دور المؤسسات الدينية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان
دور المؤسسات الدينية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان
31/05/2011
د. غيث بن مبارك الكواري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية القطري
— حقوق الإنسان "مؤسِّسةٌ لأخلاقٍ" من خلال القيم الموجبة التي تُشيعها بين المتعارفين عليها العاملين على نشر منافعها.— إن الإسهام..
أرسل لصديق
طباعة
قراءة : 5760 | طباعة : 142 | إرسال لصديق : 1 | عدد المقيمين : 31
— حقوق الإنسان "مؤسِّسةٌ لأخلاقٍ" من خلال القيم الموجبة التي تُشيعها بين المتعارفين عليها العاملين على نشر منافعها.
— إن الإسهام الديني في تأسيس الحقوق الإنسانية وحمايتها من أي اعتداء ، من صميم المقاصد الشـرعية.
— أن العالم المعاصر يشهد صحوة في التدين ، وهذه الصحوة الدينية أضحت تستلزم استحضار "الشـرائع" في مقاربة المواضيع المطروحة للنقاش.
— لقد صار الإنسان المعاصر مؤمناً بعضويته في فضاء المجتمع البشري العام ، يتقاسم نفس الحقوق ، ويضطلع بنفس الواجبات.
— وما قرر العلماء للحياة هذه المرتبة إلا بناء على النصوص الكثيرة ، التي بنت بكثرتها للحياة، هذه الحصانة التي تحميها ، وتحفظها ، وتحقق مصالحها.
— ولكن الملاحظ اليوم ، أن الإنسان بالجملة أصبح مستعداً أكثر من ذي قبل للنظر إلى العالم ومقاربة المواضيع المقضة لمضاجعه بمنظار الدين ومقاصد الشرع .
— لكن تعميق الوعي بحقوق الإنسان في الإسلام يتم بشكل سريع عبر "مؤسسة المسجد" ، التي تشكل ميداناً يَعْمُرُه المواطنون بشكل طوعي رغبة في الثواب وبحثاً عن استقرار روحي وعن الطمأنينة ، وتلبية لنداء الإيمان.
— الجهود البشرية والتشريعات السماوية يمكنها السير جنباً إلى جنب لتثبيت وحماية هذه الحقوق ، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام : "ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت".
إذا أردنا أن نعرف حقوق الإنسان بشكل بسيط وأولي ، جاز لنا أن نقول :
إنها ما ينبغي لهذا الإنسان من أمور تُحقق له "الإنسانية" في دائرة الخير ، وتطرد عنه الشر المُخل بوجوده ككائن عاقل مُستخلف في الأرض مسؤول عن أمان الكوكب الذي هو منه وآيلٌ إليه . ويترتب عن تلك الأمور التي تنبغي له ، والتي هي حقوقه ، أمورٌ سالبة لتلك الحقوق يلحقُه من جراء انتفائها الظلم والخضوع والشر ، فيُسلب "الإنسانية" قيمتَه الساميةَ التي هي سر وجوده ككائن مُستخلف في الأرض .
وحقوق الإنسان "مؤسِّسةٌ لأخلاقٍ" من خلال القيم الموجبة التي تُشيعها بين المتعارفين عليها العاملين على نشر منافعها.
كما أنها مؤسسةٌ على أخلاقٍ سادت بين المجتمعات الإنسانية المجبولة على التعارف في دائرة الخير ، والأساس في تلك الأخلاق مصدران :
1. القيم الإنسانية التي اهتدى إليها الإنسان عن طريق العقل ، والتمييز بين الخير والشر، والمنفعة والمضرة ، والحسن والقبح ... إلخ . فالثورة الفرنسية التي رفعت شعارات الحرية والأخوة والمساواة ، سرعان ما دولت تلك الشعارات في صورة حقوق إنسانية عالمية .
2. الشرائع الإلهية السماوية : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.(المائدة: (48) .
ونتذكر أن الإسهام الديني في تأسيس الحقوق الإنسانية وحمايتها من أي اعتداء ، من صميم المقاصد الشـرعية ، وما حلف الفضول الذي تأسس قبل الثورة الفرنسية بقرون ، للدفاع عن الإنسان وحماية حقوقه ، ـ ولو في وطن الغربةـ منا ببعيد ؛ حيث جاء في الحديث : " لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت". وفيه : "ما أحبّ أن لي به حمر النعم".( سيرة ابن هشام )1/266). وهو تعبير عربي – كما لا يخفى – يفيد الاحتفاء والتقدير بالشيء المذكور.
العالم الإسلامي والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان:
ولما كانت مواثيق وبيانات حقوق الإنسان قد تعددت لتتجاوز مائة إعلان وبيان وميثاق ، فقد وجب التذكير منذ البداية إلى أنها على تعددها مستنسخة بعضها من بعض ، وتكاد التحفظات المسجلة عليها تنحصر في نقاط خالفت فيها الشرائع . ففي عالمنا الإسلامي مثلاً ، وقع التحفظ على نقطتين اثنتين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لمخالفتهما الشريعة ، يتعلق الأمر بما جاء في البند السادس عشر الذي يعطي الرجل والمرأة الحق في التزوج متى بلغا سن الزواج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الدين ، وبالبند الثامن عشر المتعلق بحرية تغيير الديانة أو العقيدة .
لكن موضوع حقوق الإنسان لقي اهتماماً شديداً في العالم الإسلامي ، وهو اهتمام تُرجم في بيانات ووثائق عديدة لحقوق الإنسان في الإسلام تعددت وتآلفت ، فوسع اللاحق منها ما ورد مقتضباً في سابقها ، وانفتح آخرها ليُدرج حقوقاً جديدة تبلورت على الصعيد العالمي مثل ضرورة التسامح ، والحق في الاختلاف الفكري وضرورة التنوع الثقافي ... إلخ.
وبالجملة ، فقد عكس تعدد البيانات حول حقوق الإنسان في الإسلام رغبة في تفعيل تلك الحقوق في مشاريع تحديث وتنمية البلدان الإسلامية ، ما عكس رغبة في مقاربة حقوق الإنسان مقاربةً حقوقية شرعية بعد أن كانت في السابق مجالاً لا يخوض فيه إلا الحقوقيون .
وقد رأيت في هذه الورقة أن أتحدث عن دور المؤسسات الدينية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان ، وهو موضوع يكتسي نوعاً من الراهنية ، ذلك أن العالم المعاصر يشهد صحوة في التدين ، وهذه الصحوة الدينية أضحت تستلزم استحضار "الشـرائع" في مقاربة المواضيع المطروحة للنقاش.
ويعكس ذلك التعريف الذي أصبح متداولاً للدين الآن ؛ إنه " قوة فاعلة من أجل الخير" ، وهو تعريف بقدر ما يعكس وعياً بقوة التدين ووجوب التدين لتحقيق الخير ، يعكس وعياً بقوة الدين في درء المخاطر المُحدقة بالإنسان المعاصر ، هذا الذي صار خاضعاً إلى أبعد الحدود لما صنعت يداه ، مكبلاً بما به أضاع شروط الاستخلاف في الأرض.
وهذا الإنسان الباحث عن ترسيخ حقوقه ، يطمح إلى استرجاع موقعه بين الكائنات المستوطنة للأرض ، وتخليص نفسه من تَبِعات التطور العلمي والتقني غير محسوب العواقب ، ازداد قناعة بقيمة الإيمان ووجوب الأخلاق وتنمية الروح.
وبالجملة ، أصبح مستعداً الآن أكثر من ذي قبل للنظر إلى العالم ومقاربة المواضيع المقضة لمضاجعه بمنظار الدين ومقاصد الشـرع. وبعد أن تاه أسلافه في البحث عن المجتمع المثال المؤسس عن الأخلاق المبنية على الفلسفات البشرية الشاجبة للدين ، حاول الإنسان المعاصر استدراك الأمر بعد أن فقد حريته في وعي واقعه ، وأخذ إحساسٌ بالقُصور يُخامره جراء المشاكل المترتبة عن أخطائه داخل المعامل والمختبرات .
وطواعية عاد إلى طرح أسئلة الهوية ، وأفضـى به التفكير وفق مقاصد الشـرع إلى الإقرار بالمواطنة الموسعة للإنسان ، والتي تصبح فيه الوقائع من لون وجنس وعرق خادمة للتنوع باحثة عن سياق للتوافق والجوار على الكوكب . لقد صار الإنسان المعاصر مؤمناً بعضويته في فضاء المجتمع البشري العام ، يتقاسم نفس الحقوق ، ويضطلع بنفس الواجبات ، مستعداً لتحمل جزء من مسؤوليته في الحفاظ على النوع من الهلاك ، وصوناً لكوكب الأرض من الدمار . وكل ذلك الذي ذُكر مرتبط برجوع ملحوظ إلى التدين وفق مقاصد الشرع ، بِقَدَرٍ من الحرية ، مؤسسٍ خارج فعل الإكراه ، ومستوٍ في إطار الكلمة السواء ، المحققة للأمن والشاجبة لسيطرة البشر على البشر وخضوع الإنسان لما كسبت يداه .
الحقوق التي قررتها المواثيق الدولية :
وكي تتجلى فاعلية المؤسسات الدينية ودورها في ترسيخ الحقوق التي صارع الإنسان طويلاً ، قبل انتزاعها من خصومها ، وقدم في سبيل ذلك التضحيات الهائلة، أقول كي تتجلى هذه الفاعلية والقدرة التي تختزنها المؤسسات الدينية ، نتناول بعض الحقوق التي استقرت في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ، وننظر كيف وقف التشـريع الإسلامي إزاءها .
حق الحياة :
إذا جاءت المواثيق الدولية واضحة في أن "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". (المادة "3" من الإعلان العالمي). ونصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية ، أنه "لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة ، ويحمي القانون هذا الحق ، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي". (المادة "6" ، والفقرة "1" من الإعلان العالمي) .. فكذلك كان الأمر في الإسلام ، بل لقد ارتقى الإسلام بالحياة إلى أن جعلها مقدساً من المقدسات التي جاء لحفظها ، والحفاظ عليها ، بدءاً من تشريع أسبابها الطبيعية ، وصورها الفطرية ، فحث على الزواج ، وأمر بتأسيس الأسرة ، ولا يخفى أن هذا التشريع رقى بهذا الحق فوق كل مرتقى ، ورفعه إلى مرتبة المقاصد الضروريات ،وذلك من ناحيتين :
* ناحية الحث على كل ما هو في صالح الحياة .
* ومنع كل ما يهددها أو يضرها .
وفي هذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى :
"ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ، وعقلهم ، ونسلهم ، ومالهم . فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة".( المستصفى : ص : 174).
وقال أيضاً : "وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات ، فهي أقوى المراتب في المصالح" (المستصفى : ص : 174).
وما قرر العلماء للحياة هذه المرتبة إلا بناء على النصوص الكثيرة ، التي بنت بكثرتها للحياة، هذه الحصانة التي تحميها ، وتحفظها ، وتحقق مصالحها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، فأعادها مراراً ، ثم رفع رأسه فقال : اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت". (البخاري : 65 ، ومسلم : 3179).
وكما لا تخفى قداسة اليوم الحرام ؛ يوم عرفة ، ولا الشهر الحرام ؛ وهو ذو الحجة ، ولا البيت الحرام ، الذي جعله الله حرماً آمناً ، فكذلك نفس الإنسان المسلم من هذه المقدسات التي تستحق الأمان . وقد يبدو لأول وهلة أن الشريعة قدّست النفس المسلمة فقط ، بيد أن قول الله تعالى جاء ليفسر لنا أن الحياة كل الحياة مقدسة ، سواء كانت حياة مسلم أو غير مسلم ، وأخبر عز وجل أن : {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32). فقاتل نفس كقاتل كل الأنفس ، والمقصود من ذلك التشبيه "تهويل القتل ، وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعاً". (التحرير والتنوير في تفسير الآية). وهو تهويل يرمي إلى معالجة نفس المُقْدِم على انتهاك هذه النفس ؛ لأن "الداعي الذي يُقْدِم بالقاتل على القتل ، يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني ؛ الناشئ عن الغضب ، وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ – أي حق الحياة – وزجر النفس والنظر في عواقب الفعل من نُظم العالم ، فالّذي كان من حيلته ترجيح ذلك الداعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوماً إلى هضم الحقوق ، فكلّما سنحت له الفرصة قتل ، ولو دعته أن يقتل الناس جميعاً لفعل".( نفس المصدر).
ولم تقف الشريعة سعياً منها لحفظ حق الحياة على العلاج النفسي ، ومناشدة الضمير البشري فقط ، إذ وضعت من القوانين الزاجرة ، والعقوبات الرادعة ما هو كفيل بأن يحمي هذا الحق ، كما يدل عليه قوله تعالى :{وَ َلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.( البقرة: ١٧٩).
فهذا النص القرآني يحمي حياة الناس ؛ حين يبين لمن تسول له نفسه وتدفعه لحرمان غيره من هذا الحق ، بأنه يعرض حياته لما تحرص عليه من حق ، وبالتالي فإن "وجوب القصاص على القاتل وحده حياة له وللمعزوم على قتله فيحييان جميعاً"(تفسير العز بن عبد السلام للآية). إنها حماية لحياة العازم على القتل والمهدد به معاً.
وجدير بالذكر أن الذي يراعي أحكام الشريعة ، ينضاف إلى خوفه أن تهدر حياته بالقصاص ، خوف آخر يلحقه من العقاب الأخروي الذي يصدق به ، ويؤمن بحقيقته ، فيزداد حرصاً على حرص في تقديس الحياة .
والنفس الإنسانية التي حرم الله إهدارها ، لا تنحصر في نفس الغير ، بل نفس الإنسان أيضاً معصومة ، لا ينبغي الاعتداء عليها ، ولذلك حرم الإسلام الانتحار ، وتوعد صاحبه بأخطر وعيد ، وهدده أكبر تهديد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ؛ ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".(البخاري : 5333). لأن النفس هبة إلهية لا يصح لأحد أن ينتزعها بغير حق .
على أن الحياة التي يجب على المكلف احترامها ، لا تنحصر في حياة الإنسان ، وإن كانت هي الأهم ؛ إذ يجب عليه احترام كل حياة ، فيحترم حياة الحيوان ، ولذلك غفر الله لرجل بسبب كلب أنقذه ليس من الموت ، ولكن من العطش ؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن رجلاً رأى كلباً يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة".( البخاري : 168 ، ومسلم : 4162).
وكما رتب على هذا الفعل الحافظ للحياة الثواب والمغفرة في الدنيا والآخرة ، فبالمقابل – كما قال عليه الصلاة والسلام – :"عُذِّبت امرأة في هرةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".( البخاري : 3071 ، ومسلم : 4160).
وأكثر من ذلك فحياة النبات داخل في الأمر الإلهي ، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلةٌ فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل".( أحمد 12512 ، من حديث أنس بسند صحيح).
وهكذا وبموجب هذه النصوص ومثلها كثير ، كان طبيعياً أن نجد نص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان واضح التنصيص على هذا الحق بصيغته الإسلامية ؛ حيث قال : "الحياة هبة الله ، وهي مكفولة لكل إنسان ، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه ، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرعي" (م/ف2).
تلك إذن قيمة الحياة كما قررتها الشريعة الإسلامية ، حفظاً وحماية ، حتى جعلتها ضمن الضروريات التي يجب على الجميع حمايتها ، وقد تقرر عند الفقهاء : "أن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان".
على أن تكريم الإنسان لا يقف عند تكريمه حياً ، ويسعى لتكريمه حتى بعد مماته، بدءاً من الأمر بأن يوارى جسده في التراب : {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}عبس: (٢١). "أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ، ولم يجعله مطروحاً على الأرض يستقذره من يراه ، وتقتسمه السباع والطيور إذا ظفرت به كسائر الحيوان". (روح المعاني في تفسير الآية).
والحقيقة أن الإسلام لم يستر الجسم فقط ، بل ستر العرض أيضاً، وكما كرم الجسم فأقبره، راعى عرضه فستره. قال عليه الصلاة والسلام : "لا تسبّوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا".( البخاري : 1306، ومسلم :3/48).
حق الحرية:
وكما قررت المواثيق الدولية حق الحياة على النحو الذي تقدم ، قررت أيضاً مبدأ حريته في اختيار ما يروقه من أفكار وأديان ، وحريته فيما يتصرف فيه من الأموال ، وحمته ممن يعتدي على اعتقاده أو يعتدي على ماله ، أو على عرضه ، وكذلك نجد النصوص الدينية مقررة لها الحق على طريقتها من الوضوح والقوة والإعجاز.
إن الإنسان خلق مادة خاماً ، قبل أن تؤثر فيه المؤثرات ، كما قال عليه الصلاة والسلام : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". (البخاري : 1292، من حديث أبي هريرة).
وهذه المادة البشرية الخام التي خلق عليها الإنسان ليس لأحد أن يكرهها على ما لا ترضاه وتختاره في حياتها ، فلا تُكره حتى على الاعتراف لربها والتصديق به ، وإذا قال الله تعالى لخير البشر أن ليس من وظيفته إكراه الناس على الإيمان ، وإنما إرشادهم ، فغيره من باب أولى . قال تعالى :{أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يونس: ٩٩. وقال الله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} البقرة (آية:(256) وهي آية نزلت لما حاول بعض الناس الذين أسلموا ، ووجدوا ما في الإسلام من خير، أرادوا انتزاع أبنائهم من المدارس اليهودية حتى لا يدينوا باليهودية ، فنقل الطبري في تفسيره قول من قال : إن الآية نزلت "في قوم من الأنصار – أو في رجل منهم – كان لهم أولاد قد هوّدوهم أو نصّروهم ، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه ؛ فنهاهم الله عن ذلك ، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام".( تفسير الطبري). بالحرية لا بالإكراه. ولأن الآية جاءت في سياق آيات الجهاد ، وقد "يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام ، فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول ...". وتعقيب آية الكرسي بهذه الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأمم ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة ، المستقيم الشريعة ، باختيارهم دون جبرٍ ولا إكراهٍ". (التحرير والتنوير).
وبهذا إذا أخذنا الحرية مثلاً كقيمة وحق من حقوق الإنسان ، نجد التشريع الديني حفظها وحافظ عليها ، بينما ضيعها وأضاعها التشريع البشري ، فصار الإنسان يسترق الإنسان ، مع أن الحرية وحمايتها من المقاصد الشرعية ، لأن الحرية كما قال الطاهر بن عاشور : "وصف فطري نشأ عليه البشر ، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير".(أصول النظام الاجتماعي في الإسلام : ص : 165).
إن الحرية التي ولدت مع الإنسان ؛ وضيعها بشروده عن الشريعة ، جاء الإسلام مرة أخرى فعمل على تحرير الإنسان وفتح لذلك الأبواب على مصراعيها ، ولذلك علل الإمام النسفي وجوب عتق رقبة في حق من قتل نفساً خطأً ، بأنه كما "أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزِمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها ! من قِبَلِ أن الرقيق ملحق بالأموات !! إذ الرق أثر من آثار الكفر ، والكفر موت حكماً ، {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}.(الأنعام : 122).
إن الحرية مثلها مثل الحياة حق إلهي وهبه للناس ، لا ينبغي لأحد أن يسلبها بغير حق ، ومن ثم أرسها الفاروق كلمة عالية حقيقة ومجازاً ، وقال : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
ولكن الملاحظ اليوم ، أن الإنسان بالجملة أصبح مستعداً أكثر من ذي قبل للنظر إلى العالم ومقاربة المواضيع المقضة لمضاجعه بمنظار الدين ومقاصد الشرع .
وبعد أن تاه أسلافه في البحث عن المجتمع المثال المؤسس على الأخلاق المبنية على الفلسفات البشرية الشاجبة للدين ، حاول الإنسان المعاصر استدراك الأمر بعد أن فقد حريته في وعي واقعه ، وأخذ إحساس بالقصور يخامره جراء المشاكل المترتبة عن أخطائه داخل المعامل والمختبرات،وطواعية عاد إلى طرح أسئلة الهوية .
وأفضى به التفكير وفق مقاصد الشرع إلى الإقرار بالمواطنة الموسعة للإنسان ، والتي تصبح فيها الوقائع من لون وجنس وعرق ، خادمة للتنوع باحثة عن سياق للتوافق والجوار على الكوكب. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.(الحجرات: ١٣). فالتعارف – لا التقاذف – مقصد من مقاصد الشريعة ، وما كان من المقاصد ، فالشرع يشرع ما يحفظها ويحافظ عليها ، ويمنع ما يعوقها وما يضيعها .
لقد صار الإنسان المعاصر مؤمناً بعضويته في ساحة المجتمع البشري العام ، يتقاسم نفس الحقوق ، ويضطلع بنفس الواجبات ، مستعداً لتحمل جزء من مسؤوليته في الحفاظ على النوع من الهلاك ، وصوناً لكوكب الأرض من الدمار .
وكل ذلك الذي ذكر مرتبط برجوع ملحوظ إلى التدين وفق مقاصد الشرع بقدرٍ من الحرية مؤسس خارج فعل الإكراه ومستوٍ في إطار الكلمة السواء المحققة للأمن والشاجبة لسيطرة البشر على البشر وخضوع الإنسان لما كسبت يداه .
إن استدعاء الأديان لترسيخ ثقافة وقيم حقوق الإنسان في العالم المعاصر مدعاته ذلك الرجوع إلى التدين الذي ذكرنا ، ويفسر هذا لجوء كثير من المنظمات الدولية إلى الاستشهاد عن أفكارها بما يؤسس لها في النصوص المقدسة في الأديان السماوية والشرائع الفلسفية ، وهذا العمل فيه إقرار بكون الأديان هي خزان القيم الخالدة الذي لا ينضب ، كما أن مؤسساتها هي أنسب المؤسسات وأقواها فاعلية في التأسيس للأفكار الحية في المجتمع الإنساني .
والحديث عن دور المؤسسات الدينية في ترسيخ قيم حقوق الإنسان في منظومتنا الإسلامية يدعونا إلى التساؤل عن هذه المؤسسات الدينية التي يمكن لها القيام بهذا الدور الفاعل .
وللوهلة الأولى ينصرف الذهن إلى المؤسسات الدينية التابعة لوزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في عالمنا الإسلامي ، من مساجد ومجمعات ثقافية وأندية ومكتبات ومؤسسات خيرية ومنابر إعلامية ... غير أننا إذا أمعنّا النظر ، وجدنا أن المؤسسة الدينية في البلد المسلم ليست تنحصر فيما ذكر فقط ؛ إذ أن نظام الدولة وطبيعة الحكم فيها ينبثق من الإسلام بالتصريح ، وعليه تتسع هذه المؤسسات الدينية في الدولة الإسلامية لتشمل كل المجالات الحياتية الواقعة تحت مراقبة ولي الأمر المسلم .
وتلك المجالات الحياتية هي التي تقوم الدولة لتحفظ للمواطن المصالح المؤسسة على المقاصد الخمسة للشريعة ، وتحقق لديه الأمان والطمأنينة والاستقرار ، وتكفل له الحقوق الواجبة للفرد المسلم ، وترسم حدود فِعله في مجتمعه بما تسن له من واجبات .
وعليه فإن المؤسسة الدينية في البلد المسلم حاضرة في التربية والعدل والثقافة والدفاع والمالية وكل المجالات التي يرعاها ولي الأمر وفق الشريعة .
ولكي نحدد أكثر نقول : إن قيم حقوق الإنسان ترسخ في البلد المسلم عبر كل المسارات التي يحضر فيها الإسلام ويستحضر وجوباً .
وهذه القيم تُرسخ في المنظومة التربوية من خلال ما يقدم في البرامج التعليمية من قيم إسلامية تُشيع روح العدالة والتسامح وثقافة التعارف والحق بالاختلاف الفكري ، وشجب الحظ من قيمة الآدمية ، وبما تشيعه من قيم تكريم الإنسان وبيان حقه في التملك والتجول وحرية التعبير، وشجب التفاضل باللون والجنس والعرق ، والحق في العيش ، والحق في العمل ، والحق في أجر مجز ، والحق في بناء أسرة ، وبما تشيعه تلك البرامج التعليمية من ضرورة تكريم المرأة وعدم مصادرة حقوقها ، واحترام حقوق الأطفال ...
كما أن قيم حقوق الإنسان تُعمل في البلد المسلم في مجال العدل من خلال القوانين المسنونة والحقوق المكفولة ، وفي نظام الأسرة المؤسسين وفق الشريعة .
وتُرسخ نفس حقوق الإنسان في مجال الصحة في أنظمة الوقاية والتكافل الاجتماعي والحماية الصحية والبيئية المؤسسين وفق تعاليم الشرع الحنيف .
وهي كذلك تُرسخ في مجال المالية عبر قوانين المحافظ على المال العام ، وفي أنظمة المعاملات المالية والمصرفية ، وفي قوانين الصناديق التكافلية ، وفي قوانين صناديق بيوت الزكاة الكافلة لاستثمار أموال الزكاة استثماراً يعم خيره فقراء البلد المسلم بقصد توفير الكرامة لذوي الاحتياج ورفع الحوج عنهم ، وفي صناديق المحافظة على أموال القاصرين وفي أنظمة التأمين .
كما أن حقوق الإنسان تُرسخ في البلد المسلم في مجال الاقتصاد في القوانين الكافلة لحرية التملك والقوانين الشاجبة للاحتكار والشاجبة لكل ما يمكن أن يُلحق الضرر بالمجتمع المسلم ، أفراده وجماعاته .
ونفس حقوق الإنسان ترسخ في المجتمع المسلم في مجال الأنظمة الاجتماعية في القوانين الكافلة لذوي الاحتياج والإعاقة والقصر وفي أنظمة التكافل .
وتُرسخ في مجال الدفاع فيما يمكن أن يسن من قوانين تجعل حق الدفاع عن الوطن وحمايته من الأضرار مهمة واجبة على كل فرد من المجتمع ..
وتُرسخ في مجال الثقافة في الخطط الثقافية المتبناة ، والتي ينبغي أن تهدف إلى تمنيع الفرد والمجتمع وتحصينه وتنمية قدراته الفكرية بما يخدم تمثله لمرامي حقوق الإنسان بقصد تفعيلها .
وعلى هذا فإن حقوق الإنسان المرجو ترسيخ قيمها في المجتمع المسلم هي في الحقيقة حاضرة في كل مناحي الحياة بشكل انسيابي ؛ إذ ترعاه مؤسسة دينية قائمة من خلال ميثاق بين الجماعة وولي الأمر .
ووفق هذا التصور فإن تأسيس المصالح في المجتمع الإسلامي وحمايتها يتم أفقياً استناداً إلى الدين الإسلامي .
وهكذا يُحفظ للفرد المسلم دينُه ونفسه وعقله وعرضه وماله ، وخلال هذه الأصول الخمسة تندرج حريات وترتسم حقوق ؛ فيحفظ بحفظ الدين النظام والقانون ، وتحمى الحياة بحماية النفس ، فيُحافَظ على البيئة ، ويُجرم القتل ، ويُمنع الاعتداء على الأبدان ، ويتم الزجر عن انتهاك الكرامة الإنسانية في السلم والحرب .
أما في حفظ العقل ، فيُكفَل الحق في التعبير والتفكير وإبداء الرأي .
وأما في حفظ العرض والنسل فيُكفل للمرء المسلم الحق في التزوج (وفق ضوابط الشرع وحدوده) والحق في التناسل والتمتع بالرعاية الأبوية ، وتُجرم الإبادة وقتل النفس وإزهاق الأرواح التي حرم الله إلا بالحق . وبحفظ المال يُكفل حق الفرد في الكسب والتملك .
ووفق نفس الميثاق بين الجماعة وولي الأمر يُكفل للفرد المسلم ما يسميه الفقهاء بالحوائج الأصلية ، والتي تشمل حقه في المأكل والملبس والمشرب والمركب، كما تُكفل له باقي الحقوق التحسينية ، مثل حقه في قدر من الرفاهية يحقق للفرد المسلم توازناً فكرياً يمكنه من إدراك الشرع إدراكاً قائماً على الوسطية والاعتدال وخدمة الصالح العام .
وبموجب نفس الميثاق السالف الذكر يُقَرّ ويُتعارف داخل البلد المسلم على ما به تُصان الحقوق المكفولة (قوانين ، أنظمة جزاء ، وعقوبات ..).
على هذا ترسيخ قيم حقوق الإنسان في المجتمع المسلم برسوخ الدين فيه تحت رعاية مؤسسة دينية نابعة من ميثاق بين المجتمع وولي الأمر المسلم .
ونظراً لانتشار الأفكار السالبة المستغلة للدين والمؤسسة للتطرف ، والتعصب ، وكراهية الآخر فقد وجب وفق الميثاق المؤسس على الشرع ، والذي يرعاه ولي الأمر في البلد المسلم حماية المجتمع الإسلامي من كل ما من شأنه مصادرة حقوق الفرد والجماعة .
وهنا يكون للمؤسسات التابعة لقطاع الشؤون الإسلامية والدعوة بالغ الأثر في تحقيق التوازن وإشاعة الفكر المعتدل الوسطي وتمنيع المواطنين أفراداً وجماعات وتحصينهم ، وذلك عبر :
- دورات الوعظ والإرشاد .
- والخطب المنبرية في الجُمَع والأعياد .
- والوصلات التلفزيونية والإذاعية .
- وفي الإعلام المقروء .
لكن تعميق الوعي بحقوق الإنسان في الإسلام يتم بشكل سريع عبر "مؤسسة المسجد" ، التي تشكل ميداناً يَعْمُرُه المواطنون بشكل طوعي رغبة في الثواب وبحثاً عن استقرار روحي وعن الطمأنينة ، وتلبية لنداء الإيمان .
وتجدر الإشارة إلى أن ساحة المسجد ساحة مفتوحة تهوي إليها أفئدة الموطنين من أبناء البلد وغيرهم من الوافدين إليه من الأجانب الذين قُدر لهم مساكنة أهله ، وكلا الفريقين معني بوعي قيم حقوق الإنسان وما توفره لهما من الواجبات ودوائر الخير .
كما أن هذين المكونين من المجتمع قلما يلتقيان على نفس الدرجة من التساوي الذي يلتقيان عليها في بيوت الله تحت رقابة الله عز وجل ، ويبقى على القائمين على الشأن الديني في البلد المسلم استثمار هذا اللقاء الإيجابي لبناء علاقات المودة والتسامح والاعتراف بما يقدمه كل طرف للطرف الآخر من خير ، وتعميق الوعي بضرورة التنوع الثقافي وبأحقية التعبير عن الرأي وضرورة التكافل والتكامل على ما تقتضيه مهمة تحمل أمانة الاستخلاف .
إن الخطب المنبرية والمواعظ المقدمة داخل بيوت الله ينبغي أن تحرص على إبراز مقاصد الشرع وانعكاسات مراعاتها على حياة الأفراد والجماعة في البلد المسلم ؛ بمعنى آخر ينبغي أن تبين للمؤمنين مصالح قيم حقوق الإنسان في الإسلام وفق نصوص الشرع الحنيف .
لقد كان للمساجد في التاريخ الإسلامي دورها التثقيفي التعليمي ، فيها نشأت الدولة وعبرها انتشرت الحضارة الإسلامية كحضارة بانية مشيعة لقيم الحرية والعدل والتسامح واحترام حقوق الغير .
إن على القائمين على الشؤون الإسلامية في البلدان الإسلامية تجديد دور المسجد باعتباره مدرسة لتثقيف المسلمين وتنويرهم وتحصينهم وتعريفهم بحقوقهم التي يكفلها لهم الشرع.
إن دعم وظيفة المسجد في المجتمع ، والسهر على انتقاء الأئمة والخطباء الأكفاء أمر في غاية الأهمية ، كما أن رسم برامج دعوية تعرف المواطنين بحقوقهم وتيسر لهم فهم القضايا الكبرى التي تطرأ على العالم ، وسبل تفعيل القيم الإسلامية من أجل درء المخاطر ، والمحافظة على التوازن في شخصية المسلم ، مما ينبغي الحرص عليه .
وبتكامل مع مؤسسة المسجد ينبغي الاهتمام بترسيخ قيم حقوق الإنسان في المدرسة والمناشط الدينية ، وهما مكانان ينبغي فيهما التنشئة على حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية ، فكما أن الوعي بضرورة حقوق الإنسان يمر عبر التعريف والتحسيس ، فإن التنشئة على حقوق الإنسان تقوم على التلقين والتعليم .
ولذلك تعرف منظمة العفو الدولية مسألة التربية على حقوق الإنسان كما يلي :
"التربية على حقوق الإنسان هي سيرورة يتعلم الناس من خلالها عن حقوقهم وحقوق الآخرين ضمن إطار من التعلم الذي يقوم على المشاركة والتفاعل .
والتربية على حقوق الإنسان تعني بتغيير المواقف والسلوك وتعلم مهارات جديدة وتعزيز تبادل المعارف والمعلومات . وهي عملية طويلة الأجل ، تهدف إلى خلق فهم للقضايا وتسليح الأشخاص بالمهارات للتعبير عن حقوقهم ونقل هذه المعرفة إلى الآخرين".
وبناء على هذا التعريف فإن التربية على حقوق الإنسان ليست تربية معرفية ، بل إنها تربية قيمية يتعين تفعيلها في سلوك المتلقين بمجرد الوعي بها . وعليه وجب على القائمين على الشأن الديني والتربوي تنسيق الجهود من أجل توفير برامج تساير كل الأعمار من التعليم الأولي في مراكز التحفيظ والمعاهد الدينية إلى التعليم في الجامعات تشيع الوعي بحقوق الإنسان في الإسلام ، وترعى متابعة تفعيلها من طرف المتلقين . ويمكن في هذا المجال الاستعانة بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة في تقديم مواد ترسخ قيم حقوق الإنسان وتتوجه لكل فئة مستهدفة بمنهج خاص ومواد خاصة .
نصوص ذات صلة بالتربية على حقوق الإنسان :
ومهما يريد المرء حصر النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية التي تزرع في المسلم التربية على حقوق الإنسان ، فلن نستطيع ذلك في مثل هذه المناسبة ، ولذلك حسبنا جملة منها نقبضها في هذا المقام ، وندعها بلا تعليق ؛ لأنها ناطقة عن نفسها بنفسها – ولا غرابة في ذلك وهي وحي – ، وكلها تدعو وتربي على المبادئ والقيم الحقوقية :
- قال تعالى : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} الحج: (٤١).
- وقال:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ }. (الملك: ١٥).
- وقال:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.(الأنفال: ٦١).
- وقال:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}. (النساء: ٥٩).
- وقال:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. (البقرة: ٢٥٦).
- وقال:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ}.(المائدة:٤٩).
- وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً }. (النساء:١).
والآيات في ذلك كثيرة ، وأما الأحاديث النبوية ، فنقرأ فيها قوله عليه الصلاة والسلام :
- "لا فضل لعربيّ على عجميّ ، ولا لعجميّ على عربيّ ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". (أحمد : 22391).
- وقال صلى الله عليه وسلم:"كلكم لآدم وآدم من تراب".(الترمذي : 3193، وأحمد : 3891).
- وقال صلى الله عليه وسلم :"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا".
ونكتفي بهذا بغية الاختصار ، ونختم بقول الله تعالى :{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.(الحديد: ٢٥). ؛ بحيث تضمن الإخبار بأن الهدف الجامع والمقصد المشترك لإرساله كافة الرسل ، ولما أنزله معهم من الحجج والكتب والموازين ، إنما هو إقامة القسط بين الناس ، وإقامة الحياة كلها على القسط . وكلمة القسط هدفاً كلياً كونياً ثابتاً ، مجمعاً عليه بين الأمم والملل ، قال الإمام البخاري في آخر باب من أبواب صحيحه :"باب قول الله تعالى :{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً}.( الأنبياء: ٤٧). ... وقال مجاهد : القسطاس : العدل ، بالرومية . ويقال : القسط : مصدر القاسط وهو العادل".
وبهذا يتبين أن الجهود البشرية والتشريعات السماوية يمكنها السير جنباً إلى جنب لتثبيت وحماية هذه الحقوق ، عملاً بقوله عليه السلام : "ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت".
فإذا كان الناس اليوم يتحدثون عما يسمى بالقيم الكونية ، فإننا من خلال الثوابت الدينية عبر العصور ، نستطيع أن نتحدث عن القيم والمبادئ الأزلية الأبدية، وهي أساس للترقي والتحضر ، وأساس للتفاهم والتحالف بين الحضارات.
المصدر:
http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=168093