التقريب بين منازع الاختلاف ومنازعات الخلاف

محمد البشير الهاشمي

 - 1 –

﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾[1]. وبعد، ففي عصر تتم فيه تصفية الاستعمار من خارطة العالم، وتنحية الاحتلال من بلاد العالم الإسلامي، وتتجه فيه القارات في ظل المعطيات الكونية الجديدة نحو ديناميكية التكتلات الدولي وضروب الاتحادات العالمية الكبرى... فإن الدعاة والعلماء والولاة، وعياً منهم بزمن التكتلات وتشبعاً بأجواء الوئام، وإدراكاً منهم لمخاطر العولمة الثقافية والاقتصادية الزاحفة من ناحية، ودواعي التضامن ورصيد التآخي الإسلامي العميق من ناحية أخرى، دونما إغضاء مؤامرات التفكيك والتفريق، ومحاولات بلقنة العالم الإسلامي ومشاريع التخطيط الإمبريالي لتجزئة الأمة الإسلامية، واختلاق عدوّ جديد مستهدف في وهم هنتنغتون بعد انهيار الشيوعية، ورميه بإفك الإرهاب، واعتباراً للمناخ العالمي الذي تجري فيه الدعوة إلى كسر جدار برلين بين الأديان، وتدق فيه ساعة الحوار بين الحضارات والثقافات رسمياً من على منابر المنظمات الدولية كاليونسكو، ومن خلال مؤتمر قمة الألفية للأمم المتحدة، وإن كان في الواقع ترجيعاً معاصراً لصدى الآية الأزلية الكريمة:

 

﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا﴾[2].

 

بهذا الوعي المسؤول والإحاطة النبيهة ينكفئ الأئمة وحملة الثقافة، والفكر، والدعوة الإسلامية والساسة الأتقياء الفطناء، في إطار من النقد الذاتي البناء من داخل العالم الإسلامي لرأب الصدع في صفوف المسلمين وسد الثغرات التاريخية بعد زوال أسبابها الناشئة عن أحداث السقيفة الغابرة، وانقراض مرسخاتها في تلك القوالب الجدلية التي صاغها علماء الكلام بأهوائهم للنظم العقائدية في الإسلام[3]، فيدعون في معترك التواصل المتزايد بين الشعوب، وتنامي الاتجاه إلى الديمقراطية، والحرية، والتنادي بالسلم.

 

وحري بهم أن يدعوا إلى تدارس جدي لاستئناف التقريب الفعلي النزيه بين المذاهب الإسلامية من أجل بناء الوحدة الإسلامية المنشودة التي قرر الوحي العظيم ميثاقها في السماء؛ إذ الإسلام في الأساس فوق المذاهب والفرق[4] فتنزلّت آياته قائلة: ﴿وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾[5]، حاضّة على: ﴿أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه﴾[6]، تلك الوحدة الذهبية التي طالما تهيب منها الغرب جهالة؛ إذ هي في الحقيقة مدعاة الخير والحضارة والسلم للناس كافة، ومرقاة لشأن الإنسان في الأرض، وتنمية لحياة رغيدة عادلة فضلى.

 

وإذا كان الاختلاف أمراً طبيعياً في الإنسان، وسليقة يجب ألا نتطير منها، وحقيقة إنسانية وإسلامية لا محيص عنها[7] فضلاً عن أنه مصدر ثراء في التنوع الفكري والتكامل الحر في الرأي، بل وعربون صيانة من الوقوع في الخطأ، وفيه كل الحفظ من المزالق الأحادية ومناعة من الاستبداد الفردي في مجالات التفكير، والتفلسف، والنظر والحكم وما تعلق بمصائر الناس وحركة المجتمعات والنظم السياسية عامة. لذلك قال عمر بن عبد العزيز: "ما أحب أن أرى أصحاب رسول الله(ص)، لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق"[8]. وإذا كان مرصد الاختلاف يتحرى الصواب، ويتحسس الحق في غير ما مرواغة أو مداهنة أو تلبيس: شعاره التفتح لا الانغلاق والتسامح لا التعصب، ومرماه التكامل والتقدم ومركزه العلم والتقوى، لا أن يستهدف مجرد المغايرة تحكماً، أو ينتحل المخالفة ترفاً، أو إذعاناً لدوافع دنيوية شتّى. فإن الإمام الشافعي بروحية الاختلاف الإيجابي البناء لم يستنكف - رغم مآخذ الناس عليه، ومنهم المقدسي -، كيف يتنكر لمن تتلمذ عليه تسع سنوات أن يضع فيه كتاباً أسماه: "اختلاف مالك" يخالفه فيه وينقض أصوله. والملفت العجيب في تحرير هذا الاجتهاد استنارته باستخارة مزيحة لمترديات الهوى حيث قال: "إني استخرت الله ونشرت الكتاب لما وجدت الناس افتتنت بمالك، وفضّلت حديثه على السنّة"[9].

 

وإذا كان الإسلام الحنيف يحث على وحدة الأديان السماوية بعد أن قرر وحدة الجنس البشري كله، فمن باب أولى أن تدعى المذاهب الإسلامية ما دامت وحدة التشريع قائمة، إلى التقارب بينها. وقد اشتركت في الأصول والمبادئ العامة واختلفت في الفروع اختلاف رحمة بعيداً عن التأثيم. واجتهدت على تفرد بين الأمم اجتهاد احتياطٍ، غيرةً على تماسك هذه الأمة الشاهدة التي تستقي خيريتها، ومعيارية إخراجها للناس، من وصف السماء لها.

 

ولئن كان الحوار بعتبير "جسبرس" صراع الأحبة، فإن التقريب بين المسلمين عمل تعبدي بقوله -تعالى- ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا﴾[10]، وهو سجال الإخوة وانجذاب المؤمنين.

 

ولعل التحليل الموضوعي لنزعة الاختلاف وحجمه وموضوعاته وأنواعه من صوب. ودراسة نزاعات الخلاف وأسبابه وأدبه في ديننا يساعدان على التقريب المقصود، ويجيبان من صوب آخر على مثل هذه التساؤلات في عصر الثورة العلمية الرابعة: هل وحدة المذاهب ممكنة؟ هل تلغي التعدد المذهبي؟ هل هي تغليب لمذهب على مذهب؟ كيف نقضي على العدواة الفكرية؟ والعداوة الموروثة؟ والاستنساخ التقليدي الفج؟ كيف نحارب الجينات الدينية الجديدة التي تغذي عصبية المذهبية، والطائفية، وعبثية التفسيق، والتكفير؟ كيف يصبح الاختلاف بعيداً عن تسييس التمذهب مظهراً إنسانياً وسمة في التحضر؟

 

ماذا تعني اليوم اصطلاحات الفرق والمذهبية والطائفية؟ هل التقريب المستأنف جسر للانتقال من فقه الجزر المنعزلة إلى الفقه الاستراتيجي الموحد؟ في سبيل تجديد العقل الإسلامي؟ تحقيقاً لحلم الكواكبي وأمل الأفغاني؟ وتجسيداً لذلكم الشعار السياسي الملهم: "لاسنية لا شيعية: إسلامية إسلامية" الذي رُفِع لكسر أمضى سلاح في تفرقة المسلمين؟ فهلا اتخذ بعده الفقهي في أوطاننا، وحقق بذلك مبتغانا! منازع الاختلاف:

 

لا جرم أنه قد غدا من المقررات في ديننا بداهة سنة الاختلاف بين البشر، وبات منزع التباين في الآدميين مشرعاً على الفطرة يتعلق في الأصل بالنشأة الأولى لصنف من الخلائق كرمه المنعم - سبحانه - بهبة العقل، فجعل تعدده وأنواعه وفروقه وأشكاله مدعاة التأمل في عظيم اقتداره، يرشد إلى ذلك جليل قوله - تعالى -: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم...﴾[11].

 

ومناط مشئيته الربوبية كما جاء في كريم قوله - جل جلاله -:

 

﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾[12].

 

بيد أن هذا الاختلاف المفطور عليه منشأ وتكويناً، لا مرية في أنه ليس محمولاً عليه البتة على سبيل الحث والاحتذاء، ولا هو مدعو إليه بالمرة من طريق الأمر أو الاقتداء. وإنما كان تقريره وحياً على معنى أنه طبيعة في الخلق، ونزعة في الناس لا يملكون لها فكاكاً. يبصّرنا بمساق هذه البديهة ضياء الآية الكريمة رغم ثراء تصاريف ضروب التأويل فيها: ﴿وما كان النّاس إلاّ أمّة واحدةً فاختلفوا﴾[13]. اختلفوا إذاً، بمحض الطواعية دون إكراه، وبمشهد من الأنبياء والرسل.

 

لكن حكمة الله البالغة اقتضت أنّ أمر توحّد الناس توحيداً كليّاً سالماً من كل أذيّة، معفى من أي شرخ، معصوماً من أدنى انشقاق، وإن كان مقدوراً له - سبحانه -، لم يتعلق بمشيئته التشريعية العليا، يدلنا على فحواه بليغ وحيه - سبحانه -: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون﴾[14]. بينما كان ذلك شأنه مطلقاً في خلق طراز آخر من العباد وهُبِوا كرامة العصمة اللدنية منه، وإن سلبوا نفائس الإرادة والحرية والاختيار:﴿...لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾[15]. بامتثالية وأمثلية لا مثيل لهما، ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾[16].

 

لئن كانت خميرة مركوزة في طبائع الورى ﴿ولذلك خلقهم﴾[17] من حيث التعدد والتنوع والكثرة والأضراب في مناهج المستخلفين في الأرض وفي مسالكهم، فلا شك أنه يثرى بها الفكر والرأي والنظر، وتنمو بها ضروب الاجتهاد وأنماط التفكير، وتسمو بها العقليات وترقى الفلسفات[18] وتستخلص الحكمة والعبرة. ولا جدال في أن فائدة ذلك جمّة؛ إذ بهذه الحرية المبدئية في الاختلاف التي لا تعتقل مسارح النظر ولا تغتال مراقي التدبر، نتفادى الاستبداد الفردي من قبيل: ﴿..ما أريكم إلا ما أرى﴾[19]، وأصناف التحجر وقيود التنميط الذهني، ونتحاشى معقّمات المغايرة والتميّز، ومخصّبات التفريد والتفرّد، ومجالب التسلّط ومخاطر التبلّد والاعتساف الناشئين عن أغلال أحادية زوايا النظر، فتتقلص إلى الأدنى مضارب الهوى ومزالق ذاتية الرؤى، بتلاقح الآراء وانسياب مجاري البصر، وتبادل المرائي والفكر.

 

وعلى صعيد آخر وإزاء فتنة إبليس ومنغّصات كثيرة يلفي الإنسان نفسه الضعيفة أسيرة الأهواء وضروب الإغواء: تتقاذفه شتى التيارات، وتتلاطمه جحافل الأمواج من الشهوات والأنانيات وسائر الدنياويات والماديات؛ بحيث ينتابه القصور أوالتقصير، أو الإلهاء والغفلة عن تحمل أعباء الرسالات والنهوض بالأمانات الموكولة إليه. وليس أقلّها أن تتوحد الأمة على العقيدة الجامعة لا على عاجل المنافع، وقريب المصالح المانعة.

 

ولئن كان أمر توحّد الناس مستحيلاً في الواقع ﴿ولكل وجهة هو مولّيها..﴾[20]. فإن أمر توحّد أمّة الإسلام مراد مطلوب بل ومحثوث عليه بفعل العقيدة الواحدة إلا أنّه متروك لجهود المعتقدين باقتضاء سنّة الله ﴿ولن تجد لسنّة الله تحويلاً﴾[21] وموفورة لهم موادّه، مرهونة وسائل تحقيقه بائتلاف إرادتهم الجماعية؛ فقوله - سبحانه - ﴿وأن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾[22] قاض بحتمية توحّدها وتوحيدها بأمر رباني؛ أي بإملاء من السماء فضلاً عن مقتضيات الأرض ودواعي رسالتها؛ ذلك أنها أمة مبعوثة مخصوصة معهود إليها بهداية الناس، وإقامة الشهادة عليهم بعد أن تتحقق فيها الأمثلية والأعلوية نتيجة الإخراج الإيماني[23] كما تلوح إليه الآية الكريمة: ﴿وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾[24].

 

والذي يستلفت الانتباه أنه حين يتجه الخطاب القرآني إلى هذه الأمة النوعية المؤمنة بالأمر بالتوحّد وتقرير وحدتها، يربط هذه التعليمة الإلهية القاضية "بكلمة التوحيد وتوحيد الكلمة"[25] والمحمولة على الوجوب لترتّبها تلقائياً على تبعات الإيمان ولا مناص، ربطاً عضوياً بمطلب التقوى تارةً كما تنص عليه الآية الكريمة: ﴿وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾[26]، يجعلها كما أسلفنا، هدفاً تعبّدياً ملزماً لا معدى عنه تارة أخرى.

 

وإن الذي يجب أن يستقر في وعي المؤمنين، ويتحرك بقوة في ضمائرهم، هو: أنه إذا كان انبعاث كيان هذه الأمة من وعاء كتاب منزّل، فذلك دليل على أن هندسة الوجود فيها ليست بمواد الأرض طيناً، ولكن بروح من وشائج السماء يقيناً يسري في خلائق المعمورة بقيومية منهج خاتم الأنبياء(ص).

حديث الفرقة:

 

وأما الاتكاء على مسرد الحديث في افتراق الأمة لتعليل الفرقة، فتأويل قدري معكوس وفهم جبري لمراده منكوس. والتكليف في تحصيل عدد الفرق تفريعاً وتعييناً ضرب من التنجيم بعيد عن عمل المحقق. وروايات الحديث كثيرة منها:

 

1- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): "افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة"[27].

 

2- وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله(ص): "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملّة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة تزيد عليهم ملّة، كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة. قالوا يا رسول الله وما الملّة التي تتغلّب؟ قال ما أنا عليه وأصحابي"[28].

 

3- وعن أنس عن النبي(ص): "إن بني اسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة"[29].

 

ومن الذين عنوا بإحصاء الفرق والتصنيف فيها على أمل موافقة العدد الذي يذكره الحديث، البغدادي صاحب كتاب "الفرق بين الفرق"، والإسفرائيني صاحب كتاب "التبصير في الدين"، والعلوي صاحب كتاب "بيان الأديان" والذين حذوا مصنفاتهم حذوا واحداً تقريباً ينهي ظاهرتي التبدع في الدين والافتراق إلى حدود زمانهم، ويحصر عدد الفرق المبتدعة في ما قادهم إليه مبلغهم من علمهم بها، لا يبالون بما قد ينجم منها عبر العصور اللاحقة، إلا أن يكون غرضهم مجرد الحرص على التطابق مع عدد الحديث. وهذا التعديد في تكلّف المطابقة ليس عليه دليل شرعي، ولا على انحصار المذكور في تلك العدة من دليل عقلي[30] وأخذاً بظاهره؛ "والحق أن أصول الفرق لا يصل إلى هذا العدد، بل إنه لا يبلغ نصفه ولا ربعه، وأن فروع الفرق يختلف العلماء في تفريعها، وأنت في حيرة حين تأخذ في العدّ، بين أن تعتبر في عدّك الفرق أصولها أو فروعها، وإذا استقر رأيك على اعتبار الفروع فإلى أيّ حد من التفريع أنت آخذ في اعتبارك(..) إذ يجب أن يتحدث في كل عصر عن الفرق التي نجمت في هذه الأمّة من أول أمرها إلى الوقت الذي يتحدث فيه المتحدث..."[31] بل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون أن تقع مع ذلك-على افتراض صحّة الحديث - في سطحية الفهم من أنه ملزم بحتميّة مبروم قضاء التّشرذم والتفريق السبعيني. وإنما الوجيه في اعتباره من غيبياته(ص) أو بالأحرى من نبواءاته التي تساق للتحذير والتوقي. نوعية الاختلاف:

 

إنّ الذي يتراءى بعد استقصاء تاريخ الخلافات المذهبية هو أن منشأها لا يتعدّى أحد أمرين عموماً:

 

1- أن تكون نتيجة اجتهاد في فهم النصوص من الكتاب والسنّة، واستنباط الأحكام منها بهدف تلمّس الحق من أقرب وجوهه في احتمال تطابقه مع مراد الله - تعالى -[32]. فهو إذاً، ليس بحال اختلافاً على الكتاب والسنّة، بل هو كما يدقق - بحق - سميح عاطف الزين، اختلاف على فهم الكتاب والسنّة[33]. كذلك يرى ابن خلدون أنّه: "ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إنّ الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ، فإنّ جهته لا تتعين بإجماع، فيبقى الكل على احتمال الإصابة، ولا يتعيّن المخطئ منها. والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً. وإن قلنا: إن الكلّ حقّ وإنّ كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم. وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنّه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنّية"[34].

 

فهذا الاختلاف الذي يعتبره د. طه جابر العلواني رياضة للأذهان، بما يتيحه من احتمالات وافتراضات برهانية تمكن من تعدّد الحلول لصاحب كل واقعة بما يناسب وضعه، ويتناسب ويسر الدين[35]، إنما هو اختلاف في الأحكام الفرعية العملية الظنية، لا ضرر فيه ولا خطر منه بالإجماع. وهو رحمة بالأمّة، ودليل مرونة في الشريعة، وسعة في الفقه الإسلامي[36]. بل إنه يعدّ تراثاً علمياً خالداً للجميع يجب الحفاظ عليه والعناية به[37] ما دام الهدف منه شريفاً يتمثل في إقامة مراسم الدّين وإدامة مناهج الشّرع القويم[38].

 

وتصنيف هذا الاختلاف الذي لا يثير عداوة، ولا يبعث فرقة، ولا خصومة، ولا يفضي إلى شقاق، أنّه اختلاف غير مرضِي محمود، مشروع، ومقبول "تتضح على شراراته معالم الحق، وذلك كالخلاف الواقع بين المذاهب الأربعة، والخلاف الحادث بين بعض فرق الشيعة، وبين أهل السنّة في بعض الفروع... دون الأصل"[39].

 

ولقد استبعد الشيخ محمد الغزالي أي خطر من اختلاف وجهات النظر في التشريعات الفرعية أو من نشوء مدارس كبرى، أو صغرى على محاور قانونية مختلفة؛ إذ لا غضاضة فيه ولا شر منه[40].

 

كذلك جرى استثناء علماء الفقه من ضلالات المبتدعة، ومن الحشر ضمن الفرق المذمومة. يقول البغدادي: "وقد علم كل ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة إلى الإسلام أن النبي - عليه السلام -، لم يرد بالفرق المذمومة التي هي من أهل النار فرق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين، ويعلل ذلك بقوله: لأنّ المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام على قولين:

 

أحدهما: قول من يرى تصويب المجتهدين كلهم في فروع الفقه، وفرق الفقه كلها عندهم مصيبون.

 

والثاني: قول من يرى في كل فرعٍ تصويبَ واحدٍ من المختلفين فيه، وتخطئة الباقين، من غير تضليل منه للمخطئ فيه"[41]. مما ساعد على حفظ الخلافيات وظهور الخلاف من دون ضرورة الاستناد إلى دليل مخصوص[42] وكان أعلم الناس كما يروى عن أبي حنيفة أعلمهم باختلاف الناس.

2- أن تكون تلك الخلافات هووية(نسبة إلى الهوى)، للنفس فيها حظ وللسياسة فيها متكأ، وللشيطان فيها مرتع ونزع، وللتعصب فيها دبيب. ولا غرو أن تكون أبعد عن حوافز العلم ودوافع العقل، أو إملاءات الإيمان، سيما إذا كان رائدها الكيد للدين وإفساد العقيدة، فهي لذلك "لا تحسب على الإسلام ولا يحسب المتمذهبون بها في المسلمين. وبهذا - كما يقرر عبد الكريم الخطيب - يكون شأنهم في المجتمع الإسلامي، وفي الأوطان الإسلامية شأن الأقليات التي تدين بغير الإسلام"[43].

 

والخطر المريب في هذه الاختلافات ليس مدّعى التّباين في الرأي، فقد اتّضحت لنا سلفاً جوانب الرحمة فيه، وثراء التنّوع المحمود الذي ينطوي عليه كما هو مفاد الأثر المروي: "اختلاف أمّتي رحمة"، أو على قول من قال: "اختلاف العلماء رحمة" كما في "الاعتصام"[44]. وإنما هلاكها في أن تتحول إلى خصومة في الدين من نحو محذور الآية الكريمة: ﴿ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون﴾[45] أو تتقصّد المشاققة لأغراض ذاتية أو لمطامح معيّنة، أو رضوخاً لضغوط مختلفة بما هو تولّ عن حقائق الدين وأهدافه كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وإن تولوا فإنّما هم في شقاق﴾[46]، وشقاق التولّي والتنكر للمرامي النبيلة من الاختلاف ظلم كبير: ﴿وإن الظالمين لفي شقاق﴾[47]، وبهذا يتأكد بمقررات الوحي أنّ الشقاق من شأن الظالمين وصنيعهم. أنظر إلى مدى استنكاره في القرآن الكريم: ﴿من أضلّ ممن هو في شقاق بعيد﴾[48]. وهل من ريب بعد هذا في أنّ اختلافاً هذه مناحيه: خصام، وشقاق، وزيغ، وجدال عقيم لا يلوي على شيء سوى تقويض أركان وحدة المسلمين، إنّما هو بلاء كله وهو خلاف مقيت وليس خليقاً بالاختلاف الذي ينمّ عن مدى الحرية الفقهية والملكة الاجتهادية، أو ما نسميه اليوم بالبحث العلمي الرّصين الذي تأبى معاييره الموضوعية مثل تلك الخلافيات المخزية في بعض صفحات تاريخ المذاهب والاتجاهات الطائفية النكدة[49]. وهذا ما حدا "بابن مسعود" إلى التشاؤم الكلي منه بهذا الإطلاق العام: "الخلاف شر والفرقة شر"[50]، فسمّاه بمآله السلبي السّيئ الذي ذمّه "ابن حزم" إلى حدّ أنّه اعتبره كلّه عذاباً. وتوجّس منه صاحب الإبهاج بقوله: ".. إنّ الرحمة تقتضي عدم الاختلاف"[51] على المعنى الوارد في الحديث الشريف: "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"[52]. وليس أهلك للأمّة من اختلاف هو مظنّة افتراق القلوب،؛ لذلك حذّر منه الرسول(ص): "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"[53] خشية من أن تتداعى الوحدة الإيمانية بين المسلمين. دواعي الإختلاف الفقهي أو حفريات المنازع: إنّ التحليل العميق يعطي في استشفاف الدواعي والأسباب غير المعهودة في مباحث الاختلاف التقليدية، خلفيات أنماط التفكير التي توزعت أذهان الفقهاء ومرتكزاتهم المنهجية في انتحال ضروب المذاهب التي أسّسوها. ولا يخلو هذا المنظور التحليلي الجديد لبنيات التفكير الفقهي من أهمية بالغة في دراسة الاتجاهات المذهبية، حيث تستوقفنا جدّية المسير في مقابلة الأصول العامة، والمبادئ الفقهية المعتبرة لدى الفقهاء بمناهج التفكير عندهم. ذلك ما توخّاه مؤلف كتاب "التفكير عند أئمة الفكر الإسلامي" وهو يعني بهم: أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وابن حزم؛ حيث يعمد إلى تفسير الاختلافات المذهبية فقهياً وعقائدياً في ضوء نمط التفكير المنتهج لدى كل منهم. وعلى هذا الأساس يرتّب ضمن أصحاب الاتجاهات النقية الواضحة في التفكير كلاّ من:

 

1- أبي حنيفة، باعتباره كان يحمل عقلاً نظرياً نقدياً خالصاً، ويتبنَّى نمطي التفكير التحليلي والتركيبي وكانت الواقعية عنده تغلب على المثالية.

 

2- ومالك الذي كان عقلاً واقعياً عملياً خالصاً، يتبنى نمطي التفكير الواقعي والعملي (البراجماتي). وكان الجانب العملي عنده غلاّباً على الجانب النظري. والنفعية كانت أقرب إليه من المثالية.

 

3- ابن حزم الظاهري الذي كان مثالياً خالصاً. تدور كل أحكامه حول ما يدل عليه ظاهر النص، وألفاظه وجوداً وعدماً. ولا يعير اعتباراً للعقل النظري أو التفكير الواقعي والعملي، هذا من جهة.

 

ومن جهة أخرى، يرتّب ضمن أصحاب التفكير التوفيقي كلاّ من:

 

1- الشافعي الذي حاول التوفيق بين النص والعقل النظري، فكانت أحكامه إما بنصّ، وهو المنهج المثالي في التفكير، أو بالحمل على النصّ عن طريق القياس المنطقي وهو المنهج التحليلي في التفكير. وإن قام بتحجيم دور العقل في ميكانيكية لا تتحرّى البواعث والمقاصد، ولا تنظر إلى النتائج والمآلات. فهو إذاً، عقل تحليلي مثالي، لا تركيبي ولا عملي.

 

2- ابن حنبل الذي حاول التوفيق بين المثالية والنفعية العملية، فهو إذاً صاحب منهج لا تحليلي ولا تركيبي؛ أي أنه صاحب عقل غير نقدي. ولأنه يملك عقلاً مثالياً، فهو يستحضر دائماً المثال من الماضي والسلف والأثر والأخبار. ولأنه عملي يحاول أن يجسّد هذه المثالية في الواقع عن طريق الفعل والاقتداء والتقليد على منوال السابقين، أدركنا العلل أم لم ندركها. وبهذا تيسّر له الجمع بين الضدين: المثال والمنفعة دونما لجوء إلى التفكير التحليلي أو التركيبي ركيزتي التفكير العقلي النقدي[54]. مؤثرات أخرى:

 

وبالإضافة إلى هذه المكونات النفسية والفكرية، فلا يغربن عنّا ما للحرفة والصنعة اللتين تحددان المكانة الاجتماعية، وتطبعان الشخصية عادة من أثر بيّن أيضاً في توجيه ملكة الاتجاهات الفقهية، ومن دلالة إيحائية على فلسفة المسلك وخصوصية الموقف فضلاً عن انتقائية المبدأ الذي يمليه.

 

فإذا علمنا أن أبا حنيفة النعمان كان تاجر خز ميسور الحال، وهو من أصل أصبهاني سليل أسرة محترفة للتجارة موسرة اتضح سرّ براعته في الترجيح بين البدائل ومدى استقلاليته الفكرية، وعقله النّاقد واتّجاهه التحرّري في الفقه. روي عنه قوله: "علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك، فله ما رأى ولنا ما رأينا"[55].

 

وإذا كان "مالك" معلّماً تلقينياً لا يحبّ المناظرة ولا الحوار، وانتقائياً غير ناقد، أدركنا أنه كان أشبه برجل دولة ينظر إلى الناس على أنهم لم يرشدوا بعد.

 

وإذا كان "الشافعي" شريفاً، قد نشأ في غزّة فقيراً يتيماً، لذلك تراه عمل والياً وأنه كان يحب الأسفار والترحال، فتحوّل من الفقه القديم إلى الفقه الجديد، وشغوفاً بالإدارة والتدوين، تبيّنا حرصه التقنيني، وكيف عني بتحويل الفقه من ثقافة شفوية على عهد أبي حنيفة إلى علم مكتوب كمدوّنه "علم أصول الفقه".

 

ولئن نشأ "ابن حنبل" فقيراً يتيماً، وعاش كادحاً بكدّ يده مؤثراً أن يكون حمالاً أحياناً يلتقط بقايا الزّرع على أن يقبل العطايا أو الهدايا وكان شعاره: "مع المحبرة إلى المقبرة"، وكان كثير الترحال لجمع الحديث، حتى عدّ أقرب إليه من الفقه. وإذا وقفنا على ارتداده إلى الماضي المثالي لإصلاح الحاضر البغيض تجلى لنا لجوؤه إلى سلفية حرفية للغاية كردّ فعل لواقع لم يتقبّله.

 

وأما "ابن حزم"، فكان ثرياً بالوراثة، وزيراً ابن وزير في حكومات بني أمية حتى اتّهم بالنّصب، وأنه كان يروج لمبدأ "الاجتهاد لكل مواطن" ويقول: "أنا أتّبع الحق وأجتهد ولا أتقيّد بمذهب". ويدعو إلى النقد الذاتي بمقولته الشهيرة: "إعرف نفسك"، وأنه كان يحبّ المداعبات وجيّاش العاطفة كما في (طوق الحمامة). كل ذلك وغيره يجعلاننا نلمس ظاهريته واستقلاليته الفكرية في الاختيار بين النصوص والآثار لابين الاتجاهات والمذاهب[56].

 

وإذ أحيل في ملحقين على جدولين هامين، يرتّب الأول منهما أولئك الفقهاء المجتهدين طبقاً لأخذهم ببعض الأصول الفقهية وبحسب مناهج التفكير المقابلة. ويستكشف الثاني أنماط التفكير المفضلة وغير المفضلة لدى كل منهم[57]؛ فإني أورد باهتمام بالغ، حصيلة ما توصّلت إليه هذه الدراسة العميقة من إبراز الميسم المميز الذي طبعت به الخصائصُ الشخصيةُ لكل إمام مذهبٍ أعمالَه الاجتهادية، واتجاهه الفقهي العام. يقول "صبري الأشوح" في خاتمة تحليله:

 

"لقد حمل الإمام أبو حنيفة في داخله عقل الفيلسوف الواقعي، فيلسوف الحرية الإنسانية.

 

- ولقد كان الإمام مالك نموذجاً لرجل الأعمال ورجل الدولة اليميني المحافظ الناجح.

 

- ولقد كان الإمام الشافعي مثالاً لرجل القانون الأكاديمي الموسوعي المرجع المنضبط.

 

- ولقد كان الإمام ابن حنبل رجل الزهد والتقوى والورع والعمل والاتباع والطاعة.

 

- ولقد حمل ابن حزم في جوانحه روح الفنان، ووجدان الأديب، وعقل المثقف الشامل.

 

- وزبدة الاستخلاص في قوله: ولو أصبح الناس كلهم أبا حنيفة أو مالكاً، أو أيّاً من الأئمة الفقهاء، لاختلّ نظام الأرض، ولأصبحت الحياة لا تطاق. ومن هنا جاءت سنّة الاختلاف قانوناً حتميّاً في مصلحة الحياة والإنسان"[58].

 

هنا قد يثور تساؤل هام: أين الصحيح من الخاطئ؟ والإجابة بخصوص أنماط التفكير لا تكون بمنطق المعايير الرياضية، وإنما تكون بدالة التنوع والاختلاف. والغاية تكمن أساساً في مدى تفهّم كل نمط لوجهة نظر النمط الآخر؛ لأنه إذا تفهّمه لم يتحوّل الاختلاف إلى صراع يجلب العداوة[59].

 

هذا إذاً، تحليل نوعي عميق يفتح آفاقاً واعدة لفهم صحيح غير منابذ، لدواعي الاختلاف الفقهي المعقّد في ضوء أنماط التفكير. في حفريات الاختلاف:

 

وتحليل نوعي آخر لا يقلّ عمقاً ولا أهميّة ولا آفاقية، بعيداً عن المشاكسات والمنازعات البالية. ويساعد على مزيد فهم موضوعي يبعث على اكتشاف الصنو الآخر في وئام، وإن تناءى بعدُ تمام الوفاق، مع أنّه يضيق بنا المقام ههنا للتعرض إليه تفصيلاً، وإنما نومئ إليه إيماءً عابراً، فهو ليس بمتعلق بالتفسير العادي لمثارات الاختلاف ومواقع الاجتهاد بين أهل السنة والشيعة، وإنما كلّ معوّله على سبر أغوار بنيات الخلافيات[60] المرجعيّة، وموقفها من (قانون النّص) فـ "على خلاف الموقف السنّي الذي لم يعلن قطّ -بشكل رسمي- عن تنصيب مرجعيته السلفية في منصب النص، أعلنت أقوال الأئمة من أهل البيت نصوصاً من النصوص، الأمر الذي كان لابد له بدوره أن يتأسّس على "نصوص". ومن هنا، فقد تحتّم الدخول، على المستوى الشيعي هذه المرّة، في دوّامة الاستنصاص والتنصيص. نعني بالاستنصاص طلب النص بعد الحاجة إليه على مستوى التمذهب. أما التنصيص فنعني به كما يقول عبد الجواد ياسين تصنيع النص بطريقة تركيبية موافقة للأحداث، سدّاً لحاجة المذهب. وهو ما يعني أنّ التمذهب سابق على النص وليس العكس"[61]. نزاع الخلاف:

 

خير ما يصدر به القول في النزاع المحظور في أمر الشريعة قوله عز وجل: ﴿فلا ينازعنّك في الأمر وادع إلى ربِّكَ إنَّكَ لعلى هدى مستقيم﴾[62] الواقع أنّنا لسنا في حاجة إلى أن نكون جهابذة خناديد، لكي نعلم أنه إذا تردّى الاختلاف "الرحيم" عن منزعه السّلمي التعدّدي الإيجابي البنّاء وتنكّب عن مفهومه الإنمائي أغرق في النكوص عن دواعي العلم والحلم إلى تحرّي الحقيقة، ونبتت نابتة المذاهب والفرق على أساسه واجتهلتهم الحميّة والعصبية، فسوف لا يصفو من شوائب النزاع، ولا يخلو من رهج الخلاف.

 

والتنازع لا يكون -كما يقول ابن خلدون- إلا لازدحام الأغراض[63] والشارع محذّر من ذلك لإفضائه إلى الفشل وانبتات اللحمة. وقد يكون علامة من علاماته أو نتيجة له: ﴿حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم..﴾[64]؛ أي أنّكم تنازعتم في الأمر الذي هو موضع إجماع إيماني وتبنّ بالكلية والاتفاق الإسلامي على معنى أنه مورد الطاعة والتعبّد وإلا لما قال: "وعصيتم" لربط الجنوح عنه بالفشل. وحين يقول سبحانه: ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾[65]، يريد أن الفشل الناتج حتمي الوقوع بسبب عدم الامتثال لله ولرسوله(ص)، وإلاّ فالأمر الوارد في الطاعتين منافٍ للتنازع مباعد لحصول ذريع الفشل. هذا اللّون من النزاع الاستفشالي النّكد، فيه إذاً الرزية كلّ الرزية على الأمّة، كما يقول ابن عبّاس[66] لوقوعها في مخاوف الرسول(ص) من التنازع بالقرآن على القرآن، وبالسنّة على السنةّ، وبالتشريع على التشريع؛ ولذلك ودّ لو يضع لهم خطة دائمة للاستمساك بأمر الله؛ لأنه أمر الله دفعاً لمهاوي الخلاف، وتحصيناً ضد رذائل النّزاع[67].

 

وحبّذا لو أننا نملك أن نستطرد في المناهي الشرعية والموضوعية عن التنازع لولا تأبّي المقام. ذلك أنّه معركة أو قل إن التنازع حرب على المنازع تستهدف استئصال أو انتزاع ما هو منزع فطري في الإنسان مذهباً، واتجاهاً، ورأياً، ومنتحلاً؛ ويرمي إلى احتلال مواقع النظر لدى الآخرين، وفرض استنساخ الرأي الذاتي، أو المذهب الخاص عليهم استبداداً واقتحاماً لاختياراتهم وقناعاتهم. وهو أمر مرفوض كما سيتبدّى وحيه، حتى ولو كان حمل الناس عليه حقاً، فاسمع إلى استنكاره منزّلاً: ﴿أفأنت تكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين﴾[68].

 

فإذا كان الحمل على الحقّ بالقوة والإكراه محظوراً في الإسلام، فمن باب أولى أن يكون الحمل على ما كان ظنّياً، أو كان مورد اجتهاد ونظر منهيّاً عنه باعتباره تسلّطاً وقهراً. ولذلك لم تفلح في التاريخ لا الدولة الفاطمية، ولا الدولة الأيوبية، ولا المعتزلة في فرض مذهب واحد على الأمّة[69]. دلائل كونه ممقوتاً في القرآن الكريم:

 

وعليه فالاختلاف بمعنى الخلف عن الانصياع للحق والتخلف عنه؛ أي الإبطاء في أحسن الأحوال أو التراجع عنه هو المنبوذ الممقوت في الدين لكونه يكسّر الإجماع، ويشتت الجماعة، ويقوّض الوحدة. وهذا المرمى فساد وتخريب وسوء يبتغى بالنّاس. كذلك ينعى الوحي على أعداء موسى(س) الذين خالفوا تعاليمه: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه﴾[70] باعتبار الكتاب جامعاً، عاصماً، موحّداً، فلمّا جعلوه وراء ظهورهم استبدّ بهم الخلاف فعموا وصمّوا عن ابتغاء الحقّ. تجليّة التباس:

 

وأمّا قوله - عزّ وجل -: ﴿ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّكَ ولذلك خلقهم وتمّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين﴾[71]، فالاستثناء من الاختلاف الذي ورد فيه وعيد غليظ هو الرحمة المهداة. واللاّم في قوله ﴿ولذلك خلقهم﴾ ليست سببية بل هي لام العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة لاختلافهم ما بين شقيّ وسعيد. قال الطبري: المعنى للاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم[72]. ويقول الشاطبي: خرّج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله: ﴿ولذلك خلقهم﴾: خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا.. وعن مالك أيضاً قال: الذين رحمهم لم يختلفوا[73].

 

ويذهب إلى أن حكمة الله - تعالى - اقتضت: "أن تكون فروع هذه الملّة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظّار أن النظريّات لا يمكن الاتفاق فيها عادةً، فالظنّيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكلّيات، فلذلك لا يضرّ هذا الاختلاف"[74].

 

ومعرض ذكرها ههنا تحذيري وقائي فضلاً عن كون الاختلاف في دائرة المسح الغيبي قدرياً هو موضوع التغيير بما بالنفس ولا مندوحة. وهو طوع اليد وبمقدور الإنسان تفاديه، وإلا لا معنى لسوقه مساق الوعيد والتحذير إن كان حتماً مقضياً لا فكاك عنه.

 

والخلاف مخالفة على معنى التحوّل والترك والانصراف عن المنهج كما فعل قوم شعيب(ع) حيث خاطبهم نبيهّم بهذا النصح العام الذي ينطبق عليه ابتداء: ﴿وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه﴾[75]، تصلّباً على المبدأ موضوع الدعوة التي تقتضي تمام التطابق بين الداعي والمدعو وصيانة مصداقيتها، بل ووجوب التجانس في احتضانه دون ارتياب. وهذا مما لا يعذر الاختلاف فيه؛ لأنه من مقتضيات الإيمان ومستلزمات الطاعة، سيّما أن النهي إذ ينصب على خوارمها يتّخذ معنى التصحيح والتقويم بغرض العودة من طريق الارتداع إلى أمر الطاعة لتثبيت أصل الإيمان بالمبدأ.

 

ولذلك يجيء التحذير من المخالفة بعد التبنّي الإرادي الحرّ في قوله - تعالى -: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم﴾[76]. إذ المخالفة في سياق الآية تعني ردّة وتوليّاً بعد الاعتناق. وحين تكون المخالفة بجوار العلم توفّر البيّنات فإنها ترادف التّعنّت والعزوف عن الحق، سيّما إذا بدت من الذين انتصبوا في البدء دعاة إليه حماةً له. وفي ذلك يقول - سبحانه -: ﴿وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم﴾[77]. الاختلاف الهووي:

 

فهذا التبّغي في الاختلاف بعيد عن الرحمة المرجوة منه باستكشاف زوايا متعدّدة من الحقّ يستبينها الرائي المتبصّر على قدر مراقي استبصاره ومعارج فهومه التي تستلهم البيّنات وتستقطب الواضحات. أمّا إذا تباينت الأهداف وتعارضت الغايات وتضاربت المناهج، كان هذا الاختلاف مدعاة الشقاق والصراع والاختصام لغلبة الأهواء والمصالح، والصدوف عن المبادئ والمثل؛ ولذلك كان هذا الاختلاف الهووي مجلبة للشطّط في عداد الظلّم لتبغّيه على أمر الله القاضي بمجانبة الهوى ﴿فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يومٍ أليم﴾[78] وسواء في الفداحة وتقويض أركان الوحدة وسوء العاقبة بين اختلاف الظلم وبين اختلاف الكفر مادام التفريق هو المبتغى حيث يقول - تعالى -: ﴿فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم﴾[79]. الاحتكام الحاسم:

 

ولرأب الصدوع في المجتمع بسبب احتدام الخلاف، وتفاقم وجهات النظر، وامتناع حصول اتفاق على مسألة معينة في حالة التجرّد من الأهواء والأغراض، وظلّت المنازع في التحليل وتقليب النظر قاصرة على المباحث النظرية البحتة، ولكي لا تتحول إلى نزاعات لا تحمد عقباها، أو إلى مشاجرات، قد لا يتحكّم في مداها، يتحتّم بمنطق الإيمان وقطع جدل النزاع بالاحتكام إلى أمر الله - تعالى- عملاً بموجب الآية الكريمة: ﴿وما اختلفتم في شيء فحكمه إلى الله﴾[80] وعبارة: "من شيء" شاملة لكل شيء يعرض للخلاف. والغرض فكّ النزاع وفضّ الصراع؛ إذ بهذا الإذعان في التوجه الإيماني إلى حكم الله بخلوّ الأذهان ممّن سواه وانتفاء الاستهواءات المضلّلة، يأذن الله بالاهتداء إلى الحق الذي كان موضوع الاختلاف، كما ترشد إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه﴾[81]. ولمّا كان المتقصّد هو الحقّ في مثار الاختلاف ودواعي النزاع، وكان ذلك بين المؤمنين؛ أي الذين تجمعهم عقيدة واحدة موحّدة، فإن المنجد من هذه المآزق المتوحّلة في الخبط الخلافي، والمسعف من خضم هذه الضبابية المخيّمة، هداية الله للذين آمنوا بإشراق نور الحق فيهم تبديداً لما خامر رؤاهم من الباطل. فتتوحّد الرؤية من جديد. وتتواصل الهداية بينهم من دون عائق، فيلتئم الإجماع ويحصل الاتحاد وتزول أسباب الفرقة والتفريق بإجلاء النفس لشوائبها.

 

ولا تسمّى المباينة في الرأي اختلافاً بالتعبير القرآني الذي يركّز على جوانبه السلبية المتخلّفة عن الإجماع والاتحاد والوحدة معتصم المسلمين، إلاّ إذا كانت تحدث في معارضة العلم أو مقابلة البيّنات، وبهدف البغي ومناقضة الحقائق، فهي حينئذ اختلافُ تخلّفٍ وعدوان وتعنّت. وهي بذلك ممقوتة.

 

وأما اختلاف الرحمة، فاجتهاد على استبصار منافذ متعددة لصور الحق البادية للعيان المتفاوتة في عدساتها المبصرة لأنواره وضيائه ﴿ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور﴾[82] ولا يلام الرائي على تشكيلة المرائي التي يحدق بها حقل مرآه، وإنّما كلّ التثريب يقع على الأعمى المعاند، والساحر المتعنّت بالمبالغة في التخييل والخداع. والمفروض لدى العقلاء أنّ العلم حاسم قوي للاختلافات، فكيف تنجم بانتصابه؟ إلا أن يكون البغي مذكّيها كما يدلّ عليه بيان الآية الكريمة: ﴿فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾[83]. وخامة التفريق:

 

إذا كان الاختلاف فجا غير هادف بعيداً عن مطالب الحق، يخدم هوىً في النفس عرياً عن التقوى، كانت عاقبته بلا إمهال وخيمة في الحال، وبيئة في الآجل؛ إذ يعرض على محكمة الله - تعالى - يوم القيامة للفصل في تبعاته. أنظر إلى وعيده المتكرر في سور مختلفة: ﴿ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون﴾[84]، وفي قوله: ﴿إليَّ مرجعكم﴾ تذكير بالمآل النهائي الذي لا مفزع منه للإنسان عسى أن يرتدع عن تحذير اختلاف الشقاق والتفريق الذي سوف يعرض الانشقاقيين لا محالة لصرامة حكومة الله العادلة وقضائه الفصل: ﴿إنّ ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾[85]. وليس أوخم على ذوي الدينونة الواحدة من التشرذم والافتراق ولذلك فـ ﴿إنّ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء﴾[86]، هذه البينونة الكبرى الداعية إلى التمزّق والشتات ناشئة في التحليل الأخير عن انتفاء الشعور بالانتماء الواحد ولذلك صحّ القول: "لست منهم في شيء" وهو نفي مطلق للانتساب إلى هؤلاء القوم الذين اتخذوا دينهم سبيلاً لتكوين الفرق والشيع. والأصل في الدين أنه جامع موحّد، فلست منهم في شيء وإن استوطنتم بلداً مشتركاً. ذلك صنيع المشركين: ﴿ولا تكونوا من المشركين من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً﴾[87]. إن الإطناب في هذا المضمار ملذوذ بما يحمله في واقعنا الإسلامي الملغم بالمؤامرات، والمكائد من رسالة استحثاث على واجب الوحدة المقدّس، إلا أنّنا نختم لضيق المجال، بأنّ تشابك السّبل وتشعّب المناهج وتداخل الطرق كل ذلك مبدّد لجهود الوحدة حائل دون التوحيد: ﴿ولا تتعبوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله﴾[88]، ولا عاصم من التبدد والإمّحاء ولا جامع للأوزاع إلاّ: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا﴾[89]. فلسفة التقريب:

 

تعتمد فلسفة التقريب إذا ما جدّ التفاهم، في ظروف عولمة التكالب على العالم الإسلامي و"كوكبة" الصهينة المبطنة والسّافرة ضده، على اجتثاث بذور الخلاف الأولى، سيّما تلك التي غذّتها تأثيرات عصبية، أو بعض الحمية الجاهلية[90]. وبناء على تقبل فكرة التنّوع وأدب الاختلاف تحت سقف القواسم المشتركة التي تظلّل الكيان الواحد، بعيداً عن معاول الخلفية السياسية لتاريخ العقيدة، والفقه، والأصول[91]، في كنف احترام كامل للعقل وكرامة المسلم؛ بحيث يتحوّل فقه الصّراع من الخلافات الدموية القديمة التي تقشعر منها الأبدان وتتفتّت لها الأكباد كما يقول ابن حجر[92]، ومن ممارسات التكفير والتبديع والتفسيق، وكذلك من اتخاذه ملهاة ومسلاة في بلاط الملوك والأمراء[93]، إلى علم الخلاف، أو إلى علم المذاهب بتعبير أبي حامد الغزالي، تعنى به ثلّة من الفقهاء ذوي الورع والاختصاص، من دون خوض العوام، أو صنف المتفيقهين، أو الفرقاء الأصوليين، في حيلولة دائمة دون انقلاب الخلافات الفقهية إلى حواجز سياسية، أو دون أن تغدو المذاهب أحزاباً متهارشة[94] اتقاء لمحاذير لوَّحنا إليها آنفاً، أو أن يشيع تقليد جامد، فيصّور المذاهب الفقهية أو الكلامية كأنّها ديانات برأسها[95] بحيث "لا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولاً يخالف ما أفتى به إمامه كأنّ الحقّ كلّه نزل على لسان إمامه وقلبه، حتى قال طليعة فقهاء الحنفية في هذا الدور وإمامهم من غير منازع وهو أبو الحسن عبيد الله الكرخي: كلّ آية تخالف ما عليه أصحابنا، فهي مؤوّلة أو منسوخة، وكلّ حديث كذلك فهو مؤوّل أو منسوخ. وبمثل هذا أحكموا دونهم أرتاد باب الاختيار"[96]، أو أن تحتوشها جدر وهميّة أقيمت بينها[97]، سيّما أنّ جملة من صور الخلاف لا أساس لها[98].

 

كذلك يجدر الانتقال من الفقه النظري الافتراضي الذي لا مساس له بقضايا الأمّة إلى علم الدّين العملي، ونحن في دنيا الألفية الثالثة، وعصر الحاسوب والإنترنت، والفضائيات، والثورة الجينية من أجل ضبط حياتنا وطوارئها الجديدة بضوابط الشريعة في مرونة اجتهادية لا تلجئ بحال إلى ضروب التلاعب بالفتوى أو إلى فنون المخارج والحيل[99]، أو على الأدهى إلى وسيلة لتبرير الواقع بدلاً من تغييره وأسلمته. دعائم التقريب

 

مرتكز النصّ الشرعي:

 

وعوداً إلى صلب فكرة التقريب ذاتها التي قد يرتاب بعض المتوجّسين منها بقدر استعصاء تحرّرهم من سطوة المذهبية المتحكمة فيهم تاريخياً وتقليدياً[100]، فإننا قبل تقصّيها في دعاته المخلصين الأوائل ورعاته الأوفياء الدائمين، فلنتحرّ ينبوع بواعثها فيهم ولنستجل عوامل التحريض عليها في مكامنهم. والتحقيق الصحيح يعطي صراحة، ودون لأي أنّ المرجع الأساسي فيها بلا منافس هو اقتضاء النّص الشّرعي بالاعتصام بحبل الله - تعالى -. وأنّ حكم التوحيد في حق الأمة الإسلامية جمعاء سواء على صعيد الفكر، والحركة، والعقيدة، والمذهب أم على صعيد السياسة والجهاد والمقاومة، صادر من الله - جل جلاله-[101]، فهو إذاً، ليس في الأصل مشروعاً بشرياً أو تخطيطاً سياسياً أو مجرد استجابة لحتمية ظرفية عابرة، وإنما كما تبدّى في الحقيقة انصياع للأمر الإلهي وامتثالية تلقائية لدواعي الإيمان. من هذا المنطلق الاعتقادي الجازم تستجلى فكرة التقريب[102]، في مدافعة كلّية مطلقة لأي غرض دنيوي بحت، واستبعاد لكل نابتة أرضية أنى كانت. بعد هذا، فكلّ دعوة للتقريب هذا إذاً مدعاها، وكلّ دعوة للتوحيد هذا إذاً مبتناها. لحمة العقيدة

 

وبعد أن استبانت حتمية التقريب، وثبت وجوبه شرعاً يجيء الاستدلال معززاً: وأنه ليس من قبيل الاتحادات الإقليمية في مسوّغاته، ولا هو على نمط التكتّلات القارّية لتحقيق نفع عاجل، ولا هو من نحو التقارب الطائفي الاستراتيجي بين المسيحيين واليهود بتبرئتهم من دم المسيح وصلبه، كون ذلك ينافي أصلاً من أصول المعتقدات المسيحية المتغلغلة في وجدانهم والتي حملتهم على اضطهاد اليهود على مرّ عشرين قرناً من الزمان[103]. وإنما هو فريضة من صنع الدين الواحد.

 

في هذا المضمار يقول الشيخ الباقوري، وزير أوقاف مصر الأسبق بخصوص الحث على التقريب بين المذاهب الإسلامية والدعوة إلى نبذ المنافرة بين أهل السنّة والشيعة: "قضية السنّة والشيعة هي في نظري قضية إيمان وعلم معاً(...) فأمّا أنّها قضية علم، فإن الفريقين يقيمان صلتهما بالإسلام على الإيمان بكتاب الله وسنّة رسوله ويتفقان اتّفاقاً مطلقاً على الأصول الجامعة في هذا الدين فيما نعلم، فإن اشتجرت الآراء بعد ذلك في الفروع الفقهية والتشريعية، فإن مذاهب المسلمين كلها سواء في أن للمجتهد أجره أخطأ أم أصاب.

 

وأمّا أنّه قضيّة إيمان، فإني لا أحسب ضمير مسلم يرضى بافتعال الخلاف وتسعير البغضاء بين أبناء أمّة واحدة، ولو كان ذلك لعلّة قائمة فكيف لو لم تكن علّة قط.."[104]. المرتكز الأصولي

 

ناهيك عن أنّ التقريب في اعتقاد العلماء مطلب أصولي، وشرط عند الفقهاء في تحقيق الإجماع. وتأكيد ذلك مثلاً في قول الأستاذ عبد الوهاب خلاّف: "إن للإجماع أربعة أركان لا ينعقد شرعاً إلا بتحقّقها... وثاني هذه الأركان أن يتّفق على الحكم الشرعي في الواقعة جميع المجتهدين من المسلمين، وفي وقت وقوعها بصرف النظر عن بل

-2-

العائق الأول:

 

إذا كان المبتغى النزيه من الوحدة عبر التنوّع بناء الوئام الديني بين المذاهب بتعبير آية الله محمد مهدي شمس الدين-رحمه الله- على أساس من مقولة الحديث الشريف: "اختلاف أمتي رحمة". وعلى معنى اختصاص هذا الاختلاف بمجالات الاجتهاد، وبمضمون التنافس على الخير[129] في ساحات الفكر، فلا بد من تأسيس المشترك فقهياً لتحقيق الوحدة التي لا تلغي المذاهب. ذلك أن المذاهب منهج فقهي في استنباط الأحكام وأمّا الفِرَق فاتجاه في باب العقائد كلامياً. فاختلاف المذاهب عائد إذاً، إلى تنوّع في الأخذ بأدوات الاجتهاد وتصوّر الوسائل الذي يورث موقفاً معيّناً من النص في علاقته بالبيئة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية... ولا محيد كذلك من تأسيس المشترك سياسياً في ابتغاء بناء الوحدة الإسلامية الكبرى؛ ذلك أن المذهب يُلحَظ من حيث النشأة تارةً من جانب الفقه السياسي، وتارةً من جانب الفقه العام بخصوص طبيعة الخلافة مثلاً من منظور أهل البيت - عليهم السلام -، أو من منظور جماعة من الصحابة الكرام.. وشاءت الألطاف أن تغلّبت إرادة الوحدة. وأما تسييس التمذهب، فقد حدث متأخراً حينما أخذته بعض الدول متكأً سياسياً لها. أنظر مثلاً: كيف كان الإمام أبو حنيفة على خط سياسي مناهض للأموية مناصر للإمام زيد. وأما فقهياً، فكان يختلف مع الجميع ما حدا به إلى الاستقلال باجتهاده الفقهي[130] هذا عن العائق الأول في تسييس التمذهب. العائق الثاني:

 

ويتمثل في الخشية من أن يتحوّل الاختلاف الفقهي -كما حدث في العهود الماضية- إلى خلاف عقائدي تكون له تجليات سياسية وخيمة على مسار الأمّة، بعد أن كان هذا الاختلاف تبايناً مشروعاً في فهم النص. وإلا فالإمام مالك - مثلاً - قد يتوافق على صعيد العبادات مع الإمام جعفر الصادق، أو الإمام زيد بن علي-عليهم السلام- ربما أكثر من توافقه مع سائر أئمة المذاهب الأخرى. لا مشاحنة مع انتصاب الدليل، ولا مؤاخذة مع قيام الاجتهاد، وحفوف القرائن. العائق الثالث:

 

جهالة بالدين لا تلوي على شيء من حقائقه الدّامغة، ولا تقف على أساس من تعاليمه السمحة وفي خطاء عن أحكامه، وقيمه، ومثله، ومعاييره، تتخذ من المسمّى الذي تستمدّه من مجرّد الانتماء "الشعبي" الموروث ذريعة التخويل للتحدّث باسمه، أو عنه في خلط مريب وتعثّر هالك، تحسبه في أجواء التطبيل للديمقراطية حقاً للتعبير!! وإن هي تخلّت عن بعض عباداته أو عنها جميعاً! وهذا الصنف يلبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً[131]، وصاحبه كما يقول الإمام علي-كرم الله وجهه-: "جاهل خبّاط جهالات، عاشٍ ركّاب عَشَوات لم يَعَضَّ على العلم بضرسٍ قاطعٍ..."[132]. هذا من صوب، ومن صوبٍ آخر: متعالم أو متفيقه "قد تسمّى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضُلاّل قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحقّ على أهوائه..."[133]. العائق الرابع:

 

ويترتب على السوابق من الربوض في معاقل التقليد واطّراح الاجتهاد. وفي ذلك مظنّة الجهود الفكري ومزكاة الخلاف، وخير ما حصلت به الإحاطة قول المودودي بهذا الصدد: "ونضب معين الاجتهاد لغلبة الأمراء الجاهلين، ولحرمان العلوم الدينية تأييد الوسائل المادية، ففشا التقليد الجامد. ونما في المسلمين الخلاف المذهبي نمواً أحدث فيهم فِرَقاً جديدة حول أتفه الجزئيات والفروع. ونشأ بين هذه الفرق الكثير من التشاجر والتنازع ما أصبح به المسلمون كأنّهم على شفا حفرة من النار"[134]. على حين أن الاختلاف إذا كان ابتناؤه على أسس علمية، وكان الغرض منه تحرّي الحقيقة والتماس الحقّ، فلا ضير فيه البتة. "مهما بدا في ظاهره كبيراً [إذا] لم يخرج من أهمّ أوضاعه(...) عن حيز الاجتهاد المسموح به". كما يقول د. علي عبد الواحد وافي[135] سيّما إذا كان في أمور اجتهادية لا توجب كما يقول ابن حجر، إيماناً ولا كفراً، وكان الغرض منها إدامة مناهج الشّرع القويم"[136]. وليس أروع في هذا السياق مما رواه "الأوزاعي" حين قال: كتب عمر بن عبد العزيز أنه "لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض فيه سنة عن رسول الله(ص)، ولا رأي لأحد في سنّة سنّها رسول الله(ص)"[137]. العائق الخامس:

 

عبثية الإبقاء على التكلسات الأثرية للتفرّق. ناهيك عن جرم التحريش أو النبش في جثث التاريخ بعدما سكنت الفتنة الرجوف القاصمة الزحوف[138] [التي تثلم منار الدين، وتنقض عقد اليقين] و تهرب منها الأكياس، وتدبرها الأرجاس[139] سيّما بعد انقضاء القرون المظلمة واندثار دواعيها وبراءة ضروب الواقع اليوم منها. فما أبعدنا في هذا العصر عن الشّقاق حول شخص الخليفة الذي تطاحن عليه المتطاحنون قديماً! منذ صدر الإسلام! فلم إذاً، هذا التهريج الذي يصفه الشيخ الغزالي، ضمن كتابه: "ليس من الإسلام" وعدّه من الحمق[140]. والتحقيق يعطي أن كثيراً من صور الخلاف لا أساس لها، وأنها وليدة نسب كاذبة، ودعايات خلقتها بعض الظروف، وغذّتها سلطات في عهود غابرة[141] لا تستحق منا اللدد والملاحاة أو اللجاج. وإلاّ فأيّة فائدة تترتّب على إثارة ما تبالى بجراحه، ومآسيه في متّجه الوعي الحديث؟ ألا تجرّ هذه الحفريات اليائسة إلى فتنة تؤخّر المرحلة في موعد تقدّمها، وتفرّق الكلمة في ملتقى تجمّعها؟[142].

 

وخليق بكل مؤمن حصيف أن يتوقّى استمطار الملاعن التي لا تخطئ صاحبها حين يسوقها سيد المنذرين(ص)، وهي تترامى إليه عبر بريد أربعة عشر قرناً، وكأنّه المخصّص الأوحد بها، مساق التحذير: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".

 

ذلك أنّه لا يقلّ في الحقل الاجتماعي تكريس واقع التجزئة والتفريق في مقابل تماسك الأمّة الواحدة التي نصّت على مواصفات إخراجها شريعة الله وتحدّدت ملامح نموذجيتها في مجتمع المدينة الناشىء عن تكريس مناهج التغريب، وآثارها التدميرية في حقل العائد التي ارتسمت بوحي الله قواعدها في صيغتها الخاتمية بقرآنية: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾[143]. وإلاّ فأيّ معنى لزاعم يتبنى التوحيد معتقداً ويعمد إلى التفكيك مشترعاً؟

 

وعليه يتقرّر بلا ريب أنّ مناهضة الوحدة الإسلامية شريعةً بأيّ شكل من الأشكال ِإنّما هو في الأساس مناقضة للتوحيد عقيدة، في بعد من أبعاده سواء بسواء؛ إذ التعبّد حاصل بكلّ. وإلآّ فتلك تعضية الإيمان بدروس الدين، واختلاف الدينونة ممّا يجلب تثريب السّماء: ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض...﴾ لا بل يحقق استغضابها واستنكارها على هذا النحو للذين جعلوا الأمّة عضين: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافلٍ عمّا يعملون"[144]. العائق السادس:

 

وهو من كيد المتربّصين بأمّة هذا الدين العظيم الذين آلوا التفتيت والتشتيت وتوارثوه. فقديماً كانوا كما ينبّه إلى ذلك البغدادي: "...جماعة من دهاة أهل الأديان الأخرى وذوي الخبث والمكر منهم - وعلى الأخص اليهودية والمجوسية أيضاً - تظاهروا بالدخول في الدين الجديد وهم يضمرون في أنفسهم الكيد والمكر والخديعة، ويتحينون الفرصة للانقضاض على هذا الدّين(...) هذا فيما نعتقد هو الأصل الأصيل في الفرقة التي حدثت في الإسلام، وهو غضّ طري لم يكتمل عليه قرنٌ واحد..."[145].

 

وأمّا حديثاً، فقد تواصت به أجنحة المكر الثلاثة كما يسمّيها بحق "عبد الرحمن حبنّكة" في دراسته التحليلية المطوّلة عن التبشير والاستشراق والاستعمار. وهدفهم المشترك بات "تجزئة المسلمين أينما كانوا، حتى يمسوا أشتاتاً متباعدة متنافرة متقاطعة مبددة، لا تجمعهم جامعة ولا تؤلّف بين قلوبهم مودّة، ولا تعقد بين جماعتهم أواصر دينية، أو تاريخية، أو مصلحيّة"[146]. ومن أبرز أعمال الكيد التي حاكها الاستعمار في بلاد المسلمين: "إثارة الفتن والنّعرات الطائفية بين المسلمين وغيرهم والنّعرات القومية والمذهبية والحزبية، لاتّخاذ ذلك ذريعة للضغط على المسلمين وتبديد قواهم جميعاً، وتمكين الطوائف غير المسلمة من مواطن القوّة والمعرفة والمال في البلاد"[147].

 

على حين تحضّ "وثيقة من دولة استعمارية لنصارى وطنيين" على رصّ الصفوف ونبذ النزاع حين تقول في بندها السادس:

 

"من الدولة الأمّ إلى أبنائها المخلصين:

 

إن الاختلافات المذهبية بينكم يجب أن لا تخرج عن النظرية السطحية؛ لأن حياتكم مرهونة باتحادكم أمام العدوّ الكافر، من حيث إنّكم أبناء يسوع الذي علمنا المحبّة"[148].

 

وكفى بهذا واعظاً، فقد هال أعداءنا تآخينا في الله وترابطنا المتين في العقيدة على اختلاف الأعراق، واللغات، والبلدان. فلمّا عجزوا عن مقاومة اتّحاد شعوبنا خلال قرون "أوحت لهم شياطينهم أن يعمدوا إلى تفتيته بوسائل التجزئة المختلفة، ضمن خطة مرسومة، وبدأوا يضربون في ذلك الطوّد الهائل أسافين الشقاق..."[149]. وذهبوا إلى أبعد من ذلك في التبديد، حيث اقتضى مكرهم نقل الصّراعات من دائرة الخلاف السياسي الذي قد يطويه الظرف الزماني أو المكاني إلى دائرة خلاف اعتقادي ديني، كي تتوارثه الأجيال وربما اصطبغ بمرور الزمن بالخلاف الطائفي الذي يستعصي دفعه[150]: "ذلكم وأنّ الله موهن كيد الكافرين"[151].

 

وصفوة القول، لما سئلت السيدة المجاهدة زينب الغزالي، عن رأيها في مشكلة التفريق بين المذاهب الإسلامية، لم تعتم بالإجابة قائلة: "لاشك أن هذه مؤامرة صهيونية، إنني أرى أن الشيعة الجعفرية والزيدية مذاهب إسلامية مثل المذاهب الأربعة لدى السنّة(...) وأدعو إلى اجتماع علماء الإسلام من كلّ المذاهب للتصدّي لتلك المؤامرة الصهيونية... وكان الشهيد الإمام حسن البنا يرى أن المسلمين سنّة وشيعة أمّة واحدة، وأن الخلاف المذهبي لا يفرق وحدة الأمّة"[152]. العوامل الموحّدة

 

فرش الحيثيات:

 

1- إنّما المقصود بها في الأساس محاربة احتكار تعاليم الدّين لأيّ كان. فقد ذهب "ابن حزم" إلى تحريم التقليد قائلاً: "ولا يحلّ لأحد أن يأخذ قول أحد غير قول رسول الله(ص) بلا برهان لقوله - تعالى -: ﴿اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تّتبعوا من دونه أولياء﴾[153] [154]، ومدافعة ادّعاء الأعلميّة المطلقة لأيّ مذهب كان. يقول "ولي الله الدهلوي": "فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد - رضي الله عنهم -، ولم يترك قول من اتّبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنّة غير صارف ذلك إلى قول إنسان بعينه: إنه قد خالف إجماع الأمّة كلّها من أوّلها إلى آخرها بيقين لا إشكال فيه"[155]. أو التحيّز لأيّ فقيه كان مهما علت مرتبته. روى "الحاكم" و"البيهيقي" عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال يوماً للمزني: "يا أبا إبراهيم لا تقلدني في كلّ ما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنّه دين..."[156].

 

وكان الإمام أحمد - رضي الله عنه - يقول: "ليس لأحد مع الله ورسوله كلام". وقال أيضاً لرجل: "لا تقلّدني ولا تقلّدن مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، خذ الأحكام، من حيث أخذوا من الكتاب والسنّة"[157]. كذلك الوحدة تعني مناهضة القول بإلزامية المذاهب سيّما حين يصبح الإلزام بها أمراً رسمياً. يقول أسد حيدر: "ولقد أثرّ هذا الالتزام في وحدة المسلمين ففرّق كلمتهم، ونشبت بين معتنقي المذهب حروب دموية نتيجة للخلافات المذهبية وادّعاء كلّ فريق أنّ الحقّ له دون غيره، وأنّ إمامه هو المنفرد بمنزلة العلم وأهلية الاتّباع..."[158]. وهذا بعينه ما يسميه "الشاطبي" بالتغالي في التعظيم الذي يورّث التعصّب للنّحل[159] حتى يتأدّى "ببعض المقلّدة لمذهب إمام أن يزعموا أنّ إمامهم هو الشريعة"[160].

 

2- ولا يذهبّن في التخمين أنّ هذا من قبيل الدعوة إلى الانسلاخ المذهبي، أو إلى الفناء في الآخر كلاّ! وإنما هو الحث أساساً على اعتبار: "أنّ تحكيم الرّجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال، [بل] إنّ الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غيره"[161].

 

3- ولمزيد إيضاح نبيّن أنّه من الخطر في تصوّر الوحدة "المذاهبيّة" الذهاب إلى أنّها تؤسَّس على إلغاء المذاهب، أو أنّها تقوم على اعتناقها جميعاً بلا فرز، أو باستنساخ مذهب توفيقي، أو بناء على انتقائية من نحو متتبّعي الرّخص ومقتنصيها منها جميعاً، على أقوال متراوحة بين الإباحة والحرمة. وإنما هي بوازعية الورع اجتماع على الكليات، واجتماع على القطعيات، وسعة في الجزئيات، وتسامح في الظنّيات، على معنى المقولة الشهيرة أن نتّفق على ما يجمعنا ويعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه.

 

فنحن إذاً أبعد من أن نتمثل قول الشاعر:

 

عقد الخلائق في الإله عقائداً وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

 

ولا نسجنا هذه الوحدة المنشودة على غرار صوفية ابن عربي:

 

لقد صـار قلبـي قــابلاً كل صورة فمـرعى لغــزلان وديـر لرهبان

 

وبيــت لأوثان وكـعبـة طــائف وألواح تـوراةٍ ومصحـف قــرآن

 

أديــن بديــن الحـبّ أنى توجّهت ركـائبه فالــــحبّ ديني وإيماني

 

4- وحيثية أخرى تتظافر مع الأولى: "ألا تتجارى بالمتمذهبين الأهواء. والأصل في الشريعة أنها موضوعة لإخراج المكلّف عن داعية هواه"[162]. وعليه فابتناء القاعدة في مجتهداتنا: أن تكون أهواؤنا تبعاً لديننا لا أن ينقلب الدين تبعاً لأهوائنا. فقد "خرَّج ابن وهب مرسلاً أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "إياكم والشّعاب!" قالوا: وما الشعّاب يا رسول الله؟ قال: الأهواء"[163]. ولا ريب في أن منشأ الابتداع يعود إلى الاستهواء والمشايعات الذاتية وممازجة حظوظ النفس، وهو مخالف لحقيقة التسليم[164]؛ سواء في تحكيم عقول الرّجال دون الشّرع للمحقب الذي دينه الرجال أم لمن وافق الشرعُ آراءهم فقبلوه وإلا ردّوه[165]. وهذه بعينها المزلاّت المحذورة في الحديث الشريف: "إني أخاف على أمّتي من بعدي من أعمال ثلاثة-قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليكم من زلّة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"[166].

 

ولنا في المرشد الأعظم(ص) الأسوة الأسمى حيث اصطفاه الله "من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه، فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه: ﴿وإنّك لعلى خلق عظيم﴾. وإنما ذلك؛ لأنّه حكّم الوحي على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه"[167].

 

5- وحيثية أخرى نزوع قويّ لدى الضمير الإسلامي إلى رغيبة الائتلاف والتعاون، ونبذ الفرقة بالعجلة المحمودة[168]، دون تراخٍ أو توانٍ بهدف التعبّد بتقوية الإسلام، وتنقيته من الشّوائب العالقة والمعكّرات المترسّبة عبر عصور الفتن والركود وحصر الاجتهاد. والعزم على أطراح الشاذّة والفاذّة في تقديم تاريخه وعرضه الجديد للناشئة البرءاء البله تنمية مبكرة لأجيال المحبّة والألفة. الرائد في هذا النهج الودّي المسؤول حوافز كثيرة، وأقوال مأثورة لمن اجتمعت لهم أدوات الاجتهاد، كالتي أوردها الشاطبي: "كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء وفرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة حدثت وطرأت، فأوجدت العداوة والبغضاء، والتدابر والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء"[169]. وهو استخلاص قويّ يستقي من مشكاة الآية الكريمة: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله﴾[170]. "فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الردّ إليها فائدة"[171] ولذلك "روى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنّ أهل الرحمة لا يختلفون"[172]. ولعلّ من أبرز وجوه هذا التعاون وأوكده في زمرة العلماء المعاصرين اعتماد "الاجتهاد الجماعي" عبر مجمع فقهي عالمي لا ينفي بالضرورة الاجتهاد الفردي...[173]، ولا يحدث شرخاً في الإجماع العالمي العام، وينمّي الحرية الفقهية للكفاءات العالية والملكات الخاصة دونما حجر أو تقييد أو استمالة، والجامع في هذا التآخي والاتحاد - وهما فريضة إسلامية - قاعدة التسامح التي صاغها صاحب تفسير المنار: "نتعاون فيما اتّفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".

 

6- وإذا كانت حكمة الدين تقتضي تسكين الثائرة، فلا ينبغي - سيّما في ظروف الأمّة المهمومة - النبش المغرض على براكين الفتن البائدة، وتسعيرها من جديد، وبعث العداوة والأحقاد وشحن الحاضر بالخصومات القديمة والدفينة في رموس الماضي البعيد التي أصبحت من أشلاء التاريخ. وعسيّ بنا ألا ننفخ في نار خمد أوارها وانطفأ بحمد الله لهيبها، وأسبابها قد أصبحت غير ذات موضوع[174]، ولا يوجد أي مبرر لإحيائها اليوم بوجه من الوجوه[175]. بسط المعطيات:

 

وتقترن بتلك الحيثيات المشيّدة هذه المعطيات المؤسّسة.

 

أولاها: يقين أننا بفضله - تعالى - جميعاً موحّدون مسلمون على نهج المحجّة البيضاء من أهل قبلة واحدة. وكفى بمحتدها مكرمة ربانية، ومفخرة آدمية وعصمة من التركاض في الضلال والشتات: ﴿بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان﴾[176].

 

وثانيتها: أننا باختيارنا الأصلي[177]، وشهادتنا الواعية الحرّة لعقيدة التوحيد ملزمون شرعاً بالتوحّد والاتّحاد ومكلّفون بنصوص الوحي ورسالة السماء ولا مناص، بتشييد مرصوص بناء الأمّة المتوحّدة طبقاً للمواصفات الإلهية وعلى نحو الطّراز الذي نزل به تشريع الله - تعالى - خيريّة وإخراجا للنّاس ووفقاً لبلاغات الرّسول(ص) المتوّج بختم الحنيفية السّمحة، لاسيّما "الصحيفة" النّبوية الخالدة التي صنّفها د. محمّد حميد الله على أساس أنّها "دستور الدولة البلدّية بالمدينة"[178] والتي نصّت في بنديتها التاريخية ابتداء وبهذه الأحرف النورانية على: "أنّهم أمّة واحدة من دون الناس"[179] (الفقرة 2) وفي (الفقرة 15): "...وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون النّاس"[180]. والملفت النفيس في التكوينة الاجتماعية الجديدة بهذا المسمّى الدستوري الحديث "الأمة" هو النقلة النوعيّة لبنية الوعاء الاجتماعية الحضاري الناشئ، والحاضن لكافّة معتنقي الإسلام، من شعار القبيلة إلى شعار الأمّة.

 

وهذا كما يعلّق ظافر القاسمي: "شيء جديد كلّ الجدّة في تاريخ الحياة السياسيّة في جزيرة العرب"[181].

 

والأبرز في توثيقة النظام الدستوري الحضاري هذا هو نص الصّحيفة النبوية ليس فقط على تكوين الأمّة، بل على قيام الأمّة الواحدة. وفيه أكثر من دلالة على أنّ رمزيّة وظيفة الإيمان المكوّن لهذه الأمّة والجامع لها، يجب أن تتحول ولا مندوحة، إلى تكتّل اجتماعي عالمي موحّد تذوب فيه سائر الأميمات. فإلى جانب هذا التّمييز الحضاريّ بخاصيّة تكوين الأمّة ينضاف متميّز آخر وهو الوحدة الكبرى، أو الأمميّة العالمية بالاصطلاح السياسي العصري، إذ خلعت الوثيقة عليها وصف الأمّة الواحدة. وثالث المميّزات المنصوص عليها بمحظوظية فريدة، وظفر مخصوص، وامتياز محبور أنّها: "من دون النّاس". وقد ذُكِرت هذه الصّفة المائزة كرّتين: (فقرة 2) و(فقرة 15) و ﴿وأمّا بنعمة ربّك فحدّث﴾[182]. وفي الحديث "أنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده".

 

ومعطاة أخرى ﴿وما كان عطاء ربّك محظوراً﴾[183] ﴿عطاء غير مجذوذ﴾[184]، هي: منيحة هذا الدّين الأغر لهذه الأمّة الممتازة بالتّخصيصات الآنفة، والتي تتمثّل في وحدة التّشريع القائمة للجميع بلا مراء ولا منازع في انتظار قيام الوحدة الفقهيّة المأمولة بمدد من السّماء، حين يأذن الحقّ سبحانه بملء الأرض عدلاً وقسطاً. عرض الرّوابط

 

عوامل الوحدة هي الرّوابط التي تحول دون الفرقة والتدبّر على الأدنى. وإخال معطيات التوحّد على وفرة وسخاء كما مرّ. ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن عصارة التّعاليم في شأن الوحدة أنّها متعلّق ربّاني، وسنن نبويّ وسوسيولوجيا علويّة منقطعة النّظير ما أومأنا إليه سلفاً. فلا جرم إذاً أن تلتحم قلوب المؤمنين بجسور الرّبط التي تسدّ الثّغور وتفتأ الضغائن. من جملتها هذا المسرد المقتضب بحسب مقتضيات الظّرف الرّاهن، حتّى يضرب الدّين بجرانه:

 

الرابط الأوّل:

 

الوعي التاريخي بالتّداخل العلمي بين المذاهب الإسلامية لعائدة الانتماء الواحد والنّهل من المصادر المشتركة، وإن كان بطرق مختلفة، فضلاً عن التلقّي الموحّد والتّتلمذ على نفس الشّيوخ والمدارس قبل الاستقلال بالمناهج والاجتهادات: "والمعروف أن كتب الحديث عند أهل السنّة نقلت عن حوالي مائة من الشيعة، منهم شيوخ في البخاري..."[185]. وفي "المراجعات" بين عميدي الطائفتين مائة من أسناد الشيعة في إسناد السنّة[186]، مرتّبة على حروف الهجاء. ومّمن تتلمذ على الإمام الصادق(ع)، وروى عنه من الثقات أربعة آلاف من مشاهيرهم من أصحاب الصّحاح كالبخاري، ومسلم، والترمذي، وأصحاب السّنن، وأئمّة المذاهب، كأبي حنيفة، الذي اشتهر قوله: "ما رأيت أعلم من جعفر بن محمّد". و"لولا السنتان لهلك النعمان". ومالك بن أنس القائل: "ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد"[187]. وما دام الإتّفاق على المتن والأصول فما ضير التعدّد في الأسانيد والفروع؛ إذ "الخلاف ليس على السنّة أو حجيّتها بل على ثبوتها أو عدمه"[188]. وعلى سؤال ما إذا كان أبو حنيفة في نقوله عن أهل البيت(ع)، سنيّاً أم شيعياً؟ يردّ شيخ الأزهر السّابق عبد الحليم محمود دون غرابة ولا عقدة: "لقد كان سنيّاً في عقيدته، شيعياً في ميوله وحزبيته"[189].

 

"فما أحسن ما يتعارف به العلماء من الرّوح النّفي والقول الرّضى والخلق النّبوي"[190]، ممّا يرتِّب عليهم العبء الأكبر في لمّ شمل الأمّة؛ إذ الوحدة الدينيّة أسبق من الوحدة السياسيّة. وللعزائم القوية رجال وإن عزّوا، ورجل ذو همّة يحيي أمّة. الرّابط الثاني:

 

هو التأسي بتسامح الأئمّة وتواضعهم وورعهم وتوخّي معاييرهم الخلقيّة، والعلميّة في فقه الاختلاف، وآداب المناظرة، وأسس الحوار البنّاء، ومهارة الاحتجاج النّبيل بدليل لا يترك خليجة، وبرهان لا يدع وليجة، من دون غطرسة أو تنطّع أو اغترار، بل في كنف أخوّة في الدّين ووئام، باعتماد قاعدة الإمام الشّافعي(رض)، في الاجتهاد: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، إدراكاً منه لإمكان تعدّد الصواب وتقديراً للرّأي المخالف في دائرة الظنّيات، وحتميّة الاختلاف في تحقيق المناط، أو تكييف الواقع[191]. ليس دون الالتزام بقاعدة صاحب المنار: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه". ولا نسأم من تكرارها في هذ المساق المناسب أيضاً.

 

ولم تكن خلقيّة التّسامح حلية المتحاورين أو سمة في المتجادلين، نزولاً عند آداب الإسلام وحسب، بل تتحوّل في مدارج الارتقاء الروحي والاحتياط للحقيقة التي قد تكون بحوزة الطّرف الآخر إلى ما لا نظير له في مجال التأثّم من الارعواء، أو الرّدع الذاتيّ الذي يسوقه صاحب الإحياء من حديثه(ص): "تكفير كلّ لحاء ركعتان"[192] فضلاً عن أنّ التسامح قد طبع مناهج الخطاب لديهم، ورسم طرائف التّحليل، فأنتج فرائد اصطلاحية، وعبارات أدبيّة تنم عن أرقى الأساليب الحضارية في النّقد والحوار، وألصقها بالعلميّة الموشّاة بالتواضع في نشدان الحقائق والمباحثة عن الحقّ، دون منازعة، أو مواربة. من مثل قولهم: "هذا أحوط" في باب الاحتياط. و"هذا أحسن"، أو "هذا أحبّ إليَّ" في باب التفضيل، أو "هذا هو المختار". وفي باب التواضع: "والله أعلم"، أو "ما بلغنا إلا ذلك"، أو "لا أدري". كلّ ذلك في متاركة للتّضييق، والحجر، والاتّهام، أو الطّعن والتجريح، أو الانتقاص والتضليل. ولم يقف تسامحهم عند المبدأ أو المنهج، بل راح يتدرّج عمليّاً إلى ميادين التطبيق، ويتجسّد في مواقف ومسالك تحتذى. أنظر إلى أبي حنيفة وأصحابه والشّافعي وأصحابه وغيرهم كيف كانوا يصلّون خلف أئمّة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرأون البسملة لاسراً ولا جهراً.

 

وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرّعاف، والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدّم ولم يتوضأ هل تصلّي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلّي خلف الإمام مالك، وسعيد بن المسيّب؟

 

وصلّى الشافعي - رحمه الله - الصّبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة - رحمه الله -، فلم يقنت تأدّباً معه. وقال ربّما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق. وسئل الإمام الخجندي - رحمه الله - عن رجل شافعي المذهب ترك صلاة سنة، أو سنتين، ثمّ انتقل إلى مذهب أبي حنيفة - رحمه الله -، كيف يجب عليه القضاء أيقضيها على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة؟ فقال: "على أيّ المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها، جاز [193]. لكنّ هذه الصّور الجميلة والمواقف الحليمة الرّائعة لا تحول دون استقصاء وجه الحقيقة من التّسامح المحثوث عليه، فهل التّسامح يعني تنازلاً عن الحقّ وإن تغّيى مصلحة؟ أم تصديقاً لكافة الآراء، ومجاراة لسائر الأفكار المتضاربة؟ بغرض مهادنة المعارضين، حتّى وإن كانواعلى باطل؟ ذلك هو أشنع أنواع النّفاق كما يقول أبو الأعلى المودودي[194]، في محاورة أهل الملل والنّحل. أم هو مشايعة بتعطيل دعوة وسكوت أو إمساك عن إثارة، لكسب الرّضا وجلب المودّة؟ فذلك أيضاً معدود من أقذر أنواع المجاملة"[195] خلقيّاً وعلميّاً.

 

وعلى صعيد آخر، فهل هو من قبيل ذرائع التسامح المشبوه في دنيا السياسة؟ كلا! لانفكاكها عن الأخلاق. وهذا لا يصلح بحال في مجال الدّين ولا يخدم الحريّة الفقهية في قضايا الاجتهاد. ولا يغيبنّ عنّا أنّ الخلاف فيه مشروع، بل هو الحافز الحثيث فيه. فضلاً عن جبليّته في الإنسان كما اتّضح بل حتّى في الملائكة[196] والأنبياء - عليهم السلام-[197]. وإنّما التّسامح الإسلاميّ المرافق لفنّ الاختلاف الاجتهادي بين المذاهب الإسلامية غير التسامح المتوخّى في الحوار والدّعوة مع الملل والأديان الأخرى؛ إذ المكرمة بيننا آيلة إلى وشائج العقيدة وجوامع الشريعة من دونهم. واجتهاداتنا تراحم يؤكده تعدّد وجوه الحقّ، والصواب المنبثقة من الينابيع الواحدة. فليُعلم.

 

وعليه، فالتّسامح المرجو لا ينتهك حرمة الإيمان، ولا يخرق ميثاق الأخوّة، وهو بالتحديد أن نتحمّل على غرار مناقب أولئك العظماء الأفذاذ، النّاجم عن الآراء الاجتهاديّة المباينة بسعة صدر دونما طعن، ولا تجريح أو تشنيع، ومصارمة أو إلجاء إلى صرف أصحابها عنها بالإكراه، حفاظاً على وحدتنا المتعبّد بها، وبحكم اتّفاقنا -وهذا هو المغنم الكبير لهذه الأمّة المرحومة - على العبادة والمعبود، نقيض ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتى تتّبع ملّتهم﴾[198]، بعيداً عن أجواء المصاخبة، وأساليب المغالطة لدواعي الأصول الواحدة، وبواعث المشتركات الكثيرة تحقيقاً لأمر الخالق - سبحانه -: ﴿إنّما المؤمنون إخوة﴾[199]. الرابط الثالث:

 

إنّ الاتكاء على الرّابطين الآنفين كفيل حقّاً بأن يشرع أبواب التفاهم؛ إذ لا أقلّ في اعتمادها من ضمان انتهاد التّقارب، ورفع الحواجز، وإذابة جلمود التّصارم، ومدافعة الخلفيات المسبّقة بالتعبير الحديث أوتفادي سوء الظن والتعصّب المقيت. ولكي ينتعش هذا التّفاهم المأمول ويتنامى في أعماق أمّة رسّخ الشّرع فيها سنّة الشورى وطبع علاقاتها البينية بميسم الحميمية، حيث أمر الله - تعالى – بـ:﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم﴾[200]، وذكر سياق امتنانه بائتلاف القلوب إسباغ نعمة التآخي حين قال - سبحانه -: ﴿فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً﴾[201]، لكي تتحقّق هذه المفاهمة دون تعطّل أو تعثّر، وتسير سيرها المحمود لا مندوحة من جملة إجراءات محتّمة:

 

أ- ابتداء بعزم على تخطّي الخلافات القديمة، سيّما إذا كانت حبيسة ظروفها أسيرة دواعيها، ولا مستند لها البتّة في واقعنا، ولا ثمرة منها ترتجى، والخوض فيها مضيعة للوقت[202] متلفة للألفة والمودّة، وفي استبحاثها خدمة لمتربّص بوحدة الأمّة. بهذا ابتغاء وجه الله، ودونه ابتغاءُ الفتنة والزّيغة، والله أعلم.

 

ب- قناعة بامتلاك الجامع الكبير والفارق الصّغير، واغتنام مشتركات هي أوسع من المختلفات. هذا هو الحدّ الضروري الأدنى لتفجير كوامن التفاهم ومناجم التّقارب وتأصيل الاتّحاد المنشود بين المسلمين.

 

ولما كانت مرجعيتنا فيها "نصوص محتملة" تخوض فيها "عقول مختلفة"، فليس أمامنا إلاّ أن نسلّم بمنطق "الرأي والرّأي الآخر". ولا أقلّ من هذا في الاتّصال الإنساني المعقول الذي يضمن ألاّ يتحوّل الاختلاف إلى خلاف والحوار إلى جدال والمناظرة إلى صراع[203]. وصدق حقّاً من اعتبر هذا الحدّ الأدنى خيطاً رفيعاً لا يدركه إلا أولو الألباب، وخطّا أحمر لا يتعداه إلاّ السفهاء[204].

 

ج- يقين بمشارف الالتقاء بنسبة عالية قدّرها سماحة السيّد محمّد حسين فضل الله "بتسعين بالمائة"[205] بالنّظر إلى نقاط الاتفاق. وبهذا "سوف يكون اللّقاء أيسر ممّا يظن الكثيرون، وفي اللّقاء قوة وفي جمع الشّمل عزّ ومنعة، وسعادة"[206]. ويؤكّد صاحب المراجعات: "لو أنّ كلاّ من الطائفتين نظرت في بيّنات الأخرى نظر المتفاهم لا نظر السّاخط المخاصم، لحصحص الحقّ وظهر الصبح لذي عينين..."[207]. ومنتهى الغرض من اجتماع هذه العزائم الثلاث المتقدّمة، أو ما أطلقنا عليه إجراءات الرّابط الثالث في محصّنات التّقارب ومفلحات التفاهم أن تترعرع شجرة التقارب الإسلامي.

 

ولعمري كم كان الشيخ أحمد حسن الباقوري، مدير جامعة الأزهر الأسبق -رحمه الله- موفّقاً في وعيه وواقعيته حين قال، في ندوة الأزهر حول التقريب بين المذاهب: "الواقع أنّ الإسلام لا يطلب التّوحيد بين المذاهب، ولكنّه يمقت أن يكون بين المذاهب خلاف يصل إلى حدّ العداوة. وما دامت المذاهب قد وُجدت نتيجة أمرين، وهما: نصوص محتملة وعقول مختلفة، إذاً فالتوحيد غير محتمل الوقوع بالمرّة...: في رأيي التّقارب الواجب، هو أن يتفهّم كلّ فريق مذهب الآخر... وهذا هو التقريب الذي نرجوه"[208]. الرّابط الرّابع:

 

استعادة الوظيفة الحيوية للاجتهاد، فهي الدّعامة الرّكينة في البناء العلمي الصّحيح لآفاق التقارب الذي يتطلّع إليه المسلمون. وهي عنوان القدرة على المواكبة والمعاصرة والإحداق بالعالمية ودليل صلاحية الاستشراف، فضلاً عن الهيمنة على الواقع ومستحدثاته. وما استحثاثات فتح باب الاجتهاد من لدن علماء الأمّة الرّساليين في القديم والحديث الذين استنكروا غلقه دون دليل شرعيّ مؤيّد، إلاّ أن يكون دعاة التقليد في ركاب السّلطان "وآلة السياسة وأعوان الرئاسة"، وما نفورهم من إقفاله بغير وجه حقّ إلاّ لإدراكهم أنّ في التقليد سرّ تأخّر المسلمين، وإهمالاً للعقل وقطعاً لطريق العلم وحرماناً من استقلال الفكر والمحققون يعلمون أن منشأ هذا الحجر السياسة، فالسّلاطين والأمراء المستبدّون لا يخافون إلاّ من العلم ولا علم إلاّ بالاجتهاد. فقد نقل الحافظ ابن عبد البّر، وغيره الإجماع على أن المقلّد ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيّم؛ إذ العالم بالشيء هو من يعرفه بدليله.

 

لذلك فالإجتهاد عكس ما يظنّه البعض أو ما يذهب إليه مناهضوه، كفيل بتحقيق التفاهم بين المذاهب والتّقارب بين المجتهدين على أساس قاعدة واحدة، إذا قدّر له أن يسير في الاتّجاه الصّحيح. كما فيه ضمانة قوية لزوال الخلافات، وأما نضوب معين الاجتهاد لغلبة الأمراء الجاهلين فمدعاة لفشوّ التّقليد الجامد، ونموّ الخلاف المذهبيّ ونشوء الفرق المتنازعة.

 

ولقد عارض من قبل انسداد باب الاجتهاد وتحت القهر والإكراه، حتى أيّامنا هذه أمثال أبي الفتح الشهرستاني(ت 845هـ) وأبي إسحاق الشاطبي(ت 097هـ) والسيوطي(ت119هـ) الذي ألّف رسالة "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الاجتهاد في كل عصرٍ فرض". وقال الشوكاني: "من حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم الشريعة على من تقدّم عصره، فقد تجرّأ على الله عز وجل، ثمّ على شريعته الموضوعة لكلّ عباده، ثمّ على عباده الّذين تعبّدهم بالكتاب والسنّة". وقد تساءل جمال الدّين الأسد آبادي(المشهور بالأفغاني)، عن معنى: "باب الاجتهاد مسدود"؟ وبأيّ نصّ سدّ؟ وأيّ إمام قال: لا يصحّ لمن جاء بعدي أن يجتهد ليتفقّه في الدّين؟ ويرى الشيخ محمد عبده في الاجتهاد الوسيلة المشروعة الملائمة بين أحداث الحياة المتجدّدة وتعاليم الإسلام. ومثلهما محمد رشيد رضا الذي يرى أن "لا إصلاح إلاّ بدعوة ولا دعوة إلاّ بحجّة ولا حجّة مع بقاء التقليد فإغلاق باب التقليد الأعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كلّ إصلاح، والتقليد هو الحجاب الأعظم دون العلم والفهم".

 

فالتقريب والتفاهم والوئام "المذاهبي" رهن بالاجتهاد والمجتهدين؛ ولكي يكون كذلك بحيث ينسج الرّوابط العلمية والوشائج الأخوية فمن الحكمة ابتناؤه في الرّاهن على هذه الأثافي:

 

أ- العرض الجديد لتعاليم الإسلام:

 

عرضاً مبرّأ من علائق ماضٍ راكد مشحون بفتنه، وشحنائه معفى من كدوراته ووعثائه منفتحاً على الحاضر بصفائه ونقائه مستشرفاً لغد أرغد وأزهر، واعدٍ بإسلام الوحي الإلهي محجةً بيضاء ليلها كنهارها.

 

هذا اللباب المصفّى الذي طالما شغل الدّعاة والمصلحين في مناهج التّجديد والإصلاح هو الرّحيق المختوم الجامع لشعث الأمّة. ولقد فطن الشيخ محمّد عبده إلى ضرورة هذا العرض الجديد المشذّب من أجل تحقيق النّهضة الإسلامية في عصرنا بهذا التشخيص الانتقائيّ المحدّد الذي يرى أن "الإسلام ليس إسلام المذاهب والفرق ولا إسلام المقلّدين ولا إسلام المبتدعين ولا إسلام السّلبييّن من أرباب الطرق الصوفيّة. وإنما إسلام القرآن الذي يحثّ على الإعداد الإنساني لهذه الحياة، وهو الإعداد القائم على الذاتيّة أوعلى عدم إلغاء الشّخصية الفرديّة، والإجتهاد مطلوب للإسلام. هذا مع تنقية الدّين ممّا اعتوره من الشّوائب التي طرأت عليه بتوالي العصور وتغالب الدّول واختلاف أغراض أصحابها وأئمتّها".

 

وبإيضاح أدقّ، وتعبير صريح يهفو بجرأة إلى تصفية بعض "العقد" التّاريخية التي ما برحت تحول دون مراجعة الذّات تتحدّد "المهمة الحقيقة التي ينبغي للعقل الإسلامي الرّاهن أن ينشغل بها، وهي أن يعيد عرض الإسلام على العالم، عرضاً يعتمد على الوعي الخالص، أي النصّ المتواتر، وليس على المنظومة التّاريخية المبنية على الفقه، وما وراءه من روايات"، في إشارة مباشرة إلى التحرّر من الوصاية التاريخية والسياسية التي تكبّل انطلاقته من جديد بمديونية ثقيلة من الخلفيات السّلبية والأفكار المسبّقة التي غذّت الصّراعات، والفتن، وشتى التمزّقات. ب- العناية بهموم الأمّة الإسلامية:

 

طبقاً لمراشد سنّة نبيّنا(ص) التي تعتبر "من أصبح لا يهتمّ بالمسلمين فليس منهم"[209]. والغرض كما لا يخفى تحريك وعي الناس بذاتهم وبمصيرهم ووحدتهم وليس شيء يجمع المُصابين كالمصائب، ولا أخطر على الأمّة من فراغ النّفوس من الهموم الكبيرة والآمال العظيمة والأحلام الواسعة. ولما كانت مشاكلنا عويصة ومآسينا كثيرة يقول د. القرضاوي: "أفيسع مسلماً غيوراً على دينه، مهتماً لأمر أمّته -عنده مسكة من عقل- أن يعرض وينأى بجانبه عن هذه الهموم الضخمة، ثم تراه يقوم، ويقعد، ويبرق، ويرعد من أجل جزئيات علميّة، أو سلوكية، لا تدخل في دائرة الضّروريات، ولا الحاجيات. وإنّما هي كلّها في نطاق التّحسينات والكماليات، وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي أن يمزّق الشّمل الملتئم ويوقظ الفتن النّائمة، ويحرّك العصبيات الساكنة. هذا على حين نجد العالم من حولنا يتناسى الخلافات الجذرية بين بعضه وبعض، وهو ما أثمر التّقارب العالمي الذي نشهده اليوم على أصعدة شتّى". جـ- الالتفات إلى الخصم الحقيقي المشترك:

 

الذي لا يهدد وحدتنا وحسب، بل يستهدف وجودنا كأمّة، ودين، وحضارة، وثقافة. وعليه، يجب أن تتكاتل جموع السّاسة، والعلماء، وسائر المثقفين على التّوعية بمخاطر الاستكبار العالمي وعدوان الصّهيونية، وتعبئة الشعوب بقيم الجهاد، والتضامن الإسلامي في مواجهة قوى الشر والسيطرة والإحتواء.

 

والملحظ الوجيه في هذا السياق أنّ: "من أبرز سنن التاريخ الإسلامي: القدرة على الخروج من دائرة الضعف والتخلّف بالتماس جوهر القيم الأساسية، فكلّما ضعفت حياة "المجتمع الإسلامي" وانحرف، ظهرت "قوة شابّة دافعة" تحمل الّلواء. وكلّما تحوّل منهج "الفكر" واضطرب، ظهر مصلح مجدّد يرده إلى الجادّة".

 

وقمين باجتهاد هذه وظائفه ومرتكزاته في مثل هذه الظروف الدّولية والمحليّة الفاجعة أن ينتشل المسلم الذي آل أمره من الناحية النفسية إلى إنهيار سلبي لم يعد بعده يوجّه الحياة ويصنع التّاريخ، بسبب انحراف الحكام "فتحول الإسلام -كما يقول محمد باقر الصّدر(رحمه الله)-، في ضمير الفرد المسلم إلى حدّ كبير إلى أن يكون عملية استبطان، وتمعن في الذّات، وتأمّل فيها وانطواء عليها بدل أن يكون نشطاً يتدفّق من الذّات إلى العالم...". انتشالة قويّة من عالمه الدّاخلي المتهافت، وعالمه الخارجي المنهار، فيحفزّه بعد خموده ويبعثه بعد همود. الرابط الخامس:

 

الحذر من تسييس المذاهب على غرار ما عُرِفت به الفرق الإسلامية في التاريخ حيث "لم تكن مجرّد مدارس فكرية تصل إلى تكوين آراء، ثم تكتفي بإبدائها أو تدوينها، ولكنّها كانت "أحزاباً" بالمعنى السيّاسي الذي نفهمه اليوم في ميدان السيّاسة العملي...". أو هكذا استحكم التخطيط لها. وكما تشكو كل دولة من مخاطر تسييس الدّين داخل الوطن خشية من توهين الوحدة الوطنية، فكذلك يُخشى على الوحدة الإسلامية الكبرى من مخاطر تسييس الدّول للمذاهب الفقهية، واستغلالها لأغراض خارجية. وعليه، فالمجتَهَدات الشّرعية يجب أن تظلّ محرّرة من إسار التوجيهات السّياسية طليقة من كافّة القيود والضغوط والتأثيرات...

 

ولا خفاء في ما لوحدة الأمّة الإسلامية من أثر في الالتحام الوطني. وحدبا على هذه الدرّة الثمينة، وحذراً من تفتيت هذه الوحدة الإسلامية التي نحسد عليها، يجب علينا ألاّ نتغاضى عمّا يدبّره الماكرون بالإسلام، الذي لم يقتصر كيدهم على إبقاء الخلاف السياسي ضمن حدوده السياسية في التنازع التاريخي على السّلطان، بل وسّعوه فنقلوه "من دائرة خلاف سياسي يطويه الزمن إلى خلاف اعتقادي ودينّي تتوارثه الأجيال".

 

يقول لورانس براون، وهو أحد زعماء المبشّرين في كتابه "الإسلام والإرساليات": "إذا اتّحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضاً، أمّا إذا بقوا متفرقين فإنّهم يظلّون حينئذ بلا قوّة ولا تأثير".

 

وباقتضاب، على السّاسة أن يكفّوا عن توجيه المجاميع الفقهية، ودور الإفتاء وتوريط المجالس الإسلامية العليا، وتسييس خطب الجمعة، والأعياد لفائدتهم أو لتزكية برامجهم. وأن يتورّعوا عن تنصيب الأئمة ورؤساء الجامعات الإسلامية تبعاً لذلك، وكسباً للولاء، فتلك مناصب يجب أن يتحرّوا فيها الأعلميّة، والأفقهيّة، والأخلاقيات العالية. وأن يدعوا مطالع الأهلّة لأهل الاختصاص، فلا يخضعوها لمقتضيات الدبلوماسية. وألاّ يتحول الفقه في عهدهم بحكم الممارسات الخاطئة أو الموجّهة من وسيلة لضبط حياة الناس ووقائعها بضوابط الشّريعة إلى وسيلة لتبرير الواقع أو مواضعة الحكومات على مضض من الشعوب، أو تقليد القوانين الغربية رغم استنكار الناخبين.

 

ولا يفهمنّ من هذه الاستقلالية المرجوّة لصالح الأمّة والدّين بل السيّاسة، في أيّامنا العصيبة الملغّمة بالمؤامرات الدّاخلية والخارجية، إذا ما روعيت فيها معايير الكفاءة والاختصاص والأخلاق، إحداث قطيعة بين السياسيّين والعلماء أو الفقهاء، بل الواجب أن يسود بينهم التكامل والمشورة والّتناصح ما دام الهدف الأسمى يرمي إلى الصّالح العام وخير الأمّة المتحدة.

 

هذا، وعلى السياسيّ الغيور الواعي أن يدرك بعمق ومسؤولية إذا ما ابتغى فعلاً حصانة حقيقية لوطنه من غزو الغرب، أنّ الفقه الإسلاميّ الذي لم تلوّثه بعد مؤثّرات أجنبية كما داخلت علم الكلام، أو مازجت الفلسفة والتاريخ، أو تسرّبت إلى ميادين أخرى، ما زال العامل الأساسيّ في الكفاح الفكري الإسلامي ضدّ سيطرة الغرب. وما انفكَ يمثّل خطّ الدفاع الأوّل للإسلام ضدّ الهجمات المتواصلة من قبل المدنية الغربية. ومن هنا، كانت حركات الإصلاح والتقدّم الإسلامي التي تستهدف التجديد تنطلق من الفقه لما ينطوي عليه من قدرة على استيعاب التطوّر الاجتماعي ومرونة في التقنين. فأحرى بنا إذاً، أن نسترجع بلا إمهال أو إرجاء رسالة الفقه الإسلامي العظيمة، إذا ما رمنا حقيقة إقلاعاً حضارياً ثانياً، أو أردنا استئنافاً استثنائياً في التّاريخ لدور أمّة ليست ككلّ الأمم. الخاتمة:

 

إنّ عصراً يتقارب فيه العالم عبر مختلف التكتّلات والتّحالفات رغم اعتلاجه بالمفارقات الغريبة والتباينات العميقة على كافّة الأصعدة، وفي تحدٍّ كبير لرواسب ماضٍ مثقل بالتّطاحن والحروب العالمية، تقارباً متزايداً إلى حدّ أضحت معه القارات تتصاغر كالقرية الكونية الواحدة، لم يعد يترك مجالاً للتردّد أو التواني في تكوين الاتحادات. ذلك هو منطق الاقتصاد اليوم، وتلك هي حتميات الأسواق العالمية، ولا مناص.

 

بيد أنّ خمائر الوحدة الإسلامية وعوامل التقريب المنشود بين المذاهب الفقهية لم تكن لتنتظر جوارف العولمة، أو ثورة الاتصال لتقضي على مخلّفات العزلة، ومعاول الفرقة. فهي إنّما تستمدّها أصلاً من خصائص هذه الأمّة التي أزهرت فيها حضارة الكتاب والقلم، وأينع في ربوعها غرس الاجتهاد، فكان بحقّ هبة هذا الدّين الحنيف، وسمة التطوّر والصّلاحية، ورمز الرّيادة والخلود في هذا العالم. ناهيك عن كونه ميراثاً علميّاً متفرّداً. ذلك هو منطق هذه العقيدة المخصوصة وتلك هي عطاءات السّماء، ولا غمط.

 

ولقد عنّ لنا ممّا تقدّم تقصيه أن الاختلاف الفقهي لم يكن نقمة، طالما انكفأ عن استهواء القصر أو مخاتلة القضاء، أو مخامرة السّياسة، أو معانقة التعصّب، والطّائفية والتحزّب. بل كان رحمة وعنوان السّعة، والمرونة والتيسير، ما لم يجاف الأسس العلمية، أو يتنكّر للقواعد المنهجية. وسيظل كذلك خير كفيل للحريّة الفقهية والفكريّة للمسلمين ومرقاة لقيم التكريم الانساني والتفتّح والازدهار المتنامي.

 

وبالنّظر إلى شرائط الاجتهاد، فلن تعدّ أيّة اختلافات مؤسّسة ضرباً من الشذوذ، أو اغتراباً يرشّح للتمييز المذهبي أو الإقصاء أو الرّمي بالتبديع أو التفسيق إذ "لا أقليّة إسلامية بين أحضان أمّة الإسلام"، بل الكلّ سواسية، ما دامت الاجتهادات تتفيأ ظلال سقف القواسم المشتركة والثوابت الأصولية العامّة، ولا ضير.

 

وبهذا يتداعى الزعم بأنّ المذاهب تكون قد فرّقت الأمّة، أو أن الاختلافات كانت مشتتّة أوهنت الإسلام، أو أنَّ الخير في الارتكان إلى دعة التقليد، وسد باب الاجتهاد والنّظر، أو في حشحشة الدّعوة إلى "إسلام بلا مذاهب".

 

ولعلّ المقولة أن تكون جميلة في صياغتها، بيد أنّها للمحلِّل الفطن حمّالة مكائد ومغبّات لا تعزب عن الخبير مناقضتها لمنهج الرسول(ص) في توجيه معاذ بن جبل، حين سن فريضة الاجتهاد جرياً على سنة الله في التطوّر الكوني والاجتماعي، ولا فوت.

 

وصفوة المحصول اعتقاد أن الخير كلّه في ناصية الاجتهاد الفقهي؛ لانطوائه على عناصر الحيوية الدفاقة فيه.

 

 

المصدر: مجلة الحياة الطيبة - العدد التاسع ـ السنة الثالثة

الأكثر مشاركة في الفيس بوك