تطوير الخطاب الديني

تطوير الخطاب الديني
نصر بن محمد بن رواق الصنقري

مقدمة
إن الحمد لله تعالى ، نحمده سبحانه حمد من أعطي فشكر ، و أوذي فصبر ، و لما قدر عفا وغفر ، وأيقن أن النار من مستصغر الشرر ، وأن الآخرة على المجرمين هي أدهى وأمر ، وأن الجنة قرار ومستقر لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم استغفر .
ونشهد ألا إله إلا الله ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء شهيد .
اللهم صل على عبدك و نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية ، وهديت به الإنسانية ، وأنرت به أفكار البشرية ، وزلزلت به كيان الوثنية ، ذي الوجه الأقمر ، والجبين الأزهر ، قائد الغر المحجلين يوم البعث العظيم ، محمد بن عبد الله ـ بأبي هو وأمي ـ صل اللهم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ...............أما بعد .....!!.

فقد طرحت في الفترة الماضية دعوة رسمية إلى ما وصف بـ (تجديد الخطاب الديني) ، ولأن الدعوة صدرت من مراجع رسمية عليا فقد تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى ، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات ، غير أن ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة .
حيث تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة.
وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً ، وهي العملية التي احتلت مركز الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب ، وظهرت في هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا تُرد لأنظمة هنا وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية ، أو ضمها إلى نظام التعليم غير الديني ، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير ، أو تغيير مناهجها بالكامل لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني .
وكانت الهجمة على نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله ، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال ، والأداة التي توجه الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية .
وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان الإسلامية ، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت «الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة ، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد ، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب .

وعلى رغم توافر مثل هذه المخاوف لدي المسلمين ـ وخاصة العلماء العاملين ـ إلا أن ذلك لم يمنعهم من القناعة بضرورة الاجتهاد لتجديد قطاعات الحياة الإسلامية ، وأيضاً ضرورة الربط بين التجديد والاجتهاد بمدلولاته الواسعة . ويعتبرون أن غياب التجديد يضع الأمة في حرج شديد لجهة تعطل مصالحها ، مما تأباه مقاصد الشريعة ذاتها ، وإن احتفظوا بثوابتها وأصولها وتحفظوا على المساس بها ، باعتبار أن التجديد والاجتهاد يقتصران على فقه الشريعة وآليات فهمهما. أما أصول الدين من قرآن وسُنة وبالجملة كل ما هو قطعي يقيني لا يجوز إنكاره أو مخالفته أو تغييره ، فهي محفوظة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .
يقول تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}( )
وضرورة الفصل بين مرامي تجديد الخطاب الديني وأصل الشريعة لازم ، فالدمج بينهما ، كما أسلفنا ، تعطيل للتجديد وغلق لأبواب الاجتهاد . فالخطاب الديني وسيلة توصيل المعنى الذي قصده الشارع إلى المخاطب به وهنا تبرز الدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن كما فسرها المحدثون من السلف بالقدرة على الإقناع ولإقامة الحجج والبراهين ، يقول تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}( ) ، وقال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}( ) ، فالإخلاص وحده غير كاف لأداء وظيفة الدعوة بل يلزم معه العلم والاحاطة بواقع الناس وحاجاتهم .يقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}( ) .
وفي ظل تعرض العالم الإسلامي لتحديات معاصرة كثيفة وخطيرة يكون تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لا لخدمة أغراض الولايات المتحدة أو الغرب في تقويض مناهجنا التعليمية أو إضعاف عقيدتنا الدينية وإكساب الأمة حيوية افتقدتها في ظل سباق رهيب يدور لاستلاب زمام ريادة في الدنيا كنا أسبق في مضمارها ولدينا الفرصة لاستعادتها ببذل الجهد وليس بالأماني وحدها .
ولذلك لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ،‌ ويغيب عنا الفقهاء‌ ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .
كما أن خطابنا في معظمه لا يزال داخليا ، لم نستطع أن نصل به إلي مرحلة الخطاب العام والعالمي ، علما بأن الخطاب الإسلامي توجه إلي الناس جميعا منذ اللحظة الأولي لبدء الوحي …يقول تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ( )، ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ( )
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ . فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟. قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...الْآيَة}َ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ( ).
قال الحسن البصري ـ رحمة الله ـ ليس الإيمان التحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة . قيل : يا رسول الله ، ما إخلاصها؟ قال: أن يحجره عن محارم الله تعالى( ) .
هذا ما أسعفتنا به الذاكرة لنقدم به لموضوع الخطاب الديني والذي نسأل الله تبارك وتعالى أن ينال رضاكم ، و إلا فنحن لم نسطره طمعاً أو رهباً ، بل سطرناه ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فما فيه من الحق والتوفيق فمن الله و0حده ، وما فيه من باطل أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ....................................وكتب :نصر بن محمد بن رواق الصنقري.

المبحث الأول

ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟

تمهيــــــــــد

إذا كان القصد من مشروع تطوير الخطاب الديني هو القضاء على العنف ودفع عجلة التقدم فالأصوب والأسلم هو التحول عن منهج معالجة النتائج إلى منهج معالجة الأسباب.

والواقع أننا نرى أن مشروع تطوير الخطاب الديني الذي يطرحه العالم الغربي اليوم لاسيما أمريكا كما لو كان تعبيرا عن تحولها إلى منهج معالجة الأسباب هو في حقيقته استمرار لمنهج معالجة النتائج ، حيث أن الخطاب الديني الحالي الذي يصفونه بأنه " متسم بالتشدد " هو في ذاته نتيجة لأسباب أخرى تتصل بالظلم والفساد وانحسار العدالة والهيمنة وغياب احترام كرامة الإنسان ـ هذا برغم التحفظ الذي أبديناه في مقدمه عملنا ـ . وهذا يقتضي أن يطوَر الخطاب الديني بمعالجة أسباب تشدده وليس من خلال تغيير مضمونه الذي من شأنه أن يكثف من ضغوط الهيمنة والإحساس باستخفاف الغرب بكرامة العربي والمسلم.

ورد في مقال للأستاذ خالد أبو الفتوح قوله : " فالأمر بلا تعقيد أن لأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وأن شعوبها ـ بوضعها الحالي ـ تعد معامل تفريخ لمن يهددون أمن أمريكا ، وعلى وجه التحديد فإن «المدارس الدينية في العالم الإسلامي تجند المتشددين الشبان» بحسب تعبير وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد في مذكرة منسوبة إليه( )، كما أن هذا الواقع يعرقل التعايش والتعاون بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم (إسرائيل).

■ فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
ثم يستطرد قائلاً : تعالوا نرتب الأوراق بالمنطق الأمريكاني :
■ الإسلام بقيمه ومبادئه يمثل خطراً على أمريكا ، وليس الأمر أمر (قوىً أصولية) يراد التخلص منها.
■ وهذه القيم والمبادئ هي التي تفرخ بعض من نشؤوا في المنطقة وتدفعهم للقيام بأعمال خطرة على أمريكا ومصالحها وأصدقائها وحلفائها.
■ وهؤلاء يتشربون هذه القيم والمبادئ الخطرة عبر منظومة معقدة من المفاهيم المبثوثة في مناهج التعليم والمواعظ الدينية ، ويغذيها أحيانًا إعلام غير مسؤول ، إضافة إلى عادات اجتماعية متوارثة ترسخ هذا النمط من القيم والمبادئ والسلوكيات .
■ فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تساهم في تشكيل العقلية العربية والإسلامية : الإعلام ، والتعليم ، و(الخطاب الديني) ، والأخير هو أخطرها لما يحمله من احترام و(تقديس) لدى فئات كثيرة ، ولكونه يصل إلى جميع الطبقات ويخاطب جميع المستويات .
■ و(الخطاب الديني) هو جزء من الهوية والتكوين الروحي والفكري والنفسي والاجتماعي لهذه الشعوب ، فمن غير الممكن مصادمته وإسقاطه كلية بشكل فج ومباشر ، خاصة إذا جاءت هذه المصادمة ممن هم خارج إطاره .
■ ومن الملاحظ أن هذا التكوين تشكل عبر سنين طويلة ؛ فمن غير المتوقع إعادة تشكيله عبر الميكروويف من غير احتراق ، ولكن أيضًا فإن المصالح الحيوية لأمريكا والإدارة القاطرة التي تقودها لا يحتملان الانتظار أمام النار الهادئة( ) .

ثم يواصل الكاتب حديثه قائلاً : " الملامح التي لوحظت على هذه الحملة ، وهي في نظري ما يأتي:
■ أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي ، مع وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخيًا مرجعيات العالم الإسلامي .
■ وأنها جاءت اتساقًا مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها قوى خارجية معينة ، مستغلة أحداثًا وظروفًا معروفة ، فجاءت هذه الحملة استكمالاً لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
■ الالتباس المتعمد في هذه الدعوة ، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها ، جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن يكون المقصود بها (مضمون) الخطاب ومحتواه ، وتحتمل أن يكون المقصود بها (شكل) الخطاب بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب ووسائل عرض المضمون .
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني ، أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب ، ولا يخفى على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر . ( )

وكمثال على ما نقول نورد ما ذكره الكاتب المصري أحمد عبد المعطي حجازي( ) في معرض إيضاحه للمقصود بكلمة (الخطاب) أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا ، أو أن هذا ما ينبغي أن نفعله ، فنقرأ ، ونفهم ، نناقش ، ونجرب ، نحلل ، ونقارن لنعرف الأسباب ، ونتوقع النتائج ، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس ، والجسم ، والمجتمع .
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها ، وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى ، ونعرف أن الجنون مرض يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه وأنواعه ، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من قبل ، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم ، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح العصر ، لأنه يتفق مع العلم ، أي مع العقل والتجربة» ، «ونحن إذن أمام مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر ، ونتتبع التحولات ، وننتقل من السبب إلى النتيجة ، يبدو لنا العالم مفهومًا ، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه والسيطرة عليه ، والنص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو القبور أنه علم سابق على كل علم وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه ، فالأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف ، ولا جديد تحت الشمس !»( )

ونلاحظ أن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة وهو في الواقع (هدم القيم والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم ـ فوق التعمية على مقصدهم الحقيقي ـ تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج لها ظنًا منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا التورط أعطى غطاءً مناسبًا لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد هؤلاء العلماء والدعاة.( )

وفي المقابل: يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة ، وذلك بعد الانتهاء من الدورات التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من 3 أشهر ، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة عدد مماثل من القساوسة ، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين الليبراليين ؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من خلال المشاركة بين القس والخطيب ، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات ، ومن خلال مشاركة عدد من رجال الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين ، تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد وليس موضوعاته فقط ـ خاصة ما ورد في القرآن أو السنة ـ ؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد..( )
وإذا كان وعي الأمة - أي أمة - يُقاس بقدرتها على: الاستفادة من ماضيها ، واستيعاب حاضرها ، واستشراف مستقبلها ؛ فإن قياس أمتنا - والحال هكذا - لن يكون مشرِّفاً ؛ إذ نرى الأمة غارقة فيما حدث.. متخبطة فيما يحدث.. جاهلة بما سيحدث... وهو ما يدفعنا لطرح قضية «التغيير القادم»، على نطاق واسع ، يصل الماضي بالحاضر ، ويعرض في أثناء ذلك صورتين للمستقبل:
أولاهمــــــا: رُسمت بأيدي الأعداء في دهاليز المخابرات وأروقة الوزارات.
والثانية: وضعنا لمساتها الأولى ، وفق رؤية إسلامية ، نستمد معالمها من كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، مع الإقرار بأن ما يعرض للأمة في مرحلتها الآنية ؛ يستدعي تضافر جهود صفوة علماء الأمة ومفكريها ؛ للفرار من جحر الضب ، والحذر من لدغة الأفعى ، كما حثنا النبي عليه الصلاة والسلام.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! . "قَالَ : فَمَنْ ؟!!" ( ).
ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد في اللغة واللهجة، أم في المضمون ؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين ؟ وهل هي تغيير في المصطلح ؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم ؟).
ومصطلح التغيير ـ بسبب الملابسات المذكورة أنفا ـ استُعمل جسراً ووسيلة لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة ، وتحيزات فكرية وعملية معروفة ، بل استُعمل لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي ، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية ، في بعض الأحيان .
وبالطبع ؛ كانت الاستجابة لهذه التحديات مختلفة باختلاف العقائد والأفكار والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم ، وكل فرد أو طائفة أن يأخذ قضية التغيير مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية ـ للقبول أو للانتقاء أو للرفض ـ ؛ بحسب المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه ، والأفكار التي يؤمن بها.

فينظر إلى مسألة التغيير من عدة جوانب :
أحدهما : علماني حداثي فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب، بل (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية أو عربية ؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها : استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي شكل من الأشكال ؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم (الليبرالي) ، أو جنة الخلد (الديمقراطية) -.. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر .
الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير) مع شيء من التحفظ :
وهو موقف العصرانيين من المسلمين ، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة ؛ (العقلانية الإسلامية) ، (المسلم المعاصر) ، (الوسطية العصرانية) ، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك .
وبالجملة ؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا تُرى واحدية المنهج ، أو تعتقد الصفاء ، أو نجاة طائفة معينة ، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى ، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات التحضر والنهضة ( ).
وهناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله ، وهو شغفهم بالتغيير ، وانفتاحهم نحوه ، واستهدافهم جميعاً «المنهج»، غير أن الصنف الأول يستهدف (المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله ، والصنف الثاني يستهدف (المنهج الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص .
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين ، وهو أن الأول منهما شمولي كلي على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو كليات .
أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام ، وكلي في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته .
الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة :
خوفاً من تبعاته وآثاره ، وحذراً من مخاطره وسلبياته ، وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة ، حريصة على عزتها ومكانتها ، ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى ، حتى لمجرد جدته أحياناً .
الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية ومصلحية :
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة ، وخاصة علماء الصحوة ، ورجالات الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية ، وهو المبدأ القائم على قاعدة : (الإسلام عقيدة وعبادة ، وأعمال وأخلاق ، وشعيرة وشريعة ، ودين ودولة ، ومصحف وسيف ، وأصالة وحضارة ) .
ولعل من الممكن ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
1- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}( )، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي إلى دين فاسد ، أو دنيا فاجرة ؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة ، وتغيير المشاعر و الإيرادات السلبية ، وإحلال أخرى إيجابية مكانها ، وتغيير المسالك والأعمال الخاطئة (دينياً أو دنيوياً) ، وإيجاد البديل الصالح .
2- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي الانتماء للأمة ، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع حملات الأعداء ووكلائهم .
3- التغيير عملية إصلاحية كبرى ، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى مذهب معتنق وعقيدة متبعة ؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً ، في كل شيء ، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات ، وإبطال القواعد والأصول والكليات والثوابت ، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم ، أو العاملون لصالحهم ، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه ؛ لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن ، ويستدعى في كل حين ولكل قضية.
4- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية والدينية والمسائل الشرعية ؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة ، فهي الجدار القصير الذي يمكن لكل أحد أن يتسلقه ، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور الأكثر سخونة والأشد عمقاً ، والأقوى تأثيراً ، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح والمؤمن التقي ، والفاسد الشقي ، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته ، ولكن المظالم العامة والانتهاكات للحقوق ، والطبقية المناطقية ، والعنصرية القبلية، والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد ، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة والاحتكار ، والطبقية المالية المتباينة ، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير ؛ مع أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد ، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي والرعية ، وبين الرعية نفسها ، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى ، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول .
5 - إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب والسنة ، والأخبار والحوادث التاريخية ؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع للاحتلال والعدوان ، فها هو العراق لم يكن لديه أســلحة دمار شـــامل ، وهـا هي ســوريا لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان ، وعقيدة الولاء والبراء ـ التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر ـ . وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها شيء من هذا ، وها هو المغرب كذلك .
بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة والتعليم من الإسلامي الصريح ؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي ، وأخرجت المرأة من عرشها المصون ، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية ؛ لتتشبه بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب ، ومع ذلك احتُلت العراق ، وسوريا تحت مطرقة التهديد ، وفصلت تيمور عن إندونيسيا ، والصحراء المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب ؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
6 - التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد ميرزا القادياني»، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد أبادي» المشهور باللندني ، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها ، وكان يقال له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران» ، فجعلوه مفتياً بدل عالم السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي» ( ).
7- التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع ، ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون ، ليس فيهم من يوثق بعلمه الشرعي ، ولا حميته الإيمانية ، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك المتكامل ، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه حتى الشفاء من دائه ، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموسة بالأهواء ؛ مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية ، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً ، وللغرب حقيقة ومضموناً .
8 - عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية ، عملية خطيرة ذات أبعاد شمولية متكاملة ـ وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو وطنية ولا دينية ـ هذه العملية قد تتم ـ إلا أن يشاء الله ـ ربما بصورة متدرجة ، وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية ، ثم إن تواصلت ـ في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها - فستصل إلى التخوم الخطيرة ، المستهدفة أصلاً ، وسينتج عن ذلك من الصراع الاجتماعي والثقافي ـ وربما المادي ـ ما لا يعلم مداه إلا الله ، فهذه طبيعة التغييرات العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين ، وما زال الجميع يكتوي بنيرانها إلى اليوم ، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية ، في مقام المتهم والممنوع ، و الأمثلة عديدة من ديوان المأساة العلمانية المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك ـ الذي أقل ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ـ ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها، وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة، وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف ـ حتى وإن خالفهم ـ أن يتفهم موقفهم هذا وأن يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً للأمة وفيهم علماء الشريعة ، وأهل الفتوى ، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح ، وهم الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سـوق المزايدة ، وراجت بهم بضاعة المناكدة ، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور .
9 - ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع ؛ لأنهم يرون أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد ، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس ، أو مستفيد من الأوضاع الفاسدة ، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي ، والمراد هنا الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها وموقوماتها ، والمتجه نحو مصالحها الحقيقية حالاً ومآلاً ، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة الأمريكية ، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية المعبرة عنها ؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس ، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر الدعوية ، والمدرسين الدعاة ، والأنشطة غير المنهجية في المدارس . والكارهون لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها .
10 - أختم هنا بذكر نموذج التغيير الذي تطلبه أمريكا وترغب فيه ، بل وربما تلزم به ، ومعالم هذا التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي والاجتماعي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً ، ولن يكون هو نهاية المطالب ، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك ، فحتى لو أُعطـوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن يقبلوا ؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية ، وصدق العليم الخبير : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}( ) ، وقال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}( ) ، والأمر تجاوز مجرد التصريح أو إثارة ما أسمي بمفهوم الإسلام المعدل إلى الدخول في التفاصيل؛ فللإسلام المعدل ملاحق تنفيذ؛ فقد أرفقت الإدارة الأمريكية بمنهاج «الإسلام المعدل» ملاحق تنص على حذف مجموعة من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد والحث على كراهية المشركين واليهود، وبالإضافة إلى تلك الأحكام تطالب الإدارة الأمريكية بضرورة منع تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؛ لأن ذلك بمثابة «غسيل مخ» وفرض توجه فكري محدد لا يستطيعون تمييزه في هذه السن المبكرة»
ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية لديها الاستعداد ـ خوفاً أو طمعاً ـ لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة ، وهناك من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية قدوة ، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}( ) .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها، ويقيناً بوعد الله لها، {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ}( ) .
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}( ).

المبحث الثاني

ما هو التغيير المطلوب؟!!

الواقع بعدما استعرضنا هذه المقدمة التي لا بد منها لنفهم الأبعاد من وراء هذه الهجمة الشرسة على العالمين العربي والإسلامي ، تبقى المسألة تحتاج إلى طرح آخر فحواه : ما هو التغيير المطلوب ؟ وبذا نعلن الرغبة في التغيير من منطلق شرعي علمي مؤصل ، وإن كنا نوافق الكثيرين ممن ذهب إلى أن التغيير المطلوب ما كان له أن يبرز في هذه الآونة ، ولا في مثل هذه الظروف لئلا يفهم فهماً سقيماً ، وينظر إليه على أنه مجرد نتاج للضغوط الخارجية ، وتنازل أمام مطالب الأعداء السادية لا عن قناعة ورغبة حقيقية !.

ولا شك أن وجهة النظر هذه معتبرة جداً ، ويجب ألاَّ تُغفل أو يُغفل عنها ونحن بدورنا يحدونا الأمل بالرغم من ذلك أن يُفهم الهدف من طرحنا ، وأنه لله تعالى وأننا لا نبتغي أن نكون فيه مجرد أبواق تردد مزاعم أعداء هذا الدين القويم ، أو أننا نريد مخالفة أهل الخير والرؤى الصائبة من أتباع ديننا العظيم .

وإذا كانت قد بذلت جهود مباركة -ولا تزال تبذل- من أجل عودة الناس إلى دينهم وعقيدتهم ، وحيث حققت هذه الجهود _ بعد توفيق الله _ تلك الآثار الإيجابية التي نراها من عودة الأمة إلى الله جماعات وآحادا ، رجالاً وركباناً ، فإن واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يوجهوا جل اهتمامهم لتربية هذه الجموع ، ويبينوا لهم الطريق الصحيح ، لئلا تغرق السفينة بمن فيها ، فإن العبرة ليست (بالكم)! ولكن (بالكيف)!!.

يقول الدكتور البوطي : "فلتعلم أن المسلم الذي لا يلتزم جهد استطاعته بأحكام الإسلام ، أو يلتزم ولا يكون مدفوعاً إلى ذلك طلباً لمرضاة الله تعالى وحده ، لا يكون عمله في الدعوة ، إن هو قام بها ، إلا كمن يفتح صنابير مياه على حوض ترك مصرف المياه مفتوحاً في قعره . قد يتجمع شيء من الماء فيه ، ولكنه آيل إلى الذهاب والضياع"( ) .
ثم يواصل قوله : " لقد كانت مهمة الدعوة إلى الإسلام من الفروض الكفائية ،كما قال العلماء ، يوم كانت المجتمعات الإسلامية ، تسير قدماً في طريق الإسلام ، بدفع من اتجاهها الذي وضعت نفسها فيه ، دون أن يكون على الطريق أو عن يمنه أو يساره ، من يتربص بها الدوائر ، ويختلق لها العقبات ، ويصدها عن الوصول إلى الغاية بنيران الشهوات والأهواء.
أما اليوم ، وقد جندت كل امكانات الدنيا ، من مال وطاقة ونساء وفكر ، في سبيل الصد عن صراط الله والوصول إلى مرضاته ، فقد أصبحت مهمة الدعوة الإسلامية فرضاً من الفروض العينية ، يخاطب به كل مسلم صادق مع الله في إسلامه ، ولم تعد مقتصرة على ثلة من الناس ، مهما بلغ شأنهم ومهما كانت أهميتهم "( ).

ونحن وإن اختلفنا مع سماحته فيما ذهب إليه ، إلا إننا نوافقه في المقصود منه !.
حيث بين أن الخطب جلل والغاية كريمة فلا بد أن تبذل في سبيلها كل الطاقات والامكانات المتاحة ، ويبقى أن ذلك كله مداره على الفروض الكفائية كما بين ذلك المولى تبارك وتعالى في قوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ( ) .
فضل الدعوة إلى الله أهميتها :
والدعوة إلى الله فضلها عظيم فهي مهمة الرسل والأنبياء، وهم أشرف الخلق وأكرمهم على الله ، وهم الذين اختارهم الله لهداية البشر ، والعلماء هم ورثة الأنبياء ، وقيامهم بالدعوة أعظم تشريف لهم.. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}( )، ومن فضل الدعوة إلى الله أن : [من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً]( ) .
والدعوة إلى الله هي التي من أجلها شرّف الله بها أمة الإسلام جميعاً فجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس ، لأنها حملت رسالة الله إلى العالمين ، وجاهدت بها كل الأمم فهم خير الناس للناس.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظة الله ـ : فالمقصود والهدف الأعظم من الدعـوة هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النـار، وينجوا من غضب الله ، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى ، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } ( ) .

أركان الدعوة .. أو فلنقل أركان الخطاب الديني :

لقد توصلت من خلال الاستقراء والبحث ، ولا أجزم أنه الكامل أو الشامل ، أن الخطاب الديني يرتكز على خمس أسس رئيسة من فوقها يعلو بناء الخطاب ويشتد عوده ، وتظهر فائدته ، وترسخ في عقول وأفئدة الأجيال قيمه ودواعيه وهي :ـ

( أ ) الخطيب ، أو الداعية .
(ب) المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
(ج) وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
( د ) نوعيه الخطاب ، أو كيفيته( مراعاة المكان والزمان ).
( هـ) العائد من الخطاب ، أو الهدف من الدعوة .

أولاً : الخطيب أو الدعية :
===============
هذا هو الركن الأول ، والهام في هذا البناء . بدونه لا يرتفع للخطاب بناء ، ولا ترسخ له أسس ، وإن أهمل شأنه كنا بالخطاب كمن يحرث في الماء .
ومن هنا وجب العمل الدؤوب لإعداد العلماء والدعاة الربانيين، الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية ؛ لأن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن ، الذي إذا استقضى قضى بحق ، وإذا استفتى أفتى على بينة ، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.

مبحث

الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية

ما هي الشروط الواجب توافرها في هذا الخطيب الداعية ؟.
1. أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده .
والإخلاص أمر عسير شاق على النفس ، صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه، فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل .
يقول أويس القرني رحمه الله( ):'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك ، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .
و من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص ، وعظيم منزلته : أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام : كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية ( رحمه الله) ، فقال : ' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:
} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا....{ ( ). يقول: فمن لم يستسلم لله ؛ فقد استكبر ، ومن استسلم لله ولغيره ؛ فقد أشرك ، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر'( ) .
ويستلزم إخلاص النية لله في الدعوة وفي كل طاعة وقربة ، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل ، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص ؛ أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية ، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ، يتعلم ويعلم ، ويتوخى الحق أينما كان ( ).

الإخلاص في الكتاب والسنة:
تارة: يأمر الله عز وجل به، كقوله:} فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {( ).
وتارة: يخبر أنه دعاء الله لخلقه:} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {( ).
وتارة: يخبر أن الجنة لا تصلح إلا لأهله، كما قال:} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ( ) {.
وتارة: يخبرنا بمواضع أنه لن ينجو من شَرِكِ إبليس إلا من كان مُخلِصاً لله عز وجل، كما قال:} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ){. بعدما توعد أنه سيضل الخلق أجمعين ، ويستهويهم بوساوسه وخواطره ، وإضلاله وتزيينه.
وأما ما ورد في السنة فكثير، ومن ذلك:
ما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ ـ يعني يريد الأجر من الله عز وجل ، ويريد أن يُذكر يقال: فلان مجاهد – مَالَهُ ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا شَيْءَ لَهُ] فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ]( ).
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] ( ).
فالأعمال التي تختلط فيها الإرادات ، ويتلفت صاحبها يمنة ويسرة يريد ما عند الله ، ويريد ما عند المخلوقين ؛ هذه الله غني عنها ، ولا يعبأ بها ، ولا يقيم لها وزنًا.

وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين أن محل نظر الله عز وجل إلى قلب العبد ، وهو محل الإخلاص ، والقصد والنية ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] وفي لفظ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ] ( ).

وحديث: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] ( ). شاهد واضح في الدلالة على هذا المعنى ، ونحن لو أردنا أن نستقصي الآيات والأحاديث التي تدل على أهمية الإخلاص ، ومنزلته، وعظيم أثره ؛ لما كفى لاستيعابها هذه الأطروحة ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ( ).

2 . من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .

أولاً : الحكمة :
نستطيع القول أن الدعوة حتى تكون مؤثرة ومثمرة لابد أن تكون بحكمة ، أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات ، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا ، ونياتنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة ، ولحاجة الأمة حاضراً ومستقبلاً إليها في كل شؤونها ، فكان حتماً ولا بد أن نعرض لها توضيحاً وتفصيلاً ، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة ، وآراء السلف الصالح .
قال الله - جل وعلا -: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}( ) . وقال ـ سبحانه ـ : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ( ) .
قالوا في الحكمة : إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به .
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ، ولا يغلط في العلل والأسباب .
وقال صاحب مختار الصحاح : "وصاحب الحكمة والحكيم المتقن للأمور"( ) .
وقال ابن منظور :" وقـيل: الـحَكِيمُ ذو الـحِكمة ، والـحِكْمَةُ عبارة عن معرفة أَفضل الأَشياء بأَفضل العلوم . ويقال لـمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ " ( ) .
وقال الطبري : "ليست بالنبوة ولكنه القرآن والعلم والفقه ، وقال آخرون معنى الحكمة الإصابة في القول والفعل" ( ) .
وقال ابن كثير :
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
وقال السدي : الحكمة النبوة .
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
والصحيح أن الحكمة ـ كما قاله الجمهور ـ لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث ( ).
وقال الألوسي : "إن فيها تسعة وعشرين قولاً لأهل العلم ، قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحاً واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهماً من الحكمة ، و إلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام ، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها"( )
وقال سيد قطب -رحمه الله- حيث فسر الحكمة بأنها: " القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال " ( ).
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " ونستطيع أن نقول : إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين : الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان ، والتوفيق، والبصيرة ، والعمل الصائب ، ومنع الظلم ، ووضع الشيء
في موضعه ، وكلها معان متقاربة "( ).
أما في السنة فقد وردت الحكمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قَالَ : ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ ( ).
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
وقال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن ( ).
- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" ( ).
والحكمة هنا فسرت بالقرآن ، كما وردت في حديث آخر. ( )
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظه الله ـ : " هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة ، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا ، ومن ذلك:
1- قيل: هي وضع الشيء في موضعه ( ).
2- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك ، إنها: معرفة الحق والعمل به ، والإصابة في القول والعمل ، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن ، والفقه في شرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان ( ).
3- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح ، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير ( ).
4- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل ، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل ، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة " ( )( ).
ثانياً : العلم :
يقول تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}( ) ، ويقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}( ) . وقال تبارك وتعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }( ) .
أما السنة فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ . فَقَالَ : ابْنَ أَبْزَى .قَالَ :وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟!. قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا .قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ؟!. قَالَ : إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ . قَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : [ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ] ( ).

ـ و عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ]( ) .

ـ وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ ... إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ] ( ) .

والواقع إننا لو استرسلنا في الأدلة لما وسعنا المقام ولكن يكفي ما أشرنا إليه ، والخطيب الداعية لابد أن يجمع مع العلم ثقافة واسعة في جميع المجالات ، وهي: الثقافة الدينية ، واللغوية ، والتاريخية ، والإنسانية ، والعلمية ، وأن يكون كذلك على دراية بما يدور من حوله من أحداث التي يطلق عليها البعض فقه الواقع ، أو(الثقافة الواقعية) ، بشرط ألا يطغى هذا الجانب على غيره من الجوانب ، ولا يكون عاجزاً في المسائل الشرعية أو الدينية ، بينما هو أستاذ في جانب الواقع فهذا منفصل عن واقعه وإن كان يعيش فيه ؛ لأن المعرفة الواقعية التي لا يضبطها شرع ولا يحدها دين تكون أحياناً وبالاً ، ومصيبة على صاحبها!.

ومن الأشياء التي أعجبتني "وأنا بصدد هذه الرسالة " أطروحة لفضيلة الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ بعنوان "فقه الواقع " ، وجدتها شافية وكافيه ، واقتطعت منها ما يلي : ـ " فقه الواقع : هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة ، من العوامل المؤثرة في المجتمعات ، والقوى المهيمنة على الدول ، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة ، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل " ( ).

ثم يستطرد قائلاً : " فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة ، والبحث في كل جديد ، فهو يختلف عن كثير من العلوم ، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث ، ودراسة أحوال الأمم والشعوب ، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله ، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته ، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات ، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية ، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج ، وما اكتشف من أدوية ، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب ، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد ، وبخاصة في عصرنا الحاضر ، الذي أصبح فيه العالم كقرية ، ما يقع في شرقه يؤثر يوميا في غربه ، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه ، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن ، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل " ( ).

الآثار الإيجابية لفقه الواقع :
قال الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " هناك آثار إيجابية عظيمة لفقه الواقع ، فمن الخطأ تصور القضية مجرد مزيد من الثقافة ، أو إشباع غريزة حب الاستطلاع ، فالموضوع أهم من ذلك وأخطر ، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن مستقبل الأمة قد يتوقف على مدى فقه الواقع والتعامل معه ، فقد تتخذ مواقف مصيرية - لم تبن على أسس علمية - تؤدي بحياة الأمة إلى مهاوي الردى ، وكم من موقف اتخذ في حياة أمتنا المعاصرة ، لم يستمد من شريعتنا أذاقنا الذل والهوان " ( ).

ثم يسرد هذه الآثار بشكل يصلح لموضوعنا تماماً فيقول: من آثار فقه الواقع :
◄إحكام الفتوى وإتقانها . ◄الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة .
◄الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة . ◄التربية الشاملة المتكاملة . ◄بعد النظر وحسن التخطيط . ◄إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .
◄حماية العلماء . ◄الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
وبعدما جمعت كل ما ذكره ـ حفظه الله ـ إجمالاً سأعرض له بشيء من التفصيل .
◄إحكام الفتوى وإتقانها .
أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى أهمية فقه الواقع للمفتي ، ( ) والحكم على الشيء فرع عن تصوره ، كما قرر العلماء.
والمفتي يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة ، وبالذات في الفتاوى المتعلقة بالمسائل المستجدة المعاصرة، ولذا نجد عدم ثقة كثير من الناس في بعض الفتاوى الصادرة من بعض طلاب العلم ، لأنها لم تبن على فقه دقيق للواقع المعاصر.
بينما نجد أن الفتاوى التي تصدر من علمائنا مبنية على تصور تام للأوضاع الجارية ، وفقه عميق للمستجدات ، تكتسب أهمية قصوى ، ولا تدع مجالا لطاعن أو مخالف.
ولذا فإن الفتوى تحتاج - في كثير المسائل - إلى فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع ، وإذا اختل ركن من هذه الأركان تداعت الفتوى ، وانهدّ جانبها.
ولا شك أن الفتوى إذا كانت محكمة ومتقنة لها أثر إيجابي في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا ، ولن يتم ذلك إلا باستكمال شروط الفتوى التي حددها العلماء ، ومنها اكتمال التصور عن المسألة ، وهو فقه الواقع في المسائل المعاصرة.
◄ الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
من الملفت للنظر في عصرنا الحاضر وقوع بعض الجماعات الإسلامية والدعاة إلى الله في أخطاء أساسية في منهجهم ، وأسلوب دعوتهم.
وإذا تأملنا في أسباب ذلك نلمس أن أغلب هؤلاء على صنفين:
إما دعاة لديهم إدراك لواقعهم ، ولكنه لم يبن على أصول شرعية متكاملة ، نظرا لتقصير هؤلاء الدعاة في بناء دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة ، فوقعوا في أخطاء فادحة ، دفع أتباعهم ثمنها غاليا ، ولم يحققوا أهدافهم التي أعلنوها ، وهي إقامة حكم الله في الأرض ، نظرا للخلل في المنهج.
وآخرون لديهم علم شرعي ، ومنهجهم سليم في الجملة ، ولكنهم لا يفقهون الواقع ، ولا يتعاملون مع المرحلة التي يعيشونها ، فتخبطوا في أسلوب دعوتهم ، وتعجلوا الشيء قبل أوانه ، ولا يفرقون بين المنهج والأسلوب ، وإن كان الأسلوب فرعا عن المنهج ، فكانت النتيجة سلبية ، وذات أثر محدود.
ومن أجل التخلص من هذه السلبيات والأخطاء ، لا بد أن تكون الدعوة إلى الله مبينة على أسس شرعية ، مستمدة من الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة ، ومن ذلك فقه الواقع ، وبهذا نجنب الدعوة وأتباعها المزالق والمخاطر والانحراف ، ونحقق قول ربنا (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)( ) .

◄ الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة .
المواقف التي لا تبنى على النتائج السليمة المستمدة من المقومات الصحيحة ، آثارها خطيرة على الفرد والمجتمع ، والمجتمع الإسلامي يتخبط في مواقفه منذ سنوات طويلة ولا يزال ، ومن أسباب هذا التخبط المقدمات التي بنيت عليها هذه المواقف ، فأكثرها مواقف انفعالية أو وقتية ، تفتقر إلى الدراسة والتحليل ، وأحيانا تكون مبنية على دراسة قاصرة ، تكون نتائجها غير سليمة ، فيتخذ القرار الخاطئ .
وفقه الواقع يحول دون الفوضى والتخبط ، ويصبح لدى من يملك القرار تصورا متكاملا عن القضية ، مما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، دون قصور أو ارتجال.

◄ التربية الشاملة المتكاملة .
مما يلحظ على كثير من الجماعات المعاصرة عدم شموليتها واهتماماتها الجزئية ، فهذه جماعة تعني بالتربية الروحية ، وأخرى بالتربية الفكرية ، وثالثة تربي أفرادها تربية عسكرية ، والرابعة تعني بالتربية الإسلامية السياسية ، وهلم جرا.
وقد تأملت في أسباب ذلك فأتضح لي أن أهم سبب لهذا الواقع: تصور كل جماعة أن الخلل في الأمة سببه قصورها في هذا الجانب دون غيره ، فجعلت هدفها الأساسي : استكمال هذا النقص وسد الخلل ، وكما ذكرت في الأثر الثالث: ما بني على مقدمة خاطئة فنتيجته خاطئة.
والمتأمل لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة يدرك أن سبب تأخر أمتنا وتخلفها ناتج من عوامل عدة: روحية ، وعلمية ، وسياسية ، وجهادية ، وعقدية ، واقتصادية ، وهذا التصور الشمولي للواقع يجعل الدعاة يرسمون منهج دعوتهم بشمولية متكاملة ، بعيدا عن التجزئة والفردية.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي صحابته ، ويبني المجتمع المسلم ، مجتمعا متكاملا ، بعيدا عن روحية الصوفية ، وسياسة العلمانيين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)( ) .
◄ بعد النظر وحسن التخطيط .
إن أمتنا بأمس الحاجة إلى التخطيط الدقيق ، الذي يبني مجدها ، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء ، وكل تخطيط لا يبنى على فهم عميق لمجريات الأحداث ، وتصور متكامل للواقع في جميع جوانبه ، سيكون تخبطا لا تخطيطا.
والأوضاع التي مرت بها بلاد المسلمين ، والمحن التي نعيشها كشفت عن تأخرنا عن أعدائنا في كثير من أمورنا ، حتى أصبحنا عالة عليهم في كثير من شئون حياتنا.
وفي الوقت الذي يخطط فيه أعداؤنا لما بعد مائة سنة أو تزيد ، نجد الفشل الذريع في تخطيط المسلمين لعشر سنوات أو أقل من ذلك.
وفقه الواقع في جوانبه المتعددة يعطي تكاملا في الرؤية ، وبعدا في النظر ، وهي من بدهيات التخطيط الدقيق لمستقبل الأمة ، وتطلعات الأجيال.
وهذا التخطيط يشمل جميع مناحي الحياة: الدعوية ، والعلمية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، وغيرها ، حتى نكون كما أراد لنا ربنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)( ) ، أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب ، تخضع لها الأمم والممالك ، وتذل لها الجبابرة والملوك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)( ) .
وبهذا نحمي المسلمين ، ونوجد المهابة لهم في نفوس أعدائهم ، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر " ( ) وصدق الله العظيم: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)( ).
◄ إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .
لقد فضح القرآن الكريم خطط المشركين (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)( ). وكشف عن مكائد اليهود والنصارى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)( ). (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)( ).
وأماط اللثام عن دسائس المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)( ). (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)( ).
ومن ثمرات فقه الواقع كشف سبل المجرمين بشتى أشكالهم وأنواعهم ، وكشف خططهم مؤذن بإبطال كيدهم ، ورد تدبيرهم إلى نحورهم ، والعناية بهذا الجانب حماية للمسلمين ، ورد لكيد الظالمين (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)( ).

◄ حماية العلماء .
وفقه الواقع حماية للعلماء من وجهين:
1- فالعلمانيون يكيدون لعلماء الأمة ، ويسعون لتشويه صورتهم أمام العامة ، بما يثيرونه من قضايا ، وما يطرحونه من خلافات في مسائل علمية ، مما يظهر أمام العامة وكأنه تناقض في الفتوى ، وضعف في العلم ، وهم يراهنون على إبعاد العامة عن علماء الأمة ، لأنهم يدركون أن العلماء هم السد المنيع ضد مؤامراتهم ومخططاتهم ، فإذا ظفروا بالعامة كسبوا الرهان ، ففقه الواقع كشف لهؤلاء ، وفضح لمآربهم ، وحماية بالتالي لعلماء الإسلام ودرع الأمة.
2- وفقه الواقع حماية للعلماء من الخاصة ، فعندما تكون الفتوى مبنية على تصور للواقع ، وعلم بفروع المسألة وأصولها ، لا يدع مجالا لطاعن أو مخالف ، مما يكسب الفتوى احترامها وقوتها ، وتتلقى بالقبول من لدن طلاب العلم والعامة ، وهذا ولا شك يقوي صلة طلاب العلم بعلمائهم ، ويقطع الطريق على من يستغل الأخطاء والعثرات لإبعاد شباب الأمة عن علمائها ، وبهذا نحمي جانب العلماء ، ونـزيد من مكانتهم في نفوس العامة والخاصة ، لتكون لهم الريادة والقيادة العلمية في توجيه الأمة ، وتبصيرها في شئون دينها ودنياها ، كما كانوا - وسيظلون بإذن الله - على مر الأجيال وتعاقب العصور.
◄ الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
عندما نغفل عن واقعنا ، ونكتفي بتلمس ظواهر الأمور دونما إدراك لحقائقها ، قد نغفل عما يكاد لهذه الأمة ويحاك لها ، وبالتالي سننشغل عن العمل الإيجابي الجاد ، وقد ينصرف طالب العلم إلى أمور جانبية ظنا منه أن الأمور تسير على خير ، وأن ليس هناك ما يكدر صفوها ، أو يهدد كيان الأمة ومستقبلها.
ولكن عندما نفقه الواقع على حقيقته ، دون إفراط أو تفريط ، سندرك جهود الأعداء في الداخل والخارج لضرب الأمة في أعز ما تملكه ، وهو دينها ، وهنا نكون على مستوى المسئولية ، وتزول الغشاوة التي تضعف رؤيتنا ، وتنتهي المعاذير التي يرددها كثير من الناس ، بدعوى أن الأمور بخير ، وأننا أحسن من غيرنا ، ونحن -ولا شك- بحمد الله وفضله أحسن من غيرنا ، ولكن استمرار هذا القول ، دون عمل أي جهد للمحافظة على هذا "الخير" و"الحسن" قد يؤدي إلى فقدانه وزواله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)( ) .
وفقه الواقع بالتالي عامل مساعد للتغلب على المعوقات التي تواجهنا عندما نقوم بما أوجب الله علينا ، فإدراكنا لقوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)( ) ، وفقهنا لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)( ). ومعرفتنا بما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من عقبات في طريق دعوتهم ، كل ذلك سيزيد من إيماننا بأن العاقبة للمتقين ، مهما طال الطريق وتعددت المعوقات.
وفي الوقت نفسه ففقهنا لما عليه أعداؤنا ، وما يكابدونه من مشاق في تحقيق أهدافهم الباطلة ومآربهم الخبيثة ، يزيد من تحملنا في سبيل أهدافنا السامية ، وغاياتنا النبيلة (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)( ). (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)( ) وبهذا تتحول المشاق والعقبات إلى لذة تتنعم بها ، بدل العنت والشقاء ، كما تلذذ أسلافنا بالجهاد في سبيل الله ، وبهذا نكون أو لا نكون( ).
ثالثاً : الحلم .
لين الجانب ( الحلم ): يجب على الخطيب الداعية أن تتوفر فيه الطبيعة الرحيمة ، الهينة ، اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب ، وتتألف حولها النفوس ، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم ، وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام ، والعطف والسماحة ، والود .
يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } ( ) . ويقول تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}( ) .

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ] ( ).

عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ]( ) .
يقول الحكيم الترمذي : " فالحلم : سعة الخلق ، وإذا توسع المرء في أخلاقه ولم يكن له علم افتقد الهدى وضل ؛ لأن توسعه يرمي به إلى نهمات النفس ، فيحتاج إلى علم يقف به على الحدود ، وإذا كان له علم ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبر بعلمه ؛ لأن العلم له حلاوة ، ولكل حلاوة شره فتضيق أخلاقه ، ويرمي به ضيقه إلى شره النفس وحدتها فيكون صاحب عنف وخرق في الأمور فيضيع علمه " ( ) .

عن عطاء قال : ثم ما آوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ( ).

وقيل : الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى بالحلم ولم يتسم بالعقل !.
وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : " ما سمعت الله نحل عباده شيئا أقل من الحلم " ، قال : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ }( ) ، وقال : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}( ) ( ).

فالحلم سعة الخلق ، والعقل عقال عن التعدي في أخلاقه ، والواسع في أخلاقه حر عن رق النفس ؛ ولذلك قال عيسى ـ عليه السلام ـ لبني إسرائيل : لا عبيد أنقياء ، ولا أحرار كرماء . لا يشهد كريم أينما انقاد .
والحليم يحتمل أثقال الأمر والنهي بلا كبد ولا مجاهدة ، فكان إبراهيم ـ عليه السلام ـ ممن احتمل الأثقال ، ابتلي بالنار ، وابتلي بالهجرة والغربة ، وابتلي بسارة ، وابتلي بالختان ، وابتلي بذبح الولد ؛ فجاد بنفسه وولده ، فقال الله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ( ) ( ).

3. من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه ( أي قدوة حسنة ).
إن القدوة من أهم الأسس التي تؤدي إلى حسن التربية للمدعو.. نعم إنه يحتاج ابتداء لإيمان عميق ، تام ، متجدد.. وبحاجة إلى تطبيق ما يدعو إليه على نفسه ؛ حتى تكون حياته الشخصية وسلوكه موافقين لما تقتضيه تربيته لأخيه ، ولكي يتشرب هذا المدعو منذ بدايته بالمبادئ الإسلامية ، وبالخلق القرآني القويم . ولسان الحال أبلغ من لسان المقال ، فليكن كالكتاب المفتوح الذي يقرأ فيه الناس معاني الإسلام ؛ فيقبلون عليها ، وينجذبون إليها. نداؤه كما قال شعيب (عليه السلام) لقومه:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{ ( ) .
عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] ( ) .
وكان الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ يقول:" عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السماوات"( ).
وقال الشيخ عبد العزيز بن بازـ رحمه الله ـ : "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي ، بل يجب أن يكون عليها الداعية ، العمل بدعوته ، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه ، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه ، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك ، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ، ويبتعدون عما ينهون عنه قـال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}( ) ( ) .
هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه ، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً ، ولهذا قال بعده "وعمل صالحاً"، فهو داعية إلى الله باللسان ، وداعية بالعمل ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس: هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة ، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال ، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم .
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال ، والسيرة.. وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال ، ولاسيما العـامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والآمال الصالحة ، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها ، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة ، وذا عمل صالـح ، وذا خلق فاضل حتى يقتدي بفعاله وأقواله"( ) .
4. من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة :
الصبر هو مكابدة النفس على الطاعات وكفها عن السيئات والاحتساب على البلاء. ولا يخفى ما للصبر من أهمية بالغة في حياة المسلم عامة ، وفي مسيرة الدعوة والدعاة خاصة ، ويكفي دلالة على أهمية الصبر وفضله وعظيم مكانته: أنه مناط الأعمال كلها ؛ إذ الأعمال إما طاعة أو معصية ، وكل طاعة فإنما تتحقق بالصبر ، وكل صبر على الطاعة فهو صبر عن المعصية ؛ لأن ترك المعصية طاعة ، وترك الطاعة معصية ، ولهذا ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز أنواعًا من الطاعات و القربات ثم سماها صبرًا تنويهًا بأن الصبر سبيل تحقيقها ، من مثل قوله تعالى : } الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار ِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ{ ( )
فذكر الله الوفاء بالعهود ، وصلة الأرحام ، وخشية الله ، والخوف من يوم الحساب ، والصبر لله عز وجل لا لشيء آخر، وإقام الصلاة ، والإنفاق سرًا وعلانية ، ودفع السيئة بالحسنة .. ثم سمى كل ذلك صبرًا لأنها لا تتم إلا به .
• أنواع الصبر :
٭الصبر على طاعة الله عز وجل .
٭والصبر عن المعصية .
٭والصبر على الأقدار .
وأكمل هذه الأنواع الصبر على الطاعة ، قال ابن القيم رحمه الله :'والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعات أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية' ( ).
يقول الدكتور / عبد الكريم زيدان : والصبر بأنواعه إنما هو بالله بمعنى أن المسلم يؤمن بأن صبره إنما يكون بعون الله ، فالله هو المصبر له ، قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } (127) سورة النحل ، وصبر المسلم لله أي أن المسلم يصبر طاعة ومرضاة له فالباعث على صبره محبه الله وطلب مرضاته وهذا النوع من الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الابتلاء لأن في الأول اختيار وإيثار ومحبة ، أما الثاني فهو صبر ضرورة ولا اختيار للصابر ( ).
والصبر في حياة الدعاة يشمل هذه الأنواع الثلاثة ، ونركز الحديث هنا على النوع الثالث من أنواع الصبر ، وهو الصبر على ما يلقاه الدعاة في سبيل الدعوة ولازم هذا الصبر .
• لوازم الصبر في مجال الدعوة :
للصبر في مجال الدعوة وفي حياة الدعاة لوازم كثيرة ، بتحققها يتحقق الصبر على أكمل وجوهه ، ومن أهم لوازم الصبر :
# تحمل عنت المدعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم: وكيد المناوئين ملازم لكل دعوة إصلاح ، وهذا جلي في قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم :} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  ( ). والعصمة هنا هي: الحفظ والرعاية والتعهد ، فمن بلّغ عن الله فلابد أن يكاد ، وعليه بالتحمل وعدم الفتور عن الدعوة ؛ لأنه لابد أن يصيبه ما يكره إما في النفس ، أو المال ، أو العرض ، أو غير ذلك ، وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم :} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { ( ). ولو أن الدعاة لم يتحملوا ما يصيبهم من أذى في سبيل الله ؛ لم يستمروا في أداء واجبهم ، فمتقضى الصبر: التحمل والثبات والاستمرار .
# ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة : فمن الثوابت الراسخة في مسائل الدعوة ، ومما ينبغي أن يعيه الدعاة : أن على الدعاة أن يولوا جانب التبليغ وإيصال الحق للمدعو كل الاهتمام بإقامة الحجة وإيضاح الدليل والبرهان والاستمالة لا أن يشغلوا أنفسهم بغير ذلك ؛ لأن الهداية بيد الله : } وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... {( ).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة وكان ذلك دأبه مع قلة المؤمنين يومئذ ، وكانوا كما قال عمار (رضي الله عنه) : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ" ( ).
ومما يدل على أن ترك الاستعجال من لوازم الصبر: ما ورد عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ : [ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ] ( ) .
ويؤخذ من الحديث أن لله عز وجل سننًا نافذة لا تتخلف ولا تتبدل ، وما على الدعاة إلا إبلاغ الحق والخير للناس لتكون لهم المعذرة إلى ربهم ، والله يهدي ببركة هذه الدعوة من يشاء.
# الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم : فدينه هو الحق المبين وللحق غلبة وهيبة وقوة ، تسكب في فؤاد الداعي أملاً لا ينقطع ، فيكون أبعد الناس عن اليأس والإحباط ، والدعاة وهم يرون الحق في قوته وظهوره وعلوه يستمدون من الله يقينًا فوق يقينهم ؛ فإذا هم ماضون في الدعوة بعزيمة نافذة وكما قالت الرسل ، وقد نالت منهم طوائف المكذبين الجاحدين فقالوا : }وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ { ( ).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينال منه عتاة المشركين ومع ذلك يمضي في دعوته قدمًا مثابرًا محتسبًا صابرًا ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] ( ).
• أثر الصبر في نجاح الداعي : للصبر أثره الحميد في نجاح الداعي وتحقق غايته وهي : دلالة الناس على الخير, وسبله ، وصبر الداعي يكون في تحمل ما يلقاه من صدود وجحود ، وما يكاد له في سبيل منعه ، أو عرقلته من محاولات ودسائس ، وما تنشر حوله من إشاعات وأكاذيب واتهامات ، ولقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الألوان الموحشة من كنود الناس وصدودهم وفجورهم ، فصبر وصابر ورابط حتى بلغت دعوته الآفاق صلى الله عليه وسلم .
وكان عليه الصلاة والسلام حين يواجههم بالصبر الجميل ، ويقابل إيذاءهم بالتحمل والحلم والاحتساب كان يصارحهم بذلك ، وأنه ماض فيما هو فيه ، وأن هذا العدوان لن يثنيه عن الحق الذي آمن به ! فبعد أن أغروه بزخرف الدنيا وزهرتها ، وهم يودون صرفه عن الدعوة وشجونها قال لهم : [ ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولاً وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم] ( ).
وفي هذا منهاج للدعاة والسائرين في طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفيه بيان لما ينبغي أن يكون عليه الداعي في مضي العزيمة والحلم والاعتزاز بالحق ، وأن الدعاة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الدعوة إلى الله ، ولا تغريهم زخارف الدنيا ، وفي هذا ولا ريب يكمن السر الذي تـثمر به الدعوة .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قمة في صبره ، قدوة في مصابرته ، وتحمله وحلمه ، فهو أصبر الناس على جفوة الناس وجحودهم ، وأصبر الناس بعده هم أمثلهم طريقة ، وأكثرهم عزيمة ، وأقربهم إلى المنهاج النبوي ، ومصداق ذلك ما ورد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ] ( ).
• ومن فوائد هذا الحديث: أن الابتلاء سنة في حياة المسلم ، وفي حياة الدعاة على الأخص ، قال تعالى : } الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ ( ) .
• ومن فوائد الحديث أيضًا: أن البلاء يكفر السيئات ، ويرفع الدرجات ، وهذا هو مبتغى الدعاة ، وعفو الله أوسع . إن الصبر كما أنه من عوامل نجاح الدعاة هو أيضًا زادهم وعدتهم ، به تزكو نفوسهم وتطهر أفئدتهم ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصبر والإنابة ( ) .
5. من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه:
الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه فإذا كان من يدعوه كافراً كان حريصاً على إيمانه ساعياً في ذلك بكل سبيل ، وقد كان سيد الدعاة والمهتدين وهو نبينا صلى الله عليه وسلم ليحزن أشد الحزن حتى يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته..
يقول تعالى معزياً ومعاتباً له : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}( ).
وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ( ).. وقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} ( ) ..
والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه سعى إلى ذلك بكل سبيل ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له ، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة ، وأزال كل عقبة تصده عن الحق.
وأما إذا اتصف بضد ذلك أهمل في دعوة من يدعوه ، ولم يكترث لهدايته أو ضلاله..
وإذا كان من تدعوه مسلماً وكنت حريصاً على أن يهتدي للحق الذي تدعوه إليه ، وللمعروف الذي تأمـره به ، حملك هذا على إخلاص النية ، وبذل قصارى الجهد ، والفرح بهداية من تدعوه ، والحزن إذا لم يستجب لك .

مبحث
ثقافة المدعو
ثانياً : المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
======================
المدعو : هو من يراد دعوته وهم الناس جميعاً بوجه عام وأهل الإسلام بوجه خاص .
والمدعو نوعان : أ) فردي . ب ) جماعي .
وهذا القسمان ينقسمان بدورهما إلي قسمين :
1. قسم آمن بالرسالة
2. وقسم كفر بها ...وهذا القسم ينقسم إلى نوعين :
أ ] كفار معلنون لكفرهم .
ب] كفار غير معلنين ( وهم المنافقون ).
وهذه الأنواع تحتاج جميعها إلى خطاب ديني متناسب مع كل نوع ، ومطابق لمقتضى حاله ، ويؤدي المراد منه ، ويحقق الأهداف المرجوة .
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام التي يجب اتباعها مع كل قسم من هذه الأقسام ، ورسم رسـول الله صلى الله عليه وسلم السياسة الشرعية الواجبة في دعوة هذه الأقسام إلى الله وكيفية التعامل مع كل قسم منهم.
تمهيد : عالمية الرسالة:
رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ( ).. وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } ( ).. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}( )..
وقـال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} ( )، ومن أجل ذلك فالبشر جميعاً مدعون إلى هذا الدين ، والناس جميعاً هم أمة الدعـوة الذين أرسل إليهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن ثم فهذه هي الأصول العامة والسياسة الشرعية في الدعوة والمعاملة مع هذه الأقسام:
أولاً: الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام:
من الكفار الأصليين من بلغه دعوة الإسلام على الوجه الصحيح ، ومنهم بلغته دعوة الإسلام بصورة مشوهة ، ومنهم من لم تبلغه دعوة الإسلام..
ومن الكفار الأصليين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والوثنيون والمجوس وغيرهم من أتباع هذه الملل الكثيرة ، ومنهم من لا ينتمي لدين أصلاً.
والأصول التي يجب اتباعها مع هؤلاء جميعاً هي:
1) إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر:
الأصل الأول في دعوة المسلمين إلى الإسلام أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر كما جاءت في كتاب الله وسنة رسـوله صلى الله عليه وسلم ، ولا تقوم الحجة عليهم إلا بهذا.. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ( ).. وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} ( )..
ولا يكون البلاغ مبيناً قاطعاً للعذر إلا:
أ) إذا فهموه بلغتهم أو تمكنوا من العربية تمكناً يجعلهم يفهمون معانيها كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} ( )..
فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ثم يعلموهم العربية ليفهموا عن الله ورسوله..
قال الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله ): "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ، ومن لهم القدرة الواسعة ، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها"( ).
ب) إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم:
ويجب أن تدحض كل حجج الكفار و شبهاتهم حول دينهم الباطل ، وكل دين غير الإسـلام فباطل كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه}( ).. وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة}( ).. وقال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}( )..
ومن أجل ذلك أبطل الله في القرآن كل ما احتج به الكفار على اختلاف عقائدهـم في احتجاجهم لدينهم الباطل ، فقد رد الله على اليهود مزاعمهم ، وعلى النصارى ضلالهم وشبههم، وعلى مشركي العـرب في جميع ما عارضوا به الإسلام ، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال.
2) لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد ثم الأهم فالأهم:
يجب البدء مع الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام بالتوحيد لأنه أساس الدين ، وجميع الأحكام ترجع إليه ، ولا يصح العمل الصالح إلا به ولذلك كان كل رسول أول ما يدعو قومه يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.
إذ هو الفارق بين المسلم والكافر ، وجميع أعمال الدين ترجع إلى التوحيد ، وتبنى عليه ، فلا يصح عمل صالح للعبد إلا بتحقيق التوحيد لله ، وجميع الأعمال الصالحة تكون باطلة إذا لم يكن فاعلها موحـداً لله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا في عمل المشركين والكفار: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب} ( )..
وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد}( ).
وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} ( )..
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله داعياً إلى أهل اليمن أن يبدأ بالتوحيد ثم بالصلاة ، ثم بالزكاة فقد قال صلى الله عليه وسلم: [إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهـم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتوق كرائم أموال الناس] ( ) .
قال ابن حجر في الفتح: "بدأ بالشهادتين لأنهما أصل الدين ، الذي لا يصح شيء إلا بهما ، فمن كان غير موحـد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار والوحدانية".
وقال: "يبدأ بالأهم فالأهم ، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع لأول مرة لم يأمن النفرة" ( ).
3) عرض الدعوة على الكفار باللين ، والحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالحسنى:
في مقام عرض دعوة الإسلام على الكفار، وإن كانوا من المجرمين العتاة، والجبابرة الطغاة يجب اتخاذ اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً إلى عرض الدعوة، وقد فصلنا الحديث في هذا الجانب سلفاً بما لا يحتاج إلى زيادة ، ولأهمية الدعوة باللين ننظر إلى وصية الله لموسى وهارون أن يعرضا الدعوة على فرعون باللين.. قال تعالى: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } ( ).
فمع طغيانه وقتله لذكور بني إسرائيل،واستحيائه لنساءهم ، وسومهم رسولهم سوء العذاب إلا أن الله أمر الرسول ـ عليه السلام ـ أن يكون ليناً في عرض الدعوة عليه ، ولعل اللين أن ينفعه فيتذكر ويخشى.
4) وجوب رد إساءتهم وعدم السكوت على طعنهم في الدين:
لا يجوز للداعي إلى الله الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون رداً سيئاً ، ويطعنون في الدين الحق ، ويسبون رسول الله  ، أو يعيبون شريعة الله ، بل يجب الرد المناسب عليهم والانتصار منهم لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} ( ) .
فالظالمون منهم يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه. قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}( ).. ولذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين من الكفار: كبيان فضائحهم ، وكشف مخازيهم ووصفهم بفقدان العقل والفهم ، والاستهزاء بحالهم ومآلهم ، وتحقير آلهتهم، وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة.
5) قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر:
يجب أن يقبل الكافر أخاً في الدين إذا انتقل من الكفر إلى الإسلام ، فلا يعير بدينه السابق ، ولا بما كان عليه من الكفر والشرك ، ولا يذكر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه كما قال تعالى عن المشركين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون}( ).
* أصول في دعوة المرتد:
المرتد: هو كل من رجع عن الإسلام بعد دخوله فيه ، وللمرتد أحكام خاصة في الدعوة منها:
1) لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام:
لا يجوز الحكم على مسلم بالردة إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجع عن الإسلام أو أن يكون قوله أو فعله كفراً مخرجاً من الملة ، ولا يحكم عليه بالردة إلا عالم بالإسلام وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] ( )..
2) يجب التفريق بين مقالة الكفر والكافر:
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً فربما وقع جهلاً أو تأولاً ولذلك يجب الرد على المخالف ، وإقامة الحجة بيان المقالة الخاطئة ، دون الحكم على قائلها حتى يتبين أنه قد اختار الكفر ، أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره..
* أصول في دعوة المنافق:
المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وهذه بعض الأصول الشرعية في دعوته للإسلام:
1) لا يحكم على شخص أنه منافق نفاقاً اعتقادياً إلا ببرهان لا يقبل النقض أنه يبطن الكفر ، ويظهر الإسلام كذباً..
2) المنافق يدعى إلى الإسلام ، ويوعظ ، ويذكر بالله ، ويجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة ، ويغلظ عليه عند مخالفة الأمر الشرعي. قال تعالى:{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} ( ) ، وقال تعالى : {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} ( ).
قال ابن كثير: "قال تعالى {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قــال له {فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وعظهم} أي واتهمهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم" ( ).
ثانياً: الدعوة بين المسلمين:
للدعوة إلى الله بين المسلمين ميدانان هما:
أ) التربية والتعليم.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.
أ) قواعد في التربية على الإسلام وتعليمه:
التربية وهي التزكية والتعليم ، هي مهمة النبي في المؤمنين قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}( )..
والتربية هي تنشأة الإنسان وبناؤه.. قال رسول صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] ( ) .
وهذه أهم قواعد التربية والتزكية:
1) تصور النموذج المثالي للإنسان الكامل والعبد الصالح:
يجب أولاً أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربى على غراره ، وهذا النموذج قد جاء وصفه التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى منها أول سـورة المؤمنون.. قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم على صلواتهم يحافظون}( ).
وفي غيرها من سور القرآن كمطلع سورة البقرة ، والآيات الأولى من سورة الأنفال ، وسورة الحجرات بكمالها ، والآيات من سورة الإسـراء من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} ، ..إلى قوله: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} ( )..
ولا شك أن القرآن كله قد فصل صفات النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله ويرضاه..
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل والنموذج والقدوة والأسوة الذي أمر المسلمون جميعاً بالتأسي به {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}( )..
فهو النموذج الكامل للتأسي، وقد كان خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: [كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن] ( ) .
وكذلك صور القرآن النماذج السيئة من المجرمين والكافرين والمنافقين. قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}( )..
2) التعليم الدائم:
يجب على الداعي إلى الله ، ومعلم الخير أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد ، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علماً وعباده {وقل رب زدني علماً} ( ) ، وعلم الـدين لا يحاط به ، والقرآن لا يشبع منه العلماء ، وفضل العلم خير من فضل العبادة.
3) أخذ العلم والعمل جميعاً:
يجب أخذ العلـم والعمل جميعاً ، وعدم إفراد العلم عن العمل لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعـل ، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له ، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعاً فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات ليحفظ السورة وليعلمها، وليعمل بها كما قال الأعمش : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) ( ) فتأخذ العلم والعمل جميعاً ، وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية.
4) اغتنام سني الحفظ الذهبية عند الصغير:
تعليم الصغار يجب أن يكون بالحفظ أولاً اغتناماً لسنوات الحفظ الذهبية وهي من الثالثة إلى العشرين تقريباً.. وقد كان منهج التابعين وتابعيهم تحفيظ الصغير القرآن الكريم أولاً ثم السنة ، ثم متون العلوم المختلفة (المتون هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية وكثيراً ما تكون نظماً).. ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه فيما يكون قد حفظه.
5) تعلم الحق قبل الباطل، والتحصن بجواب الشبهة قبل ورودها:
من قواعد التعليم تعلم الحق قبل تعليم الباطل ، لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] ( ) والفطرة هي التوحيد. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}( ).
فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد ، وتنشئتهم على الفضيلة ، والخلق الطيب قبل إطلاعهم على أنواع الشرك والكفر ، ومعرفة الرذيلة..
ثم يجب تعلم جواب الشبهة قبل ورودها تحصناً منها ، كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جواباً لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} ( ) فأخبرهم بقـول المشركين سبحانه ، قبل أن يقولـوه ليعلمهم جوابه. وقال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب..} ( )وهذا كثير في القرآن.
6) التربية بالأسوة:
يجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة ، قبل أن تكون بالتعلم والقدوة الحسنة أبلغ في الدعوة .. فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته وأخلاقه وأعماله أكثر مما يدعو بأقواله.. والرسول المربي صلى الله عليه وسلم قد أثر في سلوك أصحابه بأخلاقه وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه..
7) الحلم بالتحلم:
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية ، فالتعليم يكون بنقل العلم بأي وسيلة من وسائل النقل ، ولكن اكتساب الأخلاق لا يكون بمجرد معرفتها وتعلمها بل بوجوب التعود عليها والتخلق بها كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم]( ).
فلا بد للمربي أن يهيء من يربيهم على التعود على أخلاق الإسـلام ولا يكتفي بتلقينها وتعليمها لهم.
8) التدرج في التعليم (تعليم صغار العلم قبل كباره):
من القواعد الهامة في التربية والتعليم أن يكون التعليم متدرجاً فيبدأ بصغار العلم قبل كباره ، وبسهله قبل صعبه ومشكله، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الناس وبما كنتم تدرسون}( ) .
قال: مربين تعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره..
9) التقويم المستمر:
من قواعد التربية و التعليم أن يكون التقويم مستمراً ولو كان في حال الكبر ، فكل من وقع منه خطأ ، أو ارتكب منكراً يجب تقويمه بالتقويم المناسب فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المعلمين والمربين لأبي ذر (رضي الله عنه): [إنك امرؤ فيك جاهلية]!! لما رآه يعير رجـلاً بأمه قائلاً له: [يا ابن السوداء]!! فقال: يا رسول الله على كبر سني!! فقال: [نعم] ( ) . ووعظ رسـول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل مع حبه له ، موعظة غضب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً له: [يا معاذ أفتان أنت!!] ( ).
وكل هذا يدل على أن الكبير في الفضل أو السن يجب تنبيهه إذا خالف شيئاً من الحق ، وكذلك غضب صلى الله عليه وسلم على عمر عندما خاصم الصديق وقال: [أما أنتم بتاركي لي صاحبي] ( ) .
10) تعليم الناس ما ينفعهم ويحتاجون إليه:
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن (رحمه الله) : "وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله -يعني الإمام محمد بن عبد الوهاب- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ، ومعاملاتهم مما لا غنى لهم عن معرفته" ( ).
وإذا سأل العامي عن أمور لا يحتاج إليها فإنه ينبغي للمعلم أن يفتح له باباً إلى ما يهمه. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما يحتاج إليه ، أو سأله عما غيره أهـم منه ، أن يفتح له باباً إلى المهم ، ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد الناس عنه ، ولا يستبعد فضل الله عليه" ( ) .
11) تعليم الناس على قدر أفهامهم:
وينبغي للعالم أن يخاطب الناس كلاً على قدر فهمه..
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "فينبغي للمعلم أن يعلم أن الإنسان على قدر فهمه ، وإن كان ممن يقرأ القرآن ، أو عرف أنه ذكي فيعلم أصل الدين وأدلته والشرك وأدلته ، ويقرأ عليه القرآن ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب ، وإن كان رجلاً متوسطاً ذكر له بعض هذا ، وإن كان مثل غالب الناس ، ضعيف الفهم ، فيصرح له بحق الله على العبيد ، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم ، وحق الأرحام ، وحق الوالدين ، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم" ( ) .
12) عدم تضييع الزمان في إبطال الشبه الواضحة البطلان:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها فإن - معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته.. وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم عنهم" ( ) .
أما إذا كانت الشبهة قد أشكلت على المتعلم أو الناس واحتاجوا إلى إبطالها وجب حينئذ على أهل العلم ردها وتفنيدها وإبطالها بالحجج الدامغة لئلا تستقر في صدورهم فتورث الشك والاضطراب أو الحيرة والارتياب.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الميدان الثاني من ميادين الدعوة إلى الله وهو من فروض الكفايات على الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن".
ولكنه واجب عيني على أولى الأمر من المسلمين وهم الأمراء العلماء كما قال شيخ الإسلام أيضاً: "ويجب على كل أولي الأمر وهم علماء كل طائفة ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر" ( ) .
والمعروف: هو كل ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
والمنكــر: يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه.
وهذه أهم قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1) لا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر إلا بعد العلم بما تأمر به وتنهى عنه:
لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يقدم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقاً ، ولا ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو من المنكر.
قال شيخ الإسـلام ابن تيمية (رحمه الله) : "والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به.. والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه" ( ).
وقال النووي (رحمه الله) : " ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام و الزنا ، الخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها.
وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره ، بل ذلك للعلماء ".
ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم .
وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد ، والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه - على جهة النصيحة - إلى الخروج من الخلاف ، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف ، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافاً بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد ، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره.. والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه.
ولم يزل الخلاف في الفـروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.. ولا ينكـر محتسب ولا غيره ، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً ، أو إجماعاً أو قياساً جلياً . والله أعلم ( ).
2) اتخاذ إحدى مراتب الإنكار اتباعاً للحكمة والقدرة:
وذلك لقوله صلى الله عليه وسـلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] ( )..
فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار وهو (لأولي الأيدي والأبصار) أهل القوة والتمكن والقدرة فمن لم يستطع لسبب أو آخر تحول إلى الإنكار باللسان ، ذماً للمنكر وأهله ، وبياناً لفساده ، وتحذيراً منه ، فإن لم يستطع تحول إلى الإنكار بقلبه بغضاً للمنكر وأهله ، ومفارقة لمجالسهم كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}( ).
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات ، بل هو ثابت لآحاد المسلمين وعليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم ، وهذا إجماع من الأمة على ذلك وأدلة القرآن والسنة شاهدة بذلك.." أ.هـ ( ).
3) وجوب اتباع المصالح الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومما يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعلم المصالح والمفاسـد الشرعية التي تترتب على أمره ونهيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمـر والنهي - وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح ، أو يحصل من المفاسد أكثر ، لم يكن مأموراً به ، بل يكون حراماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ولن تعوز النصوص من يكون خبيراً بدلالاتها على الأحكام.
ومن هذا الباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه ، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به ، واعتذر عنه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه ، حمي له سعد بن عبادة ، مع حسن إيمانه وصدقه - وتعصب لكلٍ منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة"( ) .
4) وجوب إخلاص النية والبعد عن الهوى:
يجب على من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عمله لله خالصاً ، وأن يكون صواباً ، وألا يتبع هواه ، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه ، وذلك أن الضلال في الدين عظيم ، ومن فقـد الإخلاص ، ولم يتحر الصواب أوقعه الشيطان في الهوى ، ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "و اتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات"
فإن أهل الكتاب اتبعوا أهواءهم فضلوا. قال تعالى عنهم {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}( ) .
ولذلك نهى نبينا أن يتبع أهواء أهل الكتاب ، قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} ( ).
فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة ، وأوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد ، وهو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب والسنة وسماهم علماء الإسلام أهل الأهواء..
فيجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون باعثه إخلاص النية ، وعمله على الكتاب والسنة وأن يجانب الهوى ، وإتبـاع الهوى هو أن يحب ويبغض بدافع من هواه لا إتباعاً للأمر والنهي.
5) الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رفيقاً كما قال صلى الله عليه وسلم: [ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه] ( ).
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف].
ولهذا قيل: [ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر] ( ) .
هـذا وينظر كذلك إلى المبحث الخاص بالصفات التي يجب أن يتحلى بها الخطيب الداعي في دعوته إلى الله والتي سبق لنا أن سردناها بشي من التفصيل ..

مبحث
الدعوة الفردية

المراد بالدعوة الفردية : دعوة الأفراد ، أي: دعوة الناس منفردين ، فالفردية هنا من حيث المدعو ، ويقابل هذا : دعوة الناس مجتمعين من خلال الدروس والمحاضرات ؛ و لا نريد به العمل الفردي الذي يقابله العمل الجماعي.
فضل الدعوة إلى الله: وردت أحاديث كثيرة في فضل الدعوة الله تبارك وتعالى نذكر شيئاً منها:
• عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا...] رواه مسلم .
• وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِعَلِيّ : [ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم .

فوائد الدعوة الفردية
◄ تربي الأفراد تربية متكاملة ، فلا تقتصر على جانب واحد وتهمل الباقي ، وهذا ما يسمى بالشمولية في التربية ؛ ولأن الدعوة الجماعية لا يمكن أن تتتبع أخطاء الأفراد خطأً خطأ ، بل نجد أن الدعوة الفردية من خلالها يمكن التنبيه على كثير من الأخطاء التي يقع فيها الأفراد ، وبهذا يمكن استكمال التربية.
◄بالدعوة الفردية يمكن متابعة التطبيق العملي للتوجيهات الملقاة على الأفراد.
◄ بالدعوة الفردية يمكن الرد على كثير من الشبهات التي تُلْقى على مسامع الأفراد ، والتي لا يمكن التحدث بها في الدعوة الجماعية .
◄بالدعوة الفردية يمكن غرس المبادئ الإسلامية الصحيحة ، والتحدث عنها بكل جدية ووضوح ، إذا جاء الوقت المناسب لكل مبدأ .
◄بالدعوة الفردية يمكن إيصال الحق إلى الذين نفروا – أو نُفِّرُوا – عن سماعه ، وعن مجالسة أهله.
◄إن هذا النوع من أنواع الدعوة طريقة سريعة لكسب أكبر عدد من أنصار الدين .
◄يمكن متابعة الأفراد متابعة دقيقة ، بخلاف الدعوة الجماعية فإنه لا يمكن متابعتهم.
◄ هذا النوع من أنواع الدعوة لا يحتاج إلى غزارة علم بقدر ما يحتاج إلى حكمة في الدعوة ، فيمكن أن يقوم به أفراد محبون للدعوة .
◄ الدعوة الفردية لا تحتاج إلى كثير معاناة فهي سهلة ، ويمكن أن يقوم بها كل داعية من خلال عمله ، فالطالب في مدرسته ، أو كليته ، والموظف في مكتبه ، والعامل في مصنعه ...وهكذا .

حالات الدعوة الفردية: هناك بعض الحالات تستلزم من الداعية أن يستخدم فيها الدعوة الفردية ؛ لأن الدعوة الجماعية لا تجدي في مثل تلك الحالات ، وإن كانت الدعوة الجماعية أيسر ، وروادها أكثر ، وسنذكر بعض هذه الحالات التي يجب استخدام الدعوة الفردية فيها:
◄ المكانة الاجتماعية للمدعو:إن بعض الأفراد يكون معتزاً بوضعه الاجتماعي ويرى أنه لو خالط عامة الناس في تجمعاتهم لذهبت تلك المكانة التي يتمتع بها، وهذا لا يكون إلا لأنه غير ملتزم بالشرع التزاماً كاملاً، ففي مثل هذه الحالة يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية.
◄جليس السوء : إن البيئة التي يعيش فيها المدعو لها تأثير على شخصيته ، فمن خالط جلساء السوء ؛ انحرفوا به عن الجادة ، فالمرء على دين خليله ؛ ولذلك فمن كانت هذه حالته فإنه يصعب التأثير عليه ؛ نظراً لتكاتف رفقة السوء عليه ، ولقلة حيائهم ، ومجاهرتهم برد الحق ، وتفاخرهم بارتكاب المعاصي والآثام . ففي هذه الحالة يجب الانفراد بالمدعو بعيداً عن هذه الرفقة السيئة حتى يمكن التأثير عليه إن شاء الله تعالى .
◄الحالة النفسية للمدعو: إن من الأسباب العائقة عن الهداية نفور المنحرفين من الدعاة والمتمسكين بالدين ، فهؤلاء يصعب دعوتهم إلى محاضرات عامة ، فيلزم على الداعية أن يستخدم معهم الدعوة الفردية حتى يبين لهم الحق ، ثم إن هداهم الله تعالى يمكن أن ينخرطوا ضمن الدروس العامة.
◄ معالجة جوانب النقص في الأفراد : قد يكون عند بعض الأفراد جوانب نقص ، أو عيوب شخصية ، ولهذا لا يمكن أن تعالج هذه الأمور ضمن الدعوة الجماعية ، بل يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية لمناقشة المدعو ، وتبصيره بهذه الأمور .

أطوار الدعوة الفردية: هناك مراحل ينبغي أن تمر فيها الدعوة الفردية إذا أراد الداعية أن تؤتي دعوته ثمرتها . وهذه المراحل تختلف من مدعو إلى آخر ، فمنهم من يتدرج معه حسب ما سطرناه ها هنا – وهذا أمر اجتهادي – ومنهم من يمكن أن يتجاوز بعض الأطوار. وهذا الأمر راجع إلى الداعية نفسه ، فهو الذي يختار كيف يتعامل مع مدعوه ، فمتى عرف أنه لا بد أن يمر مع المدعو بكل الأطوار مر معه ، ومتى عرف أنه يمكن أن يتجاوز أي طور من الأطوار التي سنذكرها ، فلا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه .
وإليك هذه الأطوار:
• الطور الأول: أن يوجد الداعية صلة تعارف مع المدعو بحيث يشعره بأنه مهتم به ، وذلك بتفقده ما بين الحين والآخر ، والسؤال عنه إذا غاب ، وزيارته إذا مرض هذا كله قبل أن يفتح عليه باب الدعوة ، حتى إذا صارت القلوب متقاربة ، والأرواح متآلفة ، ووجد التهيوء من المدعو لتقبل دعوة الداعية طرق الكلام فيما يريد ، وليعلم الداعية أنه بقدر نجاحه في هذا الطور مع المدعو يكون التأثير والاستجابة للدعوة ، وأي تسرُّع في هذا الطور قد يحدث النفرة من المدعو.
• الطور الثاني: على الداعية أن يعمل على تقوية الإيمان عند المدعو ؛ وذلك أن أصل الإيمان في الغالب موجود إلا أنه تتفاوت نسب الضعف من شخص إلى آخر . وإذا أراد الداعية أن يعالج هذه القضية فعليه أن لا يدخل في الحديث عن الإيمان مباشرة بل عليه أن يستغل الأحداث بمختلف أنواعها ، وأن يربطها بالأدلة الواردة في القرآن والسنة، فمثلاً: حصل مولود لشخص ، فيبدأ الداعية بالكلام حول خلق الله لأبينا آدم ، ثم كيف أن الله جعل ذريته من ماءٍ مهين ، وكيف جعل رحم المرأة مكاناً لنشوء الجنين ، وكيف أوصل له غذاءه طيلة تسعة أشهر ، ثم كيف خرج ... إلى آخر ذلك. مع ربط جميع المراحل بالقرآن والسنة ، فإنه ما ينتهي من كلامه- إن شاء الله - إلا وقد بدأ الإيمان بالازدياد عند المدعو ، مما يجعله متقبلاً لكل ما يلقى عليه ، فإذا شعر الداعية بأن المدعو بدأ يتأثر بكلامه ، وارتفع نوعاً ما ، انتقل به إلى الطور الثالث .
• الطور الثالث: يبدأ الداعية في إعطاء التوجيهات للمدعو التي من شأنها أن تصلح من عبادة المدعو وسلوكه ومظهره ، فلربما كان في عبادته كثير من الأخطاء ، أو أنه لا يصلي الصلوات في جماعة والمسجد منه قريب ، وكذلك يعرفه على العبادات المفروضة ، فيعلمه كيفية الوضوء ، وكيفية الصلاة ، ويأمره بالابتعاد عن السبل التي توصله إلى سخط الله عز وجل.
وأما إذا كان محافظاً على الجماعة ، ولكن عنده بعض التقصير فليعمل الداعية على تبصير المدعو بالمعتقد السليم الذي هو معتقد السلف الصالح رضوان الله عليهم .
ويحسن بالداعية أن يبدأ بإهداء وإعارة بعض الكتب والأشرطة النافعة في مجال العقيدة والإيمان، والترغيب والترهيب ... الخ.
ويعرفه على بعض الشباب الصالحين، ويأمر الشباب الملتزم بالإحاطة بهذا الفرد حتى لا يترك مجالاً لقرناء السوء من اجتذابه مرة أخرى . وبهذا نضمن بإذن الله تعالى استمرارية استقامة المدعو .
• الطور الرابع: يبدأ الداعية بتوضيح شمولية الإسلام ، وأنه ليس مقصوراً فقط في الصلاة والصوم ، بل إن الإسلام يجب أن يحكم في كل صغيرة وكبيرة . وبهذا يكون المدعو في هذا الطور قد حول جميع حركاته وسكناته وفق شرع الله عز وجل.
• الطور الخامس: وفيه يوضح للمدعو أن الإسلام ليس معناه أن نكون مؤدين للعبادات متخلقين بالأخلاق الفاضلة وإلى هنا ننتهي،
بل يجب أن يوضح له أن الإسلام دين جماعي ، نظام حياة وحكم وتشريع ، عقيدة وأخلاق ، ودولة وجهاد ، وأمة واحدة ، وأن المسلم لا يمكن أن يكون آخذاً للإسلام من جميع جوانبه إلا إذا فهم هذا الفهم السليم . فإذا فهمنا هذا الفهم السليم للإسلام ، فإنه سيملي علينا مسئوليات وواجبات يجب أن نقوم بتأديتها امتثالاً لأمر الله حتى يقوم المجتمع على القواعد الصحيحة للإسلام في جميع النواحي السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ...الخ.
• الطور السادس: يوضح للمدعو ما يستوجبه الواقع الذي تمر به الدعوة إلى الله، وأنها محتاجة إلى تكاتف الجهود ، ولَمِّ الشمل ، ووحدة الصف ، والعلم حتى يتمكن المسلمون من إعادة الخلافة الإسلامية التي كاد لها أعداء الله من الداخل والخارج حتى أطاحوا بها . ومنذ ذلك الحين والمسلمون يعيشون في هذا الذل والهوان حتى صار أعداؤهم لا يبالون بهم وهذا كله نتيجة أن المسلمين رضوا بدنياهم ، وابتعدوا عن العمل بكتاب الله ، وعن سنة نبيهم ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، ولهذا يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ]( ) . فإذا أردنا العزة والتمكين ، وتغيير الأحوال إلى الأصلح ، وإقامة الدولة الإسلامية ، فعلينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا ؛ لأن الله يقول:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ { ( ).
• الطور السابع: يحمس المدعو لطلب العلم ؛ لأنه لا يمكن أن يعبد الله كما أمر سبحانه إلا بالعلم ، فيُرَغِّب المدعو بمجالسة العلماء العاملين من أهل السنة والجماعة ، أصحاب المنهج السليم ، ويشعره إذا وجدت محاضرات ، أو جلسات خاصة سواء كان ذلك بالمرور عليه ، أو بالهاتف كما يحثه على اقتناء الكتب النافعة ، وكذا الأشرطة والمجلات ... الخ .
وينبه المدعو إلى أن خير السبل هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي سبيل العلم وتربية المجتمع مع تصفيته ، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها . وأنه مهما حاول المحاولون الذين ابتعدوا عن هذا المنهج أن يعيدوا الخلافة الإسلامية ، فإنما مثلهم مثل من يبني بناية على شفا جرف هار يوشك أن يقع( ).

مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
==========================

تمهيد :
قد تكون المشكلة اليوم ،‌ هي الخلل في معادلة الدعوة والعمل الإسلامي ،‌ الذي حال دون نمو الاختصاصات ،‌ والتنبه لها بشكل مبكر ، والعجز عن استشراف المستقبل والتحديات المحيطة ، والإبقاء على الوسائل البدائية في الدعوة والبلاغ المبين ، والتوهم بأن الوسائل من الثوابت والمقدسات ، التي لا يجوز تطويرها أو حتى مراجعتها ودراسة جدواها ،‌ وبذلك أصيبت أجهزة الدعوة على يد أصحابها أكثر مما أصيبت على يد أعدائها ، وبدأ دور الإسلام يتضاءل ويتراجع ، وينفصل عن الحياة إلي درجة يمكن أن نقول معها ، إن المنبر انفصل عن المصلين في داخل المسجد ، قبل أن ينفصل عن صياغة المجتمع خارج المسجد ، فافتقدنا فاعلية ما نملك !!.

قال سيد قطب (رحمه الله) :' يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدًا أنه كما أن هذا الدين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متوافق في طبيعته ، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل ! .
فالدعاة حين يدعون الناس إلى الله بالخروج من طاعة غير الله إلى طاعته وحده ، ورفض شرائع العبد والتزام شرعه وحده ، يشعرون بتناقض ـ حين يكون إحساسهم مرهفًا ـ بين ما يدعون الناس إليه وما يبتدعونه لأنفسهم من وسائل الوصول ، إذ يكون الهدف ربانيًا والطريقة بشرية ! .
أما حين تكون الطريقة أيضًا ربانية ؛ فإن الانسجام بينها وبين الغاية يصبح حقيقة واقعة. كذلك يشعر الدعاة ـ حين يكون فهمهم ربانيًا ـ أنهم موصولون وأنهم سائرون على قدم الرهط الكريم من الأنبياء والرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فتمتليء أرواحهم بالأنس ، ونفوسهم بالبهجة ، ويستهينون بالصعاب حين يرون في الأفق البعيد موكب السادة العظماء عليهم الصلاة والسلام.
إذن لو أردنا معرفة المنهج فإننا لا نستطيع معرفته إلا من خلال الأسلوب النبوي في تربية ذلك الجيل السامق الفريد ، وأسلوب الصحابة والتابعين بإحسان ، ومن التجارب ، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت ، أما كيفية الاستقاء فالمرجع فيها هو القرآن ، والسيرة الكريمة في مكة والمدينة ، والسنة عمومًا. فتؤخذ النصوص بجملتها وتكون أساسًا لمنهج تربوي تفصيلي ، دون طمس لأي جانب ، ودون إبراز لجانب على حساب جانب ، فلا نريد أن نعلي من شأن الجانب الروحي على حساب الجانب الفكري ، والعملي ، والحركي الجهادي ، ولا هذا على ذاك بل خطوط متوازية متكاملة تكوّن تلك الشخصية المتكاملة .
ولذا سوف يدور هذا المبحث حول عدد من النقاط نجملها ثم نفصل الحديث عنها لاحقاً ونسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد وهي :
♦المنابر المتاحة والتقصير الواضح . ♦ مراعاة مقتضى حال المدعو .
♦ اللغـــــــــــة . ♦انتهــــاز الفــرص .
♦أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة . ♦البعد عن التعصـب المقيت.
♦المنابر المتاحة والتقصير الواضح :
فلو أحصينا عدد منابر الجمعة اليوم في العالم الإسلامي ، التي يبدأ بناء مساجدها إلي جوار أول بيت في القرية ، ويمتد إلي كل حي في المدينة – وخطبة الجمعة والسعي إليها ، والسماع لها دون لغو أو انصراف من فروض الدين – لأدركنا أهمية المواقع والوسائل الخطابية التي نمتلكها ، ‌وما يمكن أن تفعله في العالم لو كنا في مستوى المسؤولية المنوطة بنا ، واستشعرنا التحدي الذي يواجهنا … والمنبر ، بعض أشياء المسجد ، ووسائله ،‌ فإذا أضفنا إلي ذلك المحراب وعطاءه خمس مرات يوميا ، يتلو المعجزة البيانية على عقول وقلوب الأمة ، وشعيرة الأذان التي تعلن بالمرتكزات الأساسية للعقيدة والرسالة ‌الخاتمة ، تنادي الناس وتوقظ النيام كلما كادوا يغفلون ، لأدركنا أي تخاذل في الخطاب ، وأي عطالة فكرية نعيشها ، الأمر الذي يقتضي أن نؤدب على معاصينا أكثر مما نحن فيه .
ولعل بعض وسائل وأساليب الخطاب الإسلامي المعاصر ، تؤثر سلبا على مسار الدعوة الإسلامية ومواقف الناس منها ، وذلك عندما يكون سيئا ، ‌أو جاهلا ، أو غبيا ، أو ساذجا ، فيسيء إلي الإسلام وعظمته ، ويزهد الناس فيه ، ويخوفهم منه ، يجعلهم يتوهمون أن حالتهم أفضل مما يدعون إليه .
لذلك نقول : إن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتمكن من استيعاب أقرب الناس إليه ، أو أكثرهم استعدادا للتجاوب معه ، وهم جمهور المسجد ، علاوة عن كسب الآخرين … فهو خطاب أقرب إلي السلبية ، والجزئية ، والأحادية ،‌ والارتجال ، والحماس ، والذاتية ، منه إلى التفاعل مع هموم الأمة .
ولذا لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ،‌ ويغيب عنا الفقهاء‌ ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .
لقد استطاع المسلمون في جيل القدوة أن يوظفوا كل الإمكانيات المتاحة للخطاب ، ‌فوقفوا على أعلى مكان ، ورفعوا أصواتهم إلي القدر المستطاع لإيصال صوت الإسلام بالأذان … ووقف الرجال من حول الرسول  يبلغون صورته وتعاليمه إلى أسماع لم يصلها الكلام ، سواء كان ذلك في الخطبة ، أو الدرس ، أو الصلاة … استخدموا كل ما هو متاح في البيئة المحيطة بهم من الوسائل الممكنة ، وكانوا في مستوى إسلامهم وعصرهم … لكن للأسف ، توقف المسلمون ، وتطورت وسائل الإعلام على أيدي غيرهم .

♦ مراعاة مقتضى حال المدعو :
لقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة مخافة السامة … عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ( ) يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا( ).
وكان يحذر أصحابه الذين يطيلون في العبادة حتى تشق على الناس ، من فتنتهم عن دينهم … عَنْ جَابِرٍ  قَالَ كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ . فَقَالُوا لَهُ : أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟!. قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ( ) نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ : [ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا ] قَالَ : سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِعَمْرٍو : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا ( ).
وكان الإمام علي رضي الله عنه يوصي بمخاطبة‌ الناس على قدر عقولهم ويقول مستنكرا : « أتحبون أن يكذب الله ورسوله » ؟‌!( ).
وتعريف البلاغة – كما هو معلوم – هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال ( )… فأين واقع الإعلام الإسلامي من حال المتلقي ؟!.
ومع ذلك ، لا نزال في دعوتنا وخطابنا الإسلامي ، إن صح التعبير ، نلقي الكلام على ‌عواهنه دون أية دراية بمقتضى الحال ،‌حتى أصبح عندنا : كل مقال يصلح لكل مقام ، وكل إنسان يصلح لكل عمل ، وكأننا نعيش غربة الميراث الثقافي الإسلامي ، وكيفية الإفادة منه ، وغربة العصر وفهمه ،‌ وكيفية التعامل معه .

♦ اللغــــة :
إن عالمية‌ الرسالة تقتضي عالمية الخطاب ، وعالمية الخطاب لا تبلغ مداها المطلوب ما لم تكن عندنا القدرة ‌أولا على فهم العالم بعقائده ، وثقافاته ،‌ وتاريخه ، وحاضره ، ومشكلاته ،‌ وتطلعاته ،‌ وفهم الكيفيات والآليات التي يتم من خلالها تشكيل الرأي العام ، وشروط تغيره ،‌ والتأثير عليه ، كأمور لا بد منها لتحديد المداخل الحقيقية للخطاب ،‌كما لا بد لنا من التمكن من لغات الخطاب العالمية لنكون في مستوى التكليف في قوله تعالي : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » ( )… فاللغة هي المفتاح الأول ، ووسيلة الفهم بأحوال المخاطب.
♦انتهاز الفرص :
فاستغلال الحوادث التي تمر علينا ، مهمة كبيرة من مهام التربية ، ووسيلة من وسائل الخطاب الناجح ، ينطبع أثرها في نفس المدعو ، فلا يزول أثرها بسهولة . فالخطيب الفطن لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه ، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها . و كان القرآن ينزل مع الأحداث ، فيؤثر في النفوس أبلغ التأثير.
♦أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة .
من وسائل الدعوة الناجحة لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي ، وإن كان الداعية مخطئًا فليسلِّم بخطئه ، ولا يواجه من معه باللوم والتعنيف عندما يخطئون ، فإنَّ ذلك يضر ولا يجدي ، والداعية لا يستنكف عن مجاهدة نفسه فيما يحب ويكره ، فإن كنت مخطئًا فقل: 'إني أرى هذا الرأي فقد أكون مخطئًا' أو أرجو منك أن تصحح خطئي إن كنت مخطئًا ، فكثيرًا ما أخطيء ، فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول:'رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي' ويتجنب الداعية النصح في مكان عام بين الناس ، ولكن يجعل نصيحته سرًا ، فإنها أبلغ في التأثير.
♦البعد عن التعصب المقيت : من وسائل الدعوة الناجعة و المؤثرة ، والتي يغفل عنها الكثيرون ، وينبغي أن يعلم أن التعصب صفة ذميمة ، تحمل الإنسان على إتباع الهوى ، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب ، وتحجب عينيه عن رؤية الحق ، فيخبط خبط عشواء ، وقد ذمَّ العلماء التعصب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك :
قال أبو نُعيم :( قاتل الله التعصب ما أشنع إخساره في الميزان ) ( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ، فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ] ( ) .
وقال الشوكاني :[ والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية منه
يأبى الفتى إلا إتباع الهوى ومنهج الحق له واضح ]( )

وقال الشوكاني أيضاً :[ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة ، المبرأ من التعصب والتعسف ، أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم ، من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلَّاق العليم :( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( )].
وقال العلامة ابن القيم :[ ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية ، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض ، بالهوى والعصبية ، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية ] ( ).
وقال الزرقاني :[ واعلم أن هناك أفراداً ، بل أقواماً تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب ، كان مبتدعاً متبعاً لهواه ، ولو كان متأولاً تأويلاً سائغاً ، يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام ، وهكذا استزلهم الشيطان ، وأعماهم الغرور ، ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة ، أن تفرق كثير من المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وكانوا حرباً على بعضهم وأعداءً ، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام ، أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة ، متسعاً لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصماً بحبل من الله ، ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )( ). ويقول جل ذكره :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) ( ). ويقول تقدست أسماؤه : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )( ).

لمثل هذا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نتهم مسلماً بالكفر أو البدعة والهوى ، لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري ، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ، ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان وهذا موضوع مفروغ منه ، ومن التدليل عليه ، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين ، عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ، ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد ، ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كل برأيه ، وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يُعِبْ أحداً منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهاداً منه… ] ( ) .
وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي :( وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ) ( ).
وقال العلامة ابن القيم في نونيته :
وتعــرَّ من ثوبين من يلبسهم يلقى الردى بمذمةٍ وهـوان
ثوب من الجهل المركب فوقـه ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحـلَّ بالإنصاف أفخر حـلة زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع نصح الرسول فحبذ الأمران( )
● كسب قلوب الناس :

فإن كسب قلوب الناس ليكونوا بعد ذلك للدعوة محبين وإليها مقبلين ولجندها مناصرين من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يوليها الدعاة عنايتهم واهتمامهم .. وأن يكون لها نصيب كبير من تفكيرهم وتخطيطهم ..
وتأتي أهمية هذا الموضوع من جوانب عدة منها :
أولاً : أن كسب قلوب الناس طريق ووسيلة إلى تقبلهم الحق وبعض الناس معرض عن دعوة الله لعدم انسجامه مع الداعية نتيجة لبعض تصرفاته الخاطئة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يا أيها الناس إن منكم منفرين ))( ) .
ثانياً: صنف من الدعاة لا يهتم بمعاملة الناس ولا يبالي بموقف الناس منه ولهذا نشأت بينه وبينهم هوة كبيرة حالت دون تبليغ دعوة الله في الوقت الذي نجد فيه بعضاً من أصحاب الأفكار المنحرفة أوجدوا لأفكارهم أتباعاً ولمبادئهم جنوداً وأنصاراً لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع الناس فكسبوا قلوبهم وحركوا نفوسهم إلى ما لديهم من باطل .
ثالثاً : أن كسب الدعاة لقلوب الناس يبدد الجهود المضنية لأعداء الدين على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم والتي يبذلونها في تشويه صورة دعاة الحق بما يبثونه من إشاعات وافتراءات كاذبة عبر وسائل الإعلام المختلفة.. فمعاملة الداعية للناس معاملة الأب الشفيق الرحيم الذي يحرص عليهم كما يحرص على نفسه ويحب لهم ما يحب لها يسد الأبواب أمام أهل الباطل فلا يستطيعون النيل منه أو إثارة الشبهات حوله..
رابعاً: حاجة الدعوة للتفاعل مع الناس ، وهذا التفاعل لن يثمر الثمار المرجوة منه إلا إذا أخذنا بأساليب كسب القلوب التي سنها لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" ( )
خامساً: أن قيام الدعاة بكسب قلوب الناس من حولهم يزيد في ترابط أفراد المجتمع المسلم ، ويجعلهم أفراداً متراحمين متعاطفين وهذا مطلب شرعي في حد ذاته: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"( ) .

وهنا سؤال كبير فحواه كيف نكسب القلوب ؟!!

للإجابة عن هذا السؤال نطرح مجموعة من الوسائل لكسب ود الناس وحبهم ، وقد استقينا بعضها من رسالة للأخ / مازن بن عبد الكريم الفريح جزاه الله خيراً .

◊ الوسيلة الأولى: خدمة الناس وقضاء حوائجهم :
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ؛ ولذلك قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ؛ ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"( ). وعندما سئلت عائشة- رضي الله عنها- : مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ ؟ .قَالَتْ : كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ ( ).
ومنا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم ، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم . ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران لقوله (صلى الله عليه وسلم ) "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ". "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ "( ).وقوله في النساء : " وإن أعوج ما فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ؛ بل قال عليه أفضل الصلاة والسلام-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه"( ) . ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته ، ولا نتطلع إلى عورته ، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته ، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه.. وقد نفى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال:" والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن" ، قال قائل : من هو يا رسول الله ؟ قال:" الذي لا يأمن جاره بوائقه"( )( ).
◊الوسيلة الثانية: السماحة في المعاملة
يوجز الرسول( صلى الله عليه وسلم)أصول المعاملة التي يدخل فيها المسلم إلى قلوب الناس ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" وفي رواية "وإذا قضى" . فالسماحة في البيع : ألا يكون البائع شحيحاً بسلعته ، مغالياً في الربح ، فظاً في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع فلا يكثر من المساومة ؛ بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع فقيراً معدماً. والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه فانه يطلبه برفق ولين.. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة مرفوعا :" كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" والسماحة في القضاء : هو الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود وانظر كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قال: ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتقاضاه فأغلظ فهمّ به أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم قال أعطوه سناً مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أفضل من سنه فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) فقال الرجل ( أوفيتني أوفى الله بك ) .
ومن السماحة في المعاملة : عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك . فعن أنس قال (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا )

يقول الشيخ / عبد الرحمن عبد الخالق :
ومن الوسائل : الدعوة إلى الطعام، واستخدام الولاء القبلي كما فعله سعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، فقد دعا كل منهما قبيلته -وهو شيخها- فدخلوا جميعاً في الإسلام في ليلة واحدة.

ومن الوسائل النافعة: حمل الدعوة مع التجارة، فقد دخل بدعوة التجار المسلمين أمم وشعوب كثيرة، وكذلك السياحة، والمراسلات، والمناظرات، واستغلال المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج، والجنائز ... هذا عدا عن الدروس العلمية، والخطابة، وإنشاء الشعر والأدب .

والخلاصة: أنه يمكن لكل أحد أن يدعو إلى الله ، وأن يبلغ الحق، وينشر الخير حتى ولو كان ممن لا يستطيع أن يحفظ العلم ويؤديه كما سمعه، فإنه يستطيع أن ينشر الكتاب، والشريط ويدل على الخير، وأن يكثر سواد الدعاة إلى الله بمصاحبتهم فضلاً عما ينفعه الله به من صحبتهم ( ) .

مبحث
مكان وزمان الدعوة
رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو ( مكانه وزمانه) .
==========================
من المهم أن يدرك الداعية أن مكان الدعوة وزمانها له تأثيره الواضح في توجيه خطابه ، وإن غفل عن هذين الجانبين الهامين سوف يفشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى عقول وقلوب المخاطبين ، وسوف يكون خاطبه سقيماً عقيماًً ، فنجد مثلاً في العهد المكي يمكث النبي  ثلاث عشرة سنة يدعو بدون أن يفكر هو ولا أصحابه في رفع السيوف ـ التي تحت سيطرتهم ـ في وجه أعدائهم رغم الدواعي الكثيرة التي تدفعهم نحو ذلك .

يقول أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ : " هذا والرسول  يغذي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب . وخضوع جسم وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحريراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس ، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد . ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ، ويقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ }( ) فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعة إلى ذلك وقوتها" ( ) .

أولاً : مراعاة المكان والزمان : مما تقدم يتضح أن مكان وزمان الخطاب مهمان عند الداعية ، فلابد من مرعاه المكان الذي يوجه إليه الخطاب ـ وأقصد تحديد المجتمع وتركيبته ـ والزمان الذي يحوي هذا الخطاب ، وعندما نقول تجديد الخطاب الديني أي تغيير أساليبه حسب المجتمعات التي يتوجه إليها فهذا أمر يكاد يكون ثابتا منذ بداية الدعوة الإسلامية لأننا حتى إذا نظرنا إلى التشريع في وقت نزول القرآن نجد أن الله ـ تبارك وتعالى ـ في الفترة المكية كان يوجه معظم آيات القرآن إلى ترسيخ العقيدة ولم تتعرض الآيات التي نزلت في مكة للتشريع المدني بالصورة الواسعة كما حدث في الفترة المدنية في القرآن الذي نزل في المدينة ، وما ذاك إلا مراعاة للظرف الزماني والمكاني الذي يتوجه إليه الخطاب ، ومن هنا وجب على الداعية ملاحظة ذلك ومراعاته .

وهذا الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كان له فقه في العراق وعندما جاء إلى مصر غيره وهذا حسب تغير المكان فما بالنا بتغير الزمان خاصة ونحن لدينا تغيرات مذهلة تحتاج إلى تجديد يتواكب معها فنحن في حاجة ماسة منذ فترة طويلة للتجديد لكننا لابد أن نرفض الطلب من أعدائنا في هذا الشأن وفي هذا الوقت وهذا الظرف أيضاً .

ثانياً : التدرج مع المدعوين :

من الأمر التي نغفلها في نوعية الخطاب أو كيفيته هو التدرج مع المدعوين وهذا الأسلوب الدعوي ، وإن كان قديماً ، غير أنه مهمل لا يلتفت إليه مما يجعل الدعوة إليه وتفضيله يشكل تطوراً وتجديداً ، فالمسألة ليست ابتداع كل ما لم يكن بقدر ما هي نفض الغبار عن أمور راسخة أصلاً ولكنها ربما مهملة .
وهناك أحكام جرى عليها التدرج في التشريع وما هذا إلا نوع من الخطاب يراعى الملاءمة بين الخطاب الديني والبشر الموجه إليهم فعلى سبيل المثال «الخمر» لم تحرم مرة واحدة ، وكان أول ما نزل فيها قول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ( ) وكان المقصود من أن يباين الله ويعارض أمرين هما الرزق الحسن والسكر أن يتفهم كل ذي عقل ناضج أن في الخمر شيئا يكرهه الله سبحانه وتعالى ، بعد ذلك سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها : فبين أنها مع كونها تنفع بعض الناس لكن ضررها أكثر من نفعها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }( ) ، بعد ذلك حدث أن دخل أحد المسلمين الصلاة إماما وصلى بالناس وقرأ سورة «الكافرون» وأخطأ في قوله تعالى «لا أعبد ما تعبدون» وقال «أعبد ما تعبدون» لأنه كان سكرانا فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ( )
وكان هذا تعويدا للمسلمين على أن ينقطعوا عن شرب الخمر حتى يستطيعوا فيما بعد الامتناع عنها نهائيا ثم جاء الأمر الإلهي الأخير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ( )، وهذا يبين أن الخطاب الديني كان ملائما حتى في عصر نزول القرآن وعصر التشريع الذي كان موجودا فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحال المخاطبين، وهذه الملائمة من الأمور التي تستدعيها ظروف الدعوة الإسلامية وظروف الخطاب الديني فليس من المتصور توجيه خطاب عال المستوى إلى قوم أميين مثلا ، وإنما يجب توجيه الخطاب إليهم بالأسلوب الذي يلائم ثقافتهم ومعارفهم فالأساس الأول من أسس الدعوة الإسلامية إن تكون المخاطبة بالقدر الملائم لحال المخاطب ـ وقد سبق لنا تفصيل ذلك في موضعه بما لا يحتاج منا إلى مراجعة ـ غير أننا نلفت النظر إلى أهمية التدرج الذي يصلح لمجتمعات هذا العصر الذي انتشرت فيه المعاصي بشكل غير مسبوق ، وأصبحت المعاصي في كل درب ، وعلى كل طريق ، وبأبخس الأثمان ، مصداقاً لقوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}( ) .
ثالثاً : عدم استعجال قطف الثمرة :
وهذا البند ربما يكون امتداداً لأحد بنود شروط الخطيب وهو الصبر ، غير أننا هنا ننوه على العجلة وعدم التريث ، ففي الصبر مجالات حددناها هناك ، وهنا التسرع والعجلة في قطف الثمر وأحياناً قبل أن ينضج ويؤتي أكله ؛ فتكون النتيجة هي الخسارة .
فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ  قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا ؟ ، فَقَالَ : " قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " ( ) .

والواقع أن بعض الدعاة لديهم نوع من الحماس الزائد مما يدفعهم للتعجل واستبطاء النتائج ، وهذا لا شك خلاف الكيفية التي يجب أن نخاطب بها الناس فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } ( ) .
رابعاً : توخي الحذر والمداراة على الدعوة والخطاب :
ولكم ضاعت دعوة أصحابها غير مبالين بما يحاك لها ، ويشعرونك أن الأمور هكذا يجب أن تسير فإن أصيبت الدعوة قالوا : هذا قضاء الله وقدره ، ولكن الواقع يقول أنهم لم يحسنوا تدبر أمر الدعوة ، ولم يكونوا على مستوى المسؤولية الملقاة على عواتقهم ، لابد أن تنازع القدر بالقدر ـ كما قال بعض أهل العلم ـ ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعطيل ننازعه بالمكاشفة، والتعبئة . ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون ـ لا شك ـ عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت: فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو مسئولية الحاكم، أو مسئولية المفكر، كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته . أما تحميل المسئولية لجهة معينة: الحكام، أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة ، ونخرج نحن أبرياء . وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: [صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس العلماء والأمراء ] وهذا الحديث لا يصح سنداً، ولا متنا . وبناءاً على تحديد المسئولية؛ نكون جميعاً مطالبون بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه: كل متخصص في مجال يقدم ورقة، ويرفع راية، و يخط طريقة، و يجر وراءه من يستطيع ( ) .

ولكي نكون أكثر تحديداً في هذا الجانب نسوق إليكم صنع النبي  في الهجرة ـ رغم أنه موعود بالنصر والتمكين ـ فهاهو  يستبقي أبا بكر  للصحبة ، ويشجع على بن أبي طالب للمبيت في فراشه ، ويخرج متجهاً إلى اليمن لا إلى المدينة رغم أن وجهته المدينة ، ويبقى في الغار ثلاثة أيام حتى يخف عليه الطلب ، وكل ذلك أخذاً بالأسباب وحفاظاً على الدعوة ، ولكي يكون ذلك لنا أسوة .
خامساً : الهدف من الخطاب الديني :
==================== تربية جيل معلَّم
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " المنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما انه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى الله أن تدور عليه أبداً، وداخل الإطار الذي ارتضى الله أن تظل داخله أبداً، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله..
وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة. التي تعمل في جسم الكون منذ نشأته، والتي تعمل فيه اليوم وغداً، والتي يلقى البشر من جراء المخالفة عنها، والاصطدام بها، ما يلقون من آلام ودمار ونكال! "( ) .

فإذا كان الإسلام بمنهجه خالداً ، ولن يرث الله الأرض إلا به فهذا يقتضي منا أن ندعوا إليه على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نرسم الأهداف قبل المضي في دعوتنا ، فإذا رسمنا الأهداف بدقة وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد، أو عقدين من الزمان ـ أمام أمة قد دبت فيها الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسان ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، و ركز على ما يحسن، وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل . وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات، والأصعدة، و أصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل:
} وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [40] { سورة الحج .
والخلاصة هي : إعداد جيل مربى ومعلم :
خصائص التربية الناجحة:
لا يمكن أن تكون التربية ناجحة إلا إذا كانت شاملة، ولا تكون شاملة إلا إذا تمتعت بخصائص، منها:
• ربانية المنهج؛ إذ إن المناهج البشرية خاضعة للخطأ والزلل، عرضة للانتقادات، كونها صادرة عن إنسان متأثر ببيئة معينة، فتبقى مناهجه ضمن إطار بيئته، أما المنهج الرباني فهو عام لكل البشر، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، وتفاوت طباعهم، وتعدد آرائهم.
• إنسانية النزعة؛ ليست مقتصرة على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أو تخدم مصالح جماعة معينة أو مجتمع بمفرده، فكلما كانت التربية إنسانية كان نفعها أعم وأشمل.
• عملية التطبيق؛ غير مغرقة في خيالات كاذبة أو فلسفيات مادية عقلية، بل هي تربية قابلة للعمل والتطبيق.
• ذاتية المنطلق؛ نابعة من الشعور بالنفس والآخرين، لا تحتاج إلى رقابة مادية محسوسة، فرقابة صاحب المنهج وهو الله الرب المربي كافية ومغنية عن كل الرقابات المادية مهما كانت دقتها عالية.

• اجتماعية المحتوى؛ ليس فيها من الأنانية القاتلة، ولا الأثرة المهلكة، بل هي تربية التعاون والتكامل، وتربية التكاتف والتكافل.
غايات التربية المنشودة:
إيجاد جيل يحمل الصفات الآتية:
• العلم النافع.
• العمل الصالح.
• الخُلُق القويم.
والطريق إلى ذلك تهذيب النفوس، وتثقيف العقول، وبناء الأمم.
فالتربية في مجملها: الإنسان في جوانبه الجسمية، والعقلية، والعلمية، واللغوية، والوجدانية، والاجتماعية، والدينية، وتوجيهه نحو الصلاح، والوصول به إلى الكمال.
الاهتمام بحامل التربية:
تقدم المجتمعات ونجاحها من نجاح التربية فيها.
من الأمور التي اجتمع عليها المربون إقرارهم بأهمية التربية بوصفها عاملاً رئيساً في توجيه الأفراد نحو أهداف المجتمعات، ولكي نصل إلى أهدافنا ونحقق ما نصبوا إليه و حقاً نبتغيه لا بد من بعض الأمور الهامة وهي:
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة
قال ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. ( ) إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الأيدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) سورة الحـج
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم يكن في الأرض اليوم إسلام قائم فعلاً، فإن فرص بعثه ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام ما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.

وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم

*ندعو إليه بعد أن نتحلى به عقيدة، وخلقاً، وسلوكاً، ولا ننسى أن نغذي أفئدتنا خلال ذلك، بأسباب الرغبة في ثواب الله والرهبة من عقابه، والمراقبة الدائمة له.

* ندعو إليه من منطلق الشفقة على عباد الله جميعاً، كي لا يقعوا غداً في آلام كاوية من الندامة التي لا تغنيهم شيئاً. فإن رب العالمين جل جلاله ما دعا عباده إلى دينه هذا، إلا رحمة بهم وحباً لإسعادهم، فأولى بك وأنت جندي تدعو الناس بدعوته، ألا تدفعك إلى ذلك إلا الرحمة والشفقة والغيرة عليهم.

* ندعو العقول عن طريق الحجة والبرهان، إلى اليقين بعقائد الإسلام، وندعو النفوس عن طريق منهاج التزكية النفسية إلى الالتزام بسلوك الإسلام، ولن ننجح في ذلك إلا بعد أن نبدأ فنزكي نحن نفوسنا من أوضارها وأمراضها جهد استطاعتنا.

* نركل من طريق ما بيننا وبين الآخرين كل عصبياتنا وأنانياتنا ورغباتنا في الانتصار للذات، حتى تتاح الفرصة لهم أيضاً أن يفعلوا مثل ذلك فينجوا عصبياتهم وأنانيتهم عن الطريق حتى تنفذ إليهم كلمة

* لا تخلط بأعمال الدعوة شوائب المعوقات، وزوائد الشهوات والأهواء، ولا نشغل بال الناشئة بها، فإنها لا توقعهم إلا في رهق لا جدوى منه، ولا تعود إليهم إلا ببلابل فكرية تورث الفتنة ولا تحقق الخير.

* سلاح الداعي إلى الله أولاً: العلم بكتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه سلف هذه الأمة. ثانياً: العاطفة الإسلامية التي غذيت بالعلم وارتبطت بحدوده. فمن حمل لواء الدعوة إلى الله بدفع من عاطفته وحدها لا يسلم من الوقوع في غواية أو إغواء. ومن حمل لواءها بدافع من علمه المجرد، لا يعدو أن يكون مفتياً يضع أمام الناس قائمة أحكام الحلال والحرام. وتعليم الأحكام، يختلف عن الدعوة إلى الإسلام.

* شعار العبد الذي أخلص في الدعوة إلى الله، هو قوله عز وجل:(فذكر،إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) فهو يؤدي بعمله وظيفة كلفه الله بها. أما هداية الناس واستجابتهم له فشيء مناطه الإرادة الربانية التي يتم على أساسها تدبير الأمور.

* سلاح القائم بدعوة الله، كثير ذكر ودعاء، وتضرع وبكاء، وكثير استغفار في الأسحار، وتلاوة للقرآن. وحراسة دائمة للقلب الا تسيطر عليه الأهواء.
وكل التدابير الأخرى، على أهميتها، إنما يأتي وراء ذلك.

* وأخيراً، مقياس القرب إلى النجاح، أمام الداعي إلى الله، هو قول الله عز وجل(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)فبقدر ما تشيع الاستقامة ويتوفر الصدق والأخلاق في حياة الأفراد، تنهض دعامة جديدة بتوفيق الله في بناء المجتمع الإسلامي المنشود.
والله المستعان وعليه الاتكال.
مراجع البحث

ـ أولاً : القرآن الكريم وعلومه .
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي دار الشعب مصر
ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ط دار الفكر بيروت .
ـ روح المعاني للألوسي دار الفكر بيروت .
ـ تفسير فتح القدير للشوكاني ط دار الحديث .
ـ مناهل العرفان للزرقاني ط دار إحياء الكتب العلمية

ـ ثانياً : الحديث الشريف وعلومه.
ـ صحيح البخاري ط دار ابن كثير .
ـ صحيح مسلم ط دار إحياء التراث.
ـ سنن ابن ماجة ط دار الفكر.
ـ سنن الترمذي ط دار الفكر بيروت.
ـ سنن أبي داوود ط دار الفكر بيروت .
ـ سنن النسائي ط دار الكتب العلمية .
ـ مسند الإمام أحمد ط دار إحياء التراث .
ـ موطأ الإمام مالك ط دار إحياء التراث .
ـ سنن الدارمي دار الكتاب العربي بيروت
ـ المستدرك للحاكم دار الكتب العلمية بيروت.
ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري للعسقلاني. ط الريان
ـ شرح النووي على صحيح مسلم . ط دار الغد العربي
ـ عون المعبود في شرح سنن أبي داوود . ط دار الفكر بيروت
ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير لعبد الرؤوف المناوي المكتبة
التجارية الكبرى .
ـ نوادر الأصول في أحاديث الرسول لأبي عبد الله الحكيم الترمذي
دار الجيل بيروت

ـ ثالثاً : كتب متخصصة :
ـ 'صفات الدعاة' للدكتور/ عبد الرب بن نواب الدين.
ـ مجموع الفتاوى لابن تيمية .
ـ سير أعلام النبلاء للذهبي مؤسسة الرسالة بيروت
ـ إعلام الموقعين لابن القيم دار الحديث
ـ الدعوة الفردية وأهميتها في تربية الأجيال رسالة للشيخ/عقيل ا بن
محمد بن زيد المقطري
ـ أصول الدعوة للدكتور : عبد الكريم زيدان ط مؤسسة الرسالة .
ـ أصول الدعوة لعبد الرحمن عبد الخالق الكويت.
ـ هكذا الدعوة رسالة للبوطي سوريا .
ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ط مكتبة
السنة .

ـ رابعاً : الدوريات والنشرات والمجلات والصحف
ـ جريدة الأهرام المصرية .
ـ جريدة الأسبوع المستقلة المصرية .
ـ صحيفة الحياة تصدر في لندن .

هذا مضافاً إليه مراجع أخرى تجدوننا قد أشرنا إليها داخل البحث

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك