العولمة .. المفهوم والمعنى والحوار

نور الدين ثنيو
 
يرى الفيلسوف نيتشه (1900-1844). إن المفردات الأكثر تداولاً وشيوعاً هي الأقلّ دقّة والأكثر عمومية، ولعّل كلمة العولمة من هذا القبيل. فمن فرط تداولها واستخدامها في حقول عديدة من المعرفة. صارت واحدة من الكلمات التي تحتاج الى تحديد وضبط، حتّى لا تنفتح على المعنى ونقيضه. وتستخدم في غير الأغراض والمعاني التي تنطوي عليها فعلاً. فخاصيّة العولمة، كما يحوي مضمونها هو هذا التوجّه نحو الشموليّة والتعميم وربط الأجزاء في أفق يعني العالم كلّه. ومن هنا أيضاً مصدر غموضه وضبابيّته، لأنّه يعني الجميع. فهو بالتالي يصبح عرضة لمختلف أنواع التّحديد ومحاولة التّحكّم أو احتكار مدلولاته. ولأنه من طبيعة المعرفة المعاصرة – بحكم التطور الهائل الذي انتاب علوم الإنسان والمجتمع -، فان المفردة القوية مثل العولمة تتحلّى بخاصيّة العلائقيّة. بمعنى أنّها تنطوي في ذاتها وتثوي أكثر من علاقة. وتستطيع أن تدخل في علاقات بينيّة وعلاقات معنويّة sémantiques. علاوة على العلاقة الإجرائيّة التي تتحدّد وتستخدم عند التّطبيق وفي الواقع .

إنّ مصطلح العولمة هو من الغنى والقوّة أن صار يتحدّد بأكثر من معنى. وهذه الخاصيّة هي التي تجعلنا نتعامل معه تعاملاً إجرائيّاً إنْ على مستوى الخطاب، بحيث يوضح لنا معنى العالم المعاصر، أو على صعيد الواقع، بحيث يُساعدنا على تقريب أطراف وجهات العالم بصورة أفضل، ليستفيد منها كلّ إنسان في كلّ جوانبه الإنسانيّة أيضاً.

مع العولمة كسيرورة تاريخيّة وتوسّع في مدلولاتها تتأكّد جملة من الأمور. لعّل أهمّها الاعتماد المتبادل بين المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . فإذا كان الغالب على موضوع العولمة هو الاقتصاد فإنّ هذا الأخير يحتاج إلى سياسةٍ تضبطه لتضفي عليه إمكانيّة التّطبيق وتبرير برامجه وخططه، كل ذلك على واقع اجتماعي لا يكفّ عن التقدّم والتطوّر، يحتاج بدوره إلى إعادة التّفكير فيه بواسطة المصطلح الاقتصادي والسياسي الجديد. وهكذا دواليك.

هذا من ناحية. ومن جانب آخر فإنّ العولمة هي هذا التوجّه نحو التعميم. وربط العالم كلّه في شبكة علائقيّة مكثّفة، ممّا يعني فتح مجال عام واسع أكثر ممّا توفّره الدولة/الأمة. فالمجال العام الذي تفرزه العولمة هو فضاء حضاريّ جديد يفلت من احتكار الدولة الوطنيّة. لصالح الجماهير التي تطمح إلى مشاريع وأفكار أكثر ممّا توفّره الدولة القوميّة. وهكذا. فعصر العولمة هو عصر تجاوز وتخطّي الدولة/الأمة وتقليم السيادة المطلقة فيها، سواء بإعادة تحديد للأقاليم أو إعادة تحديد السيادة. أو إعادة النظر في الحراك السكانيّ الذي صار ينتقل عبر القارات والأوطان في عالم الواقع أو العالم الافتراضي الذي أصبح يتفوق على الواقع ذاته. أو الواقع الفائق على حد تعبير المفكر الفرنسي جان بودرياد.

فالعولمة علامة قوية على بداية عصر المعلومة l'age de l' information. والمجتمعات التي دخلت عصر العولمة هي تلك التي صارت المعلومة فيها قوام وجودها، حيث تتمثل المعطيات والأرقام والمعلومات نسبة كبيرة من إنتاجها الاقتصادي. فالعولمة إيذان بميلاد عالم ما بعد الحداثة الذي يظهر فيه الواقع مختزلاً إلى أرقام ومعلومات ومعطيات يتعاطى ويتعامل معها الإنسان كواقع جديد، يطلق عليه الواقع السيبراني قوامه الأثير والصورة والرقم والفضاء والصوت والكلمة والافتراضي le virtuel...

إنّ ثقافة العولمة لا زالت عبارة عن اتّجاه متواصل نحو امتلاك الوعي العالمي بحقائق الثقافة الكونية قصد الاستقرار على منسوب من الهويّة الإنسانيّة المشتركة لكافة الطوائف والأجناس والقوميّات في مجال مشترك. والنقاش الذي يفرزه هذا التواجد المشترك هو النقاش العام الذي يتمرّس عليه الإنسان المعاصر بصورة قوية عبر تبادل المعلومات والوسائط والإعلام...

إن التعددية الثقافية واحدة من مظاهر العولمة . فقد جاءت لتحل محل الثقافة العالمية la culture universelle التي سادت في الخطابات العربية والغربية. فقد جرى التعامل مع الثقافة العالمية على أساس توجه دائم لتعميم نمط الثقافة الغربية المتأتية من تاريخ أوروبا السياسي والفلسفي والاقتصادي، عندما كانت تعني حقوق الإنسان والمواطن، عصر التنوير...

الحوار في ظلّ ثقافة العولمة

ما يسّوغ الحوار هو قيام المجتمعات والدول والأمم والحضارات على الاختلاف والتعدد. وأساس البحث عن الحضارة الإنسانية الجديدة هو التنوع القائم في كل وحدة من هذه الوحدات الإنسانية . واليوم وبعد كل الذي شهدته البشرية في القرون الماضية كركام ورصيد تاريخي نعتمد عليه في تصوراتنا وتجاربنا. تتضح حقيقة الحوار في كل أبعاده : عندما يتعلق بالسياسة. صراع الأحزاب السياسية والنقاش البرلماني، وعندما يتعلق بالثقافة.هو حوار الحضارات والأديان وفي الجانب الأنطولوجي الوجودي عندما يتعلق بحرية انتقال الإنسان ووجوده في بيئات مختلفة والحوار أو الصراع الذي يظهر بين الهوية والبيئة الجديدة ومحاولة التعامل الايجابي مع الواقع القائم على التأثير والتأثر .

الحوار كفن التخاطب قصد الفهم والإفهام. سبيل من سبل إنتاج الحقيقة في سياقها التاريخي . فكل حوار يصطبغ بالشروط الاجتماعية والثقافية، فهو، بالتالي لا يخرج عن اللغة التي يجري بها الحديث. وهكذا. فالحوار له تاريخ ويمكن التواصل معه في سلسلة من الأطر التي تفرضه, وللوقوف على نوعية الحوار وموضوعاته يمكن بالتالي تحديد تاريخ الفكر الإنساني وتعقب منظوماته وإعادة عناصره الى الوحدات الإنسانية التي يتشكل منها ومن ثم تحديد إشكالياته التي تحكمه عبر مراحل وحقب تاريخ نشاط الفكر وانجازات العلم .

فالنسبية. مبدأ عقلي. صار مشتركا بين جميع البشر في عالمنا اليوم. والحقيقة العلمية تبقى دائما نسبية. وهذا ما كشف عنه المفكر توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية. والنقاش الذي أثير حوله، حيث أوضح أن كل حقيقة علمية أو نظرية تفصح عنها وتوضحها اللغة التي تعبر عنها. فالنظرية صحيحة في إطارها الإبيستيمولوجي ونظامها اللغوي التي ندرس وندرس بها. وما دام النظرية العلمية هي صياغة لغوية. فمن هنا الحاجة الى نقاس وحوار بين الثقافات واللغات قصد السيطرة على نسبية الحقائق والإلمام بها. إن الحقيقة العلمية لا تخرج. كما يرى توماس كون. عن البرادايم الذي يؤطرها وتستمد منه صحتها النسبية .

إن الحوار الذي يجري في ظل العولمة يبحث عن ثقافة العولمة. والعولمة ليست شرا مطلقا، كما يرى بعض المناهضين لها لأنها تعني وتعبر عن أكثر من نصف العالم المتقدم . والعولمة هي نتاج التقدم العمراني، التكنولوجي والعلمي والإنساني. فقد تطورت وتيرة التاريخ نفسه بسبب النمو الفائق للمجتمعات الغربية. وأساس العولمة إذن هو التقدم المتواصل للحضارة الغربية التي تمتد أفقيا نحو المجتمعات الأخرى لكي تعمق التجربة الحضارية فيها .

أمّا الوجه السلبي في العولمة كما يراه البعض الآخر في المجتمعات المتخلفة. التي عادة ما ترفع التحذير وتبدي التخوف من آثارها بسبب الضعف الهيكلي الذي تعاني منه لأنها لم تتخلص من الاستعمار إلا الى عهد قريب. لعل أساس ما تخشاه المجتمعات المتخلفة أن بعضها لم يصل بعد الى بناء دولته القومية ذات توجه سليم يراكم التجارب ولا يجهضها لكي يحرز على مقومات المواطنة فيها، ويردم الفجوة التي لا تني تتزايد مع الوقت بين العالم المتطور والعالم المتخلف مع الأخذ بعين الاعتبار نسبية التقدم والتخلف، لأن كثير من المجتمعات التي خرجت من حقبة الاستعمار شهدت انجازات ومشاريع تنموية وحققت نسبا من التعليم والصحة ومؤسسات إدارية، سياسية، قانونية ودستورية، لكن قياسا على ما أصبحت عليه الدول الصناعية المتطورة. خاصة أمريكا، يظهر إن بعض الدول المتخلفة دخلت مآزق عصية عن الخروج منها بسبب دخولها في صراع مع الذات فضلا مع الآخر. أي أنها أصبحت تشعر أنها تتخلف عن تاريخها الخاص، علاوة على الفجوة العميقة التي لا تنفك تتفاقم مع الوقت . ولعل شرط العولمة هو هذا، أي شعور الإنسان بمدى تخلفه عن الآخر. إن لحظة العولمة توفر فرصة لقاء المجتمعات في مواجهة أو مقابلة الآخر أوفي علاقة في ما بينها. وهكذا فان مغزى الحوار في ظل العولمة، أنه يعبر عن اللحظة التي يفكر فيها الإنسان المعاصر من وحي قضاياه الراهنة من مختلف جوانبها، عندما يكون العالم كله ماثلا أمامه . فالعربي الذي يعي لحظة العولمة لا يستطيع أن يفكر في قضايا مجتمعه إلا ويأخذ في حسبانه تطورات ورهانات العالم الغربي. فالتفكير من وحي ثقافة العولمة، يتم بواسطة منطق شبكي، علائقي يتوجه نحو استيعاب الظواهر والقضايا في علاقاتها المتشابكة. أي في أسبابها القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، العامة والخاصة ... الخ.

تواصل الأنا والآخر .. أو الوجه الآخر للحوار

يندرج موضوع العقل التواصلي ضمن إشكالية الأنا وعلاقتها بالآخر في إطار ما يعرف بالمكانية التعارف والعيش معا، أي كيف يمكن تواجد أكثر من ذات في المجتمع الواحد والمجتمع الدولي الناشئ. فقد كان الإنسان الفرد يتحدد في علاقته بالتاريخ ضمن القبيلة والعشيرة ثم الدولة الإمبراطورية وأخيرا الدولة القومي. واليوم هناك حقيقة تاريخية واجتماعية جديدة تتطلّع إليها كل الإنسانية هي وجود الإنسان/العالم le citoyen/monde، أي ذلك الإنسان المعلوم في وطن العالم. يتميز بقدرته على الامتثال والتجاوب مع مقتضيات وواجبات الحياة الدولية والعالمية المعاصرة

فقد صار الإنسان في الوقت الراهن وسوف يستمر لاحقا. يتحدد ليس بالدولة القومية فقط التي تعطي له حق المواطنة .. بل يتحدد أيضا بإمكانية الخروج من الدولة ذاتها عندما تخترق الحدود المعترف بها. والمتمثل في المنسوب الذي يجب أن لا تنزل دونه . فظاهرة التطور الفائق الذي حصل لوسائل الاتصال والمواصلات. انجرت عنها ظاهرة الإنسان المتخطي للحدود لا يكتفي بشروط العيش التي تفرضها دولته. فيعمد الى اللوذ بالخارج. الأمر الذي أدى الى زيادة الوعي بقوانين الدول الأجنبية ولوائح وإجراءات الدخول والخروج ومعرفة طبيعة الحياة فيها كسبيل للاستقرار فيها والعيش مع طوائف وأجناس مختلفة ... وهكذا. امتد الوعي ليس بالذات/ الأنا فقط بل الى الآخر أيضا . فمعرفة الغير ومتابعة أخباره وأحواله صار جزءا من اهتماماتنا المعاصرة . ولعل من النتائج التي سوف تفرزها هذه الظاهرة. بل هذا ما بدأنا نتلمسه ونشعر به. هوسيرورة التخلص من الأنانية المفرطة. والتعلق بالذات والمبالغة في الإشادة بها والعناية بها و تحقيق المصالح العرضية والظرفية على حساب مصالح حقيقية تأتي على مدى زمني لاحق . فأكبر دولة اليوم في العالم لا تستطيع أن تكتفي بذاتها ولا تستطيع أن تلوذ بأي سياسة اعتزالية مهما كانت. خاصة بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001... بل وقبله. منذ عهود الاستعمار البغيضة. حيث استطاعت الدول المستعمرة أن تراكم ثروات و خبرات وإمكانات هائلة في إطار جدلية التعامل مع الآخر المحلي. الأصلي. الأهلي بنوع من أنواع الحيف والجور والإجحاف. فالآخر الأوربي الغربي والأمريكي، لا يزال يشعر بصلة تاريخية حيوية الى الأرض والشعوب التي احتلها سابقا. كما أن الأفريقي، الأسيوي الأمريكي اللاتيني لا يزال هو أيضا يشعر بصلة حيوية بالعالم المتقدم ويسعى الى الّلحاق به على أكثر من صعيد.. وقد حققت بعض الشعوب هذا المستوى من الحياة الحديثة .

وهذا ما يقود. كما لحظنا في فقرة السيادة العالمية. إلى وجود ظاهرة الإمبراطورية في مفهومها ما بعد الحداثي. عندما لا تكتفي المجتمعات المعاصرة بقوة مركزية واحدة أو سلطة مادية أو سياسية فقط. ولا منطقة جغرافية واحدة. بل الكل يدخل في عالم من العلاقات البينية والاعتماد المتبادل. حتى الحلقات الضعيفة لها قيمة في هذا العالم المعولم. وتكون ذات شأن خطير إذا لم تحظ بعناية معتبرة بما تثيره من ردود أفعال مدلهمة وكارثية. ثم الرّجات الارتدادية القريبة والبعيدة. الفورية واللاحقة بسبب دائما طبيعة شبكة العلاقات الدولية والأممية المعاصرة. وعصر ما بعد الحداثة .

لم يعد الآخر هو الجحيم. كما كان يرى جان بول سارتر. فقد شهد العالم المادي منه والمعنوي الأخلاقي حالة من التطور أوصلته الى مشارف لم يعد يقوى فيها على مزيد من الدمار والحروب وصور التخريب. لأن الإنسان صار بإمكانه أن يتصور من الكوارث ما يلحق الفناء بهذا العالم. بل الآخر في الحضارة الإنسانية الجديدة هو ما يوحي بالاستئناس والثقة والاطمئنان إليه. طرف يساهم بوعي أو بدونه في بلورة شخصية الذات نفسها. كما يساهم كعنصر في توليفة مركبة على صعيد المؤسسات الدولية. والخبرة العالمية المشتركة. والأعمال الجماعية الكبرى

إن الإنسان أو المجتمع لا يسعه الحال إلا الدخول في علاقات ومستويات مع باقي العالم وأفراده، ولا يستطيع مهما حاول أن ينفرد بكل شيء. أو يقوم بكل شيء بمفرده . إن الخوف . الذي أصبح هاجسا يطارد الإنسان حيثما حل وارتحل. يجب أن يتوارى عن عالم الإنسانية الجديدة. ويحل محله السلام وافتراض النوايا الطيبة في الآخر بدل معاملته من واقع الطرف العدو أو مقولة اعرف عدوك .

 

جدليّة الأنا والآخر

صارت إشكاليّة الأنا والآخر واحدة من أهم الموضوعات التي تشكل الفكر المعاصر. وهي تطرح من جملة ما تطرح في إطار العلاقات بين الأمم والدول والشعوب .. لكنها تطرح أيضا في إطار المجتمع الواحد .. لا بل حتى على مستوى الإنسان الفرد الذي تكثفت لديه المعرفة والوعي الى أن صار يسأل نفسه ويضعها موضع السؤال ويرى أنه ذات تنطوي على أثر الآخر فيه. وأن الذات لا يمكن أن تتحدد بمقوماتها الخاصة فقط. وإنما تتحدد برؤية الآخر لها وأثر الأخر فيها .

وقد كشف الإنسان المعاصر. خاصة بعد الدراسات الانتروبولوجية المتقدمة. حيوية العلاقة بين الأنا والآخر أو إشكالية الغيرية وما يعرف بمحاولة البحث عن الحقيقة التي لا يمكن الإلمام بإطرافها وجوانبها إلا ضمن رؤية متعددة الأوجه وبعد تقليب الموضوع في أبعاده ورؤاه المختلفة. كأسلوب علمي وموضوعي على ماذا تنطوي حقيقة الذات. ويرى بعض الفلاسفة المفكرين أن الذات / الأنا هي أيضا الأخر وعبّروا عن ذلك بأن ذواتهم واقعة دائما تحت تأثير ونفوذ الآخر. وشدّدوا على أهمية أن الأنا لا تقوم إلا على وجود الآخر ليقابلها ويكملها ويحدد هويتها حتى لا تستلب وتتغرب عن ذاتها .

ولعلّ أهمية الأنا كآخر. أي قدرة الأنا/ الذات على رؤية الآخر وهويقاسمها تحديد الهوية. فإمكان الأنا أيضا أن تنظر الى الأخر عندما تنتقل إليه الذات نفسها . فقد تزايد في العقود الأخيرة الالتفات الى الرعاية والتربية والاهتمام والرفق بالفئات التي لفضها المجتمع وهمشها أو أعطاها مكانة اجتماعية غير لائقة. مثل الشيوخ. العجزة. الأطفال الأحداث. المعوقين. المشردين والمرضى.العاطلين عن العمل... كلها فئات صارت تحتاج الى عناية وتحظى بها بالفعل. بعد ما تمكن الإنسان المتعلم المعاصر من الاهتمام بالغير. فالغير/الآخر هو ما يمكن أن تصير إليه الأنا. فالإنسان مهما كان معرض لكي يعيش تجربة الشيخوخة. والإصابة بعجز أو التعرّض لأحداث تغير من مصيره ويعرف بالتالي قيمة الأخر في حياته. علاقة الأنا بالآخر تتزايد بشكل ملفت وتعبر عن تطور حالة الوعي الذاتي التي تنطوي على أهمية الآخر في بلورة الأنا ومتانة موقفها في مواصلة التحديات وتخطي الصعاب.

هناك حوار يجري دائما بين الأنا عندما تعني النفس. أي عندما نكون ما نحن عليه. وبين الآخر للأنا عندما نريد أن نكون مثل الآخرين أي البعد الجماعي أو الاجتماعي للذات . فالذات دائما في حوار مع خاصيتها في صلتها بالمجتمع. فهناك مستويان للهوية: النفس le même. والمختلف. وهذا الاكتشاف للذات البشرية هو من محصلات العولمة التي لا تكف عن تقليب الأمور على وجوهها المختلفة لتعثر على مزيد من ثروة النفس.

لكن بالرغم من ذلك، يبقى الوجه البشع للرأسماليّة المتوحّشة هي المهدّد الخطير للذات الإنسانية. فالرأسمالية الفائقة المعصوبة العينين لا تني تلتهم فضاءات ومجالات ومنه أيضا النفس الإنسانية وعقول البشر . إن الاهتمام الفاحش بالسوق والسلع والمزيد من الثروة والمال أدى من جملة ما أدى الى النيل من ذات الإنسان المفكرة التي أصابت ليس جسده الذي تروّض مع السلع المادية. بل الى المنطق الذي تفكر به. وصار في بعض الأحيان تنفلت من معايير قياس الصحة من الخطأ. والتمادي في الخطأ والخطيئة. مثل الإدارة الأمريكية الحالية ذات التوجه النيوليبرالي الذي امتلكها هاجس السيطرة والاستحواذ بحيث تتدخل في كل شيء وتريد أن تؤثر على الجميع وتعطل كل ملكات وآليات النفع العام ومحو الكرامة الإنسانية لدى الآخرين . فبسبب أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001. راحت الإدارة الأمريكية تخترق حدود الدول وحدود النفس الإنسانية وكرامتها لاستعادة شرف ضيّعته في نيويورك وواشنطون في يوم مشهود من شهر سبتمبر.

إن الخطر الداهم يوميا لليبرالية المتطرفة والرأسمالية الأصولية لا تكف، كما يرى "دوفير" عبر الوسائل الهائلة المتوفرة لديها من النيل المتواصل من إنسانية الإنسان ومحاولة امتلاكه عبر ما هو متيسّر لها من القدرة والسلطة والقوة . فقد أدّت الرأسمالية الى التأثير على الذات المفكرة كما حددها الفيلسوف الألماني "كانت". كما أدت الى النيل من الذات النفسية أوالعصابية كما حددها فرويد. ثم الذات الماركسية كما حدّدها ماركس. وهي تحاول اليوم اختراق آخر ما تبقى في عالم الإنسان: روحه ومنطقه ورغباته، أي تحاول أن تصّيره، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي "دولوز" آلة من الرغبات machine à désirs.

نعم. الرأسمالية المتطرفة لا تكفّ عن تحويل الإنسان الى مكينة من الشّهوات والرّغبات والأوطار عبر وسائل مغرية يفقد فيها الإنسان القدرة عل التفكير والركون الى النفس المطمئنة وشل قدرة العقل على التمعّن في الأمور قبل البثّ فيها واستخلاص نتائجها .

ولعّل هذا ما جعل. في ظل العولمة المتمادية. بعض المناهضين للرأسمالية المتطرفة في وجهها النيوليبرالي. الى توكيد انسانية الإنسان وشحذها لمقاومة التأثيرات السلبية لمنطق السوق وعملة السلع. وعبادة المادة. واختزال العقول والتفكير في لحظة الحاضر. فقد دأبت منذ سنوات مجموعة من المنظمات الإنسانية غير حكومية على الانبراء والتصدي لتداعيات الرأسمالية في عصرها التكنولوجي. ووضعت نصب مهامها كرامة وفكر الإنسان. في إطار عمل إنساني شامل لكل المجتمع الدولي.

في التعددية الثقافية

العولمة هي سياق جديد لبداية لحظة الإفراز التلقائي لمنجزات عصر العلم والتكنولوجيا. فالعالم اليوم. وبفعل قوة العولمة. التي تعني شبكة التواصل الفوري مع كل أطراف العالم. تدفق لا يتوقف لمعطيات الحضارة الإنسانية المتقدمة. وعليه. تظهر العولمة علامة قوية على بداية زمن ثقافي وحضاري يعنى الجميع وينخرط فيها الجميع أيضا. لأنهم أرادوا أم لم يردوا هم مشمولين بزمن ثقافي جديد هو العولمة عندما تعني الزمن المعاصر الفائق الذي يريد أن يكثف في لحظة واحدة كل أبعاد الزمن المعروفة.

إن ثقافة العولمة هي إلمام بروح العصر الذي نعيشه واهتمام متواصل وواع بقضاياه في مختلف جوانبه. وكما يقر بذلك المنطق الشبائكي، الذي يحاول دائماً استقصاء عناصر الموضوع . فالثقافة في العصر المعولم. هي ما بقى للشعوب والمجتمعات من التقاليد والأعراف والسلوكات والإبداعات الأصيلة التي استحقت إمكانية الاستيعاب والفهم من قبل باقي المجتمعات والشعوب. فإذا كان يمكن الحديث عن منسوب ثقافي عالمي يشترك فيه كل العالم. فهو عن ثقافة أصيلة بذات الشعوب التي تستطيع أن ترتقي بها الى مصاف عالمي تصلح لإمكانية الإبداع على منوالها. ويمكن بالتالي تحرير الخصوصيات وعدم استغلالها كأصوليات دغمائية مناهضة لمنطق التاريخ. مثال ذلك ظاهرة العصر الراهن الإسلام السياسي أوالحركات الأصولية المتطرفة. إن هذا الموضوع لم يعد قاصرا فقط على الباحثين العرب والمسلمين. بل اتسعت دائرة الاهتمام به الى سائر المجتمعات خاصة الدول المتقدمة. فقد تفوق عدد كبير من الكتاب والباحثين الغربيين في تقديم أطروحات وأراء يصعب إغفالها أو التغاضي عنها في حقل البحث عن مشكلة الإرهاب في العالم. ومعرفة طبيعة الحركات الإسلامية ذات التوجه التغييري.

ومهما قيل عن أسلوب وطبيعة ومرامي هذه الحركات ومبرّر وجودها، فإنّها حركات فرضت الحديث عن الإسلام ومسألة الدين في المجتمعات الغربية كما في المجتمعات المسلمة. علاوة عن الحديث عن الإرهاب والعنف والأصولية. والتطرف والغلو... والذي قيدت له سياسة عالمية. في المدة الأخيرة. عرفت لدى الإدارة الأمريكية الحالية بمكافحة الإرهاب العالمي . ومن المنتظر أن يستقر هذا الصراع على أصوله الحقيقية وأبعاده الشرعية. لأن المنطق الشبائكي لا يلبث أن يبحث ويحلل ليعالج هذه المسألة عندما تتوفر سياقها المناسب – خروج المحافظين الجدد من الإدارة الأمريكية مثلا –

المصدر:  كتّاب من أجل الحريّة

الأكثر مشاركة في الفيس بوك