الحوار: فنٌّ وعلمٌ وضرورة رساليّة

السيّد محمّد خاتميّ
 
 
الحوار فنٌّ وعلمٌ يولد مع الإنسان وينشأ بنشأته، جذوره تمتدّ إلى فكر الإنسان وبعده اللامتناهي. من هنا فإنّ الحوار - من جهةٍ أخرى - له ارتباط وثيق بالشّرائع المختلفة. وأهمية خاصّة في الإسلام، الذي يُشكّل الكلام معجزته الخالدة. ويدعو الإسلام إلى انتهاج الحكمة والموعظة: (وادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة). ويدعو البشر إلى الاستماع، ثمّ الانتخاب بعد التّمحيص: (الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه).
 

الحوار، منطقٌ وفكرٌ، له مكانته السّامية أيضاً في الحضارة الإسلاميّة الباهرة. المسلم المتعقّل الواعي يحترم الآخر، لأنّه يعتمد على ذاته، وعلى منطقه القويم. ويتلازم التعقّل مع بعد النّظر والتّسامح، ويرفض الإيمـان القويم ضيق الصدر وضيق الأفق. وقد كانت الدائرة الثقافيّة والحضاريّة الإسلاميّة دائماً بعيدة عن التّطرّف والعنف، وكانت تدور دائماً حول محور الإنصاف والاعتدال. وقد أثريَ الإسلام وازدهر نتيجة الحوار بين مذاهبه وفرقه، وليس هذا فحسب، بل انفتح على أفكار الآخرين، ودخلت الفلسفة اليونانيّة إيران والعالم الإسلاميّ عن طريق الإسكندريّة، ولذلك أصبحت الفلسفة الإسلاميّة على خلفيّة استيعاب المسلمين للفكر الآخر من أغنى شعب الفلسفة وفروعها.

وأينعت التّجارب العلميّة البشريّة القيّمة ونمت في تربة الحضارة الإسلاميّة، وبلغ الفنّ بارتباطه الوثيق بالتصور والسلوك الإسلامي ذروته واعتلاءه، وانتقل إلى شرق العالم وغربه.

وقد اتّجه العالم الذي يساوره القلق من الحرب والإرهاب والتمييز إلى الحوار، وهو يمرّ بأحرج منعطفاته التاريخيّة.

وقد أخرست الأخطار الكبرى التي تحيق بالإنسان اليوم الألسن، وحبست الأنفاس في الصدور، ولكن هذا الإنسان القادر يشعر بالأمل ويحس بالأمن في ظل الحوار.

الحوار بين الحضارات والثقافات هو الآن ضرورة ملحة للعيش في عالمٍ آمنٍ ومستقرٍّ. ومشاهد العنف والفزع العالميّة لا تبقي مكاناً لحياة إنسانيّة ذات معنى. لذلك، فإنّ الحوار بين الحضارات والثقافات ليس ضرورة في المساحات الجغرافيّة، بل ضرورة في المساحات المعرفيّة. ونحن بحاجةٍ ماسّةٍ لأنْ نجيب على ما يُحيط بنا من أسئلةٍ عميقةٍ وواقعيّةٍ، وأنْ نرصد مسيرة التحوّلات كما ينبغي. العالم اليوم متعطّش للسّلام والصّداقة والحريّة والعدالة، ويُصرّ على أنْ ينال حريّته وحقوقه الإنسانيّة، لكن حقيقة السّلام والحرية والعدالة لا تنال بالحرب والتّعنّت والتّمييز. والسّلام الذي يتحقّق بالحرب هشٌّ دائماً وغير متين، أمّا السّلام القائم على العدالة والإنصاف والحوار والمنطق فهو السّلام الحقيقيّ الدّائم. من هنا، فإنّ الحروب وقتل الشّعوب لا تستطيع أن تكون في خدمة السّلام والعدل. الائتلاف من أجل السّلام، وعلى أساس من العدالة والكرامة هو الذي يستطيع أن يُضمّد الجراح، ويقتلع الأحقاد من الصدور. في هذا الاستشراف نحن من جهةٍ نواجه تهديدات كبرى، ومن جهةٍ أخرى تنفتح أمامنا فرص عديدة. نحن اليوم نشهد أنّ الإسلام باعتباره ديناً سماويّاً ودائرة حضاريّة، يواجه مستجدات في التشويه والعداء. وتتعرّض علاقة العالم الإسلامي بالآخرين لاهتزاز في الثقة، ولأخطاء في الفهم، وذلك ناتج إمّا عن جذورٍ تاريخيّةٍ، أو عن علاقات السيطرة، أو إنّه يستند إلى فهمٍ خاطئ أو منحرفٍ يُبرّر باسم الدين أعمال العنف والإرهاب والقسوة. في مثل هذا الجو يعيش الشّعب الفلسطينيّ المظلوم أفظع فترات حياته وأمرّها. شعبٌ عظيمٌ عريقٌ متحضّرٌ يتعرّض للإبادة ولسحق الهويّة التاريخيّة والثقافيّة والمدنيّة على مرأى من العالم ومسمعه. في مثل هذه الظروف المعرفيّة والحضاريّة للعالم المُعاصر.

الحوار الحقيقي يتيسّر حين نثق بأنّ الآخر أيضاً يبحث عن الحقيقة والكمال، وأنّ حديثه يستطيع أن يكون له حظ من الحقيقة وإشراقة من الكمال. لابدّ من أن يكون بين الأنا والآخر كلمة مشتركة. و «الكلمة السواء» أو المشتركة أجمل تعبير عن معنى الحوار ولإثرائه.

الرسالة التي تخاطب الإنسان، كلّ إنسان، أينما كان، وفي أيّ زمان كان، ويتردّد خطابها بعبارة: «يا أيّها الناس»، هي رسالة عالميّة. حياة الإنسان في منظورها تعادل حياة كلّ البشر. مثل هذه الرسالة تستطيع دون شكٍّ أنْ تكون سنداً قويّاً للحبّ والسّلام. وإلّا فمن الواضح جداً أنّ الإعراض عن الحوار، وإخماد صوت المنطق، وسط ضجيج أصوات المدافع والدبابات، لا يستطيع أن يُحقّق أمناً ولا استقراراً ولا سلاماً.

إنّه لممّا يبعث على الارتياح أنّ عالمنا، على الرّغم ممّا يدور على ساحته السياسيّة من سعي لعزل السياسة عن مدار الأخلاق والثقافة والقيم، نشاهد في أجوائه الذين يؤمنون بضرورة الحوار بين الحضارات والثقافات من العلماء والكتّاب والفنّانين ويعقدون الأمل عليه، ويرون أنّ الحوار هو طريق الخروج من أزمات عالمنا المعاصر. توفّر أجواء ترى أنّ الحوار مشروعٌ جديدٌ أمام العنف، وهو فرصة مغتنمة تبعث على الأمل في السّاحة العالميّة.

إنّنا، نحن المسلمين بكلّ ألوان الطيف الثقافية المتعدّدة في دائرة الحضارة الإسلامية لا بدّ لنا أن يفهم بعضنا بعضاً بصورة جيّدة، كي ننأى عن التفرق والتشتت في حوارنا مع الآخر. نحن بحاجة إلى أنْ نعرف العالم كما هو، وأن نتزوّد بمعطياته المدنيّة بأصحّ صورة، ونحن بحاجة إلى خيارٍ واعٍ مدروسٍ مناسبٍ كي نبتعد عن الأضرار والآثار السلبيّة للتقلّبات العالميّة السريعة. وهذا لا يتيسّر إلّا بفهمٍ صحيحٍ، وحوارٍ، وبمنهجيّة الحوار بين الثقافات والحضارات. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: رئيس الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الأسبق

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك