حول إشكالية الخيار بين حوار الثقافات أم صراعها

د. وجيه كوثراني

 

يحاول البحث، انطلاقاً من هذا السؤال أن يطرح وجهة نظر مفادها أنه من الصعب وضع الموقف (سواء أكان الموقف موقف مثقف باحث أم حزب أم هيئة…) أمام خيارين من داخل هذه الثنائية القاطعة: (حوار أم صراع؟ ). فالمسألة ليست مجرّد خيار إرادوي لفرد أو أفراد يقررون كيف يجري فعل الثقافات أو الحضارات؟ وكيف تتجدّد مجاريها بين الشّعوب والأمم سلماً أو حرباً؟ إنّ سبر الوقائع، خاصة على مستوى العقليّات والذهنيّات والأفكار، هو أمر أكثر تعقيداً وتركيباً لدرجة يصعب (حتّى لا أقول يستحيل) على الباحث في التجارب التاريخيّة الكبرى أن يفرد العناصر بين سلم وحرب بين حوار وصراع، بين حتميّات وممكنات…

هل يمكن للمؤرخ أن يُفرد عناصر الثقافة الهلينية مثلاً في حوض المتوسط، قبل أو بعد، في سياق حروب الإسكندر وورثته، أو بين تأثيرات اليونانية أو الفارسية أو المشرقية القديمة؟

هل يمكن للمؤرخ أيضاً أن يُفرد عناصر الثقافة الإسلامية العالمية إبان ازدهارها فيحدد مجاريها ومواقع التلقي والاستجابة بين ما تمّ عن طريق التفاعل السلمي والحوار والدّعوة وبين ما تمّ عن طريق الفتوح؟

كذا هو السؤال أيضاً حول ما سمّي "الحروب الصليبية" التي لم توقف العلاقات التجارية والثقافية بين الغرب المسيحيّ والشرق الإسلاميّ؟

أسئلة كثيرة من هذا النوع تطرح حول حروب القرن السادس عشر في المتوسط، وحول الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وحركات التحرّر الوطنيّ في منتصف القرن العشرين… وصولاً إلى ما يمكن أن نسمّيه حروب العولمة الجديدة، والتي أوحت بخطابين سائدين اليوم:

ـ خطاب "نهاية التاريخ".

ـ وخطاب "صدمة الحضارات" أو صدام الحضارات.

إنّ دراسة خبرات التاريخ ودراسة ما يجري اليوم في مسار "العولمة" قد تساعد في بلورة منهج للنظر لدراسة طبيعة العلاقة بين الثقافات في التاريخ في الحاضر.

كان المؤرّخ الفرنسي، «بروديل»، قد أشار في كتابه الشهير «المتوسط والعالم المتوسطيّ» إلى أنماطٍ من الحضارات الحيّة أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت: «الحضارات: فردوس البشر وجحيمهم». يقول «بروديل»: "يحتوي المتوسط ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسيّة في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل… متجسدة في ثلاث شخصيّات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة منذ قرون وقرون، متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلا لباساً لها… الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية - وعلى الأصحّ اللاتينية أو الرومانيّة… الحضارة الثانية هي الحضارة العربيّة - الإسلاميّة. والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنّهما عدوّان متكاملان، الأوّل ابتكر الصليبية وعاشها، فيما ابتكر الثاني الجهاد وعاشه. أمّا الحضارة الثالثة فهي الحضارة اليونانية التي لا تكشف اليوم عن وجهها بوضوح، بل تحافظ فقط على جوهرها".

غير أنّ إبراز «بروديل» لهذا المستوى الثابت والعميق من التاريخ للحضارات وقعرها الجغرافيّ - التاريخيّ يستدركه في الكثير من المواضع بالتشديد على «تداخل الحضارات»، أيضاً والتحوّلات والتغييرات التي تطرأ عليها: «الصليبية» من جهة، و«الجهاد» من جهة ثانية، حالتان تاريخيّتان نسبيّتان لوظيفة «الحسّ الدينيّ» لا تدخلان في الثابت إلا لتغييره ببطء شديد، فكما تداخل الحركة الثبات وتلازمه، فإنّ كلاً منهما يُقسر الآخر ويكمله، هكذا تخترق الحركة كلّ ثبات. يقول بروديل: «وفي المتوسط، كلّ شيء كان عرضة للتبادل والانتقال والاستعارة، من الناس إلى الأفكار وأنماط العيش والمعتقدات وأساليب الحبّ وأشكال السنن والأخلاق والمأكل».

والفصول الرائعة التي يعقدها «بروديل»، في كتابه عن «الاقتصادات والتجارة والنقل»، وعن صعود الإمبراطوريات وانهيارها، وعن «المجتمعات وصراعاتها المقنعة» ترينا كم كانت واسعة في حينه (القرنين الخامس عشر والسادس عشر) عمليّات التداخل بين الفضاءات الحضاريّة والثقافيّة في المجال الجغرافي - الحضاري الذي درسه (مجال البحر والسفينة في حوض المتوسط).

واللافت في دراسة «بروديل» أنّ هذا الأخير لم يسمِّ الصراعات والصدامات التي نشبت في الحقبة التي درسها صراعاً أو صداماً بين حضارات، وإن شدّد على دور "الحسّ الدينيّ" في بروز الإمبراطوريات والدول الكبرى آنذاك (الصليبية والجهاد).

إنّ الصدامات والحروب تبقى في أبعادها العميقة، وفي المستوى الذي تحدث عنه بروديل، نزاعات تتحكم فيها مصالح الدول والتجارة والطرق ومصادر الثروة والتوترات الاجتماعية، فما قام به ملوك أوروبا بعد حرب المئة عام مثلاً كان في رأيه «صدوعاً لإرادة برجوازيات المدن الباحثة عن استتباب السلام الضروري لازدهار تجارتها». وأما الحروب داخل الدول والمدن والمناطق في حوض المتوسط» فتختلط فيها الحروب الدينية بحروب الفقراء وانتفاضاتهم… ففي كل مكان من المجتمعات المتوسطية انتشر العنف مقنعاً بأوجه سياسية واجتماعية واقتصادية، في نابولي والبندقية، كما في حلب والاسكندرية».

ليس الهدف من هذه الاستعارة التاريخية الاستنتاج بأن التاريخ يعيد نفسه، أو أن الأزمنة تتماثل، بل على العكس، إن الهدف هو الاستدلال على تنوع وتشابك مستويات الأحداث و"الوقائع" في مرحلة التحولات والانعطافات الكبرى في التاريخ. فالقرن الخامس عشر والسادس عشر اللذان درسهما «بروديل» دراسة معمقة، تأسيساً على الثوابت والمتغيرات في تاريخ العلاقات ما بين الحضارات، يشكلان مرحلة التأسيس لأوروبا الحديثة، ولكنهما يشكلان أيضاً مرحلة التأسيس للعلاقة غير المتكافئة مع العالم الإسلامي والشرق إجمالاً، بعدما تغيّرت أسس وطرق السيطرة على الجغرافيا - السياسية والاقتصادية في العالم، وبعدما ضعف نبض المتوسط لينتقل هذا النبض إلى عالم المحيطات.

لا شكّ في أنّ دور "الحسّ الدينيّ" في الحضارة وفي الصراع وفي الحروب كان قائماً وفاعلاً. ولكن، وكما يُظهر تحليل المصالح وسياسات الدول والقوى الاقتصادية ومعطيات الجغرافيا - السياسية، فإنّ هذا الحسّ الدينيّ يتدخل كعنصر "تغيّر" لا كعنصر "ثبات"، وعنصر تغير للحضارة نفسها ولتغيير هذا الحس على مستوى اللاهوت والعمل والسياسة والأخلاق. فكان المشروع الرأسمالي في الغرب نتاجاً لهذا التغيير. وكان ينبغي انتظار تطور أدوات ومفاهيم البحث التاريخي والاجتماعي حتى تصبح هذه التحولات جزءاً من المعرفة التاريخية والوعي التاريخي، وكما نلاحظ لدى «ماكس فيبر» في إدراكه لدور الحس الديني في بروز التحولات الاقتصادية.

أما في الشرق الإسلامي، فقد غرق الحسّ في فقه سلطانيّ لم يأبه للتحولات الحاصلة في العالم، لا من قريب ولا من بعيد، (وهذا موضوع للدراسة) وقد يكون التهميش الذي أصاب جغرافية العالم الإسلامي عبر تهميش المتوسط، مدخلاً لفهم غياب الوعي التاريخي للعلاقة اللامتكافئة في العالم، الأمر الذي أدى إلى نشوء رأسمالية توسعية تعتمد على الحروب والاكتساح والسيطرة والالحاق، وفي ظل «مشروع حضاري» عالمي اختزلت معالمه خلال القرنين الأخيرين بشعارات التمدين والتحديث «رسالة الرجل الأبيض». إلا أن هذا المشروع الحضاري كان في كل الأحوال والمراحل، يعبّر صراحةً أو ضمناً تشجيعاً أو إعاقة، عن مصالح القوى والدول الرأسمالية الصناعية المهيمنة على العالم، فكان منطق السوق والتسويق والتنافس على الأسواق يبتلع مجالات "التثاقف" وأقنية التفاعل الثقافي، وكل خير وجمال ونفع في مشروع الحضارة الغربية العالمية، حيث كان لا يتوظف في علمية الاغتناء الثقافي والتلاقح الحضاري، بل في ثقافة الاستهلاك والسيطرة ومعاييرها الذوقية والقيمية الأحادية الجانب.

هذه الثقافة الاستهلاكية كانت من جملة أسباب انهيار الإيديولوجيات الأحادية الشمولية. إلا أنها شكلت أيضاً عنصر تخريب للثقافات المحلية في العالم، الأمر الذي ولد في مرحلة التقاطع بين حركة الاستعمار ومعطيات المجتمعات المحلية (الجماعات الدينية والطائفية والقبلية الوثنية)، ولا يزال يولد حتى الآن، بعداً أيديولوجياً سياسياً وسيكولوجياً للثقافات والأديان في "العالم الثالث" وعالم "الجنوب" اليوم، وهو بعد يختلط فيه الديني بالسياسي، والمقدس بالعصبيات والحزبيات الاجتماعية.

إذا أضفنا إلى تركة الاستعمار وإلى ذاكرة الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني والقومي ما استجد ويستجد الآن من انفجار وتفكك التسويات «سايكس - بيكو» و «لوزان» و «يالطا» وللمشروع الصهيوني ولمشروع الوحدة العربية، ومن فراغ وهواجس ولدت في آسيا الوسطى وباكستان والهند وإيران وتركيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن قلق نجم عن الانفجار السكاني والتباس العلاقة بين شمال وجنوب، بانت صورة لصراعات العالم مختلفة في أسبابها وتعبيراتها عن تلك الصورة المبسطة التي يقدمها «هانتنغتون» بصيغة "صدام الحضارات".

والواقع إن الأشكال الصراعية التي يصفها «هانتنغتون» بالصدامات بين الحضارات لا تعدو أشكالاً من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي، وتحولها واستدخالها لمنطقة في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبالتالي بسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي فشلت في بلدان الأطراف فشلاً ذريعاً وتحولت في مظاهرها العالمية الغالبة إلى حضارة "صورة" و "سلعة" يتجاذبها تناوب المتعة والملل السريعين لدى الميسورين، والحقد والجوع والعنف لدى المحرومين.

إن ما لا يقوله خطاب "صدام الحضارات" المتأخر، هو أن انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة كالحضارة الإسلامية - على سبيل المثال، هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدس الديني، ليست "حضارة" بالمفهوم الذي يعني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجاً للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت في حال العرب والمسلمين، تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة.

إن العرب والمسلمين، اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة ولا علومها ولا فلسفتها. وأما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاعاً لذاكرة أو دراسة لمرحلة وفي الحالتين، لا تملك "الحضارة الإسلامية" بما هي تراث دينامية التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة. إن الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلاّ أن يكون في قلبه، ولا يمكن للمعطيات الحضارية العالمية إلا أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له.

إذاً ماذا نسمي كل هذه الصدامات في العالم التي يزهو «هانتنغتون» بتعدادها في مقدمة رده على مساجليه عبر إعطاء نماذج من عالم ما بعد "الحرب الباردة"؟

الواقع أن أمثلة «هانتنغتون» هي نماذج من تكوينات طائفية - دينية وإثنية وقبلية - كانت موجودة في عالم الحرب الباردة بل في عالم ما قبل الحرب الباردة، ولنلاحظ أيضاً أن هذه التكوينات كانت جزءاً من نسيج اجتماعي ساد عوالم حضارية قديمة انتظمت في أطر من الجغرافيات السياسية والتاريخية: عالم الصين والهند والعالم الإسلامي - العثماني. ولنلاحظ أيضاً أن هذه التكوينات الثقافية لم تتحول إلى عناصر صدام إلا مع التفكك والتفكيك الذي حصل لها بفعل عوامل ذاتية وخارجية.

....نشير باختصار إلى أن عوامل التفكيك والتفكك جرت ببطء وخلال القرون الحديثة، وفي خط تقاطع فيه الجمود الحضاري "الذاتي" (العوامل الداخلية) مع توسع الرأسماليات الغربية في العالم (العوامل الخارجية) فقد تحول العالم (غير الصناعي) تدريجياً إلى أطراف مجتمعية وثقافية واقتصادية تابعة. وما أن أطل القرن العشرون عبر حربه الأولى حتى كان النظام العالمي يتشكل من أطرافه (المستعمرات ومناطق النفوذ) عبر تفكيك مبرمج ومدروس وموظّف لتلك التكوينات الثقافية والاجتماعية والاثنية، وفقاً لخطوط جيوسياسية ومراكز نفوذ ومصالح وطرقات وثروات واستتباعات ثقافية وسياسية للقوى المحلية من إثنيات وقوميات وقبائل وجماعات دينية وطائفية ومذهبية وعشائرية.

كل هذه العناصر سُميّت في الخطاب الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر "خصوصيات ثقافية" ودخلت حقولاً وموضوعات في البحث الإنتولوجي والأنتروبولوجي، كما وظفت في السياسات الغربية تجاه المجتمعات الأهلية، وفي إقامة الإدارات المحلية وبرامج الثقافة والتعليم. وإذا كانت هذه العناصر تنفجر الآن - في مرحلة ما بعد الحرب الباردة - فإنما يعبر انفجارها في الأمكنة التي تنفجر فيها عن ضيق وتوتر ومخاوف وهواجس جماعية، ولعوامل كثيرة لا علاقة لها بالثقافة أو الحضارة أو الدين.

والأنسب أن نبحث عن هذه العوامل الآن في مناطق "الجنوب" لنجدها في أسباب الفقر وسوء توزيع الثروة والتكاثر الديموغرافي وانسداد أبواب الرزق والعمل والخلل في توزيع السلطة ودخول سلطة الدولة طرفاً في الصراعات الأهلية… كما أنه من المفيد أن نبحث عن هذه العوامل في مناطق "الشمال" لنجدها في تفاقم الأزمة الاقتصادية والبطالة المتزايدة والموزاييك الديموغرافي الداخلي بين "أصيل" و"وافد" وبين "وطني" و"أجنبي"، والهجرة المتصاعدة من مناطق الجنوب. ولعله بسبب هذا يرتسم في المشهد الأوروبي صعود لأحزاب اليمين المتطرف، وعودة إلى صور شتى من العرقية والماضوية والأصولية والإيديولوجيات القومية - الشوفينية التي ترمي بمسؤولية الأزمة على "الآخر" المختلف، ثقافة وعاداتٍ وأنماط حياة…

وربما لهذا كله، ترتسم في المشهد العالمي ألوان فاقعة من الاختلافات العرقية والدينية والإثنية والثقافية التي تتصادم في أماكن شتى من العالم. لا بأس من أن نبحث عن نعوت وخلفيات إصطلاحية لهذه الصدامات، ولكنها بالتأكيد لن تندرج في مصطلح "حضارات" وإذا كان لبعض تلك الصدامات، أو لها جميعاً، أبعاد في الاستراتيجيات والسياسات الإقليمية والدولية الكبرى، من حيث علاقتها كمادة وحقل بما يُسمى "إدارة الأزمات" في العلوم السياسية والاستراتيجية الأميركية، فلماذا نسمي هذه الصدامات "صدامات بين حضارات".؟....

دروس التاريخ، هي دروس في المنهج وطريقة في النظر، وليست دروساً في الترشيد لحتمية تاريخية، أو في التطبيق لنماذج تاريخية من مراحل زمنية متباينة.

منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا، انتج العالم ولا سيما العالم الغربي كمّاً هائلاً من المعارف والدراسات التي تناولت مسار الحضارات والثقافات، يمكن للباحث العربي أن يفيد من مناهجها وأسئلتها المجاب عنها أو المستمرة بلا إجابة. ولعلّه من المفيد استذكار دروس ثلاثة:

الدرس الأول: في النصف الأول من القرن العشرين برزت من داخل الحضارة الغربية، وفي سياق حربين عالميتين مدمّرتين، نظريات وفرضيات في نشوء الحضارات وأفولها، يقول بعض هذه الفرضيات "بأفول الحضارة العربية" (شبنغلر)، ويقول بعضها الآخر "بالتردي الرتيب للتاريخ" ونعرف جميعاً أن أبرز من عبّر عن هذه الذهنية المتشائمة في النظر إلى حركة التاريخ هو «تويمبي». إلا أن تويمبي كان يرى - وكما يوضح في كتابه "حرب وحضارة" أن سياسات الدول الكبرى أي سياسات القوة وتغليب منطق السيطرة وصراع العالم هي التي تفرغ الحضارة من مضمونها الثقافي - الإنساني والروحي وتدفع بها إلى ان تصبح أحادية مادية يؤدي بها الأمر إلى التردي والأفول، لكن - غني عن البيان - أن هذا التوجس لم يكن في محله، إذ ما لبثت الحضارة الغربية أن جدّدت بنيانها ومناهجها من داخلها. في حين لا زالت أعداد من المثقفين العرب والمسلمين تنتظر تردي الحضارة الغربية وتبشر بذلك على غير طائل.

الدرس الثاني: في سياق تطور مناهج النظر إلى سمات الحضارات وخصائصها في منتصف القرن العشرين، تبلور منهج تاريخي مستثمر لعلم الاجتماع وعلم النفس والأناسة، والاقتصاد، ولما أنجز على هذا الصعيد من أعمال كأعمال «ماكس فيبر» و «دور كهايم» و «مارسيل موس»، مضافاً إلى نتاج تجربة معيشة خلال حربين مدمّرتين.

يستوقف في هذا المجال (مجال دراسة الحضارات وعلائقها)، العمل الكبير الذي أنجزه المؤرخ الفرنسي «فرناند بروديل» حول تاريخ حوض المتوسط في القرن السادس عشر؛ أهمّ ما في منهج «بروديل» - وهو من أبرز أعلام مدرسة الحوليّات الفرنسيّة (Le Annales)، تفكيكه للزمن التاريخيّ لحقبة طويلة من التاريخ، حقبة شهد فيها التاريخ تحولاً عميقاً وتغيرات أساسية كالتغيرات التي نتجت عن تغيّر طرق المواصلات العالمية وتهميش المتوسط. يرى «بروديل» في الزمن التاريخي ثلاثة أزمنة تتقاطع بتفاوت وتائر سرعتها وتغيرها.

ـ زمن جغرافي ثابت - (الجغرافية - التاريخية).

ـ وزمن حضاري - اجتماعي - ثقافي بطيء التغيّر.

ـ وزمن سياسي متقلّب وسريع.

ما يهمني في منهج النظر هو التوقف عند المستوى الثاني:

صحيح أن «بروديل» يعتبر أن لحضارات المتوسط الثلاث (الغربية - اللاتينية، العربية - الإسلامية، اليونانية - الأرثوذكسية «الكامنة» قعراً عميقاً، إلا أنه يرى في المسار البطيء لهذه الحضارات أوجهاً من التداخل، أي حيزاً من الحركة الهادئة والتأثر البطيء المتبادل. ويلحظ على المدى الطويل (دراسة الحقبات الطويلة) أما الصدامات والحروب والأحداث السياسية فإنها تنتمي إلى المستوى الثالث: إذ تتحكم فيها مصالح الحكام والتجارة والسيطرة على الطرق والممرات ومصادر الثروة، والتوترات الاجتماعية في داخل الدول.

ولا بد من الإشارة أن فترة الخمسينات والستينات شهدت أعمالاً بحثية كبرى في التاريخ العالمي أو التاريخ المقارن على غرار ما قام به «بروديل» من مثل عمل «هدغسون»، و «لومبار»، و «أندريه ميكيل» (وآخرين) وكان يمكن لهذه الأعمال أن تلعب دوراً إيجابياً في وعي التاريخ العالمي وفضاء العلاقة ما بين الحضارات في التاريخ، وهذا درس ينبغي مراجعته اليوم لأنسنة مناهج العلوم الإنسانية في تناولها لفضاء العلاقات ما بين الثقافات في عصر العولمة.

الدرس الثالث: الذي تبلور في مرحلة ما بعد الثمانينات، نلاحظ بدءاً من الثمانينات شيوع أسلوبين في الأوساط البحثية العالمية في النظر إلى حقول الثقافة والحضارة والتاريخ، وإلى مجال علاقة هذه الحقول بالسياسة والعلاقات الدولية.

١ - أسلوب تجزيئي في البحث يستغرق نفسه في دراسات حقلية وميدانية اتنوغرافية ومونوغرافية وتاريخية تتضخم فيها الخصائص الثقافية في المشاهد الثقافية في العالم: الحي، السوق المحلي، القبيلة، القرية، الطائفة، الاستقصاءات والاستطلاعات… وتتجزأ فيها صورة الهوية إلى أصغر فأصغر.

٢ - أسلوب توليفي يعيد تركيب هذه العناصر المفردة في أعمال استراتيجية أشمل، والملاحظ أن أعمالاً من هذا القبيل قد تنتظم في علم استراتيجيا جديد مواكب لمسار العولمة واستدعاءاتها.

هذه الأعمال إلى جانب استثمارها للأسلوب التجزيئي توظف فلسفات ومدارس فكرية ومفاهيم، كما توظف خبرات تاريخية ومعطيات انتولوجية وانتروبولوجية لاستخلاص أنماط من العلاقات الدولية أو لاستشراف مسارات محتملة للعالم: «فوكوياما»، «هانتنغتون»، «بول كنيدي»، «نيكسون».

هذه الأعمال ومثيلاتها وبغض النظر عن النوايا تنتظم في وظيفة استراتيجية للبحث وللمعرفة، تخدم آلية بناء الأمبراطوريات الكبرى، أو منطق السوق وفقاً لآلية الليبرالية الاقتصادية أو وفقاً لمنطق إدارة الأزمات في علم السياسة.

يمكن أن نسمي هذا النموذج من الباحث (الباحث الخبير) سواء أمارس أسلوباً تجزيئياً أم أسلوباً توليفياً ونموذجه معروف وشائع في التجربة الأميركية كما تشير دراسات أدوار سعيد، غير أن صورته تكاد تعمم في العالم اليوم بنسب تتفاوت على مستوى حجم العلاقة بصناعة القرار في البلد المعني ومدى استثمار فواعل العولمة ودينامياتها وتداعياتها في اتجاه سياسات عليا.

السؤال الذي يطرح اليوم، أي باحثٍ نتوخى في ظل هذه التحولات الكبرى ودروس تجارب التاريخ وخبراتها؟

بعضهم لا يزال ينعى على الحضارة الغربية "ترديها" وينتظر انهيارها مستلهماً ومقلّداً كتّاباً أوروبيين منذ «تويمبي» وحتى «جارودي»، أو داعياً لدراسة الغرب في ثنائية معكوسة (الاستغراب لدى حسن حنفي)، وبعضهم يتوجّس الاقتباس المنهجي من باحثي التاريخ العالمي والحضارات المقارنة خوفاً على هوية مأزومة، وتوجساً من "عولمة" لم تدخل بعد في وعيهم، وبعضهم يضيع بين "باحث خبير" لا مكان له في صناعة القرار في بلادنا، وبين "باحث مناضل" لا يزال يحمل عبء الإحباط، وقد يكون هذا مكمن اللبس في تعبيرنا عن التحولات التي لم تساهم فيها في التاريخ العالمي المعاصر.

أستاذ في الجامعة اللبنانية/ موقع د.محمد علي آذرشب

حول إشكالية الخيار بين حوار الثقافات أم صراعها

يحاول البحث، انطلاقاً من هذا السؤال أن يطرح وجهة نظر مفادها أنه من الصعب وضع الموقف (سواء أكان الموقف موقف مثقف باحث أم حزب أم هيئة…) أمام خيارين من داخل هذه الثنائية القاطعة: (حوار أم صراع؟ ). فالمسألة ليست مجرّد خيار إرادوي لفرد أو أفراد يقررون كيف يجري فعل الثقافات أو الحضارات؟ وكيف تتجدّد مجاريها بين الشّعوب والأمم سلماً أو حرباً؟ إنّ سبر الوقائع، خاصة على مستوى العقليّات والذهنيّات والأفكار، هو أمر أكثر تعقيداً وتركيباً لدرجة يصعب (حتّى لا أقول يستحيل) على الباحث في التجارب التاريخيّة الكبرى أن يفرد العناصر بين سلم وحرب بين حوار وصراع، بين حتميّات وممكنات…

هل يمكن للمؤرخ أن يُفرد عناصر الثقافة الهلينية مثلاً في حوض المتوسط، قبل أو بعد، في سياق حروب الإسكندر وورثته، أو بين تأثيرات اليونانية أو الفارسية أو المشرقية القديمة؟

هل يمكن للمؤرخ أيضاً أن يُفرد عناصر الثقافة الإسلامية العالمية إبان ازدهارها فيحدد مجاريها ومواقع التلقي والاستجابة بين ما تمّ عن طريق التفاعل السلمي والحوار والدّعوة وبين ما تمّ عن طريق الفتوح؟

كذا هو السؤال أيضاً حول ما سمّي "الحروب الصليبية" التي لم توقف العلاقات التجارية والثقافية بين الغرب المسيحيّ والشرق الإسلاميّ؟

أسئلة كثيرة من هذا النوع تطرح حول حروب القرن السادس عشر في المتوسط، وحول الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وحركات التحرّر الوطنيّ في منتصف القرن العشرين… وصولاً إلى ما يمكن أن نسمّيه حروب العولمة الجديدة، والتي أوحت بخطابين سائدين اليوم:

ـ خطاب "نهاية التاريخ".

ـ وخطاب "صدمة الحضارات" أو صدام الحضارات.

إنّ دراسة خبرات التاريخ ودراسة ما يجري اليوم في مسار "العولمة" قد تساعد في بلورة منهج للنظر لدراسة طبيعة العلاقة بين الثقافات في التاريخ في الحاضر.

كان المؤرّخ الفرنسي، «بروديل»، قد أشار في كتابه الشهير «المتوسط والعالم المتوسطيّ» إلى أنماطٍ من الحضارات الحيّة أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت: «الحضارات: فردوس البشر وجحيمهم». يقول «بروديل»: "يحتوي المتوسط ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسيّة في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل… متجسدة في ثلاث شخصيّات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة منذ قرون وقرون، متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلا لباساً لها… الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية - وعلى الأصحّ اللاتينية أو الرومانيّة… الحضارة الثانية هي الحضارة العربيّة - الإسلاميّة. والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنّهما عدوّان متكاملان، الأوّل ابتكر الصليبية وعاشها، فيما ابتكر الثاني الجهاد وعاشه. أمّا الحضارة الثالثة فهي الحضارة اليونانية التي لا تكشف اليوم عن وجهها بوضوح، بل تحافظ فقط على جوهرها".

غير أنّ إبراز «بروديل» لهذا المستوى الثابت والعميق من التاريخ للحضارات وقعرها الجغرافيّ - التاريخيّ يستدركه في الكثير من المواضع بالتشديد على «تداخل الحضارات»، أيضاً والتحوّلات والتغييرات التي تطرأ عليها: «الصليبية» من جهة، و«الجهاد» من جهة ثانية، حالتان تاريخيّتان نسبيّتان لوظيفة «الحسّ الدينيّ» لا تدخلان في الثابت إلا لتغييره ببطء شديد، فكما تداخل الحركة الثبات وتلازمه، فإنّ كلاً منهما يُقسر الآخر ويكمله، هكذا تخترق الحركة كلّ ثبات. يقول بروديل: «وفي المتوسط، كلّ شيء كان عرضة للتبادل والانتقال والاستعارة، من الناس إلى الأفكار وأنماط العيش والمعتقدات وأساليب الحبّ وأشكال السنن والأخلاق والمأكل».

والفصول الرائعة التي يعقدها «بروديل»، في كتابه عن «الاقتصادات والتجارة والنقل»، وعن صعود الإمبراطوريات وانهيارها، وعن «المجتمعات وصراعاتها المقنعة» ترينا كم كانت واسعة في حينه (القرنين الخامس عشر والسادس عشر) عمليّات التداخل بين الفضاءات الحضاريّة والثقافيّة في المجال الجغرافي - الحضاري الذي درسه (مجال البحر والسفينة في حوض المتوسط).

واللافت في دراسة «بروديل» أنّ هذا الأخير لم يسمِّ الصراعات والصدامات التي نشبت في الحقبة التي درسها صراعاً أو صداماً بين حضارات، وإن شدّد على دور "الحسّ الدينيّ" في بروز الإمبراطوريات والدول الكبرى آنذاك (الصليبية والجهاد).

إنّ الصدامات والحروب تبقى في أبعادها العميقة، وفي المستوى الذي تحدث عنه بروديل، نزاعات تتحكم فيها مصالح الدول والتجارة والطرق ومصادر الثروة والتوترات الاجتماعية، فما قام به ملوك أوروبا بعد حرب المئة عام مثلاً كان في رأيه «صدوعاً لإرادة برجوازيات المدن الباحثة عن استتباب السلام الضروري لازدهار تجارتها». وأما الحروب داخل الدول والمدن والمناطق في حوض المتوسط» فتختلط فيها الحروب الدينية بحروب الفقراء وانتفاضاتهم… ففي كل مكان من المجتمعات المتوسطية انتشر العنف مقنعاً بأوجه سياسية واجتماعية واقتصادية، في نابولي والبندقية، كما في حلب والاسكندرية».

ليس الهدف من هذه الاستعارة التاريخية الاستنتاج بأن التاريخ يعيد نفسه، أو أن الأزمنة تتماثل، بل على العكس، إن الهدف هو الاستدلال على تنوع وتشابك مستويات الأحداث و"الوقائع" في مرحلة التحولات والانعطافات الكبرى في التاريخ. فالقرن الخامس عشر والسادس عشر اللذان درسهما «بروديل» دراسة معمقة، تأسيساً على الثوابت والمتغيرات في تاريخ العلاقات ما بين الحضارات، يشكلان مرحلة التأسيس لأوروبا الحديثة، ولكنهما يشكلان أيضاً مرحلة التأسيس للعلاقة غير المتكافئة مع العالم الإسلامي والشرق إجمالاً، بعدما تغيّرت أسس وطرق السيطرة على الجغرافيا - السياسية والاقتصادية في العالم، وبعدما ضعف نبض المتوسط لينتقل هذا النبض إلى عالم المحيطات.

لا شكّ في أنّ دور "الحسّ الدينيّ" في الحضارة وفي الصراع وفي الحروب كان قائماً وفاعلاً. ولكن، وكما يُظهر تحليل المصالح وسياسات الدول والقوى الاقتصادية ومعطيات الجغرافيا - السياسية، فإنّ هذا الحسّ الدينيّ يتدخل كعنصر "تغيّر" لا كعنصر "ثبات"، وعنصر تغير للحضارة نفسها ولتغيير هذا الحس على مستوى اللاهوت والعمل والسياسة والأخلاق. فكان المشروع الرأسمالي في الغرب نتاجاً لهذا التغيير. وكان ينبغي انتظار تطور أدوات ومفاهيم البحث التاريخي والاجتماعي حتى تصبح هذه التحولات جزءاً من المعرفة التاريخية والوعي التاريخي، وكما نلاحظ لدى «ماكس فيبر» في إدراكه لدور الحس الديني في بروز التحولات الاقتصادية.

أما في الشرق الإسلامي، فقد غرق الحسّ في فقه سلطانيّ لم يأبه للتحولات الحاصلة في العالم، لا من قريب ولا من بعيد، (وهذا موضوع للدراسة) وقد يكون التهميش الذي أصاب جغرافية العالم الإسلامي عبر تهميش المتوسط، مدخلاً لفهم غياب الوعي التاريخي للعلاقة اللامتكافئة في العالم، الأمر الذي أدى إلى نشوء رأسمالية توسعية تعتمد على الحروب والاكتساح والسيطرة والالحاق، وفي ظل «مشروع حضاري» عالمي اختزلت معالمه خلال القرنين الأخيرين بشعارات التمدين والتحديث «رسالة الرجل الأبيض». إلا أن هذا المشروع الحضاري كان في كل الأحوال والمراحل، يعبّر صراحةً أو ضمناً تشجيعاً أو إعاقة، عن مصالح القوى والدول الرأسمالية الصناعية المهيمنة على العالم، فكان منطق السوق والتسويق والتنافس على الأسواق يبتلع مجالات "التثاقف" وأقنية التفاعل الثقافي، وكل خير وجمال ونفع في مشروع الحضارة الغربية العالمية، حيث كان لا يتوظف في علمية الاغتناء الثقافي والتلاقح الحضاري، بل في ثقافة الاستهلاك والسيطرة ومعاييرها الذوقية والقيمية الأحادية الجانب.

هذه الثقافة الاستهلاكية كانت من جملة أسباب انهيار الإيديولوجيات الأحادية الشمولية. إلا أنها شكلت أيضاً عنصر تخريب للثقافات المحلية في العالم، الأمر الذي ولد في مرحلة التقاطع بين حركة الاستعمار ومعطيات المجتمعات المحلية (الجماعات الدينية والطائفية والقبلية الوثنية)، ولا يزال يولد حتى الآن، بعداً أيديولوجياً سياسياً وسيكولوجياً للثقافات والأديان في "العالم الثالث" وعالم "الجنوب" اليوم، وهو بعد يختلط فيه الديني بالسياسي، والمقدس بالعصبيات والحزبيات الاجتماعية.

إذا أضفنا إلى تركة الاستعمار وإلى ذاكرة الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني والقومي ما استجد ويستجد الآن من انفجار وتفكك التسويات «سايكس - بيكو» و «لوزان» و «يالطا» وللمشروع الصهيوني ولمشروع الوحدة العربية، ومن فراغ وهواجس ولدت في آسيا الوسطى وباكستان والهند وإيران وتركيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن قلق نجم عن الانفجار السكاني والتباس العلاقة بين شمال وجنوب، بانت صورة لصراعات العالم مختلفة في أسبابها وتعبيراتها عن تلك الصورة المبسطة التي يقدمها «هانتنغتون» بصيغة "صدام الحضارات".

والواقع إن الأشكال الصراعية التي يصفها «هانتنغتون» بالصدامات بين الحضارات لا تعدو أشكالاً من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي، وتحولها واستدخالها لمنطقة في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبالتالي بسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي فشلت في بلدان الأطراف فشلاً ذريعاً وتحولت في مظاهرها العالمية الغالبة إلى حضارة "صورة" و "سلعة" يتجاذبها تناوب المتعة والملل السريعين لدى الميسورين، والحقد والجوع والعنف لدى المحرومين.

إن ما لا يقوله خطاب "صدام الحضارات" المتأخر، هو أن انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة كالحضارة الإسلامية - على سبيل المثال، هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدس الديني، ليست "حضارة" بالمفهوم الذي يعني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجاً للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت في حال العرب والمسلمين، تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة.

إن العرب والمسلمين، اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة ولا علومها ولا فلسفتها. وأما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاعاً لذاكرة أو دراسة لمرحلة وفي الحالتين، لا تملك "الحضارة الإسلامية" بما هي تراث دينامية التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة. إن الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلاّ أن يكون في قلبه، ولا يمكن للمعطيات الحضارية العالمية إلا أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له.

إذاً ماذا نسمي كل هذه الصدامات في العالم التي يزهو «هانتنغتون» بتعدادها في مقدمة رده على مساجليه عبر إعطاء نماذج من عالم ما بعد "الحرب الباردة"؟

الواقع أن أمثلة «هانتنغتون» هي نماذج من تكوينات طائفية - دينية وإثنية وقبلية - كانت موجودة في عالم الحرب الباردة بل في عالم ما قبل الحرب الباردة، ولنلاحظ أيضاً أن هذه التكوينات كانت جزءاً من نسيج اجتماعي ساد عوالم حضارية قديمة انتظمت في أطر من الجغرافيات السياسية والتاريخية: عالم الصين والهند والعالم الإسلامي - العثماني. ولنلاحظ أيضاً أن هذه التكوينات الثقافية لم تتحول إلى عناصر صدام إلا مع التفكك والتفكيك الذي حصل لها بفعل عوامل ذاتية وخارجية.

....نشير باختصار إلى أن عوامل التفكيك والتفكك جرت ببطء وخلال القرون الحديثة، وفي خط تقاطع فيه الجمود الحضاري "الذاتي" (العوامل الداخلية) مع توسع الرأسماليات الغربية في العالم (العوامل الخارجية) فقد تحول العالم (غير الصناعي) تدريجياً إلى أطراف مجتمعية وثقافية واقتصادية تابعة. وما أن أطل القرن العشرون عبر حربه الأولى حتى كان النظام العالمي يتشكل من أطرافه (المستعمرات ومناطق النفوذ) عبر تفكيك مبرمج ومدروس وموظّف لتلك التكوينات الثقافية والاجتماعية والاثنية، وفقاً لخطوط جيوسياسية ومراكز نفوذ ومصالح وطرقات وثروات واستتباعات ثقافية وسياسية للقوى المحلية من إثنيات وقوميات وقبائل وجماعات دينية وطائفية ومذهبية وعشائرية.

كل هذه العناصر سُميّت في الخطاب الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر "خصوصيات ثقافية" ودخلت حقولاً وموضوعات في البحث الإنتولوجي والأنتروبولوجي، كما وظفت في السياسات الغربية تجاه المجتمعات الأهلية، وفي إقامة الإدارات المحلية وبرامج الثقافة والتعليم. وإذا كانت هذه العناصر تنفجر الآن - في مرحلة ما بعد الحرب الباردة - فإنما يعبر انفجارها في الأمكنة التي تنفجر فيها عن ضيق وتوتر ومخاوف وهواجس جماعية، ولعوامل كثيرة لا علاقة لها بالثقافة أو الحضارة أو الدين.

والأنسب أن نبحث عن هذه العوامل الآن في مناطق "الجنوب" لنجدها في أسباب الفقر وسوء توزيع الثروة والتكاثر الديموغرافي وانسداد أبواب الرزق والعمل والخلل في توزيع السلطة ودخول سلطة الدولة طرفاً في الصراعات الأهلية… كما أنه من المفيد أن نبحث عن هذه العوامل في مناطق "الشمال" لنجدها في تفاقم الأزمة الاقتصادية والبطالة المتزايدة والموزاييك الديموغرافي الداخلي بين "أصيل" و"وافد" وبين "وطني" و"أجنبي"، والهجرة المتصاعدة من مناطق الجنوب. ولعله بسبب هذا يرتسم في المشهد الأوروبي صعود لأحزاب اليمين المتطرف، وعودة إلى صور شتى من العرقية والماضوية والأصولية والإيديولوجيات القومية - الشوفينية التي ترمي بمسؤولية الأزمة على "الآخر" المختلف، ثقافة وعاداتٍ وأنماط حياة…

وربما لهذا كله، ترتسم في المشهد العالمي ألوان فاقعة من الاختلافات العرقية والدينية والإثنية والثقافية التي تتصادم في أماكن شتى من العالم. لا بأس من أن نبحث عن نعوت وخلفيات إصطلاحية لهذه الصدامات، ولكنها بالتأكيد لن تندرج في مصطلح "حضارات" وإذا كان لبعض تلك الصدامات، أو لها جميعاً، أبعاد في الاستراتيجيات والسياسات الإقليمية والدولية الكبرى، من حيث علاقتها كمادة وحقل بما يُسمى "إدارة الأزمات" في العلوم السياسية والاستراتيجية الأميركية، فلماذا نسمي هذه الصدامات "صدامات بين حضارات".؟....

دروس التاريخ، هي دروس في المنهج وطريقة في النظر، وليست دروساً في الترشيد لحتمية تاريخية، أو في التطبيق لنماذج تاريخية من مراحل زمنية متباينة.

منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا، انتج العالم ولا سيما العالم الغربي كمّاً هائلاً من المعارف والدراسات التي تناولت مسار الحضارات والثقافات، يمكن للباحث العربي أن يفيد من مناهجها وأسئلتها المجاب عنها أو المستمرة بلا إجابة. ولعلّه من المفيد استذكار دروس ثلاثة:

الدرس الأول: في النصف الأول من القرن العشرين برزت من داخل الحضارة الغربية، وفي سياق حربين عالميتين مدمّرتين، نظريات وفرضيات في نشوء الحضارات وأفولها، يقول بعض هذه الفرضيات "بأفول الحضارة العربية" (شبنغلر)، ويقول بعضها الآخر "بالتردي الرتيب للتاريخ" ونعرف جميعاً أن أبرز من عبّر عن هذه الذهنية المتشائمة في النظر إلى حركة التاريخ هو «تويمبي». إلا أن تويمبي كان يرى - وكما يوضح في كتابه "حرب وحضارة" أن سياسات الدول الكبرى أي سياسات القوة وتغليب منطق السيطرة وصراع العالم هي التي تفرغ الحضارة من مضمونها الثقافي - الإنساني والروحي وتدفع بها إلى ان تصبح أحادية مادية يؤدي بها الأمر إلى التردي والأفول، لكن - غني عن البيان - أن هذا التوجس لم يكن في محله، إذ ما لبثت الحضارة الغربية أن جدّدت بنيانها ومناهجها من داخلها. في حين لا زالت أعداد من المثقفين العرب والمسلمين تنتظر تردي الحضارة الغربية وتبشر بذلك على غير طائل.

الدرس الثاني: في سياق تطور مناهج النظر إلى سمات الحضارات وخصائصها في منتصف القرن العشرين، تبلور منهج تاريخي مستثمر لعلم الاجتماع وعلم النفس والأناسة، والاقتصاد، ولما أنجز على هذا الصعيد من أعمال كأعمال «ماكس فيبر» و «دور كهايم» و «مارسيل موس»، مضافاً إلى نتاج تجربة معيشة خلال حربين مدمّرتين.

يستوقف في هذا المجال (مجال دراسة الحضارات وعلائقها)، العمل الكبير الذي أنجزه المؤرخ الفرنسي «فرناند بروديل» حول تاريخ حوض المتوسط في القرن السادس عشر؛ أهمّ ما في منهج «بروديل» - وهو من أبرز أعلام مدرسة الحوليّات الفرنسيّة (Le Annales)، تفكيكه للزمن التاريخيّ لحقبة طويلة من التاريخ، حقبة شهد فيها التاريخ تحولاً عميقاً وتغيرات أساسية كالتغيرات التي نتجت عن تغيّر طرق المواصلات العالمية وتهميش المتوسط. يرى «بروديل» في الزمن التاريخي ثلاثة أزمنة تتقاطع بتفاوت وتائر سرعتها وتغيرها.

ـ زمن جغرافي ثابت - (الجغرافية - التاريخية).

ـ وزمن حضاري - اجتماعي - ثقافي بطيء التغيّر.

ـ وزمن سياسي متقلّب وسريع.

ما يهمني في منهج النظر هو التوقف عند المستوى الثاني:

صحيح أن «بروديل» يعتبر أن لحضارات المتوسط الثلاث (الغربية - اللاتينية، العربية - الإسلامية، اليونانية - الأرثوذكسية «الكامنة» قعراً عميقاً، إلا أنه يرى في المسار البطيء لهذه الحضارات أوجهاً من التداخل، أي حيزاً من الحركة الهادئة والتأثر البطيء المتبادل. ويلحظ على المدى الطويل (دراسة الحقبات الطويلة) أما الصدامات والحروب والأحداث السياسية فإنها تنتمي إلى المستوى الثالث: إذ تتحكم فيها مصالح الحكام والتجارة والسيطرة على الطرق والممرات ومصادر الثروة، والتوترات الاجتماعية في داخل الدول.

ولا بد من الإشارة أن فترة الخمسينات والستينات شهدت أعمالاً بحثية كبرى في التاريخ العالمي أو التاريخ المقارن على غرار ما قام به «بروديل» من مثل عمل «هدغسون»، و «لومبار»، و «أندريه ميكيل» (وآخرين) وكان يمكن لهذه الأعمال أن تلعب دوراً إيجابياً في وعي التاريخ العالمي وفضاء العلاقة ما بين الحضارات في التاريخ، وهذا درس ينبغي مراجعته اليوم لأنسنة مناهج العلوم الإنسانية في تناولها لفضاء العلاقات ما بين الثقافات في عصر العولمة.

الدرس الثالث: الذي تبلور في مرحلة ما بعد الثمانينات، نلاحظ بدءاً من الثمانينات شيوع أسلوبين في الأوساط البحثية العالمية في النظر إلى حقول الثقافة والحضارة والتاريخ، وإلى مجال علاقة هذه الحقول بالسياسة والعلاقات الدولية.

١ - أسلوب تجزيئي في البحث يستغرق نفسه في دراسات حقلية وميدانية اتنوغرافية ومونوغرافية وتاريخية تتضخم فيها الخصائص الثقافية في المشاهد الثقافية في العالم: الحي، السوق المحلي، القبيلة، القرية، الطائفة، الاستقصاءات والاستطلاعات… وتتجزأ فيها صورة الهوية إلى أصغر فأصغر.

٢ - أسلوب توليفي يعيد تركيب هذه العناصر المفردة في أعمال استراتيجية أشمل، والملاحظ أن أعمالاً من هذا القبيل قد تنتظم في علم استراتيجيا جديد مواكب لمسار العولمة واستدعاءاتها.

هذه الأعمال إلى جانب استثمارها للأسلوب التجزيئي توظف فلسفات ومدارس فكرية ومفاهيم، كما توظف خبرات تاريخية ومعطيات انتولوجية وانتروبولوجية لاستخلاص أنماط من العلاقات الدولية أو لاستشراف مسارات محتملة للعالم: «فوكوياما»، «هانتنغتون»، «بول كنيدي»، «نيكسون».

هذه الأعمال ومثيلاتها وبغض النظر عن النوايا تنتظم في وظيفة استراتيجية للبحث وللمعرفة، تخدم آلية بناء الأمبراطوريات الكبرى، أو منطق السوق وفقاً لآلية الليبرالية الاقتصادية أو وفقاً لمنطق إدارة الأزمات في علم السياسة.

يمكن أن نسمي هذا النموذج من الباحث (الباحث الخبير) سواء أمارس أسلوباً تجزيئياً أم أسلوباً توليفياً ونموذجه معروف وشائع في التجربة الأميركية كما تشير دراسات أدوار سعيد، غير أن صورته تكاد تعمم في العالم اليوم بنسب تتفاوت على مستوى حجم العلاقة بصناعة القرار في البلد المعني ومدى استثمار فواعل العولمة ودينامياتها وتداعياتها في اتجاه سياسات عليا.

السؤال الذي يطرح اليوم، أي باحثٍ نتوخى في ظل هذه التحولات الكبرى ودروس تجارب التاريخ وخبراتها؟

بعضهم لا يزال ينعى على الحضارة الغربية "ترديها" وينتظر انهيارها مستلهماً ومقلّداً كتّاباً أوروبيين منذ «تويمبي» وحتى «جارودي»، أو داعياً لدراسة الغرب في ثنائية معكوسة (الاستغراب لدى حسن حنفي)، وبعضهم يتوجّس الاقتباس المنهجي من باحثي التاريخ العالمي والحضارات المقارنة خوفاً على هوية مأزومة، وتوجساً من "عولمة" لم تدخل بعد في وعيهم، وبعضهم يضيع بين "باحث خبير" لا مكان له في صناعة القرار في بلادنا، وبين "باحث مناضل" لا يزال يحمل عبء الإحباط، وقد يكون هذا مكمن اللبس في تعبيرنا عن التحولات التي لم تساهم فيها في التاريخ العالمي المعاصر.

أستاذ في الجامعة اللبنانية/ موقع د.محمد علي آذرشب

حول إشكالية الخيار بين حوار الثقافات أم صراعها

يحاول البحث، انطلاقاً من هذا السؤال أن يطرح وجهة نظر مفادها أنه من الصعب وضع الموقف (سواء أكان الموقف موقف مثقف باحث أم حزب أم هيئة…) أمام خيارين من داخل هذه الثنائية القاطعة: (حوار أم صراع؟ ). فالمسألة ليست مجرّد خيار إرادوي لفرد أو أفراد يقررون كيف يجري فعل الثقافات أو الحضارات؟ وكيف تتجدّد مجاريها بين الشّعوب والأمم سلماً أو حرباً؟ إنّ سبر الوقائع، خاصة على مستوى العقليّات والذهنيّات والأفكار، هو أمر أكثر تعقيداً وتركيباً لدرجة يصعب (حتّى لا أقول يستحيل) على الباحث في التجارب التاريخيّة الكبرى أن يفرد العناصر بين سلم وحرب بين حوار وصراع، بين حتميّات وممكنات…

هل يمكن للمؤرخ أن يُفرد عناصر الثقافة الهلينية مثلاً في حوض المتوسط، قبل أو بعد، في سياق حروب الإسكندر وورثته، أو بين تأثيرات اليونانية أو الفارسية أو المشرقية القديمة؟

هل يمكن للمؤرخ أيضاً أن يُفرد عناصر الثقافة الإسلامية العالمية إبان ازدهارها فيحدد مجاريها ومواقع التلقي والاستجابة بين ما تمّ عن طريق التفاعل السلمي والحوار والدّعوة وبين ما تمّ عن طريق الفتوح؟

كذا هو السؤال أيضاً حول ما سمّي "الحروب الصليبية" التي لم توقف العلاقات التجارية والثقافية بين الغرب المسيحيّ والشرق الإسلاميّ؟

أسئلة كثيرة من هذا النوع تطرح حول حروب القرن السادس عشر في المتوسط، وحول الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وحركات التحرّر الوطنيّ في منتصف القرن العشرين… وصولاً إلى ما يمكن أن نسمّيه حروب العولمة الجديدة، والتي أوحت بخطابين سائدين اليوم:

ـ خطاب "نهاية التاريخ".

ـ وخطاب "صدمة الحضارات" أو صدام الحضارات.

إنّ دراسة خبرات التاريخ ودراسة ما يجري اليوم في مسار "العولمة" قد تساعد في بلورة منهج للنظر لدراسة طبيعة العلاقة بين الثقافات في التاريخ في الحاضر.

كان المؤرّخ الفرنسي، «بروديل»، قد أشار في كتابه الشهير «المتوسط والعالم المتوسطيّ» إلى أنماطٍ من الحضارات الحيّة أو الكامنة في حوض المتوسط في فصل بعنوان لافت: «الحضارات: فردوس البشر وجحيمهم». يقول «بروديل»: "يحتوي المتوسط ثلاث حضارات هائلة وثلاث مجموعات ثقافية وثلاثة أنماط أساسيّة في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق والمأكل… متجسدة في ثلاث شخصيّات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائماً قائمة منذ قرون وقرون، متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلا لباساً لها… الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية - وعلى الأصحّ اللاتينية أو الرومانيّة… الحضارة الثانية هي الحضارة العربيّة - الإسلاميّة. والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنّهما عدوّان متكاملان، الأوّل ابتكر الصليبية وعاشها، فيما ابتكر الثاني الجهاد وعاشه. أمّا الحضارة الثالثة فهي الحضارة اليونانية التي لا تكشف اليوم عن وجهها بوضوح، بل تحافظ فقط على جوهرها".

غير أنّ إبراز «بروديل» لهذا المستوى الثابت والعميق من التاريخ للحضارات وقعرها الجغرافيّ - التاريخيّ يستدركه في الكثير من المواضع بالتشديد على «تداخل الحضارات»، أيضاً والتحوّلات والتغييرات التي تطرأ عليها: «الصليبية» من جهة، و«الجهاد» من جهة ثانية، حالتان تاريخيّتان نسبيّتان لوظيفة «الحسّ الدينيّ» لا تدخلان في الثابت إلا لتغييره ببطء شديد، فكما تداخل الحركة الثبات وتلازمه، فإنّ كلاً منهما يُقسر الآخر ويكمله، هكذا تخترق الحركة كلّ ثبات. يقول بروديل: «وفي المتوسط، كلّ شيء كان عرضة للتبادل والانتقال والاستعارة، من الناس إلى الأفكار وأنماط العيش والمعتقدات وأساليب الحبّ وأشكال السنن والأخلاق والمأكل».

والفصول الرائعة التي يعقدها «بروديل»، في كتابه عن «الاقتصادات والتجارة والنقل»، وعن صعود الإمبراطوريات وانهيارها، وعن «المجتمعات وصراعاتها المقنعة» ترينا كم كانت واسعة في حينه (القرنين الخامس عشر والسادس عشر) عمليّات التداخل بين الفضاءات الحضاريّة والثقافيّة في المجال الجغرافي - الحضاري الذي درسه (مجال البحر والسفينة في حوض المتوسط).

واللافت في دراسة «بروديل» أنّ هذا الأخير لم يسمِّ الصراعات والصدامات التي نشبت في الحقبة التي درسها صراعاً أو صداماً بين حضارات، وإن شدّد على دور "الحسّ الدينيّ" في بروز الإمبراطوريات والدول الكبرى آنذاك (الصليبية والجهاد).

إنّ الصدامات والحروب تبقى في أبعادها العميقة، وفي المستوى الذي تحدث عنه بروديل، نزاعات تتحكم فيها مصالح الدول والتجارة والطرق ومصادر الثروة والتوترات الاجتماعية، فما قام به ملوك أوروبا بعد حرب المئة عام مثلاً كان في رأيه «صدوعاً لإرادة برجوازيات المدن الباحثة عن استتباب السلام الضروري لازدهار تجارتها». وأما الحروب داخل الدول والمدن والمناطق في حوض المتوسط» فتختلط فيها الحروب الدينية بحروب الفقراء وانتفاضاتهم… ففي كل مكان من المجتمعات المتوسطية انتشر العنف مقنعاً بأوجه سياسية واجتماعية واقتصادية، في نابولي والبندقية، كما في حلب والاسكندرية».

ليس الهدف من هذه الاستعارة التاريخية الاستنتاج بأن التاريخ يعيد نفسه، أو أن الأزمنة تتماثل، بل على العكس، إن الهدف هو الاستدلال على تنوع وتشابك مستويات الأحداث و"الوقائع" في مرحلة التحولات والانعطافات الكبرى في التاريخ. فالقرن الخامس عشر والسادس عشر اللذان درسهما «بروديل» دراسة معمقة، تأسيساً على الثوابت والمتغيرات في تاريخ العلاقات ما بين الحضارات، يشكلان مرحلة التأسيس لأوروبا الحديثة، ولكنهما يشكلان أيضاً مرحلة التأسيس للعلاقة غير المتكافئة مع العالم الإسلامي والشرق إجمالاً، بعدما تغيّرت أسس وطرق السيطرة على الجغرافيا - السياسية والاقتصادية في العالم، وبعدما ضعف نبض المتوسط لينتقل هذا النبض إلى عالم المحيطات.

لا شكّ في أنّ دور "الحسّ الدينيّ" في الحضارة وفي الصراع وفي الحروب كان قائماً وفاعلاً. ولكن، وكما يُظهر تحليل المصالح وسياسات الدول والقوى الاقتصادية ومعطيات الجغرافيا - السياسية، فإنّ هذا الحسّ الدينيّ يتدخل كعنصر "تغيّر" لا كعنصر "ثبات"، وعنصر تغير للحضارة نفسها ولتغيير هذا الحس على مستوى اللاهوت والعمل والسياسة والأخلاق. فكان المشروع الرأسمالي في الغرب نتاجاً لهذا التغيير. وكان ينبغي انتظار تطور أدوات ومفاهيم البحث التاريخي والاجتماعي حتى تصبح هذه التحولات جزءاً من المعرفة التاريخية والوعي التاريخي، وكما نلاحظ لدى «ماكس فيبر» في إدراكه لدور الحس الديني في بروز التحولات الاقتصادية.

أما في الشرق الإسلامي، فقد غرق الحسّ في فقه سلطانيّ لم يأبه للتحولات الحاصلة في العالم، لا من قريب ولا من بعيد، (وهذا موضوع للدراسة) وقد يكون التهميش الذي أصاب جغرافية العالم الإسلامي عبر تهميش المتوسط، مدخلاً لفهم غياب الوعي التاريخي للعلاقة اللامتكافئة في العالم، الأمر الذي أدى إلى نشوء رأسمالية توسعية تعتمد على الحروب والاكتساح والسيطرة والالحاق، وفي ظل «مشروع حضاري» عالمي اختزلت معالمه خلال القرنين الأخيرين بشعارات التمدين والتحديث «رسالة الرجل الأبيض». إلا أن هذا المشروع الحضاري كان في كل الأحوال والمراحل، يعبّر صراحةً أو ضمناً تشجيعاً أو إعاقة، عن مصالح القوى والدول الرأسمالية الصناعية المهيمنة على العالم، فكان منطق السوق والتسويق والتنافس على الأسواق يبتلع مجالات "التثاقف" وأقنية التفاعل الثقافي، وكل خير وجمال ونفع في مشروع الحضارة الغربية العالمية، حيث كان لا يتوظف في علمية الاغتناء الثقافي والتلاقح الحضاري، بل في ثقافة الاستهلاك والسيطرة ومعاييرها الذوقية والقيمية الأحادية الجانب.

هذه الثقافة الاستهلاكية كانت من جملة أسباب انهيار الإيديولوجيات الأحادية الشمولية. إلا أنها شكلت أيضاً عنصر تخريب للثقافات المحلية في العالم، الأمر الذي ولد في مرحلة التقاطع بين حركة الاستعمار ومعطيات المجتمعات المحلية (الجماعات الدينية والطائفية والقبلية الوثنية)، ولا يزال يولد حتى الآن، بعداً أيديولوجياً سياسياً وسيكولوجياً للثقافات والأديان في "العالم الثالث" وعالم "الجنوب" اليوم، وهو بعد يختلط فيه الديني بالسياسي، والمقدس بالعصبيات والحزبيات الاجتماعية.

إذا أضفنا إلى تركة الاستعمار وإلى ذاكرة الحرب الباردة وحركات التحرر الوطني والقومي ما استجد ويستجد الآن من انفجار وتفكك التسويات «سايكس - بيكو» و «لوزان» و «يالطا» وللمشروع الصهيوني ولمشروع الوحدة العربية، ومن فراغ وهواجس ولدت في آسيا الوسطى وباكستان والهند وإيران وتركيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن قلق نجم عن الانفجار السكاني والتباس العلاقة بين شمال وجنوب، بانت صورة لصراعات العالم مختلفة في أسبابها وتعبيراتها عن تلك الصورة المبسطة التي يقدمها «هانتنغتون» بصيغة "صدام الحضارات".

والواقع إن الأشكال الصراعية التي يصفها «هانتنغتون» بالصدامات بين الحضارات لا تعدو أشكالاً من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي، وتحولها واستدخالها لمنطقة في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبالتالي بسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي فشلت في بلدان الأطراف فشلاً ذريعاً وتحولت في مظاهرها العالمية الغالبة إلى حضارة "صورة" و "سلعة" يتجاذبها تناوب المتعة والملل السريعين لدى الميسورين، والحقد والجوع والعنف لدى المحرومين.

إن ما لا يقوله خطاب "صدام الحضارات" المتأخر، هو أن انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة كالحضارة الإسلامية - على سبيل المثال، هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدس الديني، ليست "حضارة" بالمفهوم الذي يعني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجاً للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت في حال العرب والمسلمين، تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة.

إن العرب والمسلمين، اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة ولا علومها ولا فلسفتها. وأما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاعاً لذاكرة أو دراسة لمرحلة وفي الحالتين، لا تملك "الحضارة الإسلامية" بما هي تراث دينامية التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة. إن الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلاّ أن يكون في قلبه، ولا يمكن للمعطيات الحضارية العالمية إلا أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له.

إذاً ماذا نسمي كل هذه الصدامات في العالم التي يزهو «هانتنغتون» بتعدادها في مقدمة رده على مساجليه عبر إعطاء نماذج من عالم ما بعد "الحرب الباردة"؟

الواقع أن أمثلة «هانتنغتون» هي نماذج من تكوينات طائفية - دينية وإثنية وقبلية - كانت موجودة في عالم الحرب الباردة بل في عالم ما قبل الحرب الباردة، ولنلاحظ أيضاً أن هذه التكوينات كانت جزءاً من نسيج اجتماعي ساد عوالم حضارية قديمة انتظمت في أطر من الجغرافيات السياسية والتاريخية: عالم الصين والهند والعالم الإسلامي - العثماني. ولنلاحظ أيضاً أن هذه التكوينات الثقافية لم تتحول إلى عناصر صدام إلا مع التفكك والتفكيك الذي حصل لها بفعل عوامل ذاتية وخارجية.

....نشير باختصار إلى أن عوامل التفكيك والتفكك جرت ببطء وخلال القرون الحديثة، وفي خط تقاطع فيه الجمود الحضاري "الذاتي" (العوامل الداخلية) مع توسع الرأسماليات الغربية في العالم (العوامل الخارجية) فقد تحول العالم (غير الصناعي) تدريجياً إلى أطراف مجتمعية وثقافية واقتصادية تابعة. وما أن أطل القرن العشرون عبر حربه الأولى حتى كان النظام العالمي يتشكل من أطرافه (المستعمرات ومناطق النفوذ) عبر تفكيك مبرمج ومدروس وموظّف لتلك التكوينات الثقافية والاجتماعية والاثنية، وفقاً لخطوط جيوسياسية ومراكز نفوذ ومصالح وطرقات وثروات واستتباعات ثقافية وسياسية للقوى المحلية من إثنيات وقوميات وقبائل وجماعات دينية وطائفية ومذهبية وعشائرية.

كل هذه العناصر سُميّت في الخطاب الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر "خصوصيات ثقافية" ودخلت حقولاً وموضوعات في البحث الإنتولوجي والأنتروبولوجي، كما وظفت في السياسات الغربية تجاه المجتمعات الأهلية، وفي إقامة الإدارات المحلية وبرامج الثقافة والتعليم. وإذا كانت هذه العناصر تنفجر الآن - في مرحلة ما بعد الحرب الباردة - فإنما يعبر انفجارها في الأمكنة التي تنفجر فيها عن ضيق وتوتر ومخاوف وهواجس جماعية، ولعوامل كثيرة لا علاقة لها بالثقافة أو الحضارة أو الدين.

والأنسب أن نبحث عن هذه العوامل الآن في مناطق "الجنوب" لنجدها في أسباب الفقر وسوء توزيع الثروة والتكاثر الديموغرافي وانسداد أبواب الرزق والعمل والخلل في توزيع السلطة ودخول سلطة الدولة طرفاً في الصراعات الأهلية… كما أنه من المفيد أن نبحث عن هذه العوامل في مناطق "الشمال" لنجدها في تفاقم الأزمة الاقتصادية والبطالة المتزايدة والموزاييك الديموغرافي الداخلي بين "أصيل" و"وافد" وبين "وطني" و"أجنبي"، والهجرة المتصاعدة من مناطق الجنوب. ولعله بسبب هذا يرتسم في المشهد الأوروبي صعود لأحزاب اليمين المتطرف، وعودة إلى صور شتى من العرقية والماضوية والأصولية والإيديولوجيات القومية - الشوفينية التي ترمي بمسؤولية الأزمة على "الآخر" المختلف، ثقافة وعاداتٍ وأنماط حياة…

وربما لهذا كله، ترتسم في المشهد العالمي ألوان فاقعة من الاختلافات العرقية والدينية والإثنية والثقافية التي تتصادم في أماكن شتى من العالم. لا بأس من أن نبحث عن نعوت وخلفيات إصطلاحية لهذه الصدامات، ولكنها بالتأكيد لن تندرج في مصطلح "حضارات" وإذا كان لبعض تلك الصدامات، أو لها جميعاً، أبعاد في الاستراتيجيات والسياسات الإقليمية والدولية الكبرى، من حيث علاقتها كمادة وحقل بما يُسمى "إدارة الأزمات" في العلوم السياسية والاستراتيجية الأميركية، فلماذا نسمي هذه الصدامات "صدامات بين حضارات".؟....

دروس التاريخ، هي دروس في المنهج وطريقة في النظر، وليست دروساً في الترشيد لحتمية تاريخية، أو في التطبيق لنماذج تاريخية من مراحل زمنية متباينة.

منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا، انتج العالم ولا سيما العالم الغربي كمّاً هائلاً من المعارف والدراسات التي تناولت مسار الحضارات والثقافات، يمكن للباحث العربي أن يفيد من مناهجها وأسئلتها المجاب عنها أو المستمرة بلا إجابة. ولعلّه من المفيد استذكار دروس ثلاثة:

الدرس الأول: في النصف الأول من القرن العشرين برزت من داخل الحضارة الغربية، وفي سياق حربين عالميتين مدمّرتين، نظريات وفرضيات في نشوء الحضارات وأفولها، يقول بعض هذه الفرضيات "بأفول الحضارة العربية" (شبنغلر)، ويقول بعضها الآخر "بالتردي الرتيب للتاريخ" ونعرف جميعاً أن أبرز من عبّر عن هذه الذهنية المتشائمة في النظر إلى حركة التاريخ هو «تويمبي». إلا أن تويمبي كان يرى - وكما يوضح في كتابه "حرب وحضارة" أن سياسات الدول الكبرى أي سياسات القوة وتغليب منطق السيطرة وصراع العالم هي التي تفرغ الحضارة من مضمونها الثقافي - الإنساني والروحي وتدفع بها إلى ان تصبح أحادية مادية يؤدي بها الأمر إلى التردي والأفول، لكن - غني عن البيان - أن هذا التوجس لم يكن في محله، إذ ما لبثت الحضارة الغربية أن جدّدت بنيانها ومناهجها من داخلها. في حين لا زالت أعداد من المثقفين العرب والمسلمين تنتظر تردي الحضارة الغربية وتبشر بذلك على غير طائل.

الدرس الثاني: في سياق تطور مناهج النظر إلى سمات الحضارات وخصائصها في منتصف القرن العشرين، تبلور منهج تاريخي مستثمر لعلم الاجتماع وعلم النفس والأناسة، والاقتصاد، ولما أنجز على هذا الصعيد من أعمال كأعمال «ماكس فيبر» و «دور كهايم» و «مارسيل موس»، مضافاً إلى نتاج تجربة معيشة خلال حربين مدمّرتين.

يستوقف في هذا المجال (مجال دراسة الحضارات وعلائقها)، العمل الكبير الذي أنجزه المؤرخ الفرنسي «فرناند بروديل» حول تاريخ حوض المتوسط في القرن السادس عشر؛ أهمّ ما في منهج «بروديل» - وهو من أبرز أعلام مدرسة الحوليّات الفرنسيّة (Le Annales)، تفكيكه للزمن التاريخيّ لحقبة طويلة من التاريخ، حقبة شهد فيها التاريخ تحولاً عميقاً وتغيرات أساسية كالتغيرات التي نتجت عن تغيّر طرق المواصلات العالمية وتهميش المتوسط. يرى «بروديل» في الزمن التاريخي ثلاثة أزمنة تتقاطع بتفاوت وتائر سرعتها وتغيرها.

ـ زمن جغرافي ثابت - (الجغرافية - التاريخية).

ـ وزمن حضاري - اجتماعي - ثقافي بطيء التغيّر.

ـ وزمن سياسي متقلّب وسريع.

ما يهمني في منهج النظر هو التوقف عند المستوى الثاني:

صحيح أن «بروديل» يعتبر أن لحضارات المتوسط الثلاث (الغربية - اللاتينية، العربية - الإسلامية، اليونانية - الأرثوذكسية «الكامنة» قعراً عميقاً، إلا أنه يرى في المسار البطيء لهذه الحضارات أوجهاً من التداخل، أي حيزاً من الحركة الهادئة والتأثر البطيء المتبادل. ويلحظ على المدى الطويل (دراسة الحقبات الطويلة) أما الصدامات والحروب والأحداث السياسية فإنها تنتمي إلى المستوى الثالث: إذ تتحكم فيها مصالح الحكام والتجارة والسيطرة على الطرق والممرات ومصادر الثروة، والتوترات الاجتماعية في داخل الدول.

ولا بد من الإشارة أن فترة الخمسينات والستينات شهدت أعمالاً بحثية كبرى في التاريخ العالمي أو التاريخ المقارن على غرار ما قام به «بروديل» من مثل عمل «هدغسون»، و «لومبار»، و «أندريه ميكيل» (وآخرين) وكان يمكن لهذه الأعمال أن تلعب دوراً إيجابياً في وعي التاريخ العالمي وفضاء العلاقة ما بين الحضارات في التاريخ، وهذا درس ينبغي مراجعته اليوم لأنسنة مناهج العلوم الإنسانية في تناولها لفضاء العلاقات ما بين الثقافات في عصر العولمة.

الدرس الثالث: الذي تبلور في مرحلة ما بعد الثمانينات، نلاحظ بدءاً من الثمانينات شيوع أسلوبين في الأوساط البحثية العالمية في النظر إلى حقول الثقافة والحضارة والتاريخ، وإلى مجال علاقة هذه الحقول بالسياسة والعلاقات الدولية.

١ - أسلوب تجزيئي في البحث يستغرق نفسه في دراسات حقلية وميدانية اتنوغرافية ومونوغرافية وتاريخية تتضخم فيها الخصائص الثقافية في المشاهد الثقافية في العالم: الحي، السوق المحلي، القبيلة، القرية، الطائفة، الاستقصاءات والاستطلاعات… وتتجزأ فيها صورة الهوية إلى أصغر فأصغر.

٢ - أسلوب توليفي يعيد تركيب هذه العناصر المفردة في أعمال استراتيجية أشمل، والملاحظ أن أعمالاً من هذا القبيل قد تنتظم في علم استراتيجيا جديد مواكب لمسار العولمة واستدعاءاتها.

هذه الأعمال إلى جانب استثمارها للأسلوب التجزيئي توظف فلسفات ومدارس فكرية ومفاهيم، كما توظف خبرات تاريخية ومعطيات انتولوجية وانتروبولوجية لاستخلاص أنماط من العلاقات الدولية أو لاستشراف مسارات محتملة للعالم: «فوكوياما»، «هانتنغتون»، «بول كنيدي»، «نيكسون».

هذه الأعمال ومثيلاتها وبغض النظر عن النوايا تنتظم في وظيفة استراتيجية للبحث وللمعرفة، تخدم آلية بناء الأمبراطوريات الكبرى، أو منطق السوق وفقاً لآلية الليبرالية الاقتصادية أو وفقاً لمنطق إدارة الأزمات في علم السياسة.

يمكن أن نسمي هذا النموذج من الباحث (الباحث الخبير) سواء أمارس أسلوباً تجزيئياً أم أسلوباً توليفياً ونموذجه معروف وشائع في التجربة الأميركية كما تشير دراسات أدوار سعيد، غير أن صورته تكاد تعمم في العالم اليوم بنسب تتفاوت على مستوى حجم العلاقة بصناعة القرار في البلد المعني ومدى استثمار فواعل العولمة ودينامياتها وتداعياتها في اتجاه سياسات عليا.

السؤال الذي يطرح اليوم، أي باحثٍ نتوخى في ظل هذه التحولات الكبرى ودروس تجارب التاريخ وخبراتها؟

بعضهم لا يزال ينعى على الحضارة الغربية "ترديها" وينتظر انهيارها مستلهماً ومقلّداً كتّاباً أوروبيين منذ «تويمبي» وحتى «جارودي»، أو داعياً لدراسة الغرب في ثنائية معكوسة (الاستغراب لدى حسن حنفي)، وبعضهم يتوجّس الاقتباس المنهجي من باحثي التاريخ العالمي والحضارات المقارنة خوفاً على هوية مأزومة، وتوجساً من "عولمة" لم تدخل بعد في وعيهم، وبعضهم يضيع بين "باحث خبير" لا مكان له في صناعة القرار في بلادنا، وبين "باحث مناضل" لا يزال يحمل عبء الإحباط، وقد يكون هذا مكمن اللبس في تعبيرنا عن التحولات التي لم تساهم فيها في التاريخ العالمي المعاصر.

المصدر:  موقع د.محمد علي آذرشب

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك