الفكر الإنساني كما يراه ابن خلدون
إنا مسؤلون أمام التاريخ والأجيال المقبلة عن الإهمال الذي يخيم علينا حيال هذه الثروة الضخمة التي خلفها ذوو الفكر من أسلافنا المقدسين، ثروة في الدين، ثروة في الفلسفة، والآداب والرياضيات وجميع فروع المعرفة التي دفعت المدنية الإنسانية أشواطا بعيدة في معارج التقدم المادي والمعنوي، وأسوأ من هذا أن يكون الأجانب أسبق منا للتطلع إلى معرفة هذه الثروة العلمية ودراستها ووضعها في مكانها بين المحركات التي دفعت قطار الحضارة إلى الأمام، يفعلون هذا في الوقت الذي يجهل أكثرنا أي شيء عن حضارة الأسلاف، ولا أي مظهر من مظاهر تقدمهم الفكري والاجتماعي، ثم إن كثيرا من مثقفينا تراهم يستشهدون في معرض المذاكرة بآراء مفكري الغرب، يفعلون ذلك في حماسة وإعجاب بالأدمغة التي تفتقت عن هذه الأفكار أو تلك، ويجهلون للأسف أننا لا نعدم قط نماذج من مثل الأدمغة التي يتحمسون لأفكارها، إن لم تكن هذه صدرت عن تلك، واستمدت معينها منها، وليس القصد من هذا الدعوة إلى ترك التعرف على ما لغيرنا، بل القصد أن ندعو مثقفينا إلى معرفة ما كان لنا وما عندنا أولا، ثم ما كان لغيرنا وما هو كائن عند غيرنا في الدرجة الثانية.
وعلى هذا الأساس أتقدم لقراء مجلة (دعوة الحق) المباركة بغيض من فيض، وبارق من بوارق أحد رجال الفكر المغاربة، يعرف الكثير منا اسمه، وقليلون هم الذين درسوا كتبه أو اطلعوا على بعضها، لكسل فريق، وللنظرة الناقصة التي ينظر بها فريق آخر إلى مفكرينا العرب، كأن العبقرية لم تحط رحالها طيلة قرون في بلادهم الكبيرة.
لقد تعرض العلامة ابن خلدون في مقدمته من جملة ما تعرض له من المواضيع التي تتعلق بالعمران البشري، وما يتعلق بالبشر في حياته المادية والمعنوية، إلى الفكر الإنساني بالتحليل، ماهيته، طريقة عمله، وهو موضوع شغل علماء النفس طيلة أحقاب طويلة، ولا يزال يشغلهم إلى الآن، ولا تزيد آراء كثير منهم عن آراء ابن خلدون إلا في تفصيلاتها وتفريعاتها، وسأسعى جهد الإمكان لعرض رأي ابن خلدون ومقابلته بآراء علماء النفس، حتى يتضح لنا جيدا مدى قيمة الرجل العلمية، وبالتالي بعض الحقائق التي نستخلصها عن طريق رأيه في الفكر الإنساني.
فالفكر كما يعرفه: (وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ)، وقبل الشروع في مناقشة الشطر الأول من التعريف، نتساءل ما حد النفس عند ابن خلدون؟ ويكفينا مشقة التخمين للإجابة عن هذا السؤال، فيعرف النفس بأنها: (مؤثر روحاني مباين للأجسام، محرك ومدرك، وله طرفان أسفل وأعلى، فالأسفل متصل بالبدن، وبه تكسب الأشياء الحسية، والأعلى متصل بأفق الملائكة، وبه تكسب الحقائق العلمية والغيبية، وهي غائبة عن العيان، وآثارها ظاهرة في البدن، فكان هذا البدن وجميع أجزائه آلات للنفس وقواها، فالمحرك أو الفاعلية على حد تعبيره: البطش باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان، والحركة الكلية بالبدن متدافعا، والمدرك- ولقوة الإدراك ترتيب وارتفاع إلى القوة العليا التي هي المفكرة وترتيبها عنده كما يلي:
1) قوى الحس الظاهرة بحواسه من السمع والبصر (أي الحواس)
2) قوى الحس الباطن، وهذا ينقسم إلى:
1) الحس المشترك، ويقصد به القوة التي تدرك المحسوسات المبصر منها والمسموع والملموس في حالة واحدة.
2) الخيال، ويقصد به القوة التي تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو، ويجعل أداة هاتين القوتين (الحس المشترك والخيال) البطن الأول من الدماغ، مقدمة للحس المشترك، ومؤخره للخيال، ثم إن الخيال يرتقي إلى:
1) واهمة ومهمتها إدراك المعاني التي تتصل بالشخصيات، ويضرب لذلك أمثلة، (عداوة زيد، صداقة عمرو، رحمة الأب، افتراس الذئب)
2) حافظة، ومهمتها حفظ المدركات كلها المتخيلة منها وغير المتخيلة. ورأيه هذا في المحافظة لا يختلف عما يذهب إليه علم النفس الحديث من أنها تحفظ المدركات إلى حين الاحتياج حيث يأتي دور الذاكرة، وصاحبنا يقول بالنص (وهي لها -أي المدركات- كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها) وأداة هاتين القوتين (الوهم، ومؤخره للحافظة، وهذه جميعا ترتقي إلى قوة الفكر، وأداته البطن الأوسط من الدماغ، وبقوة الفكر تتحرك النفس، وتتوجه نحو التعقل، وذلك لما طبعت عليه من الميل نحو التخلص من الطاقة والاستعداد البشريين، وهي في تعلقها تخرج إلى الفعل، فإذا هي لم تستعمل الحواس في إدراكها وتعلقها فإنها تكون في أول مراتب الروحانيات (متشبهة بالملأ الأعلى الروحاني)، وهو لا يصل إلى النفس إلا بعد أن يتدرج في مراتب، بادئا بالمعادن، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان، غير ناس الصلة التي تربط بعضها ببعض، وأرى أنه في هذا متأثر بنظريات الفلاسفة، وخصوصا الإسلاميين كالفارابي وابن سينا ويقول هذا الأخير:
وتحســب أنك جــرم صغيــر وفيـك انطـوى العالم الأكبــر
وهو ما عبر عنه أرسطو قبل ذلك بالوحدة الصغرى وما عبر عنه الصوفية بوحدة الوجود، ويظهر أننا تمكنا من المفتاح الذي يساعدنا على فتح ما قد يستغلق من نظره في الفكر، وهذا المفتاح هو أن الفكر أرقى مظاهر النفس، وحركة هذا الجزء الأرقى نحو التعقل والإدراك ومنبع هذه الحركة أو مصدرها البطن الأوسط من الدماغ، وهنا لابد من سؤالين 1) ماذا يقصد ابن خلدون بالبطن الأوسط من الدماغ؟ وما مدى صحة هذا الرأي في نظر العلم الحديث؟ أما الدماغ فهو بدون شك المخ، وهذا يمنعنا من أن نستبعد أنه يقصد به وسط المخ بما فيه اللحاء والمادة البيضاء. إلا أن العلم الحديث يقسم الدماغ إلى مخ، ومخيخ، ونخاع مستطيل، ويذكر أن المخ هو المسيطر على المراكز السفلى، والمسؤول عن الأعمال العقلية العليا، وأنه مصدر الأعمال الإرادية، وقد توصل العلماء منذ أوائل القرن العشرين إلى تحديد مراكز، خاصة العليا من المخ وتسمى اللحاء، وتأكدوا من أن كلا منها يقوم بوظيفة خاصة، وقسموا هذه المراكز إلى:
1) حسية
2) حركية
3) مشتركة.
فالحسية للسمع والبصر والذوق والشم، والحركية منها تصدر أعصاب الحركة الموصلة للأعضاء، كاليد والرجل والوجه والعنق واللسان، وفي هذه تدخل مراكز للشعور بحركة الجسم، والمشتركة تحتفظ بآثار المراكز السابقة، وبها تنتفع في الفكر والتخيل والتذكر، ومن هذا نرى أن التحديد الذي ذكره ابن خلدون ليس مما يوافقه عليه العلم الحديث، فالمركز الذي يذكر أنه أداة للحس المشترك والخيال، وهو البطن الأول من الدماغ، عرف زمنا بالمنطقة الصامتة، حتى عززت الأبحاث المتتالية من اعتقاد العلماء بأن هذه المنطقة الصامتة هي المركز الجسماني الذي تنعكس منه هذه الظواهر الخلقية التي يتميز بها عن غيره، وبعبارة أخرى، هي موطن الأفكار السامية، قرروا هذا بعد حادثة عامل أصيب في الطرف الأمامي من مخه، فشفي بعد دخوله إلى المستشفى، ولم يصبه شلل أو تعطيل جسمي، لكن شخصيته تبدلت فأضحى كسولا، كثير الكذب والغش، بعد أن كان نشيطا مخلصا أمينا، والموطن الخلفي الذي يجعله مركزا للواهمة والحافظة، إن كان يقصد به المخيخ -وهو ما لا يستبعد- فالعلم الحديث يفيدنا أنه مركز التوازن وضبط العضلات، وإن كان يقصد به مؤخر المخ نفسه، فإننا نجد بعضه حسب بحوث العلماء وتجاربهم للمس، وبعضه للبصر، أما الناحية الوسطى التي هي في نظر ابن خلدون مركز الفكر الذي هو حركة للنفس، ففيه موطن الحركة، والسمع. والحقيقة كما أثبتها العلماء أن المواطن المشتركة، أو الأجزاء غير المظلمة في رسم المخ، هي القوة المفكرة أو ما يسمى الذكاء أو العقل. وبالرغم من هذا لا يسعنا أن نلوم صاحبنا أو نرميه بالقصور، لأن ما ذكره أقصى ما توصلت إليه التجارب على عهده، ومن جهة أخرى فإن جميع ما ذكره له ارتباط بالمخ على رأي فريق من العلماء. وأقول (فريق من العلماء) لأن هناك فريقا آخر لايطمئن للتفسير المادي للفكر وحده، فلقد تقدمت الأبحاث العلمية مرة أخرى، فوجدت ظواهر فكرية لا يمكن تعليلها تعليلا كافيا بالنظرية المادية وحدها، ويحق لنا أن نطرب لو صح لنا أن ندعي أن هذا ما عناه ابن خلدون بقوله: (وتصير (أي القوة الفكرية) في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية) أو قوله: (وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها على الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب)، ونستطيع أن نستنتج من تعريف ابن خلدون حقيقة لامراء فيها وهي تقدم علم التشريح على عهد الرجل، وغزارة المبادئ النفسية، وإن لم تكن مجتمعة في علم يسمى علم النفس، بل إنما كانت مطلبا من مطالب الفلسفة، ولن يدخلنا العجب في ذلك، لأن ما يزيد على أربعين كتابا من كتب جالينوس الطبيب اليوناني كانت مترجمة إلى العربية قبل عصر ابن خلدون بثلاثة قرون، نجد من بينها عدة كتب في التشريح كـ (تشريح الرحم) و(تشريح الحيوان الحي) وغيرهما، أضف إلى ذلك كتب الأطباء العرب الذين كانت لهم كشوف جديدة في الطب والتشريح، فالفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي، ذكروا له 22 كتابا في الطب، عدا فروع العلم الأخرى، وأبو بكر الرازي، والشيخ الرئيس ابن سينا، وناهيك بكتابه (القانون) هذه الموسوعة الطبية التي ظلت قرونا المرجع الأول لأطباء أوروبا، وبدون شك فإن ابن خلدون اطلع على كثير من هذه الكتب الطبية، يدلنا على ذلك عدم تحرجه من الإدلاء بدلوه في المواضيع الطبية، ما يبدو أن لها علاقة بالموضوع الذي يطرقه -وبعد أخذنا صورة تقريبية عن فهمه للنفس، وحللنا الشطر الأول من تعريفه للفكر الإنساني، وهو أن الفكر (حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ)، بعد هذا ننتقل إلى الشطر الثاني من التعريف، وهو يتعلق بكيفية عمل الفكر، فكأنه في الشطر الأول أراد أن يحدد ماهيته وفي الثاني طريقة سيره وإدراكه للحقائق، وفي هذا الشطر يقول: (تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب).
ومن هذا نستخلص أن الفكر مبدأ أعمال الإنسان، سواء منها العملية أو المعنوية، وأنه يسير في ذلك على نظام وترتيب، ولا بد من الوقوف عند فكرة النظام والترتيب، فإنه من شأن الإنسان أنه لا يفكر إلا بترتيب حدود بحثه، بحيث تظهر دائما بين السابق واللاحق علاقة واحدة، أي تقسيم الأشياء أقساما وطوائف، ونظمها في طبقات ودرجها تحت مقولات، ولا بد أيضا من سؤال يتفرع عنه سؤالان: ماذا يعني بالنظام والترتيب؟ أهو النظام المنطقي (المقدمة الصغرى، ثم الكبرى، ثم النتيجة)؟ أم يعني تنظيما آخر أقرب إلى المراحل التي أثبتها علم النفس الحديث مثلا وهي:
1) مرحلة الإدراك المعنوي أو التعقل
2) مرحلة الحكم نفيا أو إثباتا
3) مرحلة الاستنباط
4) مرحلة التعليل، ويبدو أن الترتيب الذي يقصده يكاد يكون ترتيبا منطقيا حيث يقول بالنص (فالمنطق أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية، ومنطبق على صورة فعلها)، ويقول في مكان آخر: (ثم الصناعية المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه)، أما في الشطر الثالث من تعريفه للفكر فإننا نقطع بأنه يشير إلى الحدس حيث يقول: (وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب، وقد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر، والحدس كما استعمله فلاسفة الإسلام على الجملة هو: سرعة انتقال الفكر من المعلوم إلى المجهول أو الانتقال من المبادئ إلى المطالب مباشرة، وفي زمن قصير، استعمله ابن سينا في كتاب (النجاة) والجرجاني في (التعريفات) وعمر بن سهلان في (البصائر النصرية)، أما عند ديكارت فهو الرؤية العقلية المباشرة يدرك الذهن بها بعض الحقائق التي تذعن لها النفس، وتوقن بها يقينا لا سبيل إلى دفعه، وهو نظرة عقلية بلغت من الوضوح أن زال معها كل شك، وهو فعل عقلي لا يتصل بالحواس ولا بالخيال ، وإنما يختص بالذهن، بل بالذهن الخالص الصافي. وخلاصة القول فإن الفكر الإنساني كما يراه ابن خلدون هو بنفس تعبيره (وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ، تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب، وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب، وقد يصور طرقيه يروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط، الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر)، ومن هذا نستطيع أن نلحظ مدى جرأة العلامة ابن خلدون على مناقشة موضوع أصبح يعد من موضوعات علم النفس، وإن كان علم النفس لا يتوسع كثيرا في محاولة التعرف على ماهيته، بل إنه يبحث ظواهره ومراحله مع شرح كل مرحلة على حدة، فعله في دراسة العقل والنفس، وهو إذا تعرض لهذه الماهية فإنه لا يفيدنا أكثر مما يفيدنا به ابن خلدون.