الحوار الحضاريّ وحوار الذات الإسلامي

عبد الهادي بو طالب
 
 
حادث مأساة 11 سبتمبر/أيلول، وما تلاه من تطوّرات، ما يزال مسلسلها ممتدّاً، ليس حادثاً قَزَماً هيِّناً، بل عملاق سيظلّ شاخصاً بعنوان غليظٍ على صحائف التاريخ.
 

وأخطر عواقبه أنّه أوقع أطراف الحضارة المعاصرة في مأزق لم تتباعد به فجوات الاتصال بينها فحسب، بل تباعدت به مسافات الخُلْف إلى حدّ القول إنّ العالم دخل بعد ذلك الحادث أزمة تعايش الحضارة المعاصرة على اختلاف ألوانها، وفقد الثقة في إمكانيّة تفاهمها وتعاونها. أليس أنَّ من وراءَ ذلك الحادث، أعلنوا أنّه «يقسم العالم إلى فُسطاطين؟».

وأتحدّث عن الحضارة بلفظ المفرد، لأنّي أعتبر أنّ العالم كان قبل ذلك الحادث يعيش في ظلّ حضارة واحدة هي حضارة العصر، بألوان مختلفة: دينية أو عقدية أو مذهبية، لكنها جميعها كانت منصهرة في حمولة الحضارة الواحدة: حضارة الاتصال والتواصل والتيكنولوجيا الحديثة، التي قربت المسافات، كما أخذت تساعد على التوفيق بين مختلف توجهات ألوان الحضارة، وجميعها كانت تستفيد من حسنات حضارة القرن العشرين التي كانت ظلالها وارفة فوق مجموع العالم.

كان الحديث قبل ذلك الحادث يجري عن صراع الحضارات أو صدامها بصيغة الجمع، غافلاً عن الاستشعار بقيام حضارة واحدة بدأت بحلول منتصف القرن العشرين المنصرم، وانضوت تحت لوائها مجموعة حضارات كانت قبل ثورة المعلوماتية والاتصال تعيش متباعدة تنغلق كلّ واحدة منها على نفسها، لكنّها جميعها دخلت فجأة فيما يحسن أن يُسمّى بالدورة الحضاريّة.

ولئن كان الغرب هو الذي أدار باختراعاته دواليب الدورة الحضارية التي نتحدّث عنها وأعطى انطلاقتها، فإنّ الحضارات كلّها إسلاميّة أو مسيحيّة أو يهوديّة، أو عَلمانيّة، أو لا دينيّة، أو روحانيّة، أو مذهبيّة، انخرطت بدون استثناء، وبوعي أو بدون وعي، في الدورة الحضاريّة الجديدة.

إنّ محاولات خلق نظام عالميّ جديد موحّد وشامل، وظهور نظام العولمة وقطعه مسافات على طريق عولمة العالم بحضاراته المتنوّعة، لا يعنيان إلّا أنّ دورة حضاريّة قد أخذت تشَكِّل عالم الحضارة الواحدة المتعايشة المتناغمة.

لكن حادث 11 سبتمبر، ضرب محرّك الدورة الحضاريّة في مقتله، أي شلّه عن التحرّك، وخلق جوّ البلبلة وعدم الثقة بين فصائل الحضارة الواحدة، وحطّم تركيبها وعاد بها إلى عهد تفكّك الحضارات وتنافرها، وأحيا نزعة الصراع، وحتّى الصدام بينها.

واليوم نسمع ونقرأ الكثير من خطابات أنصار الصدام بين الحضارات، وما يقدّمونه من أفكار مسمومة وخطط جهنّمية للإهابة بالعالم إلى العودة إلى الماضي بإدانة بعض الحضارات، والتحريض على ملاحقتها وتعقُّبِها في عُقر دارها، وحتى القضاء عليها، ولو بتصفية معتنقيها جسدياً، أي أنّها دعوة إلى العودة إلى عهد الإنسانية المتوحّشة والاحتكام إلى قانون الغاب.

ولحسن الحظ، نسمع أصواتاً أخرى مرشَّدة ومُعَقْلَنة وتدعو إلى تجاوز حادث 11 سبتمبر، وتنادي بمواصلة حوار الحضارات الذي كان ابتدأ تحت رعاية الأمم المتحدة بحلول سنة 2001.

ولحسن الحظ كذلك، تحالفت في حركة مكافحة الإرهاب دول من حضارات مختلفة، وانخرطت فيها الدول الإسلامية بدون استثناء، إذ جميعها استنكرت حادث 11 سبتمبر، وقدمت مساهماتها بشكل أو آخر في مكافحة الإرهاب، وهو ما يؤكد أن الإسلام كدين وحضارة لا صلة له بالإرهاب، أو أن الإرهاب لا دين له ولا هوية له.

إنّ النزعة المشْتَطَّة التي تدعو إلى ملاحقة الحضارات، بقصد إخضاعها للغرب بوسائل القمع والقهر، ليست إلّا محاولة تكريس لظاهرة إرهاب آخر بشكل جديد. والتاريخ أثبت أن خيار هذه النزعة عجز عن تحقيق انتصار حاسم لفائدة حضارة على حساب حضارة أخرى، ولن يكون في حاضرنا أحسن حظاً.

وإذا كان أنصارها يعلنون حرباً فكرية على ما يَنْتَقُون لهم من خصوم وأعداء ويتّهمونهم بالتموقع في خانة الماضي، والتقوقع على الذات، وزعم أنّ حضارتهم ودينهم متورّطان في أحداث 11 سبتمبر، فإنّهم لا يَعدُون أن يفعلوا نفس الشيء باعتمادهم خيار العودة إلى ماضي الصّراع بين الحضارات والديانات الذي يجب أن يولّي إلى غير رجعة.

لذا يبقى خيار الحوار الحضاريّ العالميّ، على أساس السّعي للتّعارف فالتّفاهم فالتكامل، هو الوسيلة الوحيدة لصوغ المجال السياسيّ الحضاريّ المستقبليّ، بعد الوصول إلى وفاق كامل بشأنه في جوٍّ سليمٍ من التوتر، وفي استعداد كامل من كلّ طرف في الحوار لقبول ما يحفل به النهج الحضاريّ الآخر من إيجابيّات.

وقد أصبح الحوار الآن أكثر ضرورة من كلّ وقت مضى لإنقاذ الحضارة المعاصرة من الوقوع في الدرك الأسفل المهدّدة به. والدّخول في هذا الحوار يكتسي حالة الاستعجال، ومفروض فيه أن يطول سنوات.

ينبغي أن يتعبّأ لإغناء هذا الحوار المثقّفون العالميّون من مختلف الحضارات في ما بينهم، ولا تفيد فيه مشاركة السياسيين، وبالأحرى العسكريين الذين لهم خلفيات مشوّشة على سلامة الحوار وشفافيته ونزاهته وصفائه. وفي جميع العهود كان عالم الفكر هو صانع الحضارات بما توفّر فيه للمثقفين من وقار العلم، ورزانة الثقافة، ورصانة التفكير. وفي المجتمعات المتقدمة أصبح صنع السياسة من اختصاص الفكر والثقافة لأنّ عدداً من الجامعات العلميّة هي التي تضع اليوم أسس السياسة تنظيراً وتطبيقاً.

وأرى أن يجري حوار المثقفين العالميين في كَنَف منظمة اليونيسكو وتحت رعايتها. وأن يكون هدفه صوغ حضارة عالمية جديدة لا تقوم بديلا عن الحضارات القائمة ولا تلغي ما لهذه من خصوصيات، بل تتعايش معها وتحترمها على أن تكون القواسم المشتركة بين الحضارات هي ركيزة الحضارة العالمية الجديدة. والحضارات في مجملها تحتضن قيماً وأخلاقيات مشتركة تطمئن إليها وتقبلها الفطرة البشرية، كما ترفض أضدادها. وتكفي هذه القواسم لتشكيل محور مشترك يصبح مدار الحضارة الجديدة التي ستعلو قيمها على ما عداها من مفاهيم مضادة أو متعارضة.

وبجانب هذا الحوار العالمي الكبير، فإنّ حواراً ذاتيّاً داخل كلّ حضارة، أصبح يفرض نفسه بهدف مراجعة سلبيات الحضارات وتقويمها. والحضارة الإسلامية في أشد الحاجة إلى إجراء حوار الذات لتعميق مضامينها، ونقدها موضوعياً، خاصة وهي اليوم موضوع اتهام خطير ولا يبرئها من الإدانة إلا تقدمها إلى العالم بهُوية واضحة، وتسويقُها قيمَها الخيِّرة ومثلها الفاضلة. وهذا ما يمكن أن يقوم به مثقفو العالمين العربي والإسلامي، على أن ترعى هذا الحوار منظمةُ المؤتمر الإسلامي التي تجمع على صعيد واحد العالمين معاً، وأن تقود مسلسلَ الحوار العربي الإسلامي المنظماتُ الثقافية المنبثقة عنها كالإيسيسكو، ومجمع الفقه الإسلامي وغيرهما، كما ترعى الجامعة العربية من جهتها حوار الذات العربي بتنسيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي. وتشارك فيه المنظمات الثقافية المنبثقة كالأليكسو وغيرها. كما أن مشاركة الحركات الإسلامية في هذا الحوار على اختلاف توجهاتها أكثر من ضروري بهدف توحيد الرؤى الإسلامية ورفع الخلط والالتباس المحتفَّين بحقيقة الإسلام كدين وحضارة.

وأؤكد مرة أخرى على أن يكون الحوار بين مثقفين ومفكرين عرب ومسلمين، وليس بين موظفين أو ممثلي دول في منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية.

والهدف المرجو بلوغه، هو الوصول إلى مراجعة مضامين الحضارة الإسلامية، وجعلها حضارة موحَّدة المفاهيم والأخلاقيات والسلوكات، تعكس الإسلام الواحد الذي هو إسلام الانفتاح، والتعايش مع الغير، والاعتراف بالآخر، ويسودها فقه التيسير والسماحة والتسامح لتضمن للمسلم أن يبقى في آن واحد عاضّاً على دينه بالنواجذ وعائشاً متحركاً ومنخرطاً في محيطه العالمي.

المصدر: الشرق الأوسط

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك