الإسلام والمذهب المادي

   الإسلام عقيدة وقول وعمل.
وعقيدته أنزلت وقت بلوغ العقل البشري طور رشده وكماله، فجاءت بالتوحيد الخالص والتنزيه البالغ أرقى صوره وأشكاله، فكانت عقيدة روحية ترفع من قيمة الإنسان لأنها تصله بربه لتقديسه وعبادته وطاعته، والإقرار بأنه رب وإله واحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا تبيح تلك العقيدة للإنسان أن يتعلق بالمخلوقات في هذه الغابات، أو يدعو ويعبد غير الخالق الأعلى، الذي أبدع بقدرته وفق حكمته جميع ما يشاهد ويحس أو يعترف بوجوده في عالم الكون.

والإسلام من جهة أخرى دين اجتماعي، يراعي حاجة البشر ومصالحهم الحيوية، فيرضيها، لكن في حدود الحق والفضيلة، وباعتبار هاتين الحقيقتين الروحية والاجتماعية أمكن للإسلام أن يقيم مجتمعات على أسس القيم الأخلاقية، وأن يرضي مطالب الروح والجسد، حتى ترافقا في اعتدال، وكونا حقيقة الإنسان المهذب أو المؤمن الكامل، وبالجمع بين السمو الروحي والتهذيب الجنسي أمكن للإسلام أن يكون دينا خالدا بخلود الإنسانية على وجه الأرض، لأنه أرضى مطالبها من الوجهة الروحية والمادية في حق وعدل ورحمة وإحسان وفضل.

وقد مرت على الإسلام زهاء أربعة عشر قرنا، حورب فيها وحارب وانتصر وانكسر، وشاهد فرقا وأحزابا تآلفت ضده واندحرت، وجمعيات سرية هدامة عملت جهدها لتشويه حقيقته وقطع حجته بوضع خرافات وأحاديث سافلة، ونسبتها إليه، وتحريف أحكامه وآياته بتأويلات فاسدة باطلة، فظهر بعد ما أصلته بنيران مكائدها ذهبا إبريزا، ودينا قويم المبادئ عزيزا، بفضل ما أبداه حفاظ السنة المخلصون، وأساطين علماء شريعته النابهون.

والحقيقة أن المفكر يقف بعد مرور هذه القرون الطوال على ظهور الإسلام معجبا بأثره في الشعوب التي اعتنقته، وكيف صبغها بصبغة الله التي هذبت النفوس من رعونتها، وطهرت القلوب من دغلها، وصقلت عقائد التوحيد الذي هو دين جميع الأنبياء من بدع الشرك والضلال، وبعثت الطمأنينة في المسلمين حتى أحسوا بضروب من السعادة في ظل دينهم، جعلتهم راضين مطمئنين، ومغتبطين بالإسلام، يفدونه بالمهج والأرواح، ولا يبغون به بديلا، أو يرضون عنه تحويلا.

وإن كل من درس التاريخ الإسلامي في مختلف بقاع الإسلام شرقها وغربها لا يجد بدا من الاعتراف بأن الإسلام حرر العقول وأطلقها من عقال الأغلال، ونفى عنها الخمول، وبنى الممالك، وأسس الدول، وأوجد الحضارات، على أسس القيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية.

كما أن حضارته وعلومه في مختلف فروع المعرفة التي نمت في ظله، وترعرعت تحت أحضانه وبكفالته، كانت أصلا ولقاحا لحضارة العصر الحاضر، وإذا اعترى دول الإسلام ضعف أو انحطاط في أزمنة التاريخ فذلك سنة الله في كونه، على أن شباب الأمم قد يعود على أيدي المجددين المخلصين من أبنائها.

إلا أن حضارة هذا العصر تربت في مهد غير ديني، على غير رضى من الكنيسة، فنافرت الروحيات، واعتبر بعض أهلها أن المادة هي العنصر الأساسي فيها، ويزعم المتخرجون من مدارس هذه الحضارة المادية أنه بتنظيم الحياة على أساسها يرتفع مستوى الأمة، وتستقر حياتها، ويطمئن بالها، وأن المجتمع لا يتضرر إذا أغفلت فيه القيم الروحية، أو محيت منه التقاليد الإسلامية، أو الدين بوجه أعم، ووجود هذا الاتجاه في بعض شباب الأمم الإسلامية هو من بقايا رواسب استعمار العقول، التي ظل الاستعمار يسممها بمكر وخداع طيلة مقامه في البلاد الإسلامية المستضعفة، ومع الأسف نرى الأمم لا تتعظ بغيرها فتجتنب الأغلاط التي وقعت فيها الأمم التي سبق استعمارها، بل آفة المادية تصاب بها طبقة من الشباب النزق في كثير من الأمم.

فقد وجد هذه النزعة الشيطانية في الهند موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني، فساءه ذلك حتى ألف رسالة حافلة سماها الرد على الدهريين، لأنه رأى بثاقب فكره أن فكرة المادية ستقضي على روحانية الهند التي هي مناط الأمل في تحررها، وقد عرب هذه الرسالة، بمعونة أحد أتباع الشيخ جمال الدين، تلميذه الوفي الإمام محمد عبده رحمهم الله جميعا.

ثم إن مصر من جهتها لم تسلم من هذه النعرة الإلحادية، إلا أن الله لطف بداعية من دعاتها فعاد إلى الحق، وكفر عن نزواته بما جعله في سجل الخالدين؛ فقد كان محرر السياسة الأسبوعية بمصر حوالي سنة 1928 فما بعدها الأستاذ المرحوم محمد حسين هيكل باشا من دعاة هذه المادية، إلا أنه اتصل به كتاب حياة محمد باللغة الفرنسية لمؤلف فرنسي، فأخذ يترجمه ويعلق عليه، وأخذ جمهور من شباب مصر المثقف يقرأ حياة نبي الإسلام، بشوق واهتمام، فأنقذ هيكل نفسه وأنقذ طوائف من شباب مصر، وسمعت أنه صار شديد المحافظة على إقامة الصلوات في وقتها، حتى أنه لما كان وزيرا لمعارف مصر، كان يوقف المقابلات والأشغال الإدارية وقت دخول وقت الصلاة حتى يؤديها، وقد زار قبر المصطفى فأخرج للأمة الإسلامية كتابا خاصا به بأسلوبه الجذاب هو كتاب «في منزل الوحي» فجزاه الله عن الإسلام خيرا.

وإن مصر منذ ذلك العهد وتمسك طبقاتها الراقية بدين الإسلام في تزايد مستمر، وقد أخبرني سفير المغرب في القاهرة سعادة الأستاذ الطريس بأن التدين تغلغل في الأوساط الراقية في مصر في هذا العهد إلى حد كبير، على غير ما كنا نعهده في بعض تلك الأوساط وقت دراستنا هناك، وذلك بفضل تدين رجال الثورة وعدم انغماسهم في حياة الترف، فنطلب الله أن يوفق من يزيغ عن الجادة من بعض شباب المغرب على الإقلاع عن زيغه، حتى يحفظ لأمته وحدة عقيدتها.

وليعلم كل شاب يحترم عقله وتفكيره أن اعتقاد المذهب المادي الصرف، وإنكار ما عداه، لا يقوم على أساس علمي، وأن من ينكر الحياة الروحية باسم العلم يجني جناية كبرى على الروح والعلم معا، لأن العلم مهما علا شأنه يقف عند حدود المادة ولا يتعداها إلى ما وراءها، وعدم العلم بالشيء لا ينفي وجوده، كما أن عدم معرفتك بالطريق لا يدل على عدمها وأنها توصل إلى مقصد معلوم، وما أصدق تعبير القرآن عن عدم إدراك البشر لحقيقة الروحيات حيث قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85]، وقد حكى القرآن حال إخوان الماديين من الدهريين، ورد عليهم ظنهم الخاطئ حيث قال: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية: 24].

على أن هناك من أساطين العلماء من يشيد بعظمة الخالق المدبر، ويجعل هذه العوالم المادية المحسوسة من أسطع البراهين وأقواها دلالة على وجود إله مدبر عظيم وراء هذه المادة، لاحد لعظمة قدرته، كالعالم الفلكي (إسحاق نيوتين) وغيره، فقد سئل إقامة دليل وبرهان حسي على وجود الله خالق الكون، فاستدل بسير الكواكب في أفلاكها بدقة عجيبة تفوق التصور؛ قال: وذلك لا يمكن أن يكون صدفة وبدون خالق مدبر عظيم.

وهذا الفلكي كغيره من عظماء العلماء، يقود المفكرين إن تجردوا عن تقليد الماديين، إلى النظر في استدلالات القراءة بالأحوال الكونية على وجود الخالق العظيم، وعظمة قدرته، وبديع صنعه.
وما أبلغ القرءان في لفت نظر العباد إلى الأدلة الكونية حيث قال: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ) [الأعراف: 185]، وقال أيضا (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53] ومن المأثور عن الفيلسوف ابن رشد: «من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله»، يعني تشريح الأبدان وعلم وظائف الأعضاء وتركيبها، وقال الله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ؛ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 39-40].

وإن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن من أدلة القرءان أدله يقينية برهانية، فإنه قال: (وهو سبحانه إذا ذكر الأنبياء، نبيا وغيره، ذكر أنه أرسهم بالآيات البينات، وهي الأدلة والبراهين البينة المعلومة علما يقينا، إذ كل دليل لابد أن ينتهي إلى مقدمات بينة بنفسها، قد تسمى بديهيات، وقد تسمى ضروريات، وقد تسمى أوليات، وقد يقال هي معلومات بأنفسها)، ويرى ابن رشد أن القرءان فيه الأدلة البرهانية، فإنه قال: (إن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجد فيه الطرق الثلاث ( يعني طرق الاستدلال) الموجودة لجميع الناس، والطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة).
  
ولهذا نرى المدينين يعتبرون بحق، أن إصلاح القلوب ونزاهة النفوس والإخلاص في العمل بطاعة الله وأداء حقوق عباده، ورعاية هذه الحقوق، هي التي ترفع من قيمة الأمة، وأن الطهارة الروحية هي منبع السعادة وراحة الضمير في هذه الحياة، وأن الاستعداد لحياة أخرى في عالم أرقى من هذا العالم لا يكون بغير تزكية النفوس على طريق هداة الإنسانية، أنبياء الله الذين عاشوا نموذجا مثاليا للكمال الإنساني، وأن المادة يجب أن تخدم الروح، لأن الروح أرقى وأرفع منها.

ومن جهة أخرى إن المتدين دائما يراعي الواجبات التي يفرضها دينه عليه مراعاة لا هوادة فيها، ومن ذلك مصلحة الوطن العليا.

وقد كانت شدة التمسك بالدين في عهد الإسلام الأول أهم العوامل في انتصاراته وفتوحاته، ولا زال كل ملخص لدينه، عامل بوصاياه ومبادئه، يؤدي لأمته أزكى الخدمات، ويبوئها أرفع الدرجات، وإن جل من فسدت عقيدته لابد أن تطغي مصلحته الخاصة على مصلحة أمته العامة، وبالخصوص على مصالح غيره من ذوي المئارب والأغراض، فتفقد الثقة منه ويتنكب النابهون عن إسناد أي أمانة إليه، وما أحسن وصية الحافظ ابن حزم في شأن المستخفين بالدين، فإنه قال: (ثق بالمتدين وإن كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك، ومن استخف بحرمات الله فلا تأتمنه على شيء تشفق عليه).

على أن الإسلام كبرنامج عملي إصلاحي للحياة الإنسانية، تنضوي تحت لوائه قرابة خمسمائة مليون أو يزيد، تؤمن بعقيدته وتقوم بتعبدها وفق عبادته، وتعمل بشريعته، وتتأدب بأخلاقه وآدابه، جدير وحقيق بأن يدرس ويبحث من جديد، لأجل الاطلاع على مزاياه، وكشف أسرار هدايته وعناصر خلوده، كهدية كبرى إلاهية للإنسانية عامة ولأمة الإجابة خاصة والله ولي التوفيق. 

خير ما يصنع
سئل الفضل بن يحيى وزير الرشيد: ما خير ما يصنع المرء إذا أقبلت الدنيا عليه وإذا أدبرت عنه؟.
فقال الفضل: (خير ما يصنع أن ينفق في الحالتين، فالدنيا في حال الإقبال لا يفنيها الإنفاق، وفي حال الإدبار لا يبقيها الإمساك).

المصدر: http://habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/72

الأكثر مشاركة في الفيس بوك