الإسلام والمذاهب الفكرية الحديثة
لقد اغتبطت لصدور (دعوة الحق) التي ستجعل من نفسها ناشرا لبنود الفكر الإسلامي، والدعوة لتعاليم هذا الدين الحنيف، الذي طالما أاسعد أمما تمسكت به، وأحيى مجتمعات تعلقت بأهدابه، والذي استهواني كثيرا هو أن يكون ديدن هذه المجلة البحث في الفكر الإسلامي، فلطالما ظهرت مجلات إسلامية، ثم ما لبثت أن اندثرت، وكثيرا ما قامت دعوات من صميم الحركة الإسلامية ثم كان مصيرها الحتمي التوقف عن متابعة العمل، حينما مل الناس منها ولم تأتهم بجديد.
فالناس اليوم وخصوصا الطبقة المثقفة منهم يعيشون في جو ملؤه الاتجاهات المختلفة، والمبادئ المتباينة، والدعوات العقائدية، فهم داخل هذا الضجيج ما بين مصدق ومكذب، ومؤمن وكافر، لهذا فإنه من آكد الواجبات أن تقوم دعوة إسلامية لتوضح للناس سبيل الهداية وطريق الرشد، وتفتح أمامهم الباب لتجديد إيمانهم، وإصلاح حالهم...
إن المطلوب من علماء الإسلام الذين يريدون خدمته بإخلاص أن يطلعوا على ما جد في عالم الفكر من مناهج، ويدرسوها دراسة عميقة، فإن كان ما جاء به هو الحق آمنا به وتركنا ما دونه، وإن كانت عبارة عن سراب بقيعة -وهذا هو الواقع- فليبينوا لنا حقيقة ذلك بالقواعد العلمية والبراهين المنطقية، ولينقذوا كثيرا من المتخبطين في ظلمات الغواية، المنحرفين عن سبيل الله، اللذين أغرقتهم المظاهر البراقة، والصور الخادعة فتمسكوا بها وتنكبوا سواء السبيل.
إن الإسلام غني بمناهجه، غني بثروته الفكرية، غني بمبادئه الإنسانية، ولكن الإطار الذي عرض فيه الإسلام في عصور الانحطاط ليس هو الذي يلائم العصر القائم الآن، لهذا فإننا نرغب في استخراج أساليب تطبيقية تتلائم مع متطلبات عصرنا هذا، أو تطوير الأساليب العتيقة بحيث تصبح مائلة للتنفيذ دونما حرج وبكل بساطة.
إننا نرى أن المذاهب الفكرية الحديثة هي التي تنظم شؤون المجتمعات من جميع الوجوه، وهي -دون شك- من القوة بمكان، كما أنها هي القائمة دون غيرها بتسيير المجتمع العالمي والتحكم في مقدراته، وتصريف إمكانياته، وقد تبين لنا من خلال بعض تجاربنا الماضية أننا لا يمكن أن نساير هذا التيار الجارف إلا إذا طورنا بعض مفاهيمنا البالية، وتمسكنا -فقط- بالنقط الأساسية التي لا يستوي ديننا قائما إلا بها، أما الأساليب وطرق التنفيذ، فلا علينا إذا استنبطناها حسب حاجاتنا الضرورية القائمة، وبهذا فقط نكون واقعيين في إرادتنا جعل المبادئ التي جاء بها ديننا الكريم سهلة المنال، قوية المفعول، قابلة للتنفيذ، يأخذ بها الناس على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم ويفتخرون بها ويجعلونها من قلوبهم في المكان اللائق.
إن الإنسانية اليوم تتخبط في مشاكل عديدة وعويصة، ولا يستقيم لهذا الكون أمر إلا إذا حلت هذه المشاكل على النحو الذي ترضى عليه أغلبية البشر، وإن كل اتجاه من الاتجاهات الموجودة ضمن المجموعات البشرية، إلا ويعطي الحلول التي يرتئيها ناجعة لهذه المشاكل المستعصية
فما هو الحل الذي يقدمه الإسلام؟
إن مسؤولية تقديم الإسلام لرأيه في الحل النهائي تقع على علمائه الذين لم يدرسوا المجتمع الحاضر ومشاكله دراسة موضوعية ايجابية، ويعطوا لأمراض هذا المجتمع الأدوية الشافية التي تنجيه مما هو فيه.
إن على مفكري الإسلام أن يشاركوا في الصراع الدولي القائم الآن، وعليهم أن يدرسوا كل الجوانب المحيطة بهذا الصراع، ويجب أن يستخرجوا من بطون أمهات الكتب الإسلامية الحل المرضي لمعضلات الكون، وعليهم أن يجعلوا هذا الحل المتطلب واقعيا وصريحا وواضحا يرتفع إلى مستوى الأحداث السياسية والفكرية ويحللها ويفحصها، ثم يقرها أو يسحبها.
وهناك شيء آخر من الأهمية بحيث لا يجوز إغفاله، هو: أن على علماء الإسلام ومفكريه أن يعملوا على رفع مستوى المجتمع الإسلامي، وتهذيب وعيه، وتثقيف مداركه حتى يبلغ إلى درجة يستطيع معها المشاركة الفكرية في فلسفة النهضة الحضارية التي يسير فيها العالم المتحضر اليوم، لأن العلماء والمفكرين وحدهم لا يستطيعون عمل شيء من أجل الإسلام إذا لم يسندهم المجتمع بقوته ويعينهم على نشر رسالتهم بوعيه، وإدراكه، ولن تقوم للفكر الإسلامي قائمة إذا لم يرتكز على هذه الدعامة، لأن الشعب هو الذي يقر السنن حينما يؤمن بها عن فهم حقيقي وإدراك عقلي، ولن يستفيد الإسلام شيئا إذا حوفظ على الوضع القائم الآن، من كون العامة لا تفهم الإسلام الحنيف إلا عن سبيل التقليد فقط.
إن علماء الإسلام يرتكبون خطأ فاحشا حينما يرضون بما خلفه لهم الأقدمون من دراسات وبحوث وضعوها حسب حاجات وقتهم وأدت رسالتها أنداك، ولم تعد لتنفعنا مباشرة اللهم إلا في الرجوع إليها كمصادر والاستفادة منها كأصول.
إن العالم يتقدم، وإن الحاجات تستجد، وعلينا أن نساير الركب الزاحف، بمفاهيمنا القانونية والأخلاقية والإنسانية، وإلا فسنبقى حيث وقف أجدادنا، وسيزداد الدهر علينا تاليا، وتزداد مشاكل تعقدا، ولن يحل هذا المشكل إلا الاتقاد في الأفكار، وتطوير العقليات، وتنوير الأذهان.
هذه دعوة حق أصارح بها علماءنا ومفكرينا: إن الدعوة الإسلامية يجب أن ترتكز على أسس قوية، ومرنة، وواضحة، وإنه لن تقوم لنا قائمة ما دمنا مقرين على الحالة الراهنة من الجمود، والانحطاط والكسل، كما أنه لن نستطيع أن نتحف الدنيا بجديد ما دامت هذه الكلمة المأثورة بين أعيننا (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.