الفيلسوف الإنسان

إن أبرز ميراث الإنسانية من الحضارة الجديدة يتلخص في كلمة ((الخيبة)) التي هي النتيجة الطبيعية لفلسفة القوة، وفصل الضمير عن الثقافة الذي هو عنصر جوهري منها. وليست هذه الخيبة سلبية، إذن لكانت حسرة في النفس وكفى، ولكنها تمثل كارثة تهدد بقاء الإنسان ووجوده ككائن حي على الأقل فمصير الإنسان معلق ((بزر)) في موسكو وآخر بواشنطن، وأي خطأ أو رعونة تقع من جانب إحدى الدولتين، كفيلة بأن تجعل الإنسان هباء منثورا تذروه الرياح.
هذه الكارثة التي ما زالت الحضارة الجديدة تغذيها بفلسفتها وسلوكها هي أثارت ضمير (مالك بن نبي) وقرعت أعماقه وإنسانيته، فهب بكل ما يملك من عبقرية وفكر، يتلمس للإنسانية الخلاص من الفناء المحقق الذي يقترب منها كل يوم بخطى واسعة.
والمشكلة التي تدفع بالكارثة دفعا إلى نقطة الانفجار، تتمثل في وجود إنسان غير متحضر، ومتحضر غير إنسان، ومهمة (مالك) هي التخطيط الدقيق العملي للارتفاع بالإنسان إلى مستوى الحضارة وبالتحضر إلى مستوى الإنسان. أي أن رسالته هي إيجاد الإنسان المتحضر، ففي هذه النقطة يوجد الخلاص للإنسانية، ومجرد التوجه الواعي نحوها من الطرفين يجعلنا نتفاءل بمصير الإنسانية، وعند الوصول إليها تذوب الكارثة، وتنحني بزوال أسبابها التي تكمن في الإنسان غير المتحضر من ناحيتها السلبية، أي اعتباره موضوعا للاستغلال والاستعمار، وفي المتحضر من ناحيتها الايجابية، باعتباره متسلطا ومستعمرا، وبمعنى أوضح تزول الكارثة بتطهير الإنسانية بشطرها من الاستعمار ومن القابلية للاستعمار.
وفلسفة مالك تقوم على النظر في التاريخ الإنساني الطويل، والتعمق في أحداثه وأسبابها، واستنباط الحقائق الاجتماعية التي نستطيع أن نستفيد منها في معالجة أزمتنا الحاضرة على ضوء ما أصبنا في الماضي من فشل أو نجاح، ولذلك يرى (مالك) أن الإنسانية مرت بأكبر تجربتين حضاريتين في التاريخ، والتجربة الرومانية والتجربة الإسلامية، وقد كانت التجربة الأولى متجلية في الروح الإمبراطورية التي تقسم الإنسان إلى مواطن يتمتع بكامل حقوقه، وإلى غير مواطن مسلوب من كل الحقوق، وعلى هذا الأساس حكمت وقننت وعالجت وفتحت. وهي وإن فشلت في معالجة مشكلة الإنسان قديما، فقد أتيح لها أن تبدو في صورة جديدة في عصرنا الحاضر. فالحضارة الغربية المعاصرة تخطت الحضارة الإسلامية ـ التي سبقتها في الزمن وكانت حلقة ضرورية في سلسة الحضارات الإنسانية ـ تخطتها لتتصل بالحضارة الرومانية، وتأخذ منها روحها الاستعمارية وتتشرب مبادئها، وكثيرا من نظراتها الجوهرية للحياة.
((والمستعمرون أنفسهم يعترفون بذلك من حيث لا يشعرون إذ نسمعهم صباح كل مساء يردون أعمالهم إلى عبقرية الرومان)) (1) فهذه الحضارة الجديدة إذن، لم تستطع أن تتخلص من أسباب فشل الرومانية، بل إنها تتغذى من تلك الأسباب، مما جعلها تفرق إنسان الغرب، والإنسان (الإفريقي الأسيوي) أي المستعمر والمستعمر في قوانينها وسياستها وأخلاقها، وقد استطاعت بدافع فلسفتها أن تخلق للإنسانية (غاية) وهي الفناء المحقق، وزودت (المتحضر) بثقافة الرومان وعبقريتهم، للوصول إلى تلك الغاية في أسرع وقت من أقصر الطرق.
أما التجربة الإسلامية فكانت محاولة من لون جديد، فهي قد رفعت بالفعل الإنسان إلى مستوى الحضارة دون أن تفقده خصائصه الإنسانية، بل إن التاريخ ليشهد بأنها كانت تغذي الإنسان بما يقوى تلك الخصائص ويسمو بها ويبرز معالمها، فالحضارة الإسلامية تقوم في صميمها على أساس قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) وقوله صلى الله عليه وسلم (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) فهذه الرسالة من صميمها أن تعي أصحابها أنفسهم حق الوعي وأعمقه، فيطهرونها من كل رواسب الوحشية والانتقام، ويشحنوها بالمعاني والقيم الإنسانية، لينهضوا نهضة تشيع في خط (طنجة ـ جاكارتا) وبذلك تستطيع أن تخلص حضارة الغرب من الانهيار وبرفع (الفرد) الغربي من مستوى المتحضر غير الإنسان إلى مستوى الإنسان المتحضر. فالحضارة الغربية اليوم أهم سمة تميزها، هي أنها واقعية فريسة لازمة أخلاقية، في حين أنها تملك من الوسائل العلمية والمادية ما يجبرها على السير إلى الأمام، غير أن هذا السير لا يتزود بضمير، وبذلك ضل الطريق نحو حياة أفضل   ومهما تكن لدى الحضارة الغربية من فضائل، فهي فضائل محلية لا تتجاوز حدود الغرب، ولقد لا حظ ذلك فيلسوفنا فقال:
(وعلى كل حال، فإن مما يزيد الوهم، أن للوسط الغربي فضائل خلقية وجميلة، شهد بها ـ غاندي ـ أكثر من مرة، ولكن من الفضائل ليست سوى فضائل داخلية أنانية لا إشعاع لها، والعقل الغربي ـ وبخاصة في التعقيب على نظرية كلود ليفي ستروس ـ لا يجعل في اعتباره هذا الوضع الخاص، لأنه ـ هو نفسه ـ ذاتي، أناني من الوجهة الأخلاقية، فالفضيلة الغربية لا وجود لها بالنسبة للعالم، لأنها لا تشع على عالم الآخرين والغربي لا يحمل فضائله خارج عالمه ـ هو ـ فخارج حدوده الأوروبية لا يكون أناسا، بل أوروبيا، وهو لا يرى بعد ذلك ـ أناسا ـ بل مستعمرين، فهو يتحرك ببرجه العاجي كما يتحرك الرحالة بخيمته، وهو حيثما ذهب ـ سواء كان صانعا أو خبيرا صحفيا أو مجرد سائح في بلد مختلف ـ ينشئ ـ عن قصد أو غير قصد ـ ما يسمى ـ حالة استعمارية.
وعليه فالأوروبي لا ينشئ في هذه الحالة روابط صداقيه وأخلاقية، فإن علاقاته مع ـ المستعمر ـ وهي النوع الاقتصادي أو الإداري أو السياسي، بل حتى من النوع الاستراتيجي في بعض الحالات، تبعا لاتصاله بزبائن أو رعايا أو أقوام مستعمرين، أو لحم يطعمه للقنابل الذرية.
ورسالة (بن نبي) كما يبدو من كلامه هذا ومن غيره، أن يسمو بتلك الفضائل إلى أن تصير إنسانية
1) من كلام أستاذنا مالك بن نبي شاملة، وبذلك ندرك أهمية رسالته ((الإفريقية الأسيوية)) التي سيكون دورها ((هو مساعدة أوروبا على أن تحسن اختيارها في اطمئنان لإكمال عملها في عالم ضميرها، وبهذا تكون ((الإفريقية الأسيوية)) قد أتمت عملها أيضا، لأنها تكون قد سمت بالإنسان الغربي إلى المستوى الأخلاقي للإنسانية، محققة بذلك تركيب الرجل العالمي)) .
واستجابة مالك لهذه المحاولة الفلسفية العملية، كانت استجابة عميقة تخطت الغريزة والقانون إلى أعماق الأحاسيس الإنسانية، إلى جوهر الروح المتشبع بجوهر الدين، فهو لم يستهدف في محاولته الحضارية هذه، عدوانا ولا انتقاما شرعيا للضحايا التي تتساقط من أمته في الجزائر وغيرها، على يد جلادي الحضارة الغربية، وصور وحشية مثيرة، وإنما يستهدف إنقاذ الإنسانية، بما فيها الغرب المتحضر، على يد الإنسان البسيط: إنسان إفريقيا ـ آسيا . بما لديه من رصيد أخلاقي وروحي يؤهله للقيام بهذه الرسالة الثانية، التي نرى الإنسانية اليوم أحوج إليها من أي وقت مضى، لما يهددها من أخطار الفناء، ولذلك لا نرى أي مبرر لتخوفات بعضهم من قيام حضارة ((إفريقية آسيوية)) لأن قيامها لا يعني هدم الحضارة الغربية، وإنما يعني تطهيرها من أسباب الفشل.
فهدف هذه الحضارة الجديدة المنتظرة، إنساني بحث، يهدف إلى تكوين المواطن العالمي الذي يتمتع بكافة الحقوق الإنسانية، كما أن عليه واجبات العمل على المحافظة على هذه الحضارة وتنميتها بكل ما هو إنساني ونبيل.

المصدر: http://habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/257

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك