ولا تُرشد ضالاً، ولا تطعم جائعاً ولا تعالج مريضاً ولا تكسو عارياً...، ولا...، ولا....
إن جميع مشاريع البناء والتشييد والإعمار والتنمية عندها مفقودة أو مؤجلة على أقل تقدير ومؤجلة إلى متى؟!
مؤجلة إلى المستقبل الذي جرت السنة الربانية أنه لا يجيء؛ لأنك لا تجني من الشوك العنب!
وليس أحد -والله أعلم- خاض معركة إلا وهو يتوقع النصر في نهايتها ما لم تكن المعركة مفروضة عليه لكن هناك من يصدق توقعه؛ لأنه ينطلق من إمكانية واقعية صادقة مبنية على رؤية وتخطيط وهناك من يخذله ظنُّه لأنه بناه على حماس شاعل في قلبه أو شجاعة جاهلية أو غضبة مضرية.
ولأنها الخيار الوحيد؛ فإن صاحبها لا يسمع فيها نصح ناصح ولا يعبأ باعتراض معترض.
وكيف يسمع مثل هذا في أمر لم يعد أمامه طريق سواه إلا أن يكون لديه من البصيرة أو التقوى الشيء الذي لو كان لديه لما سلك هذا المضيق أصلاً وإن كنا لا نحجر واسعاً؛ فتوبة الله تعالى وسعت العائدين إلى رحابه من الكفار فمن دونهم حتى أولئك الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات قال ربهم سبحانه: "ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا"، ولكني أقول عن معاناة مع العديد من أولئك الذين تشربت نفوسهم هوى الافتتان واختصروا طريق الحياة الطويل اللاحب المتشعب بطلقة من رصاص أو سيارة مفخخة.
إنني أعلم علم اليقين أن ممن ينادون بتغيير الدنيا وإصلاح مجريات الحياة من لو أُسنِد إليه إدارة شعبة أو فصل في مدرسة أو متجر في إحدى زوايا الحي لأخفق وفشل.
ليس لأنه فاشل بالفطرة ولكن لأن التجربة والتدريب ضرورة للنجاح ولأن الهدم سهل والبناء صعب و"لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ" كما في الأثر.
وأول النجاح نجاح المرء في إدارة ذاته تعلماً وعبادة وصلة للقرابة وأداء للحقوق والتزاماً بالأخلاق مع العدو والصديق...
والكثيرون يستطيلون هذا الطريق؛ فتغلبهم نفوسهم أحياناً ويرون الأمر أعجل من ذلك.
أو يعجزون عن إدارة عقولهم بما تقتضيه الشريعة المنزلة؛ فيقعون أسرى هوى خفي غلفته نية طيبة ثم لم تدع إليه سبيلاً للتصحيح والمراجعة.
وغالب ذلك من النظر العفوي الذي لم تحكمه خبرة الحياة ولم تشرق عليه شمس البصيرة ولطالما كمدت نفوسنا ممن يحملون قناعات مشبعة بهوى النفوس ظاهرها السنة والكتاب وباطنها معان في القلب تخفى حتى على صاحبها، ومن هنا سماه الأئمة -كشداد بن أوس وغيره-: "الهوى الخفي" وكما يقول المتنبي:
لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ
عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ
إنه ليس من حق المرء أن (يستقيل) من الحياة لأي سبب كان, ولست أعرف -والله- معنى لمسلم ينفذ عملية انتحارية؛ يذهب هو ضحيتها وقتلاها من إخوانه المسلمين!
اللهم إلا تلبيس الشيطان وتزيينه, ورخص الحياة التي ما هي على المسلم برخيصة, وهي مزرعة الآخرة, وقد سئل النبي  عن خير الناس فقال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ" رواه الترمذي, وقال حديث حسن صحيح.
وهيهات أن يفرط فيها المسلم بتغرير أو مخاطرة, ثم مدارج النجاح أمامه في دراسة يجتازها، أو تخصص يتقنه, أو تجارة في حلال, أو مشاركة في تنمية, أو مسابقة إلى خير.
وقد يسبق هذا أو يتلوه بناء أسرة صالحة, تمناها الأنبياء والمرسلون وسألوها ربهم تبارك وتعالى, وتوسلوا إليه بأعظم الوسيلة أن يهبهم أزواجاً وذرية صالحين, وهل الأمة إلا هذا وذاك؟!
والذين يحلمون بالحصول على كل شيء, ينتهي بهم المطاف إلى خسارة كل شيء؛ فالسُّنّة الربانية صارمة وحاسمة, لا تحابي أحداً, ومن هذه السنن: "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا"[النساء: 123-124].
الكلام الطيب طيب, والنية الصالحة صالحة, ولكن الحياة أعقد من هذا وذاك, والتطلعات تصبح أحياناً تمنيات, يقول عن مثلها معاوية بن أبي سفيان : "إِيَّاكُمْ وَالأَمَانِيّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا" صحيح مسلم.
وعلى العاقل أن يجرّب كيف يستطيع تغيير أو تحويل شيء من طبعه أو عادته المألوفة, في مأكل أو مشرب, أو ملبس, أو قول, أو نوم, أو غير هذا... ليجد من صعوبة النقل, وحنين النفس إلى مألوفها, ومنازعتها إليه الفينة بعد الفينة, حتى إنها ربما عادت واستسلمت لما كانت عليه, وتركت المجاهدة, والذين يحاولون ما يُسمى بـ"الريجيم" أو "الحمية" يدركون هذا جيداً!
هذا, وهو قرار خاص منك وإليك, لا يداخلك معه أحد من الخلق, محدود داخل ذاتك, ومن الحيثية النظرية فلا عقبات أمامه.
هذا وهو أمر يخص الفرد، فكيف بحمل الأمة بعامتها وخاصتها شيبها وشبابها ورجالها ونسائها على المحمل الصعب، وإركابهم متن الشطط وهم مهمومون بلقمة العيش، وأمن الطريق، وجرعة الدواء؟! وهذا كله من المصالح العامة التي جاءت بها الشريعة وجعلتها من المعاني الفاضلة وليست أمراً مرذولاً في سنة الله.
فإذا كان الأمر مشتركاً -ولو بين زوجين فما فوق- كان الأمر أشد وطأه, وأكثر تعويقاً؛ لوجود أطراف ظاهرة تمانع فيما تريده أنت, وكلما اتسعت الدائرة زادت هذه الأطراف نفوذاً وتأثيراً؛ لأنها تجاهد في نقيض ما تجاهد أنت لتحصيله, وهذه سنة (المدافعة) كما قال سبحانه: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[الحـج:40-41].
إن مثل هذه الأعمال تعطي لشخص عادي أن يجتهد في قضايا كبرى للأمة, يدري كل أحد بالضرورة أن فيها من التقاطعات والتشابكات والأبعاد ما لا يستقل بفهمه أولوا الألباب والنهى من أكابر الأئمة فضلاً عن غيرهم, وإنما يدركه: "الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ" فحسب. واليوم لا يمكن فصل قضية ما عن امتداداتها, فقد تكون هي في الأصل قضية اجتماعية, لكن لها أبعادها السياسية، ولها آثارها الاقتصادية, ولها تداعياتها العسكرية, ويظل (الإعلام) وعاءً مؤثراً في تكوين الكثير من القضايا, وهو لسان العصر الذي يفترض أن يتذرع به المصلحون في بيان الحق: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ"[إبراهيم:4].
والخيار الجاد اليوم هو خيار العمل المنتج البناء في الإصلاح والتنمية والدعوة, وهي قنوات مفتوحة في الجملة, وفي ضمنها عقبات جسام وتحديات عظام, أولاها من داخل النفس باستطالة الطريق والرغبة في الحسم, إذ لا يرضى قوم أن يكونوا طرفاً مشاركاً لأنهم يريدون أن يكونوا هم الأطراف كلها, كيف لا...؟ وهم يتحركون وينطقون باسم الشريعة فيما يتوهمون.
ثم عقبات الفشل العادي يعرض لكل أحد, ليكتسب من ورائة الخبرة والممارسة.
ثم تحديات الخصوم, وأعترف أنها قاسية, وغير شريفة في كثير من الحالات؛ لكن لابد من مقاومتها بالصبر والجلد, وشيء من الإعراض.
والقوم في أوائل اندفاعاتهم محتدمون إلى حد تصبح المخاطبة فيه نوعاً من العبث... لكن الكسرات المتلاحقة قد تمنح فرصة لبعض من تشربوا أفكاراً خاصة في ظروف معينة أن يعيدوا النظر في مآلات تلك الأفكار ونهاياتها ومخرجاتها لصالح الأمة... ماذا تكون؟
وبالتالي يتعين على رجال العلم والدعوة أن تكون التربية على محاذرة هذه المسالك جزءاً من جهودهم الدؤوبة في حلقات الدرس والتعليم والتحفيظ, وفي مناسباتها الكثيرة, ليكون هذا جزءاً من برنامج الرعاية التربوية للشباب والفتيات في مراحل تعليمهم المختلفة, وفي محاضن تربيتهم المتنوعة بين المدرسة والبيت والحلقة أو المجموعة.
وليس يكفي فيه تنديد أو شجب أو استنكار إعلامي ينتهي في وقته. إن من أرقى نظم الأخلاق في حديث كهذا أن نعتمد لغة واضحة تتجاوز تسجيل صوت أو موقف إلى عمل استراتيجي مستقبلي مدروس.
وإذا كانت هناك مجموعات إعلامية متأمركة تحترف الملاحقة والتصنيف والاتهام وصناعة الخصومة؛ بل ربما تتحول عندها بعض الأحداث إلى احتفاليات مقيتة لمحاسبة المجتمع أو الثقافة أو التعليم أو الدعوة...؛ فإنه بمعزل عن هذا يجب أن نقرر أمراً، ليس هو بسر، وهو أن العنف قائم في بعض دوائر البناء والتربية لدى الإسلاميين، نحن هنا لا نجادل في وجوده في الطباع البشرية ولا نتردد في وجوده لدى دوائر عريضة مناوئة، بل وبشكل أشد ظلامية؛ لكننا اليوم في مقام الحديث عن التيار الإسلامي، وأن بعض أنماطه التربوية والسلوكية تؤهل لتشرب تلك الأفكار، أو مجاملتها، وعدم إدراك الأثر الكبير الناتج عنها، ليس من خلال ملاحظة حدث معين فحسب؛ بل من قراءة المستقبل وتداعياته وآثاره.
ربما تلطفنا في النقد إلى حد المبالغة، رعاية لمنطلقات ومقاصد نظنها حسنة، فأعطينا رسالة غير جيدة للآخرين.
إن أصحاب الخطاب الإسلامي هم الأوفر حظًّا والأقدر على حصار فكر التكفير وتداعياته, بحجة الكتاب والسنة والأثر وصريح أقوال الأئمة والعلماء, وإعادة تفهيم فقه المقاصد والمصالح والأخلاق, وليس أن يصرخ الفتى بنص يوافق ميله ثم يمضي فيه دون أن يربطه في سياقاته ونظائره.
احتج عليّ أحدهم بآية: "وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّة" على مشروعية انطلاق شبابنا إلى العراق.
فقلت له: "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ..." أفكنت تصلي في وقت النهي مثلاً؟
أم كنت تصلي إلى غير القبلة؟
أم بدون طهارة؟
أم قبل دخول وقت العبادة؟
أم لست ترى الصلاة مع الجماعة؟
فلم تكون منفرداً في قرار ذي خطورة... ؟!
هداك الله وهدانا إلى سواء السبيل، والحمد لله على كل حال.

* * *

العنف الدولي
قبل أن تدوسنا الأقدام..! ( )
كل الناس تصرخ إزاء الغطرسة اليهودية في فلسطين!
والاستخفاف بمليار مسلم, بكل مقدراتهم, ومؤسساتهم, وإمكانياتهم !
لا يفصل بين استشهاد الرنتيسي -رحمه الله- واستشهاد أحمد ياسين -رحمه الله- سوى بضعة أيام!
وكلتا العمليتين تمت في وضح النهار, باغتيال سياسي سافر متبجح لا يستحي, ولا يتستر.
لقد افتخرت الإدارة الإسرائيلية بهذا النجاح.
وعقبت الإدارة الأمريكية بما يشبه التهنئة.
ظن بعض المحللين مع سقوط الاتحاد السوفيتي أن يضعف التحالف الأمريكي اليهودي!
لكن جاءت فرصة ما سمي بـ "الإرهاب الإسلامي" المزعوم؛ لتعيد للتحالف وهجه ورسوخه, وتؤكد أنه استراتيجية دائمة, وليس تكتيكًا مؤقتًا.
وأمام هذا العدوان السافر.. والوجه الآخر له, المتمثل بممارسة قوات التحالف في العراق, واستخفافها بحياة الناس, وجرأتها على القصف الأعمى لكل شيء تشتبه فيه, وهي تعمل في ميدان تجهله, وكل شيء فيه محل اشتباه...، مما ضاعف خسائر الناس, وأوقع آلاف الإصابات في النساء والأطفال والإعلاميين, فضلاً عن غيرهم.
أمام هذا وذاك لا نلوم شباب الأمة ورجالها ونساءها حين يصرخون، ويبحثون عن الحل.
قطعًا.. لا أحد يرضيه الموقف، ولا أحد يقبل باستمراره.
والعقلاء أصبحوا في متاهة محرجة!
لا يدرون كيف الخلاص منها, وإنما يستخدمون العقاقير, والمسكنات لتهدئة الناس, أو مداواة أحزانهم وإحباطاتهم.
وأخشى أن نقبض ثمن هذه الإحباطات الحالية انتكاسات داخلية في العالم الإسلامي كله بعد فترة ليست بالطويلة.
هناك من يتفاقم معه الأمر, ولا يسمح له الواقع المر الذي هو فوق الاحتمال العادي... بأن يفكر بطريقة عقلانية وهادئة، ولذا صارت فكرة الكثيرين أن خلط الأوراق مفيد مهما كان الأمر..
وكأن شريحة من شباب الأمة تقول: لا وضع أسوأ مما نحن فيه...؛ فليكن ما يكون.
إن الآثار السلبية للممارسات الغادرة الأمريكية اليهودية لا تقتصر على موقع الحدث فحسب؛ بل تتعدى إلى شخصيات وعقول الآلاف من الشباب المسلم في كل أرجاء العالم الإسلامي الذين يرون ما يحدث اعتداء عليهم وإهانة لدينهم واستخفافًا بوجودهم.
وقد لا تسعفهم رؤاهم الذاتية بصناعة خطة متكاملة للخروج المستقبلي من هذا المأزق.
فالاغتيال الذي يقع ليس اغتيالاً لأشخاص ورموز فحسب, بل هو اغتيال للسكينة والسلام والاستقرار النفسي للشباب المسلم في كل مكان.
وكأني هنا استرشد بقول الرسول : "مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلاَمِ وَالتَّأْمِينِ".
نعم, كانوا يحسدون المسلمين على التحية, والتحية ليست مجرد لفظ, بل نظام حياة وبرنامج لبناء العلاقة بين فئات المجتمع المسلم كافة, وهذا معلوم تمامًا.
إنهم يسعون في الأرض فسادًا, وسعيهم بالفساد في دنيا الإسلام متمثل في صناعة القلق والتوتر, ومحاربة الاستقرار في المجتمع المسلم؛ طمعًا في تحوله إلى ميدان مفتوح لعراك داخلي, على الصعيد الفلسطيني, والعربي, والإسلامي.
ومن الواجب أن نفكر جيدًا كيف نفوّت هذه المؤامرات الدنيئة من خلال صناعة الاستقرار والهدوء والطمأنينة لدى المسلم أيًّا كان, وتمكينه من أداء دوره المنتظر بطريقة صحيحة تحقق له إنجاز المسؤولية الربانية من جهة, وتزيل الاحتقان النفسي الناتج عن القهر والحرمان من جهة أخرى.
إن وسائل الإعلام هي إحدى القنوات المهمة التي يجب أن تكون (حقًّا) لكل مواطن, وبالتالي أن تكون أبلغ تعبير عن مشاعره وقناعاته وتطلعاته, وأن تواكب همومه وآلامه, وتنأى بنفسها عن مصانعة العدو الماكر, أو تنفيذ بعض برامجه لتخدير الشباب, وصرفهم عن الهم الجاد, إلى تأجيج الشهوة ومخاطبة الغريزة, وتهييج الجسد.
زد على هذا أن العالم الإسلامي يفتقر إلى برنامج للمستقبل على صعيد الدولة الواحدة, وعلى صعيد المجموع, بينما نحن في عصر التكتلات والقوى الضخمة.
هل نكون مخطئين إذا قلنا بأن الأمة تواجه انسدادًا حقيقيًّا وعجزًا عن الفعل, على الصعيد السياسي, فضلاً عن الاقتصادي أو التقني أو العسكري... وأن المشكلة في أصلها ليست في العدو الخارجي بقدر ما هي في الافتقار إلى آلية جادة للبناء والمواجهة, مواجهة المستقبل بكل تحدياته, وليس فقط: مواجهة العدو المتغطرس.
إن الاتكاء على المبشرات مفيد بحد ذاته، فهي نافذة إلى الأمل والتطلع لمستقبل مشرق، ومن هنا يمكن توظيف النصوص الشرعية الواعدة لطمأنة الشباب المسلم وتهدئة مخاوفه.
ولكنها يجب أن تتحول إلى (برنامج عمل مفصل) للأفراد والجماعات والدول، بل للأمة كلها؛ فهذا المستقبل الموعود ليس منحة رخيصة للكسالى والقاعدين، ولكنه فضل من الله ونعمة لأولئك الذين صبروا وصابروا ورابطو، والله مع المتقين.

* * *
بيت سيئ السمعة( )
كنت أشعر بالقهر والغيظ يتغلغل في داخلي؛ كلما سمعت مسؤولاً في الإدارة الأمريكية يتحدث عن القيم والحرية والديمقراطية والحقوق!!
ولقد وصف كبير الأغبياء الحرب على العراق بأنها واحدة من أكثر الحملات العسكرية إنسانية في التاريخ.
أقول: لستم أهلاً لأن تعطوا الناس دروسًا في هذا المجال، وأنتم أول من يطيح بها!
ويشاء الله أن تتعرض هذه الإدارة لامتحان عسير في ما أسمته (حربًا على الإرهاب) وأن تتكتم لفترة على ممارساتها الوحشية في أفغانستان وغوانتاناموا ثم في العراق؛ لينكشف الأمر غير بعيد.
إن آلاف الصور التي نشرتها الصحف ومحطات التلفزة الأوربية والأمريكية؛ تفضح ممارسات في غاية البشاعة ضد الإنسانية والأخلاق، فتعرية الأجساد والإجبار على الممارسات الجنسية والإهانات النفسية والسحل والسحب والضغط الهائل والتضليل والقتل المتعمد هي مفردات في سجل أسود لهذه الإدارة وآلتها العمياء (البنتاجون).
والذي ظهر ليس سوى جزء من جبل الجليد!!
فهناك المزيد مما لم تصله الكاميرات، أو وصلته ولم يصل بعد إلى وسائل الإعلام.
ولقد يقول المرء: إن ممارسات البعث البائد أهون مما عملته هذه الإدارة خلال عام أو أقل!!
ولو أتيح لكل امرئ أن يتحدث ويظهر أمام وسائل الإعلام ليبوح بمعاناته؛ لكنا نسمع ونرى ما تشمئز منه النفوس وتنفطر القلوب وتدمع العيون مما ينسينا ما سمعناه من أمثالهم عن الحقبة السابقة.
ولعل هذا اليوم غير بعيد.
والإدارة ظلت متكتمة على هذا الإجراء الإجرامي لبضعة شهور حتى فضحتها الصور؛ فقال كبيرها ببلادة: إن الأمر لا يعجبه..!!
ثم رفع اللهجة ليقول: إنها ممارسات شائنة!
لكن تظل الإشادة المفرطة بأداء العسكريين، ومحاولة حصر المسؤولية بعدد محدود من الجنود ليذهبوا ضحايا.
ومن الواضح أن الذي حدث هو جزء من عملية واسعة؛ للتحقير والإذلال وانتـزاع الاعترافات وتدمير عوامل القوة والاعتـزاز في نفوس العراقيين؛ بل وفي نفوس المسلمين، وأنها أمور مبيتة على أعلى المستويات.
ويأبى الله إلا أن تتحول الشواهد والصور ووسائل الإعلام إلى أدوات لتعرية وجه أمريكا القبيح وأعمالها الوحشية واستخفافها بالقيم الإنسانية؛ فلقد أصبحنا نعرف جيدًا ما تعني الحرية التي تعدنا بها أمريكا.. وماذا تعني حقوق الإنسان.. وماذا يعني الإصلاح والشرق الأوسط الكبير الذي يبشرون به..
وهاهم يعلنون الحرب على الحرية في القنوات العربية التي لم تندمج في برنامجهم ويمارسون الضغط السياسي الكبير، والإجراء الأمني والعسكري لعرقلتها أو تعويق أدائها كما فعلوا مع الجزيرة والعربية وغيرها !!
وها هي (الحرة) تغرد خارج السرب وتتجاهل معاناة الناس وهمومهم الحقيقية وتشاغلهم بقضايا خارج التاريخ، ولكن دون جدوى.
إن الأمر أكبر من الاعتذار! وهذه الصور وقود جديد لكراهية عارمة ضد أمريكا قد تتحول إلى طوفان جارف لا يميز ولا يفرق، وتصعب السيطرة عليه، أو التحكم في برامجه واتجاهاته وردود أفعاله، أو محاكمته بالمنطق.
وإذا كنا رأينا آلاف الاعتداءات العنصرية على مسلمين في أمريكا وأوربا بعد أحداث سبتمبر.. فكيف نتخيل ما سيقع نتيجة هذا القهر والعدوان الرسمي الموثق.. والمرتبط بعدوان أوسع على استقلال و إرادة الشعوب الإسلامية في العراق وفلسطين وغيرهما.
إنني أرى الأمر يتجه نحو مزيد من الوضوح والحسم، وإن شعوب الإسلام اليوم لم تعد تتحمل المزيد.
وهذا الإجرام الأمريكي والصمت الدولي والاستسلام العربي والإسلامي سيصنع المزيد من الاضطرابات في الشعوب الإسلامية وسيحولها إلى برميل بارود قابل للانفجار.
ولعل أمريكا وإسرائيل تراهنان على زعزعة الاستقرار في بلاد المسلمين وحرمانهم من السلام الداخلي تمهيدًا لتغيير الأوضاع وفق ما يريدون!!
ولقد قال النبِي : "مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلاَمِ وَالتَّأْمِينِ" رواه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها (856).
وبيقين فاليهود لا يحسدوننا على مجرد تبادل التحية بيننا، لكنهم يحسدوننا على ما هو أبعد من مجرد اللفظ، يحسدوننا على السلام النفسي والهدوء الاجتماعي ومتانة العلاقة بين المسلمين ويسعون في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين.
نعم؛ إن اليهود ومتطرفي الإدارة الأمريكية الحالية يريدون خلخلة الأوضاع؛ باعتقاد أن خلط الأوراق يمهد لإعادة ترتيبها!
ولكنني أرى هذه حماقة رعناء جديدة يرتكبها هؤلاء الطغاة دون أن يستفيدوا من دروس التاريخ، مما يكشف عن هشاشة القيم التي يتشدقون بها. وليس هذا ببدع في تاريخهم؛ فقد واجهت الجالية اليابانية داخل الولايات المتحدة اضطهادًا بشعًا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وظلت أمريكا أكبر مصدّر للعنف في العالم كله، وأكبر متملص من الالتزامات الدولية في مجال العدل والحقوق إلا حينما تكون محتاجةً لها. ويكفي أن 45% من صادرات الأسلحة بالعالم أمريكية، ومنها الأسلحة التي يقتل بها الأبرياء في فلسطين.
يبقى السؤال الكبير منتصبًا أمامنا جميعًا:
ماذا يتوجب علينا أن نصنع من أجل الإصرار على السلام في داخلنا ؟
كيف نتغلب على أسباب التوتر الذاتي الذي تحدثه لنا تلك الممارسات ؟
كيف نجمع بين رفض مؤثر وصوت مسموع ضد الاعتداءات المتكررة على كل ما هو مقدس لدينا.. وبين بعد النظر والرؤية المستقبلية التي تضمن لنا موقعًا سياسيًّا ومعلوماتيًّا وحضاريًّا أفضل بين أمم الأرض ؟
كيف نتلافى الروح الغضبية المفرطة التي هي من لوازم رؤية العار الذي يلحق بنا دون أن نحرك ساكنا ؟!
إن السلام النفسي والاجتماعي في خطر..
وعلى الذين يدركون أهمية المحافظة عليه أن يعلموا أن الصمت المطبق والسكوت المهين أمام غطرسة المتغطرسين هو أقوى عناصر هذا التفجير.
من حق كل مسلم أن يشعر بأن هذه الصور وما سيخرج بعدها يعنيه بصفة شخصية وكأنه يحدث له أو لعائلته، فهذا أقل مقتضيات الإيمان (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، "كمثل الجسد الواحد"، "كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ".
ومن حقه وواجبه أن يتدبر الوسيلة التي يعبر بها عن امتعاضه وانزعاجه لهذا الاحتقار اللعين لأبناء ملته ودينه.
وكيف لا وقد بدأت الخيوط ترشد إلى أن كبار المتطرفين الدينيين لهم أصابع في استخدام هذا النمط من الأذى النفسي والجسدي لتحطيم امتناع السجناء وتدمير رجولتهم وإنسانيتهم؟!
إن المطالب ليست هي رأس وزير الدفاع، ولكنها رأس السياسة الأمريكية العدوانية عديمة الحياء، والتي تعلن تأييد العنف الإسرائيلي، وتعلن العقوبات على سوريا، في الوقت ذاته الذي تستبطن المزيد من صور الممارسات البشعة التي يمهدون لظهورها وانتشارها.
ولو أن كل مسلم سجل شعوره الحي تجاه هذا البغي السافر في مقال، أو نشره في موقع، أو أعلنه في قناة فضائية، أو نادى به في مجلس لما كان لصوت مليار وربع مليار أن يذهب أدراج الرياح.
وربما كانت الأدلة تتزايد علينا يومًا بعد يوم لتقول لنا: إن كنتم صادقين في لجم هذه الحرب الصليبية فوحدوا المعركة ولا تضيعوا جهدكم القليل في صراعات صغيرة حقيرة لا تليق إلا بعقول التافهين.
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رمادِ

* * *

أمريكا والإرهاب ( )
كتب هذا المقال قبل ستة أشهر, وكانت فحواه الظن المجرد بأن الإدارة الأمريكية تتجه إلى الصدام مع العالم كله ومؤسساته بدلاً من الصدام مع طرف ما تصفه بالإرهاب وهذا ما بدا اليوم واقعاً مشهوداً للعيان في مسألة الحرب على العراق، ومواجهة العالم كله بلا مبالاة !. ولاشك أن نهاية الحرب الباردة قد غيرت الكثير من الأوضاع, وأصبح مسوقاً في دوائر الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص أن العالم مقبل على حياة أفضل ومهيأ لقدر من التعايش والعدالة بين أجناسه وشعوبه وأممه بمختلف تشكلاتها ونماذجها، لكن هذه الطمأنة لم تكن تتمتع بقدرة على التطبيق من حيث إن المشكلة التي كانت تمثلها الشيوعية لم تكن هي المشكلة الوحيدة التي تهدد الأمن العالمي، وهنا يبدو النظام العالمي الجديد بعد الشيوعية يحتفظ بقدر من التطرف والاستبداد؛ لأنه نظام أحادي التكوين والتركيب.
وفي ظل هذا النموذج الجديد المبشر به باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التجارة اتجهت الولايات المتحدة لفرض خياراتها على مجموعة من حلفائها الأوربيين، فضلاً عن دول العالم الثالث، وهذا يعني أن الولايات المتحدة التي أصبحت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الدولة الأقوى في العالم صارت تخلق أسباباً تخولها ملاحقة كل أشكال الطموح والتميز في العالم، والذي قد يسبب يوماً ما مزاحمة للإدارة الأمريكية، ولم يكن مفاجئاً أن تخرج الولايات المتحدة أكثر من مرة عن الخارطة الدولية في الأمم المتحدة؛ لتتبنى قرارات أحادية الجانب، أو تعترض على إجماع دولي.
حين واجهت الولايات المتحدة ضربات الحادي عشر من سبتمبر تحرك القرار الأمريكي لمواجهة ما يسميه بالإرهاب ضمن مطالبة الدول بالتحالف مع الولايات المتحدة، دون أن تقدم الإدارة الأمريكية خطة تحدد مفهوم الإرهاب، وصور معالجاته، بل تمثلت الحركة الأمريكية في ترسيم (العنف والعنف المضاد) كخيار للعالم في هذا القرن، ومن المؤكد أن الإدارة الأمريكية مع شمولية نظرتها في تصنيف الإرهاب, وأن كل من يعارضها سيكون ملاحقاً في هذه الحرب التي قد تأخذ في البداية تجارباً على مجموعة من الضعفاء, كما هو الحال في ضرب المدنيين في أفغانستان، وهذا يعني أن هذه الحرب لن تقف - حسب طموح إدارة الصراع في الولايات المتحدة - حتى تنتهي كل أشكال الاستقلالية والطموح الذي يختار مساراً آخر قد لا تتذوقه الإدارة في الولايات المتحدة، وهنا فإن الاصطدام الأمريكي لن يكون بدول العالم الإسلامي فقط - التي حافظ الغرب على تخلفها التقني - بل سيكون الحياد ذاته شكلاً من أشكال الإرهاب في نظر الإدارة الأمريكية، حتى مع الدول الأكثر تقدماً وقدرة على تقرير مستقبلها الخاص، وهذا يعني أن الخطة المعلنة ستصنع كارثة عالمية تتجه لتقويض الأمن المدني، وضرب جميع صور الاستقلال السياسي والثقافي في العالم.
ومن المؤكد أن خصومة الولايات المتحدة في هذه المرحلة لم تعد مع جماعة أو منظمة خاصة، بل بدأت تتجه للصراع مع العالم أكثر من أي وقت مضى، ومن المؤكد أيضاً أن الرأي العام العالمي لا يشعر بعدالة كافية في الحركة الأمريكية، وبات أكثر ذكاء ووضوحاً في رفض المزايدة الأمريكية تجاه قضية الإرهاب.
إن التقرير الاستراتيجي الأمريكي يفوض الإدارة الأمريكية في مصادرة كل صور القوة والمنافسة لتظل الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم.
الإسلام والإرهاب
لا يحظى مصطلح الإرهاب بمصادقة واعتراف في الثقافة الإسلامية التي تنطلق من قيم الإسلام كنظرية أو فكرة لصناعة العدوان على الآخرين أو ضرب الحقوق.
وهنا لسنا نتحدث عن مسيرة يومية لكل فرد في العالم الإسلامي، أو أفكار خاصة يراها طائفة من المسلمين، فالحديث عن الإسلام يعني الحديث عن النظرية الإسلامية المحضة من جهة، أو عن التطبيق العام على مستوى الأمة كافة.
إن الإسلام دين يؤمن به أكثر من مليار إنسان في العالم، وأكثرية الناس في مناطق الأهمية الاستراتيجية هم من المسلمين، ويمتد هذا الدين لأكثر من أربعة عشر قرناً، ولم يخلق مشكلة لأحد في العالم طوال هذا الامتداد، لكنه مع ذلك يؤمن بحق الدفاع عن النفس وتأمين الحرية الخاصة، وعلى هذا فمن التسطيح للمشكلة أن تعرض على أن الإرهاب إملاء من الثقافة الإسلامية؛ فإن هذا يعني أن العالم والولايات المتحدة - بوجه خاص - يواجه أكثر من مليار إنسان، ومناطق متناثرة في العالم كلها تصنع الإرهاب!!! ولعل هذه هي النتيجة التي يسعى إليها من يديرون دفة الحرب، ويدقون نواقيسها.
إننا هنا معنيون بمخاطبة الفرد في العالم كله، وهذا يعني أن نقدم حقائق بسيطة تسمح للآخرين أن يفهموا موقفنا - نحن المسلمين- من الإرهاب حتى لا نسمح لآلة الإعلام؛ الذي لا يحترم الموضوعية والدقة بمزيد من الإسقاطات التي تخدع الكثيرين في الغرب، وخصوصاً الشعب الأمريكي.
إننا ندرك أن الإسلام حقيقة ربانية عادلة، تقدم الخير للبشرية كلها؛ وقد جاء النبي الخاتم (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) أي: للعالم كله، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا به، حفظ حقوقهم، وأعطاهم في ظل حكمه التاريخي مستوى من العدالة لم يحلموا به، يقول: غوستاف لوبون المؤرخ البريطاني الشهير: ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب، صحيح أننا نمتلك رؤية خاصة، تحدد هويتنا الإسلامية، وصحيح - أيضاً - أننا نتقاطع في مجموعة من المفاهيم والقيم مع مجموعة مفاهيم لأمم وشعوب أخرى، ومن الواضح أننا على اختلاف مع كثير من المفاهيم الغربية، ولنا خيارنا الخاص، كما ندرك أن الآخرين يمارسون خيارهم الخاص.
إنه في الوقت الذي يرسم فيه الإسلام امتياز المسلم وخصوصية هويته تحت مجموعة من القيم والمفاهيم؛ فإن الإسلام رسم ضمن هذه الهوية أصول العلاقة المشتركة مع الآخرين، بما يسمح بإرساء قواعد العدالة, واحترام الحقوق في العلاقات الخاصة والعامة، ويسجل في تاريخ الإسلام أن رسول الله  زار شاباً يهودياً في مرضه, ودعاه للإسلام فقبل دعوته, وأسلم تحت رسالة الأخلاق.
إن من قيم الإسلام الدعوة إلى العفو, وخلق مساحات أوسع للتسامح، وحماية الأمن المدني حتى يتمتع الفرد بقدرة كافية لقراءة القيم الإسلامية, وصناعة الحياة الأفضل، وتحت هذا الامتداد يكون من التسطيح الظن بأن المسلمين, أو حتى فئة منهم يستهدفون قيم العدل والحرية المعلنة للشعب الأمريكي، أو أن قيم المسلمين تفرض عليهم قتل الآخرين دون أي نظام أخلاقي لمجرد أنهم يخالفونهم، أو لكونهم يمارسون العدل أو الحرية، هذا التصور ببساطة يُعدُّ صناعة لكارثة، قد يكون الطرف الأكثر خسارة فيها هو الشعب الأمريكي قبل أي مجتمع في العالم، وإذا أردنا أن نكون منصفين؛ فإن علاقة المسلمين بالغرب صنعها الغرب أكثر بكثير مما صنعها المسلمون، وليست الحروب الصليبية بدمويتها وفداحتها في التاريخ الماضي هي الاحتكاك السلبي الوحيد من قبل الغرب ضد الإسلام والمنطقة الإسلامية، فإن ذكريات الاستعمار, ومصادرة حق الشعوب, وضرب المقاومة الوطنية هي الأكثر حضوراً في الذهنية الإسلامية والعربية اليوم، لكن الذي يبحث عن مواقف سلبية إسلامية ضد الغرب؛ سيجد صعوبة بالغة في الحصول على أي أدلة تاريخية صادقة.

الجهاد والإرهاب
من الواضح أن الإرهاب لم يكن أحد القيم التي يريدها الإسلام لمعالجة المشكلات مع الآخريـن، أو فرض مفاهيمه على الآخرين.
ولا يتم تداول كلمة (الإرهاب) كمصطلح إسلامي أو شرعي، وهنا يمكننا أن نتساءل:
هل يمكن أن يقبل أحد في تحديد الإرهاب أن كل ما كان ضد الولايات المتحدة - مثلاً - فهو إرهاب ؟ !
كيف يمكن أن نضمن للشعوب الأخرى حقها في الدفاع عن مصالحها وحقوقها إذا كانت الولايات المتحدة هي الطرف المعتدي ؟
تحت أي غطاء تقوم الولايات المتحدة بشن الحروب المدمرة هنا وهناك؟ أليس تحت مبرر الحرب على الإرهاب؟!!
إذاًً فثمت حرب عادلة ومشروعة.
فمن يملك حق تحديد ملامح هذه الحرب ؟
ومتى تكون مقبولة؟
ومتى تكون مرفوضة؟
نعم! الإسلام يحدد موقفه على ضوء التعريف الذي يمكن منحه للإرهاب، وليس من الممكن أن (يوقع على بياض) كما يقال !
فما يندرج تحت الإفساد في الأرض, أو الظلم, أو العدوان على الأبرياء فهو مرفوض أياً كانت تسميته، وفي أي أرض وقع، سواء وقع في أمريكا, أو أفغانستان أو فلسطين, أو اليابان أو نيكارجوا, أو لبنان أو العراق, أو فيتنام, أو ليبيا... الخ.
وما كان دفاعاً مشروعاً عن النفس, أو مقاومة للمحتل, أو طرداً للمستعمر فهو عدل مقبول سائغ.
وحتى في هذه الحالة؛ فإن للحرب في الإسلام نظاماً أخلاقياً صارماً، تتم الإشارة إليه بعدُ.
وهناك أشكال متعددة من الإرهاب فمنها:
1. الإرهاب الاستعماري، الهادف إلى نهب خيرات البلاد.
2. الإرهاب الاستيطاني، كما في إسرائيل، وجنوب إفريقيا سابقاً.
3. الإرهاب الفكري،كالذي تمارسه الصهيونية ضد من تسميهم بأعداء السامية.
4. الإرهاب الدولي، الذي تمارسه دول وحكومات ضد غيرها تحت مسميات فضفاضة.
5. الإرهاب الاقتصادي، الذي تمارسه دول الشمال الغني مع دول الجنوب الفقير.
أما كلمة (الجهاد) التي يتم تداولها كرديف للإرهاب في أدبيات الغرب عامة، فهي مفهوم حياتي واسع, لا يختص بالمواجهة المسلحة مطلقاً.
وفي نصوص الكتاب الكريم نجد:
1. الجهاد بالقرآن "فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً"[الفرقان:52]، وهذا يعني: الدعوة والحجة والبيان والمجادلة بالحسنى.
2. جهاد النفس "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ "[العنكبوت:69] فيدخل في معنى الآية: مجاهدة النفس على الخير والتزكية والإيمان، وكفها عن الشر والشهوة والفتنة، ومثله قوله تعالى:"وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"[العنكبوت:6].
3. الجهاد بالمال، وهذا يعني صرفه في مصارف الخير المتنوعة، ويشمل ذلك صرفه للمقاتلين في سبيل الله، وهذا ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم.
4. الجهاد بالنفس، هذا يشمل الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن، كالقتال المشروع في سبيل الله، والتعليم والدعوة, و غيرها.
ومن المدركات التاريخية المقررة أن أكبر بلد إسلامي اليوم -من حيث عدد السكان - (إندونيسيا) دخلها الإسلام ليس عن طريق الحرب، بل بالرسالة الأخلاقية.
وبالرغم من انحسار السلطة الإسلامية عن مناطق كثيرة حكمها الإسلام تاريخياً إلا أن أهلها الأصليين ظلوا مسلمين، وحملوا رسالة الحق ودعوا إليها وتحملوا الأذى والتعذيب والظلم في سبيلها، كما نجده في بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب والقوقاز والبلقان وأسبانيا التي أقيمت للمسلمين فيها محاكم التفتيش، وهذا يدل على أن تأثير الإسلام فيهم كان أخلاقياً إقناعياً، بخلاف الاستعمار الغربي الذي أخرج بالقوة من البلاد الإسلامية ولا يتذكر الناس عنه إلا المآسي والآلام والقهر والتسلط.
إن من الخطأ الفادح أن يتصور البعض أن كلمة الجهاد هي رديف لكلمة (القتال) أو (الحرب) والتي لا تعني إلا جزءاً خاصاً من مفهوم الجهاد.
إن الإسلام تحت اسم الجهاد يدعو إلى حماية المجتمعات من الظلم والتسلط والدكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات، وتلغي نظام العدل والأخلاق, وتمنع الناس من سماع الحقيقة أو اعتناقها, أو تضطهدهم في دينهم.
كما أنه تحت الاسم ذاته يسعى إلى تحقيق الإيمان بالله وعبادته وتوحيده و نشر قيم الخير والفضيلة والأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال سبحانه: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"[النحل: 125].
كما يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في مقاومة الجهل والخرافة والفقر والمرض والتفرقة العنصرية.
ومن أهدافه الأساسية حماية حقوق المستضعفين الخاصة والعامة من تسلط الأقوياء والمتنفذين.
وفي القرآن الكريم:"وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً"[النساء:75].
قال الزجاج: أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء المستضعفين؟
وهذا قول ابن عباس, وغيره من أئمة التفسير.
وبهذا يكون من صور الجهاد في الإسلام مقاومة الظلم ومقارعته " رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا"[النساء: 75] فهو يضمن حق الأمم في مدافعة الظالمين المعتدين.
ويحرم الإسلام الظلم حتى للمخالف في الدين، كما قال سبحانه: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى "[المائدة: 8].
ويقول للمؤمنين في شأن قريش التي منعتهم من دخول المسجد الحرام بمكة: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا"[المائدة:2], والشنآن هو البغض والعداوة, أي لا تحملكم بغضاء وعداوة شعب أو أمة على أن تعتدوا عليهم أو تظلموهم وتصادروا حقوقهم.
وفي الحديث عن أنس  عن النبي  (اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب) رواه الإمام أحمد في مسنده, وهو حديث صحيح الإسناد.
كما أن من صور الجهاد مقاومة الدكتاتوريات التي تريد المحافظة على الخرافة والجهل، وعدم إعطاء مساحة لقيم الإيمان بالله، والأخلاق في الحركة الاجتماعية.
الإسلام والقتال
وفي موضوع القتال يمكن أن نرسم بعض الحقائق المهمة في التصور الإسلامي، ومن بينها ما سبق أن الجهاد وإن كان أوسع من مفهوم القتال؛ فإنه يبقى من الوضوح أن نقول: إن القتال في الإسلام فريضة مشروعة (كُتِبَ عَلَيْكُم القتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)، وذلك حين يكون خياراً لمعالجة المشكلات، أو مواجهة الظلم والعدوان والدفاع عن الحريات والحقوق الخاصة، وحين نؤكد اعتراف الإسلام بالقتال والدفاع والحرب فهذا جزء من منظومة القيم في الإسلام كما نفهمها، ويمكن لكل منصف أن يدرك معقولية مثل هذا القرار في الإسلام.
لقد دخل المسلمون في تاريخهم الطويل معارك وحروباً تحت هذا المبدأ.
ومع أننا ندرك تماماً أنه ليس ضرورياً أن ما يصنعه مجموعة من المسلمين فهو إملاء إسلامي شرعي في نظر الآخرين، وأن التاريخ الإسلامي ليس دائماً سجلاً للفضائل المحضة، ولكن دعونا نتذكر:
كم قتل المسلمون من المدنيين في القرن المنصرم ؟!
وكم قتلت الشيوعية ؟!
وكم قتلت المجموعات والدول الغربية ؟!
ومن الذي أشعل أكبر حربين عالميتين خلال نصف قرن، وجرّ إليها القريب والبعيد ؟!
إن العالم يتذكر بمرارة ضرب المدنيين بالأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي، ويتذكر المجازر الدموية في البوسنة والهرسك، والتباطؤ الدولي عن إيقاف نزيف الدماء هناك، ولقد قتل في إندونيسيا - عام 1965م في إثر انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة - مئات الألوف, غالبهم من الفلاحين, ولم تُخف الصحافة الوطنية في الولايات المتحدة اغتباطها بما يحدث, كما قتل مئات الآلاف في العراق من الأطفال في ظل الحصار الدولي منذ عام 1991م.
ويشاهد العالم بعينيه ما تفعله القوة الغاشمة الإسرائيلية - المدعومة من الولايات المتحدة - بالعزّل في فلسطين الذين تحتل ديارهم، وتعامل حتى مواطنيها منهم معاملة عنصرية سافرة.
وإذا كان هؤلاء - الذين رسموا في العصر الحديث مذابح جماعية - يشعرون بمبررات في داخلهم؛ فهذا يدل على عمق المشكلة الأخلاقية التي تواجه العالم.
إن الإسلام حين يدعو لاعتماد خيار القتال؛ فهذا يأتي ضمن نظام يتّسم بالدقة والعدالة، وإعطاء فرصة للسلام، فهناك مجموعة من الشروط ترسم نظام القتال الذي يشرعه الإسلام للمسلمين، وهو هنا إحدى صور الجهاد، لكن من الواضح أنه ليس عدوانياً على أحد، بل يقوم لحماية الحقوق ونصر المستضعفين ومحاربة الظلم والتعسف، ونشر قيم العدل أمام رفض مجموعات الدكتاتورية الانفتاح على الآخرين, والسماح للفرد في المجتمع باختيار القيم الفاضلة.
وفي هذه الدائرة, يمكن أن نفهم صورة القتال في الإسلام, كنظام لنشر وحماية الحريات المدنية والحقوق، والمسلمون حين يشاركون في هذا القتال فإنهم يتمتعون بعلاقة روحية في داخلهم تجعلهم الأكثر كفاءة من الناحية المعنوية.
وإذا كان المثل يقول: إن الأخلاق تُعرف حال القوة والقدرة - وهذا في نظرنا صحيح - فإن الإسلام حال قوته ونفوذه كان يرسم قيماً أخلاقية عالية, حتى مع الذين يضطر إلى محاربتهم.
وفي أمثلة سريعة, يرد أبوعبيدة  إلى أهل حمص المال الذي أخذه منهم مقابل الحماية؛ خشية ألا يقدر على حمايتهم، وهو يقوم بها في الوقت ذاته.
ويأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتشكيل محكمة ميدانية, للنظر في دعوى أهل سمرقند, بعدم صحة إجراءات الحرب، فتأمر المحكمة الجيش الإسلامي بالانسحاب الفوري، وهكذا كان ينسحب الجيش وسط دهشة أهل المدينة وذهولهم.
وهذه الحرب العادلة محكومة وفق الشريعة الإسلامية بالنظام الأخلاقي الذي لا يسمح بالتجاوز, حتى نجد في وصية الخليفة الأول, الصديق  ليزيد: لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا هرماً.
وكذلك كان عمر  يوصي جيشه ويقول: لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً هِمَّاً، يعني كبيراً.
وكان أبو بكر يوصي بعدم قتل الرهبان في الصوامع.
وقال عمر: اتقوا الله في الفلاحين, الذين لا ينصبون لكم الحرب.
وهذا باب تطول قراءته، ويعرف في مواضعه من كتب الفقه الإسلامي.
لقد كان لفقدان المسؤولية في تصنيف الإرهاب أثر في رفع روح التوتر ضد الولايات المتحدة، ليس بين المسلمين فحسب, بل حتى لدى شعوب أخرى في العالم...
قد يبدو للأقوياء أن من السهل والمناسب إسقاط المشكلات على الضعفاء، تحت مجموعة من الذرائع، وهذا ما نقرؤه في اتجاه بعض الدوائر في الغرب، في جعل الطرف الرئيس في مشكلة الإرهاب المسلمين، وليس غيرهم.

الدين في مفهوم المسلمين
يبقى مفهوم الدين واضحاً في عقل المسلم البسيط أنه: عبارة عن عبادة الله وتحقيق قيم الخير والعدل التي شرعها الإسلام؛ لإقامة حياة أفضل في الدنيا، وسعادة أبدية في الآخرة.
إن الدين لم يكن يوماً ما مشكلة عند المسلمين؛ لأنه مفهوم واسع يمكن أن يستوعب في رسالة الإسلام كل شؤون الحياة، ويمثل الإسلام في هذا المقام انفتاحاً واسعاً لصناعة نظام أخلاقي يمكن أن يعيش تحته الآخرون في أمن واستقرار، الدين في الإسلام ليس قضية شخصية أو مجرد رمزية في دائرة محدودة من دوائر الحياة بل يعني صناعة الحياة ليس للمسلمين فقط بل لكل من يكون مستعداً للسلام والعدل واحترام الحقوق، ويمكن أن نقول ببساطة إنه يعني البحث عن السعادة والأمن والتكامل الأخلاقي. وتحت هذا المفهوم يبقى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى العلمانية؛ لسبب بسيط أنه لا توجد مشكلة لهم مع الدين.
إن الفرد في الغرب قد يفهم الدين في دائرة معينة تتعلق بالجانب التعبدي المحض بين الإنسان وبين الله، بينما هو في الإسلام معنى شمولي ينظم سير الحياة كلها وفق قواعد عامة وأصول مرنة تكفل إمكانية الإفادة من الجديد في العلوم والتقنيات والتسهيلات المادية وغيرها، وتحافظ في الوقت ذاته على تميز المسلم وأنموذجه الثقافي الخاص، نتصور أن من مشاكلنا مع الغرب أنهم لا يفهموننا كما يجب وكما هي الحقيقة، ومن المؤسف أن تقع مجموعات من الأسوياء في العالم تحت تصوير ساذج يفتقد الأمانة في رسم هوية المسلم أو تحديد مفهوم الدين عند المسلمين.
إن من أسس الدين في الإسلام أنه يعطي مساحة لفهم الذات واحترام المبادئ والحريات الخاصة، كما يرفض الإسلام محاولة تحويل الدين إلى أداة لتبرير الأخطاء أو صناعة العدوان.
وربما كانت مشكلة فهم كلمة (دين) وكلمة (جهاد) والربط بينهما من إشكاليات الفهم لدى بعض الغربيين.
وإذا تحقق فهم الدين بهذا المعنى الواسع وفهم الجهاد بذاك المعنى الواسع أيضاً زال كثير من الالتباس في الباب.
وهكذا تحدث الانتقائية - أحياناً - في التقاط جزئية خاصة ومعالجتها كما لو كانت هي الإسلام فقط مع عزلها عن المنظومة الثقافية التي تنتمي إليها، يحدث هذا في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي على السواء. نلاحظ أحياناً أن بعض الدوائر في الغرب تجامل في إعلان احترام الإسلام كديانة، لكن لا نجد مساحـة لهذا الإعلان في التعامل مع المسلمين، وكأن بعض هذه الدوائر تريد أن تفهم الإسلام كما يحلو لها ! هناك فرق بسيط هو أن المسلم العادي يشعر أن الإسلام نظام شامل للحياة، والفرد في المسيحية لا يجد هذا الشعور بل يبقي الدين دائرة ضيقة في نظر المسيحيين، وهنا قد لا يستوعب الفرد في الغرب العلاقة عند المسلمين بين الدين والدافع الذي يحرك الإنسان في أي اتجاه في الحياة.
إن الدين يبقى في نفوس المسلمين الملاذ الآمن والأكثر فعالية لمقاومة كل أشكال التحديات، وهنا يمكن أن نقول للعالم كله: إن تصعيد التحدي ضد المسلمين- من قبل أي قوة في العالم - سيجعل من الصعب في الأخير أن تتمتع هذه القوة بالهدوء والاستقرار؛ لأن المسلم العادي يمكن أن يستوعب المحرك الديني في داخله لمقاومة العدوان ومن المؤكد أن هذا المحرك سيجعل من الفرد أكثر مرارة وسيكون أكثر فعالية في صناعة الأفراد من كل أنظمة التدريب النظامية، وفي الوقت نفسه فإن المحرك الديني سيجعل من الفرد العادي في الإسلام أنموذجاً لصناعة الخير والسلام واحترام الحقوق والحريات في ظل نظام العدالة.
المسلمون يعلمون جميعاً أن نبيهم محمداً  نبي الرحمة ونبي الملحمة أي: القتال، والأصل في دعوته ورسالته الرحمة، لكنه يتحول إلى القتال حين تقف بعض القوى في صف رفض الرحمة والأخلاق وحرمان الآخرين منها أو محاولة سلب الحقوق ومصادرة الحريات الخاصة؛ فإن الإسلام يمكن أن يعبئ في أقل من أربع وعشرين ساعة الملايين من المسلمين المستعدين للتضحية في سبيل الدفـاع عن الإسلام دون أي علاقة اتصال تجري بين هؤلاء، واليوم نعلم- ونحن على ثقة في قراءتنا للعقل المسلم العادي - أن عشرات الملايين من المسلمين سيبدون استعداداً للدفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى لو افترضنا وضع استفتاء في العالم الإسلامي، وهذه النتيجة التي نعلمها ستكون تجاوباً عفوياً مع حالة الظلم الممارسة في الأرض الفلسطينية، وهذا أحد مبادئ الإسلام التي رسمها في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض مهما كان قدر الفوارق السياسية والاجتماعية والعرقية التي يمكن أن تختصر وتمحى بشكل مفاجئ أمام حركة الدين الروحية التي تضمن التجاوب بين المسلمين، وحين نتحدث عن هويتنا الخاصة؛ فإن الدين يعد في الأساس عند المسلمين قيمة روحية عالية ونرى أن تعلقهم به هو الأقوى مقارنة بغيرهم لأسباب تتعلق بالإسلام ذاته، ومن السذاجة التفكير في تجريد المسلمين منها، وهذه القيمة تتجه في الأساس إلى السلام لكن يمكن أن تكون قوة مضادة لكل محاولات التعدي التي تواجه المسلمين أو مجموعات منهم.
إن المسلم الذي لا يُعطى مساحة كافية للتدين معرض لردة الفعل القوية ضد من يشعر بعداوتهم له أكثر من المسلم المستقر في سلوكه أو المنتمي إلى مدرسة إسلامية أو معهد شرعي ولهذا فمن الطيش توجيه الاتهام إلى المدارس الإسلامية أو المناهج الشرعية في العالم الإسلامي وأقل ما يقال: إن العِلْم الشرعي يضبط العداوة وينظمها ويحافظ على أخلاقيتها وهدوئها.
الموقف من الحرب ضد الإرهاب
إنّ مبادئ الإسلام تجعلنا مرتبطين بنظام أخلاقي واضح؛ فمن الصعب أن نتحرك باتجاه خيارات خاصة لا تحترم حقوقنا أو حتى حقوق الآخرين في أي مكان في العالم؛ لأن الإسلام يرفض الظلم، ومن الخطأ أن نركض في حرب لم ترسم تحت نظام العدالة وسيادة القانون الأخلاقي، وربما نكون مقصودين في هذه الحرب وملاحقين بأسماء مستعارة تعطينا درجة من التبرير؛ لتصفية وجودنا الخاص في آخر مطاف هذه الحرب أو في بعض فصولها، وهنا ! يمكن أن نتضامن مع الحرب ضد الإرهاب حينما تتجه الحرب إلى مفهوم التصحيح والقضاء على كل صور الإرهاب الذي يعني العدوان ومصادرة الحقوق والحريات في كل أشكال الإرهاب المتمثلة في الإرهاب السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي، وهذه تعد الدوائر الخاصة لممارسة الإرهاب المنظم في العالم من مجموعة قوى السيطرة والاستعمار التي تريد إسقاط المشكلة على الطرف الخارج عن اللعبة، فحين تتحدث الإدارة الأمريكية عن إرهاب دولة أو مجتمع أو ثقافة تهدد الولايات المتحدة، فلماذا لا يكون تهديد الولايات المتحدة، بل تحركها لضرب الأمن المدني في بعض الدول والمجتمعات، وخلق دوائر للتوتر في العالم، شكلاً من أشكال الإرهاب الذي يحتاج لملاحقة دولية !!
إن الإسلام يؤيد موقف التضامن مع الآخرين؛ لإرساء قواعد الأمن والاستقرار والسلام ومكافحة الفقر والأمراض والجريمة الفردية والجماعية، وهنا ! يمكن أن يعمل المسلمون مع الآخرين لبناء عالم يعتمد على الاستقرار والتوازن دون كلل، وهذا يستدعي - ونحن نخاطب كل المخلصين في العالم - الضغط على الإدارة الأمريكية؛ لرسم صورة صحيحة لمشكلة الإرهاب من أجل معالجة دولية جادة.
العالم ومشكلة الإرهاب
لعل من أكبر المشكلات - التي يواجهها العالم - مشكلة الإرهاب، والمسلمون من أكثر الشعوب تضرراً بهذه الظاهرة بل ليس غريباً أن معاناة المسلمين من الإرهاب في القرنين الماضيين أكثر من أي شعب آخر، لكن مع اعتبار الإرهاب مشكلة تواجه العالم فهذا يستدعي خلق نظام يتسم بالقوة والأخلاقية؛ لمواجهة هذه المشكلة، ومع هذا فإنه من وجهة النظر الإسلامية المؤسسة على شمولية النظرة للحياة وصناعة الخير للعالم ندرك أن العالم يعاني مجموعة كثيرة من المشكلات وليس الإرهاب فقط ! فهناك انتشار واسع للجهل والأمية والخرافة في حياة ملايين من البشر كما أن عشرات الملايين في العالم يعانون الأمراض ويفتقدون أبسط حقوق العلاج والصحة، كذلك يوجد مئات الملايين في العالم يعيشون تحت خط الفقر ومن الواجب علينا أن نشعر بهؤلاء وأن ندرك أن مشكلات العالم لا يمكن أن تختصر في شيء واحد لصالح طرف واحد ليس لـه امتياز إلا أنه الأقوى ويمكن أن يستخدم القوة ضد المعارضين.
إن تردي الحياة المدنية والحريات لمئات الملايين في العالم يجعل من غير الأخلاقي ألا نفكر بهؤلاء ونصر على تحديد المشكلة الخاصة في نظرة أحادية الجانب، وكموقف أكثر وضوحاً؛ فإننا نعتبر الوقوف مع مشكلة الإرهاب فقط وتجاهل المشكلات الأخرى يعني: أن العالم وبإرادة القوة يتجه لكارثة ستجعل الأمن في العالم كله مؤهلاً لمزيد من المفاجئات التي تدمر الحياة المدنية أو على أقل تقدير تخلق حالة من عدم الاستقرار والشعور بالرعب، وحينها سيكون العالم أكثر معاناة من فترة الحرب الباردة أو أي فترة أخرى.
إن سلاح القوة والقدرة على إلحاق الضرر ليس حكمة صائبة حتى في صناعة السيادة والسيطرة على الآخرين فضلاً عن الجدية في معالجة الأخطاء وترسيخ الأمن، ومن المؤكد أن الأمن المدني في العالم اليوم لا يشهد حالة من الاستقرار نظراً لإصرار الإدارة الأمريكية على نشر الفوضوية في التفكير وتبني الملاحقات التي لا تستند للقانون والعدالة، ولقد بات واضحاً - لدى الإنسان العادي في العالم كله - أن الإدارة الأمريكية ليست جادة في الإصلاح العالمي بل تسعى لمزيد من السيطرة وضرب الاستقرار في أماكن عديدة من العالم وكأن الإنسان المؤهل للحقوق هو الإنسان الأمريكي فقط !
لذا فإننا نؤكد أننا ـ نحن المسلمين ـ نمتلك إمكانية لفهم كل أساليب التعامل المناسبة لمواجهة الخيارات التي يرسمها طرف ما، ومن المؤكد أننا سنكون الأكثر استعداداً لاحترام الأخلاق والعدالة وفي الوقت ذاته الأكثر استعداداً للتضحية إذا اقتضى الأمر.
وفي هذا يقول أحد شعرائنا:
لي وإنْ كنتُ كقطرِ الطَّلِّ صَافِي
قصفةُ الرعدِ وإعصارُ السوافي
أتحاشى الشَّر جهدي فإذا ما
لجَّ في عسفي تحداه اعتسافي
خــلقٌ وَرَّثَنِيِــهِ أحمد
فجرى ملءَ دِمائي وشِغافي
لم يغيره علـى طولِ المدى
بطشُ جبارٍ ولا كيدُ ضعافِ
والحمد لله أولاً وآخراً.

فلنتحالف ضد إرهاب أمريكا ( )
للإدارة الأمريكية سجل في الإرهاب لا يُنَافَس، ولأنها الدولة الأهم، والأولى في العالم؛ فقد تولّد لديها نزعة إمبراطورية متعاظمة، تمثلت في غمس يدها في الصراعات الدولية؛ لبسط نفوذها، وحماية مصالحها على حساب: العدالة، والخير، والأخلاق.
ولو أننا بنينا أهراماً من جماجم قتلى العدوان الأمريكي في بلاد العالم؛ لكان شموخها يفوق شموخ برج التجارة العالمي المنهار بضع مرات.
وإذا اعتقدت في هذا شيئاً من المبالغة؛ فواصل قراءة هذا المقال.
وقد أظهرت الإدارة الأمريكية بسلوكها الشائن أنها تفتقر إلى الخبرة، والحسّ التاريخي، وستدفع ثمن ذلك على المـدى البعيـد!
وهذا ما يؤكده الباحثون الأمريكيون المرموقون، من أمثال: (بول كندي)، و (جيمس دفدسون)، و (ليسترثرو) الذي يرى أن الولايات المتحدة قد انهارت بالفعل.
فضلاً عن الفصول والتحليلات الجادة، التي دونها المفكر الشهير (نعوم تشومسكي )، ومن آخرها "تشريح الإرهاب" في كتاب.
وقد هممت أن أدون جرائم أمريكا، فوجدتني أحاول محالاً ! واستعيد آلاف الملفات الملئية بالأرقام، والإحصائيات، والحقائق الدامغة.
وإذا كانت العرب تقول: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. فدعونا نستذكر – فقط - بعض عنوانات هذه الجرائم الإرهابية الغادرة، كمقدمة فيما نريد أن نخلص إليه:
1. 1899م التدخل الأمريكي في الفليبين، وراح ضحيته مئات الألوف من الفليبينيين، الذين دفعوا حياتهم ثمناً لنداء: (الحرية والعدالة) على حد تعبير الصحافة الأمريكية ذاتها.
2. في الذكرى السابعة والخمسين للقصف الذريّ على مدينة هيروشيما؛ ذكر راديو اليابان الدولي أنه: تم إضافة 4977 اسماً، تم التأكد حديثاً من أن وفاتهم كانت إثر القصف !!
في (القبر الأجوف) يرقد فقط مائتان وست وعشرون ألف وثمانمائة وسبعون ضحية ! الرقم صحيح !
وكان القصف في 6 أغسطس 1945م، وهذه أول قنبلة نووية شهدتها البشرية.
3. 1951م في كوريا، بدعوى صد العدوان الشيوعي الشمالي ضد كوريا الجنوبية، ولا يزال في كوريا الجنوبية ثلاثين ألف جندي أمريكي.
4. 1954م في إيران؛ وقتل الآلاف من الجماهير، وأعلن مسؤول في الخارجية الأمريكية أنه:كان علينا أن نتدخل لحماية مواردنا !
نعم! لحماية مواردهم، التي وجدت اتفاقاً في أراضي الغير !!
5. 1965م في إندونيسيا؛ انقلاب مدعوم أمريكياً، المجازر تصل إلى قريب من مليوني قتيل، من الفلاحين، والفقراء، وقد شبهت أجهزة الاستخبارات الأمريكية ما حدث هناك بالجرائم التي اقترفها هتلر وستالين، وقامت مظاهرات الفرح في أمريكا، ولم تخف الصحافة الوطنية سرورها بما جرى !!
6. 1973م في تشيلي؛ انقلاب أمريكي، ومصرع الآلاف فيما عرف بـ (استاد الموت).
7. فيتنام التي غزاها نحو مليون جندي، ولمدة أحد عشر عاماً، واستخدمت فيها أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، وامتدت إلى عام 1975م.
وبعد ثلاثين عاماً من توقف الولايات المتحدة عن رش المواد الكيماوية هناك؛ كشف حديثاً عن معاناة مليون شخص، من بينهم مائة وخمسون ألف طفل مشوه، من آثار المواد الكيماوية، التي كانت تلقيها الطائرات الأمريكية على الغابات؛ لحرمان المقاتلين من الاحتماء بها.
8. تدخلات عديدة في نيكاراجوا، منذ 1912م، راح ضحيتها نحو مائتي ألف من السكان، وشهدت البلاد حالات تعذيب بشعة، ومجازر وحشية، وتدميراً هائلاً !
وقد أدانت المحكمة الدولية الولايات المتحدة بهذا العدوان دون جدوى.
9. نظام جنوب إفريقيا العنصري، بدعم من الغرب؛ يقتل مليوناً ونصف مليون إنسان، ويمارس عمليات تخريب، كانت كلفتها ستين مليار دولار، خلال حكم الرئيس ريجان.
10. ذكرت مصادر رسمية أن: نحو مليون طفل عراقي ماتوا بسبب الحصار، ونقص الأغذية، والأدوية والمستلزمات الإنسانية. (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[التكوير:8-9].
وقد بات في حكم المؤكد إطلاق قنابل مشعة باليورانيوم المنضب، وذكرت تقارير عدة، منها تقارير منظمة اليونيسيف: أن عدد الإصابات بسرطان الدم زاد بنسبة أكثر من ستة أضعاف، عما كان عليه في السابق.
وحين سئلت وزيرة الخارجية الأمريكية (أولبرايت) عما يحدث قالت: إنه خيار صعب، ولكن الثمن يستحق ذلك !
11. أما في فلسطين ففي قوائم شهداء الانتفاضة الحالية، نحو ألف وثمانمائة اسم بالتفصيل، وحسب مصادر نقابة الأطباء؛ فإن 25% منهم هم من الأطفال، أما الجرحى فيزيدون عن مائة ألف.
وفي سجن (تلموند) يقبع الرجال الصغار من الأطفال الفلسطينيين، في ظل ظروف صعبة للغـاية، ويقدر عددهم بأكثر من مائتي طفل، إنهم يحملون هماً أكبر من أعمارهم!
ولقد شرد العدوان الإسرائيلي أكثر مـن سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني مـن مدنهـم وقراهـم، ومزارعهم، وشن حرب إبادة على هذا الشعب الأعزل، بحيث أصبح الموت والدمار مشهدًا يتكرر كل ساعة، فضلاً عن الحصار، وما يستتبعه من ظروف اقتصادية، وإنسانية مأساوية.
والولايات المتحدة هي (الراعي الرسمي) لهذا الإرهاب، و(الداعم) الأكبر، و(المحامي) عنه في المحافل الدولية.
وإن المرء ليشعر بالعجز! حينما يحاول أن يدلّل على الحقائق الواضحة الجلية، أو يدون في إحصائيات حجم القتل، والدمار، والتخريب في فلسطين خلال أكثر من خمسين عاماً.
12. وفي أفغانستان قتل وجرح أعداد ضخمة، غير محدودة من المدنيين الأفغان، ودمرت منازلهم، وممتلكاتهم أثناء القصف الجوي، من قبل قوات التحالف، واستخدمت الأسلحة العنقودية، وغيرها، و قد تكشف الأيام المقبلة عما هو أكبر من ذلك !
وقد دعت المنظمات الدولية الإنسانية إلى فتح تحقيقات في الانتهاكات القائمة، والتي منها: وفاة مئات السجناء من الطالبان، وغيرهم في قلعة (جانجي)، والعثور على أعداد كبيرة من الجنود المختنقين.
13. ومن قبل قـامت القوات الأمريكية اعتباطاً؛ بضرب مصنع الشفاء للأدويـة في السودان (1998م)، وضرب أفغانستان بالصواريخ في نفس السنة.
وقد مات مئات الألوف من أطفال السودان بسبب نقص الأدوية.
14. وفي جوانتانامو في كوبا يعتقل نحو سبعمائة أسير مسلم، في ظروف غير إنسانية، دون محاكمة، ولا توجيه تهمة، وتبخل عليهم الإدارة الأمريكية حتى بلقب (أسير حرب)! ولا تسمح لأهلهم بزيارتهم، ولا بالاتصال الهاتفي، أو التحادث عبر الإنترنت !
لقد وعد الرئيس الأرعن شعبه بأنه سيجلب الإرهابيين من (جحورهم) إلى العدالة، وحين عجز اختطف أعداداً من الشباب، من باكستان، ومن أطراف أفغانستان؛ ليذر الرماد في عيون شعبه!
هذا شأن تطول قراءته، إننا نستعرض تاريخاً طويلاً، ونُطِلُّ على غابة متشابكة الأشجار، مليئة بالوحوش الضواري والحملان الوديعة!
ولقد تجاهلت الإدارة الأمريكية كل هذا، ثم قدمت نفسها على أنها: نموذج الخير، والعدالة، والأخلاق. وقال قيصرها: إن من لم ينحز إلى صف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب؛ فإنه ينحاز إلى الإرهابيين، ويكون قد اختار مصيره !
وبهذا وقع في شر أعماله، وأسس لأزمة العلاقات، التي قد تتحول إلى صراع أيديولوجي سياسي بين الولايات المتحدة، وبين بقية دول العالم، كما يستشرفه المفكر الأمريكي (فوكوياما).
فالمعركة لم تعد مع منظمة أو دولة، بل تتجه إلى أن تكون صراعاً مريراً، بين الولايات المتحدة والعالم الذي لم يعد يشعر بمعقولية النزعة الصدامية، لدى القيادة الأمريكية.
وحسبما نستقرؤه في السنن الربانية؛ فإن هذه القوة العظمى تسير في الطريق الخطأ، ليس بالنظر إلى الحق والعدل - فهذا أمر مسلم - ولكن بالنظر إلى مصالحها المستقبلية.
إن السنة آتية لا ريب فيها، وإن استبطأها الناس واستعجلوها: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)[إبراهيم:42-47].
(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ): هذه نظرية (نهاية التاريخ).
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): فها هو الدور الأمريكي، الوريث للاستعمار، والقوى الغاشمة قبله.
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) وهذا يتمثل الآن، في العملية الاستخباراتية، والعسكرية، والسياسية التي تستخدم كل أساليب المكر، والخبث وفنون الخداع.
ومن أعظم هذه الأساليب: (صناعة الأحلاف) على غرار ما حدث في حرب الخليج، وفي الحرب الأفغانيـة.
وكأننا بدأنا نشهد بداية انفراط هذا العقد، في الحرب الجديدة على العراق.
والله الهادي، وهو وحده المستعان.

* * *

الجهاد

دعوة للجهاد العام ! ( )
يتحدث الكثيرون ويسألون عن الجهاد وحكم الجهاد، وهم يستبطنون السؤال عن حالة خاصة من أحواله، ووضع محدد من أوضاعه، وهذا يُحدث إشكالية واضحة بين الجهاد باعتباره لغة شرعية لها مدلولها ومضمونها وشمولها وتنوعها، وبين تنـزيل هذه اللغة على حال معين.
وبتبسيط المسألة وتقريبها يتلخص أن للجهاد معـنيين:
معنى عام: وهو بذل الجهد في إقامة دين الله والدعوة إليه وبسط سلطانه في الأرض وإصلاح أحوال الناس الدنيوية، بما يتطلبه ذلك من أنواع العلوم والمعارف والأعمال والوسائل، وهذا لا شك واجب يتعين على الأمة في مجموعها، ويجب على كل فردٍ منها ما يناسبه، من علمٍ شرعي، أو دنيوي، أو جهاد بدني... الخ.
والمعنى الخاص: والمقصود به قتال الكفار ومَنْ في حكمهم، وهذا واجب على أهل البلاد التي سيطر عليها الكفار أو احتلوها، ويجب على بقية المسلمين مؤازرتهم ونصرتهم بما يمكن من الدعم المادي والمعنوي.
أما القول بتعيين الجهاد البدني - بمعنى القتال- وهو المعنى الخاص، وإيجابه على كل أفراد الأمة كافة في بلد معين، وفي زمن معين، وهو الزمان القائم فهو مستبعد ولا وجه له.
اللهم إلا أن يقال جدلاً بأن لدينا عدداً كبيراً من فروض الأعيان المتـزاحمة والتي لا يمكن القيام بها كلها جملة فآل الأمر إلى المفاضلة والاختيار.
إن كل أحد يقطع بأن الدعوة لم تبلغ مداها، ولم تتحقق بها الكفاية منذ قرون، والأمر -الآن- أشد ما يكون حاجة إلى دعوة الأمة بكل فئاتها إلى تصحيح علمها وعملها وعقائدها وعباداتها وسائر شؤونها، بل لا يزال الكثير من الناس على الكفر والشرك ونسبة هؤلاء تزيد على 80% من البشرية ما بين يهود ونصارى ووثنيين وبوذيين وسيخ وهندوس وبراهمة و... و... الخ.
وكل أحد يقطع بأن العلم الشرعي لم ينتشر بين الناس كما يجب، بل الكثيرون منهم يجهلون حتى ما يجب على المسلم أن يعرفه عيناً من دينه.
وكل أحد يقطع بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تقم به الأمة المنصوصة في القرآن " ولتكن منكم أمة.. "، والأمر أبعد ما يكون !
وكل أحد يقطع بأن المسلمين يعانون نقصاً حاداً في الكفاءات والخبرات التي لا بد منها لدينهم ولدنياهم، كالاقتصاد، والإعلام، والإدارة، والطب، وعلوم الأرض والبحار والفضاء وغيرها مما لا يأتي عليه الحصر.
وكل ما سبق فروض كفايات تحولت بالنقص الحادث في تحقيقها إلى فروض أعيان.. وبهذا غدونا أمام قائمة طويلة من فروض الأعيان لا تصلح معها الانتقائية المزاجية، و لا اختيار الأسهل الذي نظن أنه لا يكلفنا أكثر من أرواحنا !
وما أسهل بذل الروح عند المؤمنين !
لكن..ما أكثر المتذمرين المترددين حين تطالبهم بعمل طويل يستغرق السنوات ليتوفر على علم أو تخصص أو إبداع أو تفوق! والغالب ليس لديهم وقت لذلك، وهم يظنون أن كل آلام المسلمين ومصائبهم وإخفاقاتهم تنتهي بوجود دولة ما تعلن أنها إسلامية.
وليس من شك أن تحكيم الشريعة وتطبيقها من أهم وأعظم المطالب التي يسعى لها المسلمون، وعلماؤهم ودُعاتهم ومجاهدوهم على وجه الخصوص.
بيْد أن التراجع العام في مستوى الأمة لا ينتظمه جانب معين، ولا يتلخص في وطن دون آخر، ولا يصلحه إلاحركة إصلاح عامة تستهدف تدارك التفكير والعلم والعمل في شرائح الأمة كلها، وهذا يتطلب مشروعاً متكاملاً لبناء دين الأمة ودنياها، وأول مراحل هذا المشروع هو تصوره تصوراً صحيحاً، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه.
وقد طرحت مشاريع عديدة للأمة وأخفقت؛ لأنها لا تعتمد اعتماداً جوهرياً على الطرح الإسلامي المدروس، ولأن الأمة المستهدفة بالتغيير في غيابةٍ عن وعيها ومسؤوليتها، وليست مواكبة لهذه المشاريع ولا متفاعلة معها.
واليوم أصبْحت تجد من الغيورين المتحمسين مَنْ لو قلت له: خض هذا البحر لما تردد ولا تلجلج لأن دافع الحماسة قد بلغ منتهاه !
لكنك حين تقول له: واصل دراستك وكن متفوقاً، وخطط لسنوات قادمة لتكون شيئاً مذكوراً في حياة الأمة ومستقبلها لرجع خائباً مكسور الجناح مُحْبطاً، إذ إنه لا معنى عنده أن نرتب أحوالنا لبضع سنوات بينما الأطفال يقتلون، والنساء ترمل، والأعراض تُنْتَهك، والدماء تسفك، والجراح تسيل، وأنات المقهورين والموجوعين تصك الآذان !
إن بعض الاندفاع قد يضاعف المعاناة بدلاً من حلها.
وهاهنا يبرز معنى "الجهاد" الذي هو بذل أقصى الوسع وغايته واستفراغ الطاقة في تحصيل المراد.
وقد يكون في بعض النفوس ميل إلى الجهاد البدني لأنه يحقق النِّكاية السريعة والانتقام بينما تعزف عن الجهاد الذي قد لاترى ثمرته إلابعد حين أو لاتراها أبداً، وقد طلب قوم الإذن لهم بالقتال فأمروا بكف اليد، فلما كتب عليهم القتال عَصَوْا وصاروا يخشَوْن الناس كخشية الله أو أشد خشية "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" !
والغفلة عن المستقبل ستجعلنا مشغولين أبداً بإطفاء الحرائق هنا وهناك عن العمل الجاد الذي يخفف المعاناة عن أجيالنا اللاحقة.
وليس من تعارض بين هذا الهم المستقبلي الضروري وبين جهود مدروسة للتعاطي مع قضايا المسلمين الساخنة كقضية فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها.. ومع ما يجِدّ من قضايا ورزايا، فالمـعاناة تتجدّد، والضرورة تقتضي ألا ندع الجرح المفتوح -الآن- دون علاج.
لكن الفكرة التي يجب التركيز عليها أن علاج الجرح المفتوح على أهميته يجب ألا ينسينا التفكير في مستقبل أجيالنا..التي سوف تتساءل: هل خلفنا لها شيئاً آخر غير الجراح ؟!
ربما يكون التفكير الأنسب في الظروف القاسية التي تعانيها الأمة، والتي صارت واقعاً عملياً منذ عشرات السنين كما يعرفه من قرأ التاريخ الحديث واطلع على مآسي المسلمين فيه - أن يفكر الفرد الواحد في الموقع الذي يفرغ فيه طاقته، ويؤدي من خلاله دوره وبتحديده يـبدأ المسير إليه، بخطاً ثابتة، فيكون قد رسم الهدف وحدد الطريق وبدأ السعي.. وهذا يصل وفق السنة الربانية، ومن ثم تتزايد الأعداد الإيجابية التي تمارس دورها بشكل صحيح، بدلاً من أن تكون هذه الأعداد تتساءل فقط عن دورها ثم لا تعمل شيئاً بعد.
ولا يلزم أن يكون تفكير الفرد الواحد -دائماً- هو أن يرفع المعاناة عن الأمة كلها، فالواحد القادر على رفع المعاناة كلها هو الله عز وجل.
أما البشر فيكفي أن يستفرغ المرء جهده وطاقته ولا يدخر منها شيئاً، ثم لا يضيره أن تتحقق النتائج على يد غيره بعد ما يكون أسس وبدأ البناء.
إن رَفْع المعاناة أو تحقيقها يتطلب عدداً كبيراً من الواعين المخلصين المضحين وفي جميع الميادين، وهذا ما يجب السَّعْي فيه، ولأن ينجح فرد في إعداد مجموعة من شباب الأمة إعدادً علمياً وعقلياً وخلقياً وجسدياً أحب وأنفع من أن يلقي بنفسه في أُتون نار تلظى، ولو كان سيذهب شهيداً. فنحن نطالع مصلحة الأمة في دينها ودنياها، وليس مصلحته الشخصية وحدها.
وقد يحدث ويقع أن يكون لفرد أو جماعة من البلاء وحسن الأثر والوقع في الجهاد القتالي المباشر ما ليس لغيرهم إما لخبرة أو شجاعة أو حسن تنظيم أو بعد نظر أو صلاح نية..
وفي مثل هذه الحال قد يكون هؤلاء أولى من غيرهم بالعناية بتوجيه المعركة في المناطق الساخنة من بلاد المسلمين كفلسطين والشيشان، وهذه من المواقف البطولية التي تستحق الإشادة المتكررة؛ لأنها تعبير عن وجود الأمة وحيويتها وإحياء لقضاياها، ولو لم يكن من آثارها إلا هذا الالتفاف المبهج لكفى ووفى.
لكن يجب أن يكون هذا بمعزل عن افتعال معارك في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم تسيل فيها الدماء وتزهق فيها الأرواح ويضطرب الأمن ويشيع الخوف ويفقد الناس قدرة الحفاظ على ضرورياتهم من الدين والنفس والعرض والعقل والمال، وهي التي جاءت الرسالة السماوية لحفظها وصيانتها..
فكيف تهدر باسم جهاد موهوم يُفْتَأَتُ فيه على جماعة المسلمين وعامتهم ؟
إن النجاح يكمن في أن يستخدم المرء عقله قبل يده، وقد قيل:
رام نفعاً فضرَّ مِنْ غيرِ قصْدٍ
ومن البرّ مايكونُ عُقوقا!
وأصحاب المنهج الإسلامي بحاجة إلى أن يَطْمَئِنّوا إلى النجاحات والإنجازات التي حققوها لدعوتهم ومجتمعاتهم، وأن يؤسسوا عليها، ويشيدوا البناء. وهم في الوقت ذاته بحاجة إلى أن يُطَمْئِنوا غيرهم من الناس إلى سلامة منهجهم ووضوحه وأنه لا يقوم على تدمير المكتسبات ولا يتقاطع مع مصالح الناس وحاجاتهم.
وهذه الروح السّارية في أجسادنا نعمة رائعة من عطايا الربّ الكبير المتفضل لايحسن أن يتبرم المرء بها، ويلقي بها في أي محرقة دون أن يفكر في النتيجة الحاصلة.
ولأنها نعمة بهذه العظمة، فقد وصف الله الشهداء في سبيله الذين أَفَنْوا حياتهم في طاعته ومرضاته وإعزاز دينه بالحياة فقال:" ولاتحسبَنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ".
والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

***

خاطفو "الجهاد" ( )
راسلني أحد المحزونين قائلاً: انتظر أياماً؛ فربما يُخطف رهينة فرنسي؛ لمطالبة دولته بتطبيق الشريعة خلال يومين وإلا حُزّت رأسه!!
يا حسرتا على شباب المسلمين!
ولقد شعرت بأن الأمر تعدى حدود العقل فضلاً عن الشرع وليس بين الشرع والعقل تعاند؛ فإذا كان العلماء مجمعين على أن مقصود الشارع الأعظم هو تحصيل المصلحة ودفع المفسدة- كما ذكره الغزالي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وغيرهم- فلقد قرروا- أيضاً كما ذكره العز بن عبد السلام وغيره- أن المصلحة والمفسدة تعرف بالعقل.
فتخيل الأمر قبل ورود النص وأين مصلحته ومفسدته وهو كذلك إلا ما جاء النص باعتباره أو بإلغائه.
والشرع هو: خطاب للمكلفين العقلاء بالاتفاق.
أخشى أن يكون وراء الأكمة ما وراءها إذ من المستبعد أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من الفوضى والطيش.
إنه لا أحد يخدم دينه بهذه الطريقة!!
وربما صار العراق بعد سقوط حكومته منطقة جذب لأطراف كثيرة من الأجهزة الأمنية والقوى الخفية المتقاطعة المتناحرة.
وها قد تحدثت الأنباء عن أصابع إسرائيلية في التحقيق مع السجناء وأيادٍ هناك في البنتاجون أدارت رحى الحرب ضد العراق...
فلمَ نستنكر على هؤلاء أو غيرهم أن يزرعوا عدداً من العملاء؛ مستغلين غَيبة النظام والفوضى العارمة؛ ليمارسوا أدواراً قذرة وحرباً خفية يضربون بها أعداءهم من الطرفين؟!
إن موقف فرنسا من الحرب معروف وهو في مصلحة العرب والمسلمين في منع التجرؤ عليهم والتدخل في شؤونهم وهو وإن كان منطلقاً من رؤيتهم الخاصة وقراءتهم للحاضر والمستقبل ولا أعتقد أنه موقف إنساني بحت؛ أو قانوني محض؛ إلا أنه يبقى الأفضل.
بينما يعلم كل أحد أن قراراً فرنسياً جائراً يمنع الحجاب في المدارس؛ لن يُلغى بمثل هذه الضغوط؛ لكن ستكون فرصة إعلامية ممتازة لمن يتربصون بالمسلمين داخل فرنسا وخارجها لتصوير المسلم على أنه بلا عقل وبلا ضمير!!
ومن يستفيد من مثل هذا أكثر وأفضل من اليهود؟! وكما يقول عيسى عليه السلام: "من ثمارهم تعرفونهم". فإن الثمرة الخبيثة هذه يجدر بها أن تكون نتاجاً لتلك الشجرة الخبيثة المكتوب عليها اليبس والجفاف (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
ولعمري! إن كان من تورط في مثل هذا العمل من المسلمين لقد شان نفسه وأهل ملته وأتى من رديء الفعال بما يعجز عنه الأعداء والخصوم أو يكادون!!
ولو كان كذلك لما وسعه أن يتجاهل نداءات المخلصين ومنهم هيئة علماء المسلمين بالعراق وأطراف أخرى عديدة نادت وما زالت إن كان ثمة سميع بإطلاق سراحهم وتدارك هذه الزلة وتجنب هذه العثرة وإعادة الأمر إلى نصابه.
وإنني أعزِّز هذه الأصوات الناصحة وأذكِّر بأعراض أهل الإسلام وحمايتها من مقاريض الإعلام؛ فلقد امتنع النبي  عن قتل قوم علم من خبر السماء أنهم منافقون وحكى الله تعالى في تنزيله أنهم في الدرك الأسفل من النار وعلل: "بألاَ يَتَحَدَّث النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ".
أفيدرأ رسول الله قالة السوء عنه وعن أصحابه المؤمنين ويستدعيها قوم بحجة الدفاع عن الدين وكسر شوكة المعادين؟!
إن قوماً ليس لهم أكابر يستنيرون بحكمتهم ويستضيئون بعقولهم ويسترشدون بآرائهم؛ لا يفلحون!! ولا أضر على الأمة ورجالها من الاستفراد بالرأي والإصرار على الخطأ وتجاهل الأصوات الناصحة.
وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي
وقد يستفيد البغضة المتنصح
أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وكرمه وفضله أن يهدي شباب المسلمين جميعاً إلى الحق وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما يحب ويرضى وأن يجنبهم ما لا يرضيه من الأقوال والأعمال والأخلاق إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين.

* * *
أسئلة مُفخّخة( )
تزخر الدوائر العلمية بالأسئلة التي هي أقرب إلى المغالطة منها إلى الحقيقة؛ لأنها تفترض في ذهن المتلقِّي طريقين لا ثالث لهما: إما اليمين أو اليسار، أحد الاحتمالين صواب لا شكّ فيه، والآخر خطأ لاشكّ فيه.
ولأن كثرة من الناس يميلون إلى السهولة والتبسيط؛ فإنهم يستروحون إلى هذه الافتراضات ويتجادلون حولها، فيتم فرزهم إلى فريقين أحدهما مع، والآخر ضدّ.
وتضيع في لُجّة هذه الخصومات معاني التمحيص والبحث الموضوعي والتفصيل الذي يمكن أن يرفض السؤال من أساسه، أو يقبل السؤال ويضيف إليه، أو يقبله ويفصّل في الإجابة.
منذ البدايات الأولى لطلب العلم والبحث يتلقى الدارسون سؤالاً: هل الإنسان مُسيّر أو مخيّر؟ وكأن الإجابة تنحصر في هذا أو ذاك، أما أن يكون السؤال غير علمي فهذا ما يغفل عنه الكثيرون.
و أما أن يكون الجواب مفصّلاً، بحيث يكون المرء مسيّراً ومخيّراً في الوقت ذاته فهذا يعزب عن أذهان المجيبين أحياناً.
ونظير هذا السؤال التقليدي عن تقديم العقل أو النقل والجدل التاريخي حوله ما بين مُقدِّم للعقل أو النقل.
بينما يمكن رفض السؤال من أساسه؛ لأن العقل والنقل ليسا نظيرين بحيث يمكن المقارنة بينهما، فالعقل آلة ووعاء، بينما النقل نص مقول.
وللعقل مداره وللنقل مداره، ويمكن أن يكون النص إطاراً يحكم حركة العقل في الغيبيات التي لا يملك آلية الوصول إليها.
بينما لا يتصور النص والنقل إلا بوساطة العقل الذي يستقبل ويفهم ويحلّل ويقارن ويربط.
وثمة سؤال ثالث وثيق الصلة، وهو: هل الجهاد هجوم أو دفاع؟ وهذا كثيراً ما حيّر الباحثين...
بينما يمكن الانفصال من الموضوع كله جملة بنفي أن تكون القسمة ثنائية، وأنّ ثمة خيارين لا ثالث لهما، بل يمكن تفكيك السؤال، وعدم الاستسلام لدلالته في أنه لا يوجد إلا أحد طريقين.
وقد حدّثْتُ بعض أفاضل العلماء في أنه يمكن صياغة مقصد الجهاد بعبارة أخرى، مثل أن يقال: إن الجهاد هو لحماية المشروع الإسلامي.
والحماية تعني بالضرورة الدفاع، ومبدأ الدفاع مسلَّم به لا خلاف عليه بين أهل الإسلام، بل ولا غيرهم؛ فإن جميع الدساتير والقوانين الأرضية تعطي الشعوب الحق في الدفاع عن حريتها، ومقاومة الغزاة.
فهذا قدر ليس عليه اختلاف.
ثم قد يكون من مقتضيات الحماية المبادأة بالهجوم حين تكون احتمالات الحرب مفتوحة، متى اقتضت مصلحة الدولة الإسلامية ذلك، فليس ثمة أحد يمنع من استباق ضربة العدو متى توفرت القدرة والقوة والإمكان.
وهاهي الولايات المتحدة تضرب في مناطق شتى من العالم باسم الاستباق وملاحقة الأعداء في عقر دورهم.
وهاهي "إسرائيل" تسمي جيشها الغاشم (جيش الدفاع) ويضرب في سوريا ولبنان والعراق وغيرها.
ليس هذا يعني تسويغ ما يفعله أولئك، وهم بمعزل عن تسويغنا ولا يشعرون بحاجة إليه؛ لأنهم يملكون القوة ويصنعون القانون ويضعون التعريف للإرهاب الذي يحاربون، والإرهاب الذي يمارسون!
لكن يعني أن نملك إجابة علمية رصينة تصلح للتداول والتعاطي في دوائر البحث والإعلام، وتظل بعيدة عن فرضية أننا نستعد لمحاربة العالم كله متى أمكننا ذلك، مما يجعلنا ندفع ثمناً باهظاً بدون مقابل، أو أننا لا نملك إرادة الممانعة والاستعصاء على الغزو الذي ينتهك دولنا واحدة بعد أخرى.
إن حماية المشروع الإسلامي تعطي مساحة جيدة وواضحة لاحترام العهود والمواثيق والعقود التي أمر الله برعايتها، كما قال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، وقال جل جلاله: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها".
وتسمح بالانخراط في سِلْم عادل يحفظ للمسلمين استقلالهم وحصانتهم، وليس في خنوع واستسلام ذليل لا تقبله الفطرة فضلاً عن الشريعة.
والحياة ملأى بمثل هذه المغالطات الثنائية التي يقع بسببها اللبس والإيهام لدى كثير من العامة الذين يميلون إلى التعميم ويكرهون التفصيل، بل وبعض الخاصة.
وهي تمهد لدخول غير المتخصصين في المسائل الدقيقة وخوضهم فيها دون إدراك لأبعادها، ومواضع الاتفاق والخلاف منها.
وربما كانت المعارك العلمية أو الإعلامية التي تستنزف جهوداً كبيرةً في التاريخ أو الواقع نتاجاً عادياً لمثل هذا التسطيح للقضايا الذي يفضي إلى التصنيف، واستقطاب الناس، وتحويلهم إلى فريقين متخالفين.
وقد أشار الإمام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أن أكثر اختلاف الناس هو من هذا الباب.
وأزعم أن العراك الميداني يجني كثيراً على المسائل الشرعية والعلمية فلا يتناولها الناس بهدوء العقل والنظر، بل يأخذونها بحرارة التعاطف والميل، أو ما يُعرف بـ( الهوى )، قال الله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس".
وأن الخلفيات المسبقة التي يحملها الناس تؤثر كثيراً في حكمهم ونظرتهم، وتحول بينهم وبين الصدق التام والنزاهة والأمانة، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ولعل من الكتّاب من (يتعمّد) الخلط والتلبيس؛ لأنه يدري أن في القُرّاء من لا يملك آلية الفرز والتصحيح والتدقيق، وقد يغتر بزخرف القول، وينساق وراءه دون بصيرة، وهذا ظاهر فيمن ينطلق من أدلجة خاصة.
هذه سنة الله في العباد، ولعلها لا تزداد مع الزمن إلا شيوعاً واتساعاً، خاصة وهذا الوقت فُتِح على الناس فيه باب الإعلام الذي يقحمهم في مسائل متنوعة يصعب عليهم إدراك تفصيلاتها ومعاقدها وأصولها وفروعها، فصار من الطبعي أن يتعاطى المجتمعون القول في قضايا سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو شرعية، ويعزّ على كل موجود بينهم أن يلوذ بالصمت، فليكن له موقف مع هذا القول أو ذاك، بينما محكم القرآن يقول: " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً"، ويقول: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
والحمد لله رب العالمين.

* * *

مقصد الجهاد( )

كلنا ذلك الرجل الذي يتقطع قلبه وتنـزف مشاعره أسى على إخوانه في كل مكان به جرح يدمي، أو امرأة تستنجد، أو طفل يبكي.
لكن من العدل أن يفقه الواحد منا الدور المنوط به، وماذا يجب عليه أن يفعل، وألا يترك نفسه لطوفان الحزن يغرقه، أو نار الهموم تأكله، وأن يتحول هذا الهم والحزن إلى خطوات عملية جادة لنفسك ولمن حولك.
إن مقصد الجهاد – فيما أرى- يمكن تلخيصه بعبارة محددة هي: ( حماية المشروع الإسلامي من العدوان )، وليس بالضرورة أن نعبّر بلفظ الهجوم أو الدفاع، كما اعتاده الباحثون.
إن الجهاد هو قتال من يقاتلون المسلمين، كما في نص قول الله : " وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ"[البقرة:190].
وختم الآية بقوله : "وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ" دليل على أن حكمها لا يمكن أن ينسخ؛ لأن الله  سمى ما خالف مفهومها عدوانا, وبيَّن أنه لا يحب من فَعَلَه، فدل على أن هذا لا يمكن أن يصبح يوما من الأيام شرعا؛ لأنه عدوان لا يحبه الله.
والعدوان لا يتحول إلى مباح، فضلاً عن أن يكون مشروعاً أو واجبا، إلا على سبيل المقابلة، كما في قوله : " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ "[البقرة:194].
فقيّده هنا بأنه موجه ضد الذين اعتدوا علينا، وسماه اعتداءً من باب المقابلة.
لكن مقاتلة الأعداء لنا تكون بأحد أمرين:
1- المقاتلة الفعلية والشروع فيها، وهذا ظاهر بأن نكون في حرب فعلية قائمة مع هذا الطرف, أو ذاك.
2- المقاتلة بالإمكانية:
بمعنى أن يكون هؤلاء القوم محل مقاتلة, وليس بينهم وبين المسلمين أي عقد أو اتفاق أو هدنة أو تفاهم؛ يفضي إلى الاطمئنان, والمسلمون منهم على تخوّف، ولذا قال : " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ"[الأنفال:58].
وهنا يكون المسلمون في حِلّ من مقاتلة هؤلاء الذين يتربصون بهم ويعدون لهم العدة، ويجمعون على حربهم، مع الإيضاح والمعالنة والنبذ على سواء.
ثم هناك القدرة, وهي شرط مُجمع عليه في جهاد الدفع والطلب.
ولكن هل معنى القدرة: أن نكون بحجم قدرة العدو؟
هذا غير وارد إلا على سبيل القسمة النظرية، وإلا فإنه لم يحصل على مر التاريخ الإسلامي، ولا في عهد النبوة ولا الخلفاء, ولا من بعدهم.
وهل هي الربع, أو النصف, أو أكثر, أو أقل، والله  ذكر في القرآن: "إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ"[الأنفال:65-66].
فالآية دلت على: مقاتلة ومصابرة من يكون عشرة أضعاف عدد الجيش، ثم خفف الله الأمر إلى النصف، فيصبر المسلمون لمن هم ضعف عددهم.
والراجح - فيما فهمته من تأمل النصوص والحوادث الجارية والماضية - أن القدرة يقصد بها: ما يرى أهل الشأن أنهم يستطيعون أن يحققوا بهذه القوة هدفاً معيناً مؤثراً، كطرد المحتل أو إلحاق الأذى به بصورة تعجل برحيله, أو تكفّه عن التمادي, فهذا جانب مهم ينبغي فقهه ورعايته.
وأهل الشأن فيهم أهل الخبرة العسكرية الذين يقدرون الأمور حق قدرها، ويضعون الاحتمالات الصحيحة العادلة دون إفراط ولا تفريط.
وفيهم أهل السياسية والمعرفة والنظرة الشمولية الذين يمكنهم تحديد ما يكون نكاية بالعدو, وضرراً قوياً يحمله على تغيير خطته, أو الانسحاب من الدار، و ما ليس كذلك.
وقد يوجد من لديه حماس مفرط واستماتة، فلا يبالي ولا ينظر للأمور برويّة، بل هو مندفع لا يبالي بشيء.
كما يوجد من هو جبان كثير التردد، موسوس لا يطمئن إلى قرار، وليس لديه أدنى قدر من تفهم المخاطرة وتقبلها.
وهذا كذاك لا يصلح الاعتداد بهم، بل يعتد بالفاقهين الذين لديهم الخبرة والمعرفة والإحاطة، مع الاعتدال في مزاجهم فلا يذهبون إلى إقدام أعمى, ولا إحجام جبان.
وهذا كله يقال في حالة الجهاد الشرعي الظاهر الذي لا إشكال فيه، مثل حالات الاعتداء اليوم على بلاد المسلمين في فلسطين والعراق وغيرهما.
أما عملية تفجير المجتمعات الإسلامية من داخلها بحجة تقويض الأنظمة فيها فهي انحراف عن سواء السبيل، وطيش لا يمت إلى الرشد بسبب.
وكأن منتحلها حامل سلاح يصوبه إلى جسده؛ فحقَّ على مثله قوله : "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ"[الحشر:2].
وهذا لا يتعلق بالجهاد أصلاً.
والذين يقدرون هذا المسائل، أعني مسائل الاستطاعة، هم رجال البلد الذي يتعرض للعدوان بالمقام الأول، ويمكنهم أن ينتفعوا من غيرهم بالمشورة والمباحثة.
ولا يعني هذا الحجر على أحد أن يتكلم باجتهاده في هذه المسائل، إذا كان من أهل الفقه والبصيرة والاستنباط؛ فإن هذا لا يكفي فيه مجرد العلم، بل لا بد من فقه النفس، وسعة الإدراك، وقوة الاستنباط؛ كما قال : "وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً"[النساء:83].
فقال:" لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ". أي: من أولي الأمر، فدل على أنه ليس كل العلماء والساسة يدركون الأمر ويعرفون أبعاده.
هدى الله المسلمين جميعا إلى سواء السبيل.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك