في فكرة الاجتهاد الجماعي : تاريخاً وواقعاً

قطب مصطفى سانو

أستاذ مشارك بقسم الفقه وأصول الفقه

الجامعة الإٍسلاميَّة العالميَّة بماليزيا

 

تقديم الدراسة:

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

ما فتئ الواقع الإسلاميُّ الراهن يؤكِّد يومًا بعد يومٍ ضرورة الانتقال من اجتهاد الفرد إلى اجتهاد الجماعة عند التعامل مع النوازل والتحدِّيات الفكريَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة التي تواجه الوجود الإسلاميَّ المعاصر، فحجم تلك التحدِّيات والنوازل أكبر من أن يُتصدَّى لها باجتهادات فرديَّةٍ متسمَّة بالمحدوديَّة والجزئيَّة.

 

وقد شهدت الساحة الفكريَّة في الآونة الأخيرة ظهور العديد من الدراسات والأبحاث العلميَّة والمؤلَّفات المتنوعة حول أهميَّة الاجتهاد الجماعيِّ وحجيَّته ومؤسَّساته في العالم الإسلاميِّ، كما عقدت ندوات ومؤتمرات حول سبل تفعيل الاجتهاد الجماعيِّ في هذا العصر، ولا تزال الأيام حبلى بمزيدٍ من الدراسات العلميَّة المنهجيَّة حول مختلف جزئيَّات هذا الجانب من الفكر الاجتهاديِّ المعاصر.

 

إنَّ النظر المتفحص في سائر الدراسات والأبحاث العلميَّة الحديثة التي عني أربابها بشيء من الحديث عن نشأة فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في حياة الجماعة الإسلاميَّة، يهدي المرء إلى القول بأنَّ ثمَّة حاجةً ماسَّةً إلى دراسةٍ منهجيَّةٍ علميَّةٍ متكاملةٍ تكشف الغطاء عن المراحل التاريخيَّة التي مرَّت بها عبر تاريخنا الإسلاميِّ، وصولاً إلى تأصيل القول في سبل إعادة توظيفها كأهمِّ آلةٍ لمجابهة النوازل الفكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة التي تعمُّ بها البلوى وتمسُّ حياة عموم الأمَّة أو السواد الأعظم منها.

 

إنَّه ليس من مرية في أنَّ ثمَّة ندرةً في تلك الدراسات والأبحاث والمؤلَّفات العلميَّة الحديثة التي تعنى بتقديم تحليلٍ علميٍّ منهجيٍّ مركَّز متكاملٍ عن المراحل التاريخيَّة مرَّت بها فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في تاريخنا الإسلاميِّ، كما أنَّ هنالك تجاوزًا غير مقصود من لدن معظم الكاتبين المعاصرين في الفكر الاجتهادِّ عن تحقيق القول في طبيعة الاجتهادات التي تنسبها المدوَّنات الأصوليَّة إلى الرسول الأعظم r من حيث الفرديَّة والجماعيَّة، وفضلاً عن ذلك، فإنَّ ثمَّة حاجةً علميَّةً ضروريَّةً إلى تصحيح ذلك التصور الذي بات شائعًا لدى عامَّة الباحثين في الاجتهاد الجماعيِّ عن اعتدادهم بعصر الراشدين كعصر تأسيسٍ لفكرة الاجتهاد الجماعيِّ، وليس عصر الرسالة.

 

لهذا كلِّه، فإنَّ هذه الدراسة المتواضعة تأتي لتحاول تحرير القول بصورةٍ منهجيَّة حول المراحل التاريخيَّة التي مرت بها فكرة الاجتهاد الجماعيِّ، بدءً بتحقيق القول في مكانتها في عصر الرسالة بوصفه عصر تأسيس الفكرة في حياة الجماعة الإسلاميَّة، ومرورًا بتأصيل القول في مكانتها في عصر الخلافة الراشدة، وعروجًا على ما آل إليه شأن العمل بالفكرة بعد عصر الراشدين، ووقوفًا عند الواقع الفكريِّ الذي تعيش فيه الفكرة في العصر الراهن، وانتهاءً بإبراز سبل النهوض بالفكرة في هذا العصر.

 

وبناءً على هذا، فإنَّ هذه الدراسة تتكوَّن من أربعة مباحث، يعنى أولها بتأصيل القول في فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في عصر الرسالة، وأما المبحث الثاني، فيتناول حديثًا عن فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في عصر الراشدين، وأما المبحث الثالث، فيحاول إلقاء الضوء على فكرة الاجتهاد الجماعيِّ بعد عصر الراشدين، وأما المبحث الرابع، فيتناول فكرة الاجتهاد الجماعي في العصر الراهن وسبل النهوض بها. المبحث الأول : فكرة الاجتهاد الجماعيّ في عصر الرسالة يختلف كثير من الباحثين المعاصرين إلى تعريف الاجتهاد الجماعيِّ في هذا العصر بأنَّه عبارة عن "..اتِّفاق أغلبيَّة المجتهدين في نطاق مجمعٍ أو هيئةٍ أو مؤسَّسة شرعيَّة ينظِّمها ولي الأمر في دولة إسلاميَّة على حكم شرعيٍّ عمليٍّ لم يرد به نصٌّ قطعيُّ الثبوت والدلالة بعد بذل غاية الجهد فيما بينهم في البحث والتشاور.."[1]، وبتعبير آخر عند الدكتور الخليل العيد يراد به ".. اتفاق أغلب المجتهدين من أمَّة محمدٍ في عصر من العصور على حكم شرعيٍّ في مسألةٍ.."[2]. وثمَّة باحثون آخرون يذهبون إلى تعريفه بأنَّه عبارة عن " تخصيص مهمة البحث واستنباط الأحكام بمجموعةٍ محدودةٍ من العلماء والخبراء والمتخصصين، سواء مارسوا ذلك بالشورى المرسلة أم في مجلس يتشاورون فيه ويتداولون حتى يصلوا إلى رأي يتفقون عليه، أو ترجِّحه الأغلبيَّة، ويصدر قرارهم بالشورى، ولكنَّه يكون في صورة فتوى.."[3] وينتهي طائفة رابعة من الباحثين إلى تعريفه بأنَّه عبارة عن ".. استفراغ أغلب الفقهاء الجهد لتحصيل ظنٍّ بحكمٍ شرعيٍّ بطريق الاستنباط، واتفاقهم جميعاً أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور.."[4].

 

وثمَّة تعاريفُ عديدةٌ، أوردها باحثون معاصرون، بيد أنَّ المقام لا يتسع لسردها، ويكفينا أن نبادر إلى تقرير القول بأنَّ مرمانا بالاجتهاد الجماعيِّ في منظور هذه الدراسة يختلف عن التعريفات الآنف ذكرها، فالاجتهاد الجماعيُّ في تصورنا المتواضع عبارة عن:

 

" .. العمليَّة العلميَّة المنهجيَّة المنضبطة التي يقوم بها مجموع الأفراد الحائزين[5] على رتبة الاجتهاد في عصرٍ من العصور من أجل الوصول إلى مراد الله في قضيةٍ ذات طابعٍ عامٍّ تمسُّ حياة أهل قطر،ٍأو إقليم،ٍأو عموم الأمَّة، أو من أجل التوصل إلى حُسْنِ تنـزيلٍ لمراد الله في تلك القضية ذات الطابع العام على واقع المجتمعات والأقاليم والأمَّة.. " [6].

 

فالاجتهاد الجماعيُّ وفق هذا المنظور، ليس اتفاق أغلب المجتهدين على حكم شرعيٍّ، ولكنَّه وسيلة إلى تحقيق اتفاق المجتهدين جميعًا أو أغلبهم على حكم مسألةٍ من المسائل، كما أنَّ الاجتهاد الجماعيَّ يعتبر مقدِّمةً ينتج عنه تحقيق الإجماع القطعيِّ أو الظنيِّ في المسائل العامَّة دون سواها، مما يعني بأنَّه ليس صنو الإجماع الذي يعتبر في حقيقته أحد نتائج الاجتهاد الجماعيِّ، فالناتج عن الاجتهاد الجماعيَّ لا يخلو أن يكون اتفاق جميع المجتهدين على رأي، أو يكون اتفاق أغلبهم، فإن كان الأول سمِّي إجماعًا، وإن كان الثاني سمِّي إجماع الأكثريَّة أو إجماع الأغلبيَّة، وفي كلتا0 الحالتين، لا يعتبر الاجتهاد الجماعيّ اتفاقًا. وأضف إلى هذا أنَّ الاجتهاد الجماعيَّ في تصورنا لا ينبغي له أن يلج كلَّ المسائل الخاصَّة والعامَّة، وإنَّما ينبغي أن يغشى المسائل العامَّة التي تعمُّ فيها البلوى، ولا تطيق التعدديَّة والاختلاف، وتحتاج إلى توحيد كلمة الأمَّة ورأيهم فيها، وأما المسائل الخاصَّة المتعلقة بالأفراد، فإنَّ الاجتهاد الجماعيَّ لا ينبغي له أن يشملها بالتحقيق والدراسة، وبدلاً من ذلك، فإَّنه يجب أن يترك فصل الأمر فيها للاجتهادات الفرديَّة الصائبة التي تقدِّر لكلِّ حال الحكم الذي يناسبه ويتناسب معه.

 

وإضافةً إلى ما سبق، فإنَّ الاجتهاد الجماعيَّ في منظور هذه الدراسة، لا يتوقف عند تحصيل الظنِّ بحكم شرعيٍّ في المسائل العامَّة المرتبطة بالمجتمع، فحسب، ولكنَّه يعنى بتحصيل الظنِّ بسبل تنـزيل مراد الله في واقع المجتمعات، وتوقيع تعاليم الإسلام على الحياة العامَّة، كما أنَّه في تصورنا لا يتوقف عند المسائل المستجدة في حياة الأمة، ولا بدَّ له من أن يلج بالمراجعة والتحقيق والدراسة سائر الاجتهادات السابقة إزاء المسائل العامَّة القديمة والمستجدَّة والتي وردت فيها نصوص ظنيَّة في دلالتها أو ثبوتها، أو لم ترد فيها نصوص مطلقًا، تطبيقًا لمبدأ القاعدة الفقهيَّة العريقة التي تقرِّر بأنَّ الفتوى (=الآراء الاجتهاديَّة) تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف.

 

وإذ الأمر كذلك، فإنَّنا نخلص إلى تقرير القول بأنَّ الاجتهاد الجماعيَّ بهذا المفهوم، يبتغي تحقيق غايتين أساسيَّتين، أولاهما: تحديد وضبط مراد الشارع الكريم من المسائل العامَّة بصورةٍ واضحةٍ، وأما الغاية الثانية، فتتمثَّل في البحث عن سبل تنـزيل مراد الشارع من المسائل العامَّة وتفعيل حياة الناس بتعاليم الإسلام.

 

وإذا تبدَّى لنا، فإنَّنا نعود فنقرِّر بأنَّه إذا كان من المعلوم أنَّ البحث عن تاريخ نشأة الأفكار الإسلاميَّة في تاريخنا الإسلاميِّ، يبتدئ ويرتبط -دومًا وأبدًا- بالعودة المباركة إلى تاريخ بعثة رسول الله r قصد التعرف على مدى وجود تلك الأفكار والمنطلقات في حياته r انطلاقًا من كونه عصره عصر تكوين وتأسيس جميع القضايا والأحكام والمنطلقات الإسلاميَّة، لهذا، فإنَّ ضبط مرحلة تأسيس وتكوين فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في الحياة الإسلاميَّة، ينبغي أن يبتدئ بالتحقق من مدى وجود هذه الفكرة في عصر الرسالة، وذلك من خلال التأمل والتمعن في طبائع الاجتهادات[7] التي لا تفتأ المدوَّنات الأصوليَّة تنسبها إلى رسول الله r فإذا ألفينا تلك الاجتهادات اجتهاداتٍ فرديَّةً في طبائعها، لذنا بالقول بأنَّ عصر الرسالة خلا من الاعتداد بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ؛ وأما إذا دقَّقنا النظر في تلك الاجتهادات ووجدناها اجتهاداتٍ جماعيَّةً في معظم الأحيان، فإنَّنا سننتهي إلى القول بأنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ نشأت وتكوَّنت في ذلك العصر المبارك .

 

وانطلاقًا من هذا، فإنَّنا نقرِّر بأنَّه بالرجوع إلى واقع التجربة النبويَّة الخالدة ومنهج القيادة النبويَّة المثلى في التعامل مع النوازل الفكريَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي كانت تعمُّ بها البلوى ولم تغشها نصوص الوحي بالتفصيل والتحقيق والتوضيح، نجد أنَّه منهجًا قائمًا على تحاور وتشاور المصطفى r أهل العلم والمعرفة من الصحب، واستجلائه آراءهم ووجهات نظرهم حول النوازل العامَّة، بغية تكوين رأي جماعيٍّ سديدٍ إزاءها.

 

وتثبيتًا لهذا الأمر، فإنَّه يكفينا إلقاء نظرةٍ متفحصةٍ في كتب السير والمغازي والملاحم والأصول، فسنجد ثمَّة اتفاقًا بين هذه المصادر أنَّ رسول الله r لم يكن ينفرد برأيٍ في سائر المسائل والنوازل التي كانت تعمُّ بها البلوى في عصره والتي كانت تستهدف القضاء على وجود الجماعة الإسلاميَّة حديثة التكوين بطيبة الطيِّبة؛ فقرار خروجه r إلى غزوة بدر واختيار ملاقاة العدو بدلاً من ملاقاة العير[8] ، كان التزامًا منه بذلك الرأي الذي ترجَّح لدى غالبيَّة الصحابة الذين شاورهم وحاورهم في هذه النازلة؛ كما أنَّ قبوله r رأي القائلين من أصحابه -رضي الله عنهم- بالنـزول عند أدنى ماء من بدر، كان ذلك أيضًا منبثقًا عن الالتزام بالرأي الذي ترجَّح عند عامَّة أهل العلم والدراية بشؤون العسكر والحرب[9].

 

وأما مشاورته r أصحابه فيما ينبغي أن يفعل بأسرى بدر[10] من كبار وصناديد قريش، فإنَّه تأكيدٌ وتقريرٌ لمنهجه الجماعيِّ r في التعامل مع النوازل العامَّة. وأما تحاوره وتشاوره r أصحابه في الخروج لملاقاة قريش في غزوة أحدٍ بدلاً من البقاء في المدينة المنوَّرة -حماها الله- [11]، فلا يعدو من أن يكون تقريرًا وتأكيدًا لانتهاجه r المنهج الجماعيَّ في التعامل مع النوازل العامَّة.

 

وأضف إلى هذا كلِّه، فإنَّ مشاورته ومحاورته r أصحابه حول سبل مواجهة تهديدات قريش وحلفائها في الجزيرة في غزوة الخندق[12]، لا تعدو أن تكون تأكيدًا للمنهج الجماعيِّ الذي كان يتبعه في مواجهة النوازل والأزمات العامَّة. وأما تراجعه وتنازله عن رأيهr في مصالحة بني غطفان على ثلث ثمار المدينة مقابل رجوعهم عن غزو المدينة مع الأحزاب [13]، فقد تمَّ ذلك أيضًا عبر منهج جماعيٍّ نصطلح عليه في هذه الأيام بالاجتهاد الجماعيِّ .

 

وبناءً على هذه النماذج الحيَّة من اجتهاداته r ومثيلاتها في السيرة النبويَّة العطرة، فإنَّه ليس هنالك من ريبٍ في تقرير القول بأنَّ الاجتهادات التي تنسبها المصنَّفات الأصوليَّة إلى رسول الله r كانت اجتهاداتٍ جماعيَّةً قائمةً على تشاور وتحاور أهل العلم والمعرفة والدراية من الصحابة، حيث إنَّه كان r يطرح القضيَّة عليهم، ويحاورهم ويشاورهم فيما ينبغي فعله، وذلك قصد الوصول إلى مراد الله في هذه المسائل العامَّة، وقصد تنـزيل مراد الله من تلك المسائل . وتأسيسًا على هذا، فإنَّنا نستطيع أن نقرِّر -بكلِّ اطمئنانٍ- بأنَّ اجتهاداته r في المسائل العامَّة كانت اجتهاداتٍ جماعيَّةً، ولم تكن فرديَّةً، إذْ إنَّه لم يكن وحده r هو الذي يتصدَّى للفصل في النوازل العامَّة التي كانت تنـزل بساحتهم، كما أنَّ الصحب الكرام -رضوان الله عليهم- كانوا شركاء له في البحث عن المراد الإلهيِّ في تلك النوازل .

 

على أنَّه من الجدير بالتقرير في هذا المقام أنَّ هذا القول لا يتعارض مع وجود اجتهاداتٍ فرديَّة مأثورةٍ عنه r كما هو الحال في اجتهاده في قضيَّة عبد الله بن أم مكتوم وغيرها، ولكنَّه من الملاحظ أنَّ الطابع الغالب على تلك المسائل كونها مسائل فرديَّة وخاصَّةً ببعض الأفراد، مما جعله r يجتهد فيه دون تحاور العالمين من أصحابه، فضلاً عن أنَّ كون المسألة فرديَّة لا يحتاج فيها إلى استشارة عددٍ من أهل العلم من الصحابة. وبطبيعة الحال، فإنَّ تصدِّيه r بنفسه للاجتهاد في بعض المسائل الفرديَّة، تأصيلٌ وتأكيدٌ في الوقت نفسه على ضرورة الابتعاد عن فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في البتِّ في المسائل الخاصَّة التي ترتبط ببعض الأفراد في المجتمع .

 

ومهما يكن من شيءٍ، فإنَّنا نعود، فنقرِّر بأنَّه لئن جاز لنا أن نؤرِّخ لتاريخ نشأة هذه الفكرة في الحياة الإسلاميَّة، فإنَّنا سنقرِّر بأنَّها نشأت في عصر الرسالة خلافًا لما يذهب جمهرة الباحثين والكاتبين في تاريخ الاجتهاد الجماعيِّ في هذا العصر. إذْ إنَّ معظم أولئك الباحثين -إن لم يكن كلهم- لا يزالون يعتبرون عصر الراشدين عصر تأسيس وتكوين فكرة الاجتهاد الجماعيِّ[14]، والحال أنَّ عصر الراشدين لا يعدو أن يكون امتدادًا طبيعيًّا لعصر الرسالة، كما لا يعدو أن يكون تطبيقًا عمليًّا لتوجيهات ومنطلقات عصر الرسالة، ولذلك، فاعتباره العصر الذي ابتدأ فيه العمل بهذه الفكرة، فيه إجحافٌ وقفزٌ على الحقيقة التاريخيَّة التي تشهد -بجلاءٍ- كون عصر الرسالة العصر الذي ابتدأ فيه العمل الحقيقيُّ بهذه الفكرة في الحياة الإسلاميَّة. فمستندنا في اعتبار عصر الرسالة أول عصرٍ ظهر فيه العمل بهذه الفكرة، يقوم على الالتفات المبارك والتأمل الدقيق في طبائع وحقائق معظم تلك الاجتهادات المنسوبة إلى رسول الله r كما أثبتنا ذلك من قبلُ .

 

على أنَّه من الجدير بالتقرير بأنَّ جماعيَّة الاجتهاد تتمثل في الكيفيَّة وليست في النتيجة، فالاجتهاد الجماعيُّ -كما أسلفنا القول- وسيلةٌ من الوسائل الموصلة إلى تشكيل رأيٍ جماعيٍّ موحَّدٍ حول قضيَّةٍ من القضايا ذات الطابع العامِّ، كما أنَّه وسيلةٌ من الوسائل المعتبرة لتكوين رأي الأغلبيَّة أو الأكثريَّة في مسألةٍ من المسائل العامَّة، وذلك في حالة وجود خلافٍ بين المتحاورين والمتشاورين .

 

وبهذا، يتبيَّن لنا كون عصر الرسالة بشهادة تلك الاجتهادات المنسوبة إليه r العصر الأول الذي ابتدأ فيه العمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في الحياة الإسلاميَّة، وانصبَّ العمل بها في القضايا لمجابهة النوازل والقضايا المصيريَّة التي تعمُّ جميع أفراد المجتمع أو السواد الأعظم من المجتمع.

 

أجلْ، إنَّ انتهاج القيادة النبويَّة هذا المنهج في التعامل مع قضايا الأمَّة المصيريَّة، لم يكن القصد منه الصدور عن رأي جماعيٍّ في قضايا مصيريَّة فحسب، ولكنَّه كان القصد الأهمُّ منه تشريع هذا المنهج الجماعيِّ في التعامل مع المسائل والنوازل التي تعمُّ فيها البلوى، فضلاً عن تدريبه r الصحابة الحاضرين معهم آنذاك على اعتماد هذا المنهج الجماعيِّ عند صدورهم عن اجتهادٍ في المسائل العامَّة التي لم تغشها نصوص الوحي سواء أكانت تلك المسائل مسائل اعتقاديَّةً أم سياسيَّةً أم اجتماعيَّة أم اقتصاديَّة، ولهذا، فلا غرو أن تتخذ الخلافة الراشدة –بعدُ- هذا المنهج أساسًا في تسيير شؤون الأمَّة العامَّة، ولا عجب ألا يجدوا له بديلاً في حراستهم الدين وسياستهم الدنيا. المبحث الثاني : فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في عصر الراشدين اعتبارًا إلى أنَّ الصحب الكرام -رضي الله عنهم- وخاصَّة الخلفاء الراشدين كانوا حريصين على تعلم التجربة النبويَّة وتمثلها في تعاملهم مع النوازل العامَّة، وانطلاقًا من كون عصر الراشدين في حقيقته امتدادًا طبيعيًّا لعصر الرسالة، ومتابعةً عمليَّة لمنهاج النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، لذلك، يمكننا تقرير القول بأنَّ جيل الصحابة وخاصَّة أولئك الذين غدوا خلفاء راشدين، استوعبوا ذلك المنهج النبويَّ الجماعيَّ الأصيل في التصدِّي للنوازل والمسائل العامَّة التي داهمت ساحتهم بعد التحاق النبيِّ r بالرفيق الأعلى، كما أنَّهم أدركوا باقتدارٍ تلكم الآثار الإيجابيَّة التي نتجت عن الالتزام بذلك المنهج في القيادة والإدارة، من استتبابٍ للأمن والاستقرار والتضامن والترابط والتعاون بين أفراد المجتمع .

 

وانطلاقًا من أنَّ المدد السماويَّ للتوجيه المباشر إزاء بعض الأحداث والنوازل العامَّة والخاصَّة، توقف بوفاته -صلَّى الله عليه وسَّلم- والتفاتًا إلى اتساع رقعة دولة الإسلام ودخول أممٍ كثيرةٍ في الإسلام حاملين معهم ترسباتهم الفكريَّة وتراكماتهم المعرفيَّة الممزوجة بالغثِّ والسمين، فإنَّ الواقع الإسلاميَّ عاش مزيدًا من النوازل والأحداث الجسيمة التي كانت تتطلب حلاًّ جماعيًّا فوريًّا، ونتيجة لذلك، فإنَّه كان لا بدَّ من استحضار ذلك المنهج النبويِّ الأصيل للتعامل مع مختلف القضايا والمسائل التي كانت تعمّ بها البلوى . ومن هنا، كان صدور خليفة الرسولt ومن أتى بعده عن ذلك المنهج النبويِّ أمرًا لا بدَّ منه، وشأنًا لا مناص له ضمانًا لسلامة وحدة الأمَّة وترابط أبنائها وتضامن شعوبها .

 

وفضلاً عن ذلك، فإنَّ هنالك توجيهات نبويَّةً كريمة، تتضمن أمرهم وحثَّهم على ضرورة اتِّباع هذا المنهج الجماعيِّ في مواجهة المستجدات والقضايا العامَّة التي لا يجدون لها نصًّا صريحًا ولا توجيهًا نبويًّا واضحًا، وتنطبق هذه التوجيهات على ذلك الأثر الذي يروى عن أمير المؤمنين -علي بن أبي طالب- رضي الله أنَّه قال: قلت يا رسول الله إن عرض لي ما لم ينـزل فيه قضاء في أمره ولا سنَّة، كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقض فيه برأيك خاصَّة"[15] . إنَّ هذا التوجيه النبويَّ -على فرض صحة متن الأثر دون سنده- تأكيدٌ وتقريرٌ للمبدأ الذي يصطلح عليه بالاجتهاد الجماعيِّ الذي يستهدف الصدور عن رأي جماعيٍّ في القضايا والمسائل التي تعم فيها البلوى .

 

إنَّ نظرةً في المصادر التاريخيَّة وسيَر الخلفاء الراشدين، تزيدنا يقينًا بأنَّ الخلفاء الراشدين كانوا يمتثلون لهذا المنهج ويتبنونه في تعاملهم مع سائر القضايا والمسائل التي كانت تعمُّ بها البلوى، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم واصفًا طريقة أبي بكر في الحكم:

 

 

".. قال أبو عبيد في كتاب القضاء ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به، قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله r فإن وجد فيها ما يقضي به، قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أنَّ رسول الله r قضى فيه بقضاءٍ فربمَّا قام إليه القوم، فيقولون قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنَّةً سنَّها النبي r جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء، قضى به" [16].

 

ولم يكن أبو بكر الصديق وحده الذي ينتهج هذا المنهج في التصدِّي للنوازل العامَّة، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب t كان هو الآخر يصدر عن هذا المنهج النبويِّ في الحكم، ويصوِّر الإمام ابن القيم طريقة عمر في الحكم، فيقول:

 

" وكان عمر يفعل ذلك -يقصد مثل أبي بكر- فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة، سأل هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء، قضى به، وإلاَّ جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيءٍ، قضى به.."[17].

 

بل إنَّ عمر بن الخطاب t لم يكن يكتف بالالتزام بهذا المنهج، وإنَّما صيَّره منهجًا متبَّعًا في الحكم، ويصف الإمام الزهري -رحمه الله تعالى- مجلس الفاروق t فيقول:

 

"..كان مجلس عمر بن الخطاب t مغتصًّا من العلماء والقرَّاء، كهولاً وشبانًا - وربما استشارهم، فكان يقول: لا تمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه. فإنَّ الرأي ليس على حداثة السِّن ولا على قدمه. ولكنَّه أمرٌ يضعه الله حيث شاء.."[18] .

 

ويؤكِّد الإمام المالقي هذا المنهج عن الفاروق، فيقول: " روي عن عمر بن الخطاب أنَّه لم يكن ينفذ الأحكام في الغالب إلا بمجمعٍ من الصحابة، وحضورهم ومشورتهم مع علمه وفضله وفقهه وحسن بصيرته بمآخذ الأحكام وطرق القياس ومعرفة الآثار .."[19] ولم يكن يكتف بهذا المنهج لنفسه، وإنَّما روي عنه أنَّه كتب إلى عددٍ من أولئك الولاة يأمرهم فيه بالالتزام بهذا المنهج .

 

وأما أمير المؤمنين عثمان بن عفَّانt فلم يكن يختلف عن ابن الخطاب في هذا المنهج، ويؤكِّد هذا الأمر الإمام المالقي أيضًا، فيقول : "..نقل عن عثمان بن عفَّان أنَّه كان إذا جلس حضر أربعةً من الصحابة، فاستشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه .."[20] .

 

وبطبيعة الحال، ثمة روايات عن أمير المؤمنين على بن أبي طالبt تؤكِّد انتهاجه هو الآخر هذا المنهج في التعامل مع النوازل العامَّة، كما أنَّ آحاد الصحابة الذين تقلَّدوا الحكم والقضاء في الأقاليم الإسلاميَّة آنذاك، كانوا يصدرون عن هذا المنهج عند تعاملهم مع مستجدات ونوازل واقعاتهم المختلفة [21] .

 

وبناءً على هذا، فإنَّنا نفزع إلى تقرير القول بأنَّ انتهاء بعض الباحثين المعاصرين -كما أسلفنا القول- إلى إرجاع تاريخ بروز العمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ إلى العصر الراشدين ينبغي أن يصحَّح بتقرير القول بأنَّ بروز العمل بهذه الفكرة، يعود تاريخه إلى عصر الرسالةِ الذي يعتبر عصر تأسيس وتقرير للمنهج الجماعيِّ في القضايا والنوازل العامَّة التي لم يتعرض لها الوحي الصريح بتوجيه أو تحديدٍ.

 

وأما الوضع الذي آلت عليه فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في عصر الراشدين، فلا يعدو أن يكون - كما قرَّرنا من قبلُ- امتدادًا طبيعيًّا لما كانت عليه في عصر الرسالة، كما لا يعدو أن يكون تطبيقًا وتمثُّلاً للمنطلقات والمبادئ التي قامت عليها الدولة الإسلاميَّة في المدينة المنورَّة عند تكوينها على يد المصطفى r ولكنَّه من الحقيق بالتأصيل والتأكيد أنَّ استخدام هذه الفكرة واستحضارها تعمَّق وتكثَّف في عصر الراشدين أكثر منه في عصر الرسالة، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى ما شهدته الساحة الإسلاميَّة بعد التحاقه r بالرفيق الأعلى، من مستجدات ونوازل وأحداثٍ جسيمةٍ كانت تتطلب تكثيف العمل بالمنهج الجماعيِّ في التصدِّي لتلك النوازل والمستجدات، الأمر الذي جعل الخلفاء الراشدين يتوسَّعون ويكثرون من استخدام هذا المنهج الجماعيِّ لتوجيه نوازلهم العامَّة .

 

وفضلاً عن أنَّ نزول الوحي للفصل في المسائل والقضايا العامَّة المستجدَّة، توقف، وانتهى بوفاته r مما يعني أنَّ طريقة الوصول إلى مراد الله في المسائل العامَّة، انحصرت في المنهج الجماعيِّ دون سواه .

 

فبوفاته r انقطع المدد السماويُّ، وغدا الاجتهاد الجماعيُّ الذي تعلَّمه الصحب -رضوان الله عليهم- من الرسول الملهم r هو المنهج المعتمد للوصول إلى مراد الله في المسائل التي تعمُّ بها البلوى، ولهذا، فليس من عجبٍ أن يكثِّف الصحب من استخدام هذا المنهج واستحضاره في سائر الأحيان للبتِّ والتصدِّي للنوازل والأحداث العامَّة التي كانت تداهم حياتهم .

 

إنَّ تكثيف الصحب الكرام -رضوان الله عليهم- من استحضار هذه الفكرة في تدبير شؤون الأمَّة، هو الذي جعل معظم الباحثين في هذه المسألة يحسبون عصر الخلفاء الراشدين العصر الذي ابتدأ فيه العمل بهذه الفكرة.

 

وعليه، فإنَّنا نخلص إلى القول بأنَّ عصر الراشدين يمثِّل العصر الذي تعمَّقت فيه فكرة الاجتهاد الجماعيِّ، وتكثَّف فيه استحضار هذه الفكرة واستخدامها لتوجيه النوازل وفق المنهج المراد لله جلَّ في علاه . وصدق الإمام الجويني في وصفه لهذا العصر عندما قال في غياثه:

 

".. إنَّ أصحاب المصطفى r رضي الله عنهم ـ استقصوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيه متعلقًا راجعوا سنن المصطفى –عليه الصلاة والسَّلام- فإن لم يجدوا فيها شفاءً، اشتوروا، واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم، ثم استن بسنتهم من بعدهم.."[22] المبحث الثالث : فكرة الاجتهاد الجماعيِّ بعد عصر الراشدين لئن كان من الأمر المعروف أنَّ للرجال أعمارًا وأطوارًا وأقدارًا، فإنَّ للأفكار هي الأخرى أعمارًا وأطوارًا وأقدارًا، فبعض الرجال يعمَّرون، وبعض آخر لا يعمَّرون، ولكلِّ قدره، وكذلك الحال في الأفكار، فإنَّ ثمة أفكارًا تعمَّر، وهنالك أفكار أخرى لا تعمَّر، ولكلِّ قدرها. ومن المعلوم أيضًا أنَّ لظروف الزمان والمكان تأثيرًا وأثرًا غير منكورٍ في الأطوار التي تمرُّ بها الرجال، كما أنَّ لتلك الظروف أثرها على الأطوار التي تمرُّ بها الأفكار أيضًا.

 

ولئن تكوَّنت وتأسَّست فكرة الاجتهاد الجماعيِّ على يدي المصطفى r ثم ترعرعت وقامت على سوقها على أيدي خلفائه الراشدين، فإنَّها عانت بعد عصر الخلفاء الراشدين، وأثَّرت في مسيرتها الظروف والأحوال الاستثنائيَّة التي عاشها الواقع الإسلاميُّ لأوَّل مرَّةٍ، مما جعلها تتجه في منتصف القرن الأول الهجريِّ نحو الاختفاء والتغييب والتهميش، وذلك بعد أن كانت فكرةً حيَّةً شاهدةً ومستحضرةً على مدار سني النبوة والخلافة الراشدة .

 

فمع زوال الخلافة الراشدة بمقتل أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبt ونتيجة معايشة الواقع الإسلاميِّ بداية الانشقاقات والتفرقات، ومع دخول الأهواء واشتداد الخلافات الفكريَّة والعلميَّة بين أبناء الأمَّة، كانت بداية ضمورٍ واختفاءٍ وتهميشٍ لفكرة الاجتهاد الجماعيِّ عن الحياة الإسلاميَّة لمواجهة مستجدات ونوازل المجتمع الإسلاميِّ .

 

إنَّ مقتل آخر خليفة راشدٍ -رضي عنه وأرضاه- على أيدي مرتزقةٍ من أعداء الإسلام والمسلمين، كان إيذانًا ببزوغ فجرٍ جديدٍ هادفٍ إلى تمزيق الصفِّ الإسلاميِّ وتفرق الكلمة وتعدد الشِّعب، وظهور الفرق الباطنيَّة المتربصة بالإسلام والمسلمين الدوائر، كما أنَّ تحول الخلافة بعدُ عن منهاج النبوة إلى منهاجٍ آخر، أورث المجتمع الإسلاميَّ انقسامًا وتفرقًا وتشتتًا، فانقسم أهل الاجتهاد في المجتمع على أنفسهم، وتبنوا مواقف متعارضة في النوازل السياسيَّة العامَّة، ففريقٌ يرى في الخلافة الأمويَّة استمرارًا للخلافة الراشدة، وفريقٌ آخر، يرى ضرورة الخروج على هذه الخلافة، ونتيجة لذلك، فإنَّه لم يكن من الغريب في شيءٍ أن تشرع فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في المسائل المصيريَّة متجهةً نحو الانسحاب من الساحة والاختفاء عن الظهور، وذلك لأنَّ طبيعة هذه الفكرة تفترض أن يكون هنالك جماعةٌ من أهل العلم متعاضدون ومترابطون ومتجرِّدون في اجتهاداتهم .

 

وبما أنَّ الساحة الفكريَّة غدت منقسمة على نفسها، وأمسى أهل الاجتهاد موزَّعين بين مؤيِّدين ومعارضين، لذلك، فإنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ باتت لا تستحضر كوسيلةٍ للبتِّ في القضايا المصيريَّة التي كانت تواجه الأمَّة في تلك المرحلة التاريخيَّة العويصة.

 

على أنَّه من الجدير بالإشارة إلى أنَّ فترة حكم الخليفة الأمويِّ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -شهدت محاولة استرجاعٍ للعمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ، وتنقل كتب السيرة عنه أنَّه:

 

".. لما ولي أمر المدينة، نزل دار مروان، فلما صلَّى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم: عروة بين الزبير، وعبد الله بن عبد الله بن عيينة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر ابن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر، وخارجة ابن زيد، وهم إذ ذاك سادة الفقهاء، فلما دخلوا عليه أجلسهم، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: إنِّي إنَّما دعوتكم لأمرٍ تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحقِّ، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم.."[23]

 

ومن المعلوم أنَّ خلافة ابن عبد العزيز لم تطل، وبوفاته، عادت الأمور إلى ما كانت عليه من عدم الاعتداد بالعمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في النوازل العامَّة، وقد كان لذلك دوره الآكد في زوال الدولة الأمويَّة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري .

 

وعلى العموم، فإنَّه لم يكن من عجبٍ أن تشهد الساحة الإسلاميَّة فصامًا واضحًا بين رجال الحكم والقيادة ورجال العلم والمعرفة، وتعايش صراعًا دمويًّا عنيفًا راح ضحيَّته عدد من رجال العلم والمعرفة[24] الذين كان يفترض فيهم أن يكونوا أعمدةً لفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في ذلك العصر.

 

إنَّ انقطاع المعروف بين أهل العلم والمعرفة ورجال الحكم والقيادة في الدولة الأمويَّة، كان أحد الأسباب الرئيسيَّة وراء اختفاء فكرة الاجتهاد الجماعيِّ عن الواقع الإسلاميِّ، وبما أنَّ ذات المعروف أمسى منقطعًا بين أهل المعرفة والدراية ورجال الحكم والقيادة في الدولة العباسيَّة، لذلك، فإنَّ تهميش دور الفكرة استمرَّ أيضًا إلى حين من الزمن.

 

على أنَّه من الجدير بالذكر أنَّ درجة الصراع بين أهل العلم ورجال الحكم في العصر العباسيِّ لم تكن بالضراوة التي كانت عليها من قبل باستثناء فترة حكم المأمون والمعتصم والواثق، وكانت أخفَّ وأقلَّ مقارنةً بما كان عليه الوضع في العصر الأمويِّ، ولكنَّ هذا العصر لم يختلف عن العصر الأمويِّ من حيث تهميش وتغيِّيب العمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ وابتعادها عن دائرة التوجيه والإرشاد، وخاصَّة فيما يتعلق بقضايا الأمَّة المصيريَّة. وعلى العموم، ننتهي إلى القول بأنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ بعد أن كانت معالمه وأسسه واضحةً في العصر الراشديِّ وقبله في العصر الرساليِّ، كان نصيبها في معظم فترات الحكم الأمويِّ والحكم العباسيِّ، إبعادها وإقصائها من أن تكون وسيلةً يلاذ بها لحلِّ الأزمات والنوازل. ونتيجة لذلك، لم يكن من عجبٍ أن ينتقل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ من دائرة توجيه المسائل والنوازل السياسيَّة والاجتماعيَّة العامَّة إلى دائرة أضيق منها، وهي المسائل والنوازل غير السياسيَّة في معظم الأحيان .

 

أجلْ، إنَّه من الجدير بالتقرير في هذا المقام، أنَّ بعض أهل الاجتهاد في شطرٍ من العصر الأمويِّ والعصر العباسيِّ، انصرفوا بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ من كونها وسيلةً للبتِّ في سائر النوازل السياسيَّة وغيرها، إلى صيرورتها وسيلةً يستعان بها للبتِّ في جميع النوازل ما عدا النوازل السياسيَّة.

 

إنَّ نظرةً متمعنةً في الآراء التي كانت تتوصل إليها المدارس الفقهيَّة من مدرسة حديث بالحجاز ومدرسة رأي بالعراق، تهدينا إلى القول بأنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ كانت مستحضرةً في تلك الآراء، فالإجماعات التي كان الإمام مالك -رحمه الله- ينسبها إلى أهل العلم بالمدينة المنوَّرة، لم يكن يتوصل إليها إلا من خلال اجتهادات جماعيَّةٍ صريحةٍ وغير صريحةٍ، ومباشرةٍ وغير مباشرةٍ، وأما الإجماعات التي تتناقلها المدوَّنات الفقهيَّة الحنفيَّة، فهي الأخرى كانت نتيجةً للاجتهادات الجماعيَّة التي كان أئمة المذهب الحنفيِّ يصدرون عنها عند تشكل تلك الآراء. وكذلك الحال في إجماعات علماء المذهب الشافعيِّ والحنبليِّ.

 

بطبيعة الحال، إنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في تلك المدارس لا نخالها كانت تتمُّ وفق الأسلوب المعهود في المجامع الاجتهاديَّة الحديثة، ولا نستبعد أن يكون التحاور والتشاور والتدارس، الأسلوب المعتمد في استطلاع مختلف الآراء حول المسائل العامَّة التي أوسعها السابقون من أهل الاجتهاد جانب التحقيق والدراسة والتفصيل . ومن الملاحظ بطبيعة الحال أنَّ الآراء التي اعتبرت آراءً مجمعًا عليها، تمَّ التوصل إليها بعد تحاور وتشاور العالمين في القضيَّة، وذلك هو عين الاجتهاد الجماعيِّ، فالمذهب الحنفيُّ -على وجه الخصوص- كان أكثر المذاهب الفقهيَّة التزامًا بهذه الفكرة، ولعلَّ كيفيَّة حوارات الإمام أبي حنيفة مع صاحبيه وبقية تلاميذه[25]، خير دليلٍ على إيمانهم بهذه الفكرة عند الهمِّ بتحديد مراد الله في مسألةٍ من المسائل التي لم يرد فيها نصٌّ أو ورد فيها نصٌّ ظنيٌّ في دلالته أو في ثبوته، وكذلك الحال عند همِّهم بتوقيع المراد الإلهيِّ على واقع الناس.

 

ومهما يكن من شيءٍ، فإنَّنا نخلص إلى القول بأنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ تولت بعد تأسيس المذاهب الفقهيَّة، وضِيقَ نطاقُها، حيث إنَّها غدت تُقَام بين أهل العلم من المذهب الواحد في أكثر الأحيان دون إشراك العالمين من المدارس أو المذاهب الفقهيَّة الأخرى، فالمجتهدون من الحنفيَّة أمسوا يمارسون هذه الفكرة في دائرة الهمِّ الحنفيِّ ولا يأبون بأهل العلم من المالكيَّة أو الشافعيَّة والحنابلة، وكذلك كان علماء المذهب المالكيِّ يمارسون هذه الفكرة دون استئناسٍ بآراء العالمين من المذاهب الأخرى من حنفيَّة وشافعيَّة وحنابلة، ونتيجة لهذا، فإنَّ فكرة الاجتهاد الجماعيِّ، غدت فكرةً ضيِّقةً لا تتجاوز المذاهب ولا تنصرف إلى البحث في نوازل الأمَّة ومسائلها المصيريَّة.

 

ولهذا، فلا غرو أن تشهد الساحة الفكريَّة الفقهيَّة الإسلاميَّة منذ تدوين المذاهب نشوب اختلافٍ بين روَّاد المدارس الفقهيَّة المختلفة في بعض المسائل التي ما كان لهم ليختلفوا فيها لو أنَّهم أوسعوها جانب التشاور والتحاور والمناقشة، ثم صدروا عن رأي جماعيٍّ فيها.

 

وعلى العموم، بهذا، نصل إلى نهاية توضيحنا لواقع فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في هذه المرحلة، مؤكِّدين بأنَّ أفول شمس القرن الثالث الهجريِّ كان إيذانًا باختفاء فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في الحياة الإسلاميَّة، كما كان بدايةً فعليَّةً لتوهين شأن النظر الاجتهاديِّ وتخويف العامَّة والخاصَّة من مغبَّة التورط في النظر الاجتهاديِّ الفرديِّ والجماعيِّ، ويلخِّص أحد الباحثين المعاصرين الحالة الفكريَّة التي خيَّمت على الواقع الإسلاميِّ بعد تدوين المذاهب الفقهيَّة، فيقول :

 

" كان القرن الرابع أهمَّ نقطةٍ فاصلةٍ في تاريخ التشريع الإسلاميِّ المبني على الاجتهاد المطلق، وعلى الحكم بالرأي في فهم القرآن والحديث، ومضى عصر الابتكار في التشريع، وعدَّ العلماء الأوَّلون كالمعصومين، وأصبح الفقيه لا يستطيع إصدار حكمه الخاصِّ إلا في المسائل الصغيرة. واستقرت المذاهب الفقهيَّة الكبرى في ذلك العصر، وتوطَّدت أركانها على النحو الذي نجده اليوم .."[26].

 

فإن يكن هذا وصفًا للقرن الرابع الهجريِّ، فإنَّه وصفٌ غير مباشرٍ لواقع فكريٍّ ابتدأ يتلألأ في الأفق الإسلاميِّ عند أفول شمس القرن الثالث الهجريِّ، وتجلى جلاءً في القرن الرابع، وزاد عمقًا وتوسعًا في القرون التي تلت القرن الرابع الهجريَّ .

 

إنَّ القرون التي تلت القرن الرابع الهجريَّ لم تكن -بأي حالٍ من الأحوال- أحسن حالاً منه، كما أنَّها لم تشهد أيَّ تطورٍ على مستوى استخدام واستحضار فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في النوازل والقضايا التي تعمُّ بها البلوى، ولم يحاول العالمون إعادة العمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في مواجهة التحدِّيات والنوازل العامَّة التي كانت تنـزل بساحتهم، بل إنَّ الابتعاد عن فكرة الاجتهاد الجماعيِّ ازداد تعمقًا وتوسيعًا وغيابًا في الساحة الفكريَّة، ويمكن ملاحظة هذا الأمر من خلال التأمل فيما آل إليه أمر الاجتهاد الفرديِّ الذي غدا سمَّةً أساسيَّةً على العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد عبر القرون الغابرة .

 

إنَّ اجتهادات أئمةٍ بمنـزلة الباقلانيِّ والجويني والغزاليِّ والرازي، والعزِّ بن عبد السلام، والقرافي، وابن تيميَّة وابن القيم، والشاطبي، والصنعاني، والشوكاني، وسواهم -رحمهم الله جميعًا- كانت تتمُّ بصورة فرديَّةٍ، ولم يعثر عنهم استرجاع العمل بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في قضايا الأمَّة المصيريَّة على الرغم من تتابع طروء النوازل والمستجدات على الواقع الإسلاميِّ في قرونهم المختلفة !

 

ومهما يكن من شيءٍ، فإنَّنا نخلص إلى اختتام القول بالإشارة إلى أنَّ الظروف الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة التي خيَّمت على الواقع الإسلاميِّ من مقتل أمير المؤمنين -عليِّ بن أبي طالب- هي التي أسهمت في تغييب فكرة الاجتهاد الجماعيِّ، وتهميش دورها في توجيه مستجدات ونوازل المجتمع السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة، ونتيجة لذلك، فإنَّه لم يكن من عجبٍ أن يزيد الصفُّ الإسلاميُّ تمزقًا وتشتتًا على المستوى المرجعيِّ، كما لم يكن من غرابةٍ أن يظلَّ الرهق الفكريُّ والتشتت المرجعيُّ سمَّةً بارزةً للحياة الإسلاميَّة عبر العصور والدهور، وإلى الله المشتكى !

 

وهكذا، نصل إلى نهاية حديثنا عن هذه المرحلة المؤلمة من المراحل التي مرَّت بها فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في تاريخنا الإسلاميِّ، وحقيقٌ علينا أن ننتقل إلى حديثٍ مفصَّل عن واقع الفكرة في العصر الراهن أملاً في تحديد سبل النهوض بها من جديدٍ، وإعادة الفعاليَّةوالحيويَّة إلى هذه الفكرة الناصعة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا المجيدة. المبحث الرابع : فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في العصر الراهن وسبل النهوض بها لئن تبدت لنا المراحل التاريخيَّة التي مرَّت بها فكرة الاجتهاد الجماعيِّ عبر تاريخ الفكر الإسلاميِّ، ولئن تأكَّدنا من أثر الظروف الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة في تلك المراحل، فإنَّنا نرى أن نعمد إلى حديثٍ مفصَّلٍ عن واقع الفكرة في العصر الحديث وسبل النهوض بها من جديدٍ.

 

وبدءً بذي بدءٍ، نودُّ أن نشير منذ البداية إلى أنَّنا نروم بالعصر الراهن في هذه الدراسة، تلك المرحلة التاريخيَّة التي عاد فيها اهتمام الساحة الفكريَّة الإسلاميَّة بفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في حياة الأمَّة الإسلاميَّة بعد أن عاشت مرحلة تهميش وتغييب بعد عصر الراشدين .

 

ولئن جاز لنا أن نؤرِّخ لهذه المرحلة، فإنَّنا سنقول بأنَّها ترتدُّ -زمنيًّا- إلى بدايات القرن الرابع عشر الهجريِّ عندما ظهرت دعوات مخلصة من بعض أهل العلم إلى ضرورة تنظيم فكرة الاجتهاد الجماعيِّ في شكل مجالس ومجامع، كما تنتظم هذه المرحلة الفترات التي عقدت فيها المؤتمرات والندوات حول النظر الاجتهاديِّ الجماعيِّ المنشود، وكتبت في شأنها أبحاث ومؤلَّفات حول أهميَّته وضرورة تأسيس المجامع الفقهيَّة، وتنتهي هذه المرحلة بتأسيس بعض المجامع الفقهيَّة على مستويات مختلفةٍ .

 

ولمزيدٍ من التوضيح حول تفاصيل هذه المرحلة، فإنَّنا نرى أن نوزِّعها على فترتين أساسيَّتين، وهما: الفترة الأولى، وهي فترة ظهور الدعوات إلى تنظيم الاجتهاد الجماعيِّ عبر المجامع والمجالس الاجتهاديَّة، ونقصد بها تلك الفترة التي تصدَّى فيها بعض العلماء للدعوة إلى ضرورة تنظيم فكرة الاجتهاد الجماعيِّ، وإقامة المجامع والمجالس التي يتمُّ من خلالها مناقشة المسائل والقضايا التي تعمُّ بها البلوى، وقد امتدَّت هذه الفترة إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجريِّ.

 

وأما الفترة الثانية، فهي (ب) فترة تأسيس المجامع الفقهيَّة كوسيلة للاجتهاد الجماعيِّ، ونروم بها الفترة التي تلت الفترة الأولى، وتحقَّق فيها تأسيس عددٍ من المجامع الفقهيَّة تلبيةً للدعوات التي ارتفعت في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجريِّ، وتمتد هذه الفترة إلى نهاية قرننا الحالي، حيث لا تزال المجامع الفقهيَّة التي أسِّست وكوِّنت تمارس الاجتهاد الجماعيَّ وتعمل بمقتضاه في القضايا التي تعرض عليها وتحظى بمناقشتها وإصدار رأي فيها.

 

إنَّ تأسيس المجامع الفقهيَّة الدوليَّة وضع حدًّا للحديث النظريِّ عن فكرة الاجتهاد الجماعيِّ، ظنًّا من معظم الناس بأنَّ وجود المجامع يعني بالضرورة وجود الاجتهاد الجماعيِّ، وبالتالي، فإنَّه ينبغي أن ينصرف الحديث إلى شيءٍ آخر. ولقد كان من المأمول أن تعقب فترة تأسيس المجامع فترة تقويمٍ لأداء تلك المجامع ومدى قدرتها على توجيه نوازل الأمَّة ومستجداتها، فضلاً عن علاقة المجامع بعضها ببعض من جهةٍ، وعلاقاتها ببعض المجالس والمجامع المنبثَّة في بعض الأقطار الإسلاميَّة من جهةٍ أخرى .

 

وعلى العموم، هاتان هما الفترتان اللتان تتشكل منهما المرحلة التاريخيَّة الأخيرة لفكرة الاجتهاد الجماعيِّ في حياة الجماعة الإسلاميَّة، وحريٌّ بنا أن نوسع كلَّ واحدةٍ منهما جانب التفصيل والتحقيق، أملاً في الوصول إلى تصور تاريخيٍّ متكامل عن فكرة الاجتهاد الجماعيِّ . الفترة الأولى: الدعوة إلى تأسيس المجامع والمجالس الاجتهاديَّة:

 

ليس من الوارد تحديد اليوم الذي ظهرت فيه الدعوة إلى تأسيس المجامع الفقهيَّة كوسيلة للاجتهاد الجماعيِّ، ولكنَّه من الممكن تقرير القول بأنَّ عددًا من علماء القرن الرابع عشر الهجريِّ أثرت عنه الدعوة إلى تشكيل مجامع ومجالس لممارسة الاجتهاد الجماعيِّ، ومن أوائل أولئك العلماء الذين تصدَّوا لهذه الدعوة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجريِّ، الإمام بديع الزمان النورسي الذي عايش فترة انهيار آخر معقل للخلافة الإسلاميَّة في أستانبول، وأدرك بثاقب نظره أنَّ ما آل إليه أمر المشيخة الإسلاميَّة التي كان يفترض فيها أن تنهض بمهمَّة حراسة الدين في مركز الخلافة، لا يمكن لها في وضعها الراهن أن تتصدَّى لتقديم أجوبةٍ إسلاميَّة عن سائر القضايا والمسائل العامَّة التي تمسُّ حياة المسلمين في أستانبول وفي سائر البلاد الإسلاميَّة.

 

وبناءً على ذلك، دعا إلى ضرورة إنشاء مجلس شوريٍّ للاجتهاد موازٍ للمجالس النيابيَّة التي تقوم عليها الوزارات، وأكَّد بأنَّه ليس بوسع أحدٍ أنى كان مبلغه من العلم أن يتولى الإجابة عن سائر القضايا والمسائل المستجدة والبالغة التعقيد والتشابك والتداخل، مما يبرز أهميَّة وضرورة إنشاء مجلس شوريٍّ للاجتهاد يتحاور فيه أهل العلم والمعرفة والدراية للوصول إلى الحكم المراد لله -جلَّ شأنه- وهذا نصُّ ما قاله بهذا الصدد:

 

".. الوزارة تمثِّل السلطنة، أما المشيخة الإسلاميَّة، فهي تمثِّل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند أصلاً إلى ثلاثة مجالس شورى -وقد لا توفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة- نجد أنَّ المشيخة قد أودعت إلى اجتهاد شخص واحدٍ، في وقت تعقَّدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدقِّ الأمور، فضلاً عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهاديَّة، وعلاوةً على تشتت الأفكار، وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنيَّة الزائفة فينا.. وبينما كانت الأمور بسيطةً والتسليم للعلماء وتقليدهم جاريًا، كانت المشيخة مودعة إلى مجلس شوى -ولو بصورة غير منتظمة- ويتركب من شخصيَّاتٍ مرموقةٍ، أما الآن، وقد تعقدَّت الأمور ولم تعد بسيطةً وارتخى عنان تقليد العلماء واتِّباعهم.. أقول كيف

 

المصدر: موقع قطب مصطفى سانو

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك