المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي
المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي
الشيخ / إبراهيم خليل أحمد
من كبار علماء النصارى مَنَّ الله عليه بالإسلام
حوار مع المؤلف :
منقول من موقع إسلاميك ويب تحت الرابط التالى وعلى مسئوليه كاتب الحوار :
http : //arabic.islamicweb.com/christianity/con_ibrahim.htm
وإليكم نص الحديث :
الأستاذ إبراهيم خليل أحمد ... داعية اليوم كان هذا اللقاء .. وعبر دهاليز الضلالة والزيف نحو عالم الحق والهداية والنور كان هذا الحوار .
ـ كيف كانت رحلة الهداية التي أوصلتك شاطئ الإيمان والإسلام ، ومن أين كانت البداية ؟
ـ في مدينة الإسكندرية وفي الثالث عشر من يناير عام 1919 كان مولدي ، نشأت نشأة مسيحية ملتزمة وتهذبت في مدارس الإرسالية الأمريكية ، وتصادف وصولي مرحلة (الثقافة) المدرسية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية ، وتعرض مدينة الإسكندرية لأهوال قصف الطائرات .. فاضطررنا للهجرة إلى أسيوط حيث استأنفت في كليتها التعليم الداخلي وحصلت على الدبلوم عام 41 / 1942 وسرعان ما تفتحت أمامي سبل العمل فالتحقت بالقوات الأمريكية من عام 42 وحتى عام 1944م .
ـ ما طبيعة هذا العمل وكيف حصلت عليه ؟
ـ كان للقوات الأمريكية وقتذاك معامل كيماوية لتحليل فلزات المعادن التي تشكل هياكل الطائرات التي تسقط من أجل معرفة تراكيبها ونوعياتها ، وبحكم ثقافتي في كلية أسيوط ولتمكني من اللغة الإنجليزية ولأن الأمريكان كانوا يهتمون اهتماماً بالغاً بالخريجين ويستوعبونهم في شركاتهم فقد أمضيت في هذا العمل سنتين .. لكن أخبار الحرب والنكبات دفعتني لأن أنظر إلى العالم نظرة أعمق قادتني للاتجاه إلى دعوة السلام وإلى الكنيسة .. التي كانت ترصد رغباتي وتؤجج توجهاتي .. فالتحقت بكلية اللاهوت سنة 1945م وأمضيت فيها ثلاث سنين.
ـ ماهي الخطوط العامة لمنهج الكلية وأين موقع الإسلام فيه ؟
ـ في الثمانية أشهر الأولى كنا ندرس دراسات نظرية .. يقدم الأستاذ المحاضرة على شكل نقاط رئيسية ، ونحن علينا أن نكمل البحث من المكتبة . وكان علينا أن ندرس اللغات الثلاث : اليونانية والأرامية والعبرية إضافة إلى اللغة العربية كأساس والإنجليزية كلغة ثانية .. بعد ذلك درسنا مقدمات العهد القديم والجديد ، والتفاسير والشروحات وتاريخ الكنيسة ، ثم تاريخ الحركة التبشيرية وعلاقتها بالمسلمين ، وهنا نبدأ دراسة القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، ونتجه للتركيز على الفرق التي خرجت عن الإسلام أمثال الإسماعيلية ، والعلوية ، والقاديانية ، والبهائية … وبالطبع كانت العناية بالطلاب شديدة ويكفي أن أذكر بأننا كنا حوالي 12 طالباً وُكّل بتدريسنا 12 أستاذاً أمريكياً و7 آخرين مصريين .
ـ هذه الدراسات عن الإسلام وعن الفرق .. هل كانت للاطلاع العلمي وحسب أم أن هدفاً آخر كان وراءها ؟
ـ في الواقع كنا نؤسس على هذه الدراسات حواراتنا المستقبلية مع المسلمين ونستخدم معرفتنا لنحارب القرآن بالقرآن … والإسلام بالنقاط السوداء في تاريخ المسلمين ! كنا نحاور الأزهريين وأبناء الإسلام بالقرآن لنفتنهم ، فنستخدم الآيات مبتورة تبتعد عن سياق النص ونخدم بهذه المغالطة أهدافنا ، وهناك كتب لدينا في هذا الموضوع أهمها كتاب ( الهداية ) من 4 أجزاء و ( مصدر الإسلام ) إضافة إلى استعانتنا واستفادنا من كتابات عملاء الاستشراق!
وعلى هذا المنهج كانت رسالتي في الماجستير تحت عنوان (كيف ندمر الإسلام بالمسلمين) سنة 52 والتي أمضيت 4 سنوات في إعدادها من خلال الممارسة العملية للوعظ والتبشير بين المسلمين من بعد تخرجي عام 48 .
ـ كيف إذاً حدث الانقلاب فيك … ومتى اتجهت لاعتناق الإسلام ؟
ـ كانت لي ـ مثلما ذكرت ـ صولات وجولات تحت لواء الحركة التبشيرية الأمريكية ، ومن خلال الاحتكاك الطويل ، ومن بعد الاطلاع المباشر على خفاياهم تأكد لي أن المبشرين في مصر ما جاءوا لبثّ الدين وإنما لمساندة الاستعمار والتجسس على البلاد !
ـ وكيف ؟
ـ الشواهد كثيرة ، وفي أي مسألة من المسائل ، فإذا كانت البلد تستعد للانتفاضة على الظلم كانت الكنيسة أول من تدرك ذلك لأن القبطي والمسلم يعيشان على أرض واحدة ، ويوم يتأوه المسلم سرعان ما يسمع النصراني تأوهاته فيوصلها إلينا لنقوم بتحليلها وترجمتها بدورنا ، ومن جانب آخر كان رعايا الكنيسة في القوات المسلحة أداة مباشرة لنقل المعلومات العسكرية وأسرارها ، وعن طريق المراكز التبشيرية التابعة لأمريكا والتي تتمتع بالرعاية وبالحماية الأمريكية كانت تدار حرب التجسس ، ولك أن تعلم هنا أن النصراني في مصر له جنسيتان وانتماءان : انتماؤه للوطن الذي ولد فيه وهو انتماء مدني تُعبر عنه جنسيته المصرية ، وانتماء ديني أقوى تمثله الجنسية المسيحية . فهو يحس في أوروبا وفي أمريكا حصناً وبالدرجة الأولى ، بينما يشعر النصارى في مصر أنهم غرباء ! تماماً كالانتماء الإسرائيلي الذي يعتبر انتماءه بالروح إلى أرض أورشليم انتماء دينياً ، وانتماءه إلى الوطن الذي ولد فيه انتماء مدنياً وحسب ! ولذلك قام مخطط المبشرين والكنيسة على جعل مصر تدور في فلك الاستعمار فلا تستطيع أن تعيش بعيداً عنه ، الأمر الذي جعلني أشعر بمصريتي وأحس أن هؤلاء أجانب عني وأن جاري المسلم أقرب إلي منهم بالفعل … فبدأت أتسامح .. عفواً أقول أتسامح وأعني أن أقرأ القرآن بصورة تختلف عما كنت أقرؤه سابقاً وفي شهر يونيو تقريباً عام 1955م استمعت إلى قول الله سبحانه [ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به .. ] هذه الآية الكريمة من الغريب أنها رسخت في القلب ، ولما رجعت إلى البيت سارعت إلى المصحف وأمسكته وأنا في دهشة من هذه السورة ، كيف ؟ إن الله سبحانه وتعالى يقول : [ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله .. ].
إبراهيم خليل الذي كان إلى عهد قريب يحارب الإسلام ويقيم الحجج من القرآن والسنة ومن الفرق الخارجة عن الإسلام لحرب الإسلام … يتحول إلى إنسان رقيق يتناول القرآن الكريم بوقار وإجلال … فكأن عيني رُفعت عنهما غشاوة وبصري صار حديداً … لأرى ما لا يرى … وأحس إشراقات الله تعالى نوراً يتلألأ بين السطور جعلتني أعكف على قراءة كتاب الله من قوله تعالى : [ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ] وفي سورة الصف : [ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ] إذاً فالقرآن الكريم يؤكد أن هناك تنبؤات في التوراة وفي الإنجيل عن النبي محمد . ومن هنا بدأت ولعدة سنوات دراسة هذه التنبؤات ووجدتها حقيقة لم يمسها التبديل والتغيير لأن بني إسرائيل ظنوا أنها لن تخرج عن دائرتهم .. وعلى سبيل المثال جاء في ( سفر التثنية ) وهو الكتاب الخامس من كتب التوراة ( أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ) توقفت أولاً عند كلمة ( إخوتهم ) وتساءلت : هل المقصود هنا من بني إسرائيل ؟ لو كان كذلك لقال ( من أنفسهم ) أما وقد قال ( من وسط إخوتهم ) فالمراد بها أبناء العمومة ، ففي سفر التثنية إصحاح 2 عدد 4 يقول الله لسيدنا موسى عليه السلام : ( أنتم مارون بنجم إخوتكم بني عيسو … ) و ( عيسو ) هذا الذي نقول عنه في الإسلام ( العيس ) هو شقيق يعقوب عليه السلام ، فأبناؤه أبناء عمومة لبني إسرائيل ، ومع ذلك قال ( إخوتكم ) وكذلك أبناء ( إسحاق ) وأبناء ( إسماعيل ) هم أبناء عمومة ، لأن إسحاق ، ( شقيق ) ( إسماعيل ) عليهما السلام ومن ( إسحاق ) سلالة بني إسرائيل ، ومن ( إسماعيل ) كان ( قيدار ) ومن سلالته كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الفرع الذي أراد بنو إسرائيل إسقاطه وهو الذي أكدته التوراة حين قالت ( من وسط إخوتهم ) أي من أبناء عمومتهم .
وتوقفت بعد ذلك عند لفظة ( مثلك ) ووضعت الأنبياء الثلاثة : موسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم الصلاة والسلام للمقابلة فوجدت أن عيسى عليه السلام مختلف تمام الاختلاف عن موسى وعن محمد عليهما الصلاة والسلام ، وفقاً للعقيدة النصرانية ذاتها والتي نرفضها بالطبع ، فهو الإله المتجسد ، وهو ابن الله حقيقة ، وهو الأقنوم الثاني في الثالوث ، وهو الذي مات على الصليب .. أما موسى عليه السلام فكان عبد الله ، وموسى كان رجلاً ، وكان نبياً ، ومات ميتة طبيعية ودفن في قبر كباقي الناس وكذلك سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذاً فالتماثل إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم ، بينما تتأكد المغايرة بين المسيح وموسى ـ عليهما السلام ـ ، ووفقاً للعقيدة النصرانية ذاتها ! فإذا مضينا إلى بقية العبارة : ( وأجعل كلامي في فمه .. ) ثم بحثنا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم فوجدناه أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ثم لم يلبث أن نطق بالقرآن الكريم المعجزة فجأة يوم أن بلغ الأربعين .. وإذا عدنا إلى نبوءة أخرى في التوراة سفر أشعيا إصحاح 79 تقول : ( أو يرفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة ولا الكتابة ويقول له اقرأ ، يقول ما أنا بقاريء .. ) لوجدنا تطابقاً كاملاً بين هاتين النبوءتين وبين حادثة نزول جبريل بالوحي على رسول الله في غار حراء ، ونزول الآيات الخمس الأولى من سورة العلق.
ـ هذا عن التوراة ، فماذا عن الإنجيل وأنت الذي كنت تدين به ؟
ـ إذا استثنينا نبوءات برنابا الواضحة والصريحة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالاسم ، وذلك لعدم اعتراف الكنيسة بهذا الإنجيل أصلاً ، فإن المسيح عليه السلام تنبأ في إنجيل يوحنا تسع نبوءات ، و ( البرقليط ) الذي بشر به يوحنا مرات عديدة … هذه الكلمة لها خمسة معاني : المعزّي ، والشفيع ، والمحامي ، والمحمد ، والمحمود ، وأي من هذه المعاني ينطبق على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الانطباق فهو المعزّي المواسي للجماعة التي على الإيمان وعلى الحق من بعد الضياع والهبوط ، وهو المحامي والمدافع عن عيسى ابن مريم عليه السلام وعن كل الأنبياء والرسل بعدما شوه اليهود والنصارى صورتهم وحرفوا ما أتوا به وهو الإسلام .. ولهذا جاء في إنجيل يوحنا إصحاح 14 عدد 16 و17 ( أنا أصلي إلى الله ليعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق ) .. وقال في نبوءة أخرى إصحاح 16 عدد 13 ـ 14 ( وأما متى جاء ذاك الروح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به . ويخبركم بأمور آتية ، ذاك يمجدني ) وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى : [ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ] .
ـ كيف كانت لحظة إعلانك للإسلام وكيف كانت بداية الحياة الجديدة في رحاب الهداية والحق ؟
ـ بعد أن وصلت إلى اليقين وتلمست الحقائق بيدي كان عليّ أن أتحدث مع أقرب الناس إلي زوجتي ، لكن الحديث تسرب عن طريقها إلى الإرسالية للأسف ، وسرعان ما تلقفوني ونقلوني إلى المستشفى وتحت مراقبة صارمة مدعين أني مختل العقل ! ولأربعة شهور تلت عشت معاناة شديدة جداً ، ففرقوا بيني وبين زوجتي وأولادي ، وصادروا مكتبتي وكانت تضم أمهات الكتب والموسوعات … حتى اسمي كعضو في مجمع أسيوط ، وفي مؤتمر ( سنودس ) شُطب ، وضاع ملفي كحامل ماجستير من كلية اللاهوت … ومن المفارقات العجيبة أن الإنجليز في هذه الآونة كانوا قد خلعوا الملك طلال من عرش الأردن بتهمة الجنون … فخشيت أن يحدث معي الأمر ذاته .. لذلك التزمت الهدوء والمصابرة وصمدت حتى أطلق سراحي ، فقدمت استقالتي من الخدمة الدينية واتجهت للعمل في شركة أمريكية للأدوات المكتبية لكن الرقابة هناك كانت عنيفة جداً ، فالكنيسة لا تترك أحداً من أبنائها يخرج عليها ويسلم ، إما أن يقتلوه أو يدسوا عليه الدسائس ليحطموا حياته .. وفي المقابل لم يكن المجتمع المسلم حينذاك ليقدر على مساعدتي … فحقبة الخمسينات والستينات كما تعلمون كانت تصفية للإخوان المسلمين ، وكان الانتماء للإسلام والدفاع عنه حينذاك لا يعني إلا الضياع ! ولذلك كان عليّ أن أكافح قدر استطاعتي ، فبدأت العمل التجاري ، وأنشأت مكتباً تجارياً هرعت بمجرد اكتماله للإبراق إلى ( د. جون تومسون ) رئيس الإرسالية الأمريكية حينذاك ، وكان التاريخ هو الخامس والعشرين من ديسمبر 1959 والذي يوافق الكريسماس ، وكان نص البرقية : ( آمنت بالله الواحد الأحد ، وبمحمد نبياً ورسولاً ) لكن إشهار اعتناقي الرسمي للإسلام كان يفترض عليّ وفق الإجراءات القانونية أن ألتقي بلجنة من الجنسية التي أنا منها لمراجعتي ومناقشتي.
وفي الوقت الذي رفضت جميع الشركات الأوربية والأمريكية التعامل معي تشكلت اللجنة المعنية من سبعة قساوسة بدرجة الدكتوراه .. خاطبوني بالتهديد والوعيد أكثر من مناقشتي ! وبالفعل تعرضت للطرد من شقتي لأنني تأخرت شهرين أو ثلاثة عن دفع الإيجار واستمرت الكنيسة تدس علي الدسائس أينما اتجهت .. وانقطعت أسباب تجارتي .. لكني مضيت على الحق الذي اعتنقته … إلى أن قدر الله أن تبلغ أخباري وزير الأوقاف حينذاك عبد الله طعيمة ، والذي استدعاني لمقابلته وطلب مني بحضور الأستاذ الغزالي المساهمة في العمل الإسلامي بوظيفة سكرتير لجنة الخبراء في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية فكنت في منتهى السعادة في بادئ الأمر ، لكن الجو الذي انتقلت إليه كان ـ وللأسف ـ مسموماً ، فالشباب يدربون على التجسس بدل أن يتجهوا للعلم ! والموظفون مشغولون بتعليمات ( منظمة الشباب ) عن كل مهامهم الوظيفية وكان التجسس على الموظفين ، وعلى المديرين ، وعلى وكلاء الوزارة … حتى يتمكن الحاكم من أن يمسك هؤلاء جميعاً بيد من حديد ! ولَكَم تركت أشيائي منظمة كلها في درج مكتبي لأجدها في اليوم الثاني مبعثرة ! وعلى هذه الصورة مضت الأيام وأراد الله سبحانه أن يأتي د . محمد البهي وزيراً للأوقاف بعد . طعيمة الجرف . وكان د.البهي قد تربى تربية ألمانية منضبطة ، لكن توفيق عويضة سكرتير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وأحد ضباط الصف الثاني للثورة تصدى له .. وحدث أن استدعاني د. البهي في يوم من الأيام بعدما صدر كتابي : ( المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي ) وأحب أن يتعرف عليّ … فترامى الخبر إلى توفيق عويضة واعتقد أنني من معسكر د. البهي والأستاذ الغزالي .. ووجدت نفسي فجأة أتلقى الإهانة من مدير مكتبه رجاء القاضي وهو يقول لي : اتفضل على الوزارة التي تحميك ! خرجت والدموع في عيني ، وقد وجدتهم صادروا كتبي الخاصة من مكتبي ولم يبقوا لي إلا شيئاً بسيطاً حملته ورجعت إلى الوزارة .. وهناك اشتغلت كاتب وارد بوساطة !! فكان يوم خروجي على المعاش بتاريخ 12 / 1 / 1979 وقد بلغت الستين ، ومن ذلك اليوم بدأ إبراهيم خليل يتبوأ مركزه كداعية إسلامي ، وكان أول ما نصرني الله به أن ألتقيت مع الدكتور جميل غازي ـ رحمه الله ـ بـ 13 قسيساً بالسودان في مناظرة مفتوحة انتهت باعتناقهم الإسلام جميعاً وهؤلاء كانوا سبب خير وهداية لغرب السودان حيث دخل الألوف من الوثنيين وغيرهم دين الله على أيديهم.
ـ يثور في مصر على الدوام نزاع واختلاف حول تحديد نسبة الأقباط فيها والمسلمين . ماذا حول هذا الموضوع ؟
ـ أنا لا أقيس الأقباط والنصارى بعدد السكان ومع ذلك فأنا أعتقد بأن التأثير الفعال في مصر لهم ، بحكم وضعهم المالي والعلمي وللدهاء الذي يستخدمونه في سبيل السيطرة . الإحصائيات العالمية تقول إن الأقباط 12 مليوناً من بين أكثر من 40 مليون مصري . لكن مطامح الكنيسة تتطلع إلى يوم يتوازن العدد السكاني بين المسلمين والأقباط وتروج لذلك جهاز تنظيم الأسرة وأدوات منع الحمل فتحد من تزايد المسلمين عددياً ، وتسهل ازدياد الفساد الأخلاقي والعلاقات الحرام ، وفي الوقت ذاته أعطى الأب شنودة تعليمات صريحة لتشجيع التوالد بين الأقباط ، وخصص مكافآت وإعانات لذلك . فإذا تحقق لهم التقارب العددي نادوا أن هذه أرضنا ونحن من سلالة الفراعنة ولسنا عرباً … تماماً كما حصل في السودان وبات جون قرنق لا يطالب بفصل الجنوب وحده وإنما بطرد العرب والمسلمين والعودة بالسودان إلى زنجيته المزعومة.
ـ إذاً هل تعتقد أن مصر مهددة بفتنة طائفية بين المسلمين والأقباط ؟
ـ كلما تتبعنا حوادث الاقتتال الطائفي في مصر وجدنا أن ثمة ما لم يكن على مراد النصارى من نظام البلد كان البداية .. ثم تبدأ الوقائع المعروفة : قطعة أرض يختلف حولها مسلم ونصراني ، الأخير بإحساسه أنه مسنود من أمريكا مباشرة يفتري على المسلم ، فيثير ذلك حمية الأخر فيضربه وتتطور الأمور ، وسرعان ما تتدخل أمريكا وانجلترا لتحقق مرمى أكبر من مراميها … أتذكر يوم أن أرادت انجلترا احتلال مصر كيف افتعلت معركة بين مالطي ( من سكان مالطة ) وحّمار في الإسكندرية انتهت ولأسباب واهية بقتل المالطي ، فكانت ذريعة استند إليها الأسطول الإنجليزي لضرب الإسكندرية وكانت حجتهم حماية النصارى غير الآمنين ؟
مرة وفي عام 75 طُلب مني تقديم محاضرة بكلية أسيوط ، وأسيوط بالذات وكر نصراني مريع جداً فتكلمت عن المسيح عليه السلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم ، من خلال الأناجيل والتوراة … وكان للمحاضرة صدى واسعاً انتهى بإعلان 17 من الشبان أبناء الجامعة إسلامهم . فماذا حدث ؟ احتج الأنبا شنودة وأبرق تلغرافاً رأيته بعيني بحجم صفحة ( الفلوسكاب ) يندد بي ، ويعتبرني إنساناً مغرضاً أتاجر بالدين !
ـ ولمن كان التلغراف ؟
ـ لرئيس الجمهورية بالذات ، يحذره ويهدده بأن إبراهيم خليل سيسبب فتنة طائفية في مصر ! . ومن رئيس الجمهورية تدرج الموضوع إلى رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الأوقاف إلى وكيل أول وزارة الأوقاف الذي استدعاني وقال لي بالحرف : أنا مكلف بأن أبلغك أن تكف عن الدعوة.
ـ من يقول هذا الكلام ؟
ـ وكيل وزارة الأوقاف ! قلت له : أنا ما دخلت الإسلام حتى أنال قرشين كل شهر ولكنني دخلته حتى أشرب فأسقي . وقدمت استقالتي فوراً بين يديه … وبعد اتصالات أجراها بالهاتف وكأنما أثرت كلمتي بالوكيل قال لي : نأخذ عليك تعهداً إذاً أن لا تتعرض للأنبا شنودة في محاضراتك !
هذه هي الفتنة الطائفية التي يتحدثون عنها ويخوفون الناس بها ، في عام 63 طُلب مني أن أسجل حديثاً لإذاعة القرآن الكريم من مصر فتعرضت خلال الحديث لقوله تعالى : [ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم …] وبعد التسجيل أتت الأوامر من القيادة العليا بأن إبراهيم خليل لا يدخل الإذاعة ثانية ولا التلفزيون .. فهذه آيات تمس النصارى !.
(1/8)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تمهيد
قبل الكتابة في مثل هذا الموضوع لخدمة القضية الوطنية ، ولتحقيق سيادة القومية العربية - أرى لزاماً عليّ أن أكتب لمحات عن حياتي حتى يتبين للقارئ الكريم مدى صحة ما أقرر ومدى أهميته. فكلما كان التقرير من مسئول له كيان اجتماعي مرموق كان لتقريره الأثر الفعلي في نفس السامع ، وفي خدمة قضايا الوطن العربي الكبير. لهذا تراني مضطراً للكتابة على حياتي لتقديم هذا التقرير.
(1/9)
________________________________________
مقدمة
أولاً : لماذا أسلمت ؟
للإجابة على هذا السؤال في صراحة تامة أرى أن أسوق الحديث في هذه النقاط بالتتالي :
أ- نشأتي.
ب- تهذيبي.
ج- ممارستي للحياة العملية.
د- تخصيص حياتي للخدمة الدينية.
هـ- نقطة التحول "كيف اهتديت إلى الإسلام".
و- نقطة الفصل "اعتناقي الإسلام ديناً ودخولي إلى الإسلام مع أبنائي الأربعة في 25/12/1959م".
أ- نشأتي :
ولدت بمدينة الإسكندرية في 13/1/1919م. من أبوين حباهما الله بسطة من العيش ووهبهما من متاع الدنيا منزلين أحدهما برمل الإسكندرية وثانيهما بالبلد بقسم اللبان شارع المحافظة بالإسكندرية. كما حباهما الله بالتدين الفطري. وأغلب الظن أن عائلتي تمتد جذورها إلى أبناء الصعيد وعلى وجه التحديد إلى أبناء محافظة أسيوط. وقد درجت منذ نعومة أظافري في تلقي الدرس.
(1/11)
________________________________________
ب- تهذيبي :
تهذبت بالمدارس الخاصة التي كبدت والدي بالمصروفات الكثيرة ، واجتزت مرحلة الإبتدائي بتفوق. فمرحلة الثانوي ، حتى كانت الغارات النازية سنة 1940 التي دفعت بأهل الإسكندرية إلى الهجرة طلباً للنجاة من أهوال الحرب العالمية الثانية. وكنت من أبناء الحركة الكشفية ، ثم حركة الجوالة ، مما أتاح لي الفرص الطيبة للتعرف على مختلف البيئات والعقائد والأديان "الإسلام واليهودية والنصرانية" ، وتقاربت الأفكار بيننا تقارباً يوحيه إلينا مبدأ الكشافة الذي يقضي بأن كل الناس أخوة ، وأن رسالة الله على الأرض السلام ، وعلى الأخوة أن يتمتعوا بالسلام ويدعوا له. غير أن أهوال الحرب قد قهرتنا على أمرنا ، فهاجرت إلى أسيوط ، والتحقت بكلية أسيوط الأمريكية لاستئناف دراستي الثانوية حيث أتممت بتفوق مرحلة الثقافة فالتوجيهي ، وحصلت على دبلوم كلية أسيوط سنة 1942م وهو يعادل الشهادة التوجهية في حفل مهيب يعقد لهذا الغرض ، ويطلق عليه حفل تسليم الدبلومات للخريجين.
وفي كلية أسيوط استطعت استغلال الوقت كله في الإطلاع والبحث العلمي في مكتبة الكلية الزاخرة بمختلف أنواع الكتب الإنكليزية والعربية وأحدث المؤلفات وأقومها.
ج- ممارستي للحياة العملية :
لقد أصبح المرسلون من يوم أن نزلت بكليتهم بأسيوط بمثابة أولياء الأمر. وسرعان ما أتاحوا لي فرصة لخدمة الجيش الأمريكي بمصر من سنة 1942 إلى 1945م في سلاح الصيانة. حيث عملت
(1/12)
________________________________________
بالمعامل الكيميائية لتحليل المعادن بمخيم هاكستيب (مطار القاهرة الحالي) ، وكان للدماء والرمال ولأهوال الحرب أثر في نفسي دفعني إلى الدعوة الصادقة للسلام. ووجدت أن الطريق إلى السلام في السلك الديني ، ووظفت كل كياني بما أوتيت من طاقات ومن مال للمسيح وللكنيسة ، فتقدمت عن طريق مجمع مشيخة الوجه البحري للإلتحاق بكلية اللاهوت الإنجيلية وتم قبولي بالكلية سنة 1945م وظللت حتى تخرجت منها سنة 1948 حاصلاً على دبلوم الكلية وهو يعادل ليسانس "كلية دار العلوم جامعة القاهرة".
ومما هو جدير بالذكر وما ينبغي أن يعلمه كل مسلم عن هذه الكلية - التي لا تخضع لإشراف وزارة التربية والتعليم ، ولا وزارة التعليم العالي ، بل تخضع في برامجها إلى إشراف جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية - أن نسبة عدد الأساتذة الأمريكيين إلى عدد الأساتذة الوطنيين تعادل 2 : 1 وعددهم جميعا 11 أستاذاً مع أن عدد الطلبة لا يتجاوز الستة عشر طالباً في جميع المراحل بالكلية. ومدة الدراسة النظرية ثلاث سنوات متتالية. ومدة الدراسة العملية سنة مجزأة على فترتين - الفترة الأولى في الأجازة الصيفية بين السنة الأولى والثانية حيث يوفد الطالب إلى إحدى الكنائس للوعظ والتعليم فيها. والفترة الثانية في الأجازة الصيفية بين السنة الثانية والثالثة حيث يوفد الطالب لنفس المهمة.
ويقوم المجمع الذي تتبعه الكنيسة بالإشراف العملي على تدريب الطالب في حقل الخدمة.
ومن قواعد الإلتحاق بهذه الكلية أن يكون الطالب منتظماً إنتظاماً داخلياً ، ولعل في هذا حكمة يقصد منها مراقبة الطالب للتعرف على أخلاقه حتى إذا ما تبين لهم استقامته وغيرته على الكنيسة
(1/13)
________________________________________
اطمأنوا إلى تأهيله للتخرج ، ولهذا كان من المميزات لمنح دبلوم كلية اللاهوت شهادة إدارة الكلية عن الطالب بالأخلاق الفاضلة التي تؤهله لأن يؤتمن على أسرار شعب الكنيسة.
أما مواد الدراسة التي يدرسها الطالب دراسة جامعية تتوقف على مقدار استعداده للبحث والتقصي - فهي كالآتي :
1- اللغة الإنكليزية : (الأدب الإنكليزي ، القواعد ، القراءات في أمهات الكتب).
2- اللغة العربية : (القرآن الكريم ، الأحاديث النبوية ، الآراء المذهبية في الإسلام ، العقيدة الإسلامية ، الردود على الإسلام بدراسة كتب المستشرقين).
3- اللغة اليونانية : (لدراسة الأناجيل ، ومدة دراستها ثلاث سنوات متتالية).
4- اللغة العبرية : (لدراسة التوارة ، ومدرة دراستها ثلاث سنوات متتالية).
5- مقارنة الأديان.
6- مقدمات الكتاب المقدس : (دراسة مستفيضة عن أسفار الكتاب المقدس وحوادث تنزيلها).
7- تفسير الكتاب المقدس.
8- تاريخ الكنيسة (وهي دراسة للعالم المعروف وقتئذ من القرن الأول الميلادي إلى القرن الخامس عشر).
(1/14)
________________________________________
9- التاريخ القديم : (وهي دراسة مستفيضة للعصور المعاصرة لأنبياء العهد القديم).
10- علم الوعظ : (إن علم الوعظ فن من الفنون).
11- علة الرعوية : (إن علم الرعاية فن آخر من الفنون).
12- علم المنطق.
13- علم النفس.
14- علم الخطابة.
15- الفلسفة : (وتتضمن الجوانب الإلهية للتفكير الإنساني منذ فجر التاريخ إلى بزوغ المسيحية).
16- سياسة الكنيسة : (وهي دراسة فقهية عن الشريعة والعلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض ومع المجتمع).
هذه هي الدراسات التي يبدأ الطالب بها حياته ليكون قسيساًَ وراعياً للكنيسة ، وهي بداية لدراسات على مستوى أعلى حتى يستطيع أن ينعم بدرجة قسيس وراع. ويقوم بالإشراف عليه في هذه المرحلة المجمع الذي يتبعه فإذا ما حاز الطالب تزكية شعب الكنيسة بأهليته ليكون قساً وراعياً لهم يعهد إليه المجمع ببحث ديني يحدد له موعد لمناقشته أثناء إنعقاد المجمع ، فإذا ما نجح بتفوق قام المجمع بعمل مراسيم رسامته قسيساً وراعياً للكنيسة التي بايعته على الرعية. وهذه الدرجة تعادل درجة الماجستير ، وقد تمت لي شخصياً تلك الرسامة ، ونصبت راعياً وقسيساً للكنيسة الإنجيلية بباقور محافظة أسيوط سنة 1952م في حفل رائع تحدثت عنه كل الصحف الدينية وقتئذ.
(1/15)
________________________________________
د- تخصيص حياتي للخدمة الدينية :
ذاع نشاطي بين المرسلين الأمريكيين ولا سيما في العمل التبشيري بين المسلمين ، وكنت أعتمد في هذا المضمار على النفوذ الإنكليزي بالبلاد وقتئذ من سنة 1945 - 1955م - حتى انتدبني سنودس النيل الإنجيلي للتدريس بكلية اللاهوت بأسيوط لكنيسة نهضة القداسة التابعة للإرسالية الإنكليزية الكندية. ثم تهافتت عليّ الإرسالسة الألمانية السويسرية بأسوان للعمل كسكرتير عام للإرسالية ، وثم إنتدابي في سنة 1954 ، وهناك قمت بعمل تبشيري سافر في المنطقة من "الدكا" بأراضي النوبة إلى "أدفو" جنوباً. وكان معقل نشاطي مستشفى الجرمانية حيث يتوافد عدد من المسلمين والمسلمات للاستشفاء والعلاج ، وعند الحديث عن العمل التبشيري سأوضح أسرار هذا العمل الخطير في مثل هذه الدور ، كما كانت لي ندوات تبشيرية مع رجالات مسلمي أسوان ، يشهدها عدد من أقباط أسوان ، وفي كل جولة كنت أزداد تقديراً بين بني قومي ، حتى أنهم كانوا يعتزون بمقدمي في مدينتهم أسوان.
واستطعت أن أقوم بنهذات دينية رائعة دعوت لها كبار الشخصيات المرموقة والعالمية.
هـ - نقطة التحول (كيف اهتديت للإسلام) ؟
من العجب العجاب أنني في نشوة إنتصاراتي بالعمل التبشيري ، وفي فترة إعداد نفسي لنيل درجة "دكتوراه في الفسلفة واللاهوت من جامعة برنستون بأمريكا" وفي استعداي وإعدادي للرسالة
(1/16)
________________________________________
التي أسميتها "سيف جليات" أردت الهجوم على الإسلام بمهاجمة القرآن الكريم. ويشاء الله أن يقهرني بالقرآن الكريم ، ليسمعني صوته بقوله تعالى : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.
كان لهذه الآية وقع على نفسي. إذ جعلتني افكر تفكيراً حراً نزيهاً ، وأحسست بأن الله الذي علمني ما لم أعلم يستطيع أن يجردني من العلم والمعرفة ، ويتركني للذل والهوان ، لكن إرادته لهاديتي جعلته يفيض عليّ من أنوار هذه الآية ، مما أيقظ ذهني وقلبي ووجهي إلى إرادته ومشيئته.
والحق أن ما قرره القرآن الكريم هو الصدق اليقيني : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} ، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}.
الحمد لله الذي هداني لهذا ، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله.
وبرزت أمامي نقاط رئيسية : منها الوحدانية والغفران كما تقررها المسيحية والإسلام ، والفضل لأهله يرد ، فإن القرآن
(1/17)
________________________________________
الكريم قد بسط عقيدة الوحدانية تبسيطاً يفهمه العالم والأمي ، وهذا لا ريب من سنن الله في عدالته ، إن الله ليس كالبشر يأخذ الناس بجرائرهم جرياً على القول المأثور في القوانين الوضعية "إن الجهل بالقانون لا يعفي صاحبه من التعرض للعقوبة أو مسئولية قيامه بأي عمل مخالف للقانون" ، لا ، بل الله بعدله يبين القوانين ليتفهمها الإنسان ، وبمقدار إدراك الإنسان وعلمه تكون مسئوليته أمام الله.
وفي هذا يفخر المسلم بعقيدة الوحدانية السليمة التي تتلخص في قوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. هذه هي الوحدانية في الذات والصفات والأفعال ، ومعناها أن ذاته ليست مركبة ، وليس لغيره ذات تشبه ذاته ، وأنه ليس له صفتان من جنس واحد كقدرتين وعلمين ، وليس لغيره صفة كصفته ، وأن الأفعال كلها خيرها وشرها ، اختيارها واضطرارها مخلوقة لله وحده بلا شريك ولا معين. والآيات القرآنية التي تدل على وحدانية الله كثيرة في مختلف السور منها : (فاطر 5 ، البقرة 163 ، الأنبياء 22 ، الصافات 96). وغيرها كثير.
أما الوحدانية في المسيحية - كما تمخض عنها مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي - فتعتمد على ما جاء في إنجيل متى الباب الثامن والعشرين والعدد التاسع عشر : (فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس). والمدقق في النصوص الكتابية يرى إضافة هي (إله واحد آمين) ويشار إليها في الحاشية بأن هذه الإضافة لم توجد أصلاً في النسخ الأصلية القديمة ، بل وجدت في الترجمات. ويجمل بنا أن نستطلع رأي
(1/18)
________________________________________
رجال اللاهوت في هذا الصدد ، فقد كتب الإيغومانس ميخائيل مينا ناظر المدرسة اللاهوتية (الأنبا يؤنس) بحلوان في كتابه علم اللاهوت في الجزء الأول في صفحة 238 ما نصه : (أن الأقنوم كلمة سريانية الأصل ، تشير في مسماها إلى كائن حي قدير مستقل بذاته ، ينسب أفعاله إلى نفسه) ، وفي صفحة 231 - 233 قال : (إننا نجد أن كل أقنوم من هؤلاء الأقانيم الثلاثة يخاطب الآخر أو يتكلم ، ففي أثناء معمودية المسيح عليه السلام قيل : أن الأقنوم الأول أشار إلى الأقنوم الثاني قائلاً : "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت - متى 3 : 16" وفي إقامة المسيح عليه السلام للعارز من الأموات قيل : إن الأقنوم الثاني خاطب الأقنوم الأول بقوله : "أشكرك أيها الآب ، لأنك سمعت لي - يوحنا 11 : 41" ، وعندما أراد المسيح أن يتنبأ بصعوده إلى السماء قيل : إن الأقنوم الثاني تنبأ عن الأقنوم الثالث بقوله : (ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم - يوحنا 16 : 14) ، وقال جنابه أن المسلم به أن أسماء وصفات الشخص الواحد المختلفة لا يمكنها أن تتخاطب معاً أو تتكلم عن بعضها بأمور صريحة تسمعها الآذان وتدركها الأفهام.
ولقد كان الإختلاف في مفهوم الوحدانية مثار الجدل المريد منذ فجر المسيحية ، وكلما ظهر بين الآباء من يناشد الحق ويسير في الطريق المستقيم هبت الكنيسة لتقاوم وتدفع العقيدة إلى البطلان والشرك ، فلقد ظهر آريوس ، وأراد أن يضع أسساً سليمة للوحدانية ، ونادى بانسانية المسيح ، وأنه لا يمكن أن يعادل الله أو يشبهه موجهاً لخصومه ما جاء في التوارة من القول عن الله :
(1/19)
________________________________________
(أنا الله وليس أخر الآله وليس مثلي "أشعياء 46 : 9") ، وإقرار آخر (أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري. إله بار ومخلص وليس سواي. التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض ، لأنني أنا الله وليس آخر "أشعياء 45 : 21 ، 22"). وإقرار آخر (بمن تشبهونني وتسوونني وتمثلونني لنتشابه "أشعياء 46 : 5").
ومع وجود مثل هذه الآراء الحرة لم يكن من السهل اعتناقها ، بل كان الويل والاضطهاد لكل من ينتمي إليها ، وأني لأضرع إلى الله أن يهديهم إلى الطريق السوي وإلى الصراط المستقيم.
ويطول بي الحديث إذا تحدثت عن نظرية الغفران والفداء في المسيحية. ويكفي الإسلام فخراً أن مغفرة الله للإنسان لا تتوقف على وسيلة من الوسائل مهما عظمت أو قلت ، وإنما تتوقف رحمته ومغفرته على توبة الإنسان توبة صادقة ، مع إيمانه بالله الواحد الأحد وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويؤيد هذا قوله تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
والإسلام يؤكد في قوة وصراحة أن الغفران منحة يمنحها الله وحده لعباده التائبين ، والله يأبى أن يكون له شريك أو شبيه ، لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فليس لغيره أن يغفر ذنوب البشر.
وكان علي أخذ طريقي إلى القرآن الكريم بعين بصيرة وبقلب خاشع لله ، وكان علي أن أقارن بين سمو ما ورد في القرآن الكريم وبين ما جاء في التوراة والإنجيل ، وبهذه الدراسة أيقنت أن الله
(1/20)
________________________________________
سبحانه وتعالى قد "أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا".
و- اعتناقي للإسلام ، واعتزازي بالانتساب إليه.
لقد أراد الله لي خيراً ، فهداني إلى الإسلام بينما أنا في جهالتي وحماقتي أردت للإسلام تقويضا وللمسلمين أن يدخلوا في رحاب النصرانية ، فعفا الله عما سلف. وأمام رضوان الله جل وعلا رأيت ضرورة حسم الموقف بخطوة إيجابية ، وهي اعتزال الخدمة الدينية ، واعتزال الأهل والعشيرة والأصدقاء الذين ربط الزمن مصيري بمصيرهم ، وكنت أسير معهم على فلك واحد ، فتقدمت إلى المسئولين بالإرسالية الألمانية السويسرية ، وأعربت لهم عن اعتزالي للخدمة الدينية ، فاستنكروا على هذا القرار ، وأرادوا أن يمنحوني أجازة طويلة المدى لتدارك الموقف ، فأصررت على موقفي ، وكانت النتيجة الحتمية لهذا أن التحقت بشركة ستاندرد ستيشنيري 30 شارع عبد الخالق ثروت بالقاهرة في يوليو سنة 1955 م للعمل بوظيفة مساعد مدير مبيعات.
والواقع أن تصميمي على هذا الموقف كان نتيجة لما تذوقته من صفاء العقيدة الإسلامية ، وما تحققته من جهاد الرسول الكريم والصحابة رضوان الله عليهم في نشر دعوة الإسلام في إيمان صادق مع إلتزام الأمر الرباني : (لا إكراه في الدين). وهل يستطيع المرء أن يهاجم الإسلام بعد أن تبين له الرشد من الغنى. الحق أقول : إن القرآن قد غلبني على أمري ، وغلبت إرادة الله إرادتي ، وكان القرار بترك الخدمة الدينية قراراً حاسماً للموقف.
(1/21)
________________________________________
توظفت بشركة ستاندرد ستيشنيري بوظيفة مساعد مدير مبيعات حيث مارست تجارة الآلات الكاتبة ، والآلات الحاسبة ، وآلات تصوير المستندات ، وآلات النسخ بالاستنسل ، ولحكمة أرادها الله من التحاقي بهذه الشركة اكتسبت خبرة واسعة النطاق في أدق العمليات للمكتب الحديث وتنظيمه. وقد أنست في نفسي مقدرة على التجارة ، وأردت أن أكون مسلماً إسلاماً لا يرتبط بلقمة العيش ، فأنشأت لنفسي مكتباً تجارياً لتجارة الأدوات الكتابية والمكتبية تحت سجل تجاري رقم 101662 ، وجهزته بتليفون رقم 59226 ، وباشرت عملي التجاري الحر من مارس 1958 بعد أن قدمت استقالتي من شركة ستاندرد ستيشنيري ، وصرفت مكافأتي وتربو على المائتين من الجنيهات.
وفي هذا كله لم يطرأ على تغيير علني ، بل كنت في اعتناقي للإسلام مثل (الدكتور نظمي لوقا) حبيب الإسلام ، وصديق المسلمين ، الأمر الذي لم أقتنع به إطلاقا ، وإلا فأين الجهاد في سبيل الله ورسوله. وبهذه الرغبة شاء الله جل شأنه أن يقودني إلى الإسلام قيادة حكيم منتصر. فأرسل إلي السيد الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم الجمال المدير العام بمصلحة الضرائب بوزارة الخزانة في شتاء سنة 1957 م. جاءني أو بالحري جاء إلى شركة ستاندرد ستيشنيري لتقوم له الشركة بطباعة الجزء الثلاثين من القرآن الكريم مفسرا باللغة الإنكليزية ، وكان لي شرف التكليف بتنفيذ الطباعة ، وكانت دراسة من رجل من رجال الإسلام العلمانيين قد وضحت المفاهيم وقوت الإرادة لحسم الموقف ، وكان القرار الذي اتخذته للدخول إلى دين الله مسلماً.
(1/22)
________________________________________
وقبل المضي في تنفيذ هذا القرار سبقته بقرار أول ، وهو الاستقلال بالعمل التجاري بإنشاء (مكتب فيلبس للأدوات الكتابية والمكتبية) كما سبقت الإشارة إليه آنفاً ، وكانت لي أرباح عمولة شهرية تربو على الستين جنيهاً ، وكان تعاملي مع البيوتات التجارية الكبرى ، أمثال شركة الكاتب المصري ، وشركة ستاندرد ستيشنري ، وشركة ناشيونال لآلات تسجيل النقد ، وشركة أوليفتى ، وشركة بوروز لآلات التسجيل. وانتهيت إلى هذا القرار.
القرار الذي اتخذته لإشهار إسلامي
تدارست الأمور كلها من كل جوانبها : من الناحية الزوجية ، ومن ناحية أبنائي ، ومن ناحية العمل الذي هو مصدر رزقي ، ووجدت أنه لابد من مواجهة الحقائق دون تردد.
وفي 25 ديسمبر سنة 1959 أرسلت خطابين :
1- خطاباً إلى السيد الدكتور جون طمسون رئيسى أعرب له عن رغبتي في إعتناق الإسلام ديناً.
2- خطاباً إلى محافظة القاهرة لإشهار إسلامي.
وقد كان للخطاب الأول آثار عكسية.
الأثر الأول تكتل أرباب البيوتات التجارية الكبيرة عن التعامل معي ، ووجدت نفسي في عزلة عن النشاط التجاري ، وبالتالي كان لهذا الموقف تأثير قوي علي (رغيف العيش) ، وتغلبت على هذه المشكلة بالاستعانة بما أدخرته من مال ، حتى يتبلور الموقف نهائياً ، وبدأت أستعين برأس المال الموظف في التجارة في تدبير معاشي ومعاش أبنائي.
(1/23)
________________________________________
الأثر الثاني هجر زوجتي أياي ، وتركها الأبناء ، وقد تغلبت على هذه المحنة بالإيمان والصبر.
أما الخطاب الثاني فكان من آثاره تحديد جلسة للمناقشة والمواجهة من قساوسة جاءوا فزعين إلى منزلي مساء يوم ثلاثاء من يناير سنة 1960 ، وكان من الواجب أن يخطرني بذلك قسم الوايلي الذي يتبعه محل إقامتي ، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث. وما أن علمت بموعد الجلسة حتى تهيأت لها ، وما أن جاء شهر فبراير حتى آحيلت الأوراق إلى الشهر العقاري للتسجيل. ولما أيقنت الزوجة أن الأمر صار مقضياً به استأذنت في ترك المنزل ، وأذنت لها وأنا عالم بطرق التبشير المرير لإصرار زوجتي على موقفها كمسيحية ، وعلى سبيل المثال : إن المرسلين من الخطورة بمكان لا يبارى ، وها هي سمومهم : "فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السموات ، ولكن من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السموات" (إنجيل متى 10 : 32 ، 33).
بل زادوا إمعاناً في عزلي عن زوجتي وأهلي بسمومهم بقولهم : "من ليس معي فهو عليّ ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق ، لذلك أقول لكم كل خطيئة وتجديف يغفر للناس ، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له ، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له ، لا في هذا العالم ولا الآتي" (إنجيل متى 12 : 30 - 32).
ومن هو الروح القدس حتى يكون بهذا المقام ؟ فيقول الأقنوم الثاني عنه : "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله من الآب روح الحق الذي هو عند الآب فهو يشهد لي" (إنجيل يوحنا 15 - 26).
(1/24)
________________________________________
وبهذه السموم أوغروا قلوب الأهل والأصدقاء بكراهية بلغت حداً مريراً من العداوة ، وانتزعوا مني زوجتي الآمنة المطمئنة ، وأحالوا أهلي وعشيرتي إلى خصوم أشداء ، وهكذا واجهت هذه المتاعب في صبر وإيمان - وشققت طريقي إلى تنفيذ الإجراءات الرسمية حتى تم كل شيء على خير ما يرام ففي 30/5/1960 صدر القرار الوزاري كاملاً من وزارة الصحة العمومية قسم المواليد بتغيير الاسم والديانة إلى مسلم لي ولأبنائي الأربعة ، والحمد لله على هذه الهداية الطيبة.
وترامت المعلومات إلى السيد الأستاذ أحمد عبد الله طعيمة وزير الأوقاف الأسبق عن إيماني بالله وبرسوله الكريم ، فاستدعاني إلى مكتبه في مارس 1960 ، وفي فبراير 1961 عهد إلى السيد الأستاذ محمد توفيق عويضه باستدعائي إلى مكتبه 76 شارع الجمهورية ، وعلى أثر هذه المقابلة الطيبة تمت مقابلة ثانية تم فيها تعييني بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوظيفة خبير في الشئون الدينية ، وفي 10/2/1962 صدر قرار تنفيذي رقم 176 بالتعيين اعتباراً من 13/2/1961 ، ولازلت المجلهد الأمين لله ولرسوله الكريم ، والداعي إلى الإسلام الحنيف ، لا سيما بين أهل الكتاب. جعلني الله موضع ثقة المسئولين وتقديرهم.
وهنا ظهرت حكمة الله في هذا الإختيار ، وأعتقد يقيناً أن الله أراد أن يجعلني في خدمته وفق طريقه المستقيم.
وأنا اليوم إذ أضع هذا التقرير بين يديكم لا أبتغي إلا خدمة الإسلام والوطن العربي الكبير ، وقد توخيت فيه الصدق معتمداً على البرهان المادي الملموس ، عملاً بما يوحيه الضمير المسلم الخالص من غير حقد أو تحامل.
(1/25)
________________________________________
وإن ميزة هذا التقرير أنه من واقع الحياة التي عشتها في العهد السابق ، وبه يتبين أن التبشير والاستشراق يقويان بمقدار تخلف الشعوب ، وبمقدار سيطرة المستعمر على البلاد ، وأنهما وسيلة من وسائل تمكين الاستعمار من الرسوخ بأقدامه في البلاد ، وأنهما وسيلة للتفرقة العنصرية ، وأنهما وسيلة لتوهين العروبة وإضعاف اللغة العربية في ربوع العالم العربي ، ولهذا كان من الضروري إعداد ما استطعنا من قوة ومن فكر ومن إيمان خالص لوقف تيارات التبشير في العالم العربي عملاً بقوله تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
(1/26)
________________________________________
رسم تخطيطي
(1/27)
________________________________________
رسم تخطيطي
(1/28)
________________________________________
الجهاز الكنيسي البروتستانتى لسنة 1960
1- المحفل العام
يدير الكنائس في كافة أنحاء العالم وفي كافة أوجه نشاطها الإداري والتهذيبي والسياسي والإجتماعي ، كما يشرف على أعمال البورد الأمريكي الإدارية والمالية.
2- السياسة الاستعمارية
توجه المحفل العام إلى مقتضى مراعاة تمكين النفوذ الاستعماري في البلاد الآسيوية والأفريقية تمكيناً سياسياً وإقتصادياً يجعل تلك الشعوب تؤمن إيماناً راسخاً أن لا حياة لها ولا وجود لها إلا بمساندة الدول الاستعمارية (إنجلترا وأمريكا)
3- إتحاد الكنائس
حلقة الإتصال بين السياسة الاستعمارية الدولية بين أمريكا وإنجلترا ، والمحفل العام الأمريكي والمحفل العام الإنجليزي لتنسيق العمل التبشيري والعلمي بما يتفق والنفوذ الاستعماري.
4- البورد
الهيئة التي توجه المرسلين والمرسلات إلى مختلف الإرساليات
(1/29)
________________________________________
في آسيا وأفريقية ، وتقوم بتمويل هذه الإرساليات وتقييمها للمستشرقين والمبشرين بدرجة قناصل وسفراء.
5- الإرسالية الأمريكية
الإرسالية الأمريكية بوادي النيل - هي الهيئة المهيمنة على سياسة الكنيسة البروتستانتية بوادي النيل (بالجمهورية العربية المتحدة وجمهورية السودان) تنسيقاً للسياسة العليا للمحفل العام الأمريكي ، ويدخل في نطاقها الإشراف على المؤتمر العام والسنودس.
6- السنودس
لكل دولة من الدول الآسيوية والأفريقية سنودس ، ولوادي النيل سنودس يطلق عليه سنودس النيل وهو الهيئة المهيمنة على عموم الكنائس بوادي النيل وعلى الإرسالية العربية ، وأعضاؤه هم قساوسة كنائس وادي النيل يعاونهم المرسلون بوادي النيل ، ويلتئم مرة في كل سنة في أحد هذه المدن بالتتالي (القاهرة - المنيا - أسيوط) في شهر مارس من كل سنة.
7- المؤتمر العام
هو الهيئة العليا للسنودسات في دول آسيا وأفريقيا ويمثله أعضاء اللجان التنفيذية للسنودسات يعاونهم المرسلون الأمريكيون ، ومنتدبون من المحفل العام بأمريكا ، ويجتمع في قطر من الأقطار.
8- المجمع
يتكون من قساوسة وشيوخ كنائس اقليم من الأقاليم ، ولهذا كان تقسيم وادي النيل إلى ثمانية وحدات كل وحدة تسمى مجمع ،
(1/30)
________________________________________
كل مجمع يتكون من قساوسة الكنائس في البلاد ، واختصاصاته النظر في شئون الكنيسة الوطنية والإشراف عليها وحصر الأعضاء والعائلات التي تتكون منها هذه الكنائس في سجلات والنظر في كافة شئونها المالية.
9- المجمع الأمريكي
هو الهيئة الأمريكية من جميع المرسلين والمرسلات في وادي النيل ويلتئم في فبراير في أسيوط.
10- الإرسالية الأمريكية بشوتس بالإسكندرية
هو نفس الهيئة المكونة للمجمع الأمريكي - ويلتئم في صيف كل سنة بالإسكندرية وأعماله إمتداد لأعمال المجمع الأمريكي في أسيوط وهذه الإجتماعات مقفلة ، ولا يسوغ لقسيس وطني أن يحضر هذه الإجتماعات ومهمته تنفيذ تعليمات المحفل العام بدقة في الكنيسة الوطنية.
11- مجتمع الخدام
هو الهيئة الجزئية للمجمع تضم قساوسة مدينة بمفردها كمدينة القاهرة أو المنيا أو أسيوط أو الإسكندرية ، ومكان الإلتئام منزل قسيس من القساوسة بالتبادل وأعماله تمهيد لأعمال المجمع.
12- مجلس الكنيسة
هو الهيئة التي تشرف على الكنيسة يرأسه راعي الكنيسة ، وأعضاؤه شيوخ وشمامسة الكنيسة ، وعمله الإشراف الروحي والمادي على أعضاء الكنيسة وعائلاتهم.
(1/31)
________________________________________
المجمع الأمريكي اختصاصاته ، والمؤسسات التي يديرها :
1- الكنيسة الوطنية من حيث التوجيه.
2- الجمعيات التبشرية من حيث التنفيذ.
3- جمعية الكتاب المقدس من حيث إذاعة الإنجيل.
4- مشروع لوباخ من حيث محو الأمية.
5- جمعية الشبان المسيحية من حيث تكوين جيل عصري.
6- جمعية الشابات المسيحية للغرض السابق.
7- المدارس :
1- كلية التجارة بالعطارين بالإسكندرية.
2- مدارس الأمريكان بالقاهرة.
3- مدارس الأسقفية الإنكليزية بسراي القبة.
4- الجامعة الأمريكية.
5- كلية البنات الأمريكية بشارع رمسيس.
6- مدرسة الأزبكية للبنات بالقاهرة.
7- كلية أسيوط الأمريكية بأسيوط.
8- كلية البنات الأمريكية بأسيوط.
9- كلية البنات الأمريكية بالأقصر.
(1/32)
________________________________________
8- المستشفيات :
1- مستشفى منوف بالمنوفية.
2- مستضفى طنطا الأمريكي بطنطا.
3- مستشفى هرمل الإنكليزي بالقاهرة.
4- مستشفى أسيوط الأمريكي بأسيوط.
5- مستشفى الجرمانية بأسوان.
9- الملاجئ :
1- ملجأ ليليان تراشر بأسيوط.
2- الملجأ الإنجيلي بحلوان الحمامات.
10- مدارس الاحد ذات نظام توجيهي.
(1/33)
________________________________________
المجمع العربي
مجمع الوجه البحري
1- القاهرة ............... 15 كنيسة
2- الإسكندرية .......... 3 كنيسة
3- بورسعيد ............. 3 كنيسة
4- الإسماعيلية ........... 1 كنيسة
5- السويس ............. 2 كنيسة
6- كفر الدوار ......... 2 كنيسة
7- دمنهور ............ 2 كنيسة
8- طنطا .............. 3 كنيسة
9- كفر الزيات ....... 1 كنيسة
10- المحلة الكبرى .... 2كنيسة
11- المنصورة ........ 2 كنيسة
12- السنبلاوين ..... 1 كنيسة
13- الزقازيق ....... 1 كنيسة
14- بلبيس ......... 1 كنيسة
15- ميت غمر ..... 1 كنيسة
16- بنها ........... 1 كنيسة
17- منوف ......... 1 كنيسة
18- قليوب ........ 1 كنيسة
19- منيا القمح .... 1 كنيسة
20- القناطر الخيرية ... 1 كنيسة
21- شبين الكوم ...... 1كنيسة
46
(1/34)
________________________________________
رسم تخطيطي
(1/35)
________________________________________
رسم تخطيطي
(1/36)
________________________________________
في الرسم البياني بالصفحة رقم 27 ، 28 وضحت ما استطعت من عملية الحصر الدقيق للجهاز الكنسي حيث يتبين بجلاء أن سياسة التوجيه العليا هي لإتحاد الكنائس.
وينتهي التدرج الهرمي إلى القاعدة التي تمثل الكنيسة ، والكنيسة هي الوحدة الأولى التي يقوم عليها هذا البناء البرلماني الكبير.
وما يجب توضيحه أكثر أن القسيس راعي الكنيسة يمثل شعب الكنيسة أمام المجمع ، فأمام السنودس ، وله حق إبداء الآراء ، وحق تقديم الإقتراحات التي تتحول إلى قرارات ، ولذلك يشكل مركز القسيس الراعي من حيث هذا التمثيل - شخصية كاملة المعالم ، هي موضع ثقة شعب كنيسته وتقديرهم.
وقبل الاستطراد في إعطاء البيانات الدقيقة عن الرسمين بالصفحتين 27 ، 28 - أرى لزاماً علي أن أشير إلى العمل التبشيري.
فالاستشراق والتبشير صنوان لا يختلفان في الهدف وفي الصف ، ومن أقوال زعماء المبشرين والمستشرقين عن أهداف التبشير قول لورانس براون : "إذا اتحد المسلمون في أمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا ، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضاً ، أما إذا ظلوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير".
(1/37)
________________________________________
ويفصح القس كالهون سيمون عن رغبة التبشير في تفريق المسلمين التي عبر عنها براون فيما قبل بقوله : "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السود ، وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية ، ولذلك كان التبشير عاملاً مهماً في كسر شوكة هذه الحركات. ذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الأوروبيين في نور جديد جذاب ، وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصر القوة والتمركز فيها".
فوحدة المسلمين إذن في نظر التبشير يجب أن تفتت وأن توهن ، ويجب أن يكون هدف التبشير هو التفرقة في توجيه المسلمين وإتجاهاتهم.
وهناك بجانب تفتيت وحدة المسلمين - كهدف للمبشرين - هدف آخر هو درء خطر وحدتهم وإمتداد سلطانهم باستعمار الشعوب الأوروبية واستغلالها واستنزافها ثرواتها ، وفي هذا المعنى يقول لورانس براون أيضاً : "الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قوته على التوسع والإخضاع وفي حيويته ، إنه جدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي".
ويرى المستشرق الألماني بيكر : "أن هناك عداء من النصرانية للإسلام بسبب أن الإسلام عندما أنتشر في العصور الوسطى أقام سداً منيعاً في وجه الاستعمار وإنتشار النصرانية ، ثم أمتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها".
(1/38)
________________________________________
فهدف التبشير والاستشراق إذن هو تمكين الأوروبي المسيحي من البلاد الإسلامية كما يبدو واضحاً من أقوال زعماء التبشير والاستشراق وكما لمسته في حياتي الأولى. ومن هذا يضع التبشير والاستشراق النقط فوق الحروف ، ويتضح أن التبشير والاستشراق مقدمة أساسية للاستعمار الأوروبي ، كما أنه سبب مباشر لتوهين قوة المسلمين : "ولقد كانت الدول الأجنبية تبسط حمايتها على مبشريها في بلاد الشرق ، لأنها تعدهم حملة لتجارتها وآرائها ولثقافتها في تلك البلاد. بل لقد كان ثمت ما هو أعظم من هذا عندها : لقد كان المبشرين يعملون بطرق مختلفة - كالتعليم مثلاً - على تهيئة شخصيات شرقية لا تقاوم التسلط الأجنبي".
والأمثلة في هذا واضحة كل الوضوح ، ففي ميدان السياسة بعض من زعماء الوفد المصري ، وفي ميدان الأدب أحد عمداء كلية الآداب بجامعة القاهرة ، وعفا الله عما سلف.
ويشرفني أن أنتهي إلى ما قرره السيد الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف السابق في مقدمة كتابه (المبشرون والمستشرقون ص 1 و2) بقوله : "وإذا كان من دواعي الحكم الوطني في مصر الحديثة الثائرة عزل عملاء السياسة وإبعادهم عن مجال الحياة السياسية - فإن من صالح قيادة الأمة ، كشعب موحد الإتجاه قوي في أحاسيسه المشتركة ، أن ينحي عملاء التبشير والاستشراق عن جوانب التوجيه العام. سواء في التثقيف أو النشر أو الصحافة أو الإذاعة.
إن عملاء التبشير والاستشراق - وهم عملاء الاستعمار في مصر
(1/39)
________________________________________
والشرق الإسلامي - هم الذين دربتهم الدعوة - دعوة التبشير - على إنكار المقومات التاريخية والثقافية الروحية في ماضي هذه الأمة ، وعلى التنديد والاستخفاف بها. وهم الذين وجههم كتاب الاستشراق إلى أن يصوغوا هذا الإنكار والتنديد والاستخفاف في صورة البحث ، وعلى أساس من أسلوب الجدل والنقاش في الكتابة أو الإلقاء عن طريق المحاضرة أو الإذاعة.
إن التبشير والاستشراق كلاهما دعامة الاستعمار في مصر والشرق الإسلامي. كلاهما دعوة إلى توهين القيم الإسلامية ، والغض من اللغة العربية الفصحى ، وتقطيع أواصر القربى بين الشعوب الإسلامية ، والتنديد بحال الشعوب الإسلامية الحاضر ، والإزدراء بها في المجالات الدولية العالمية.
والتبشير والاستشراق في ذلك سواء ، والفرق بينهما هو أن الاستشراق أخذ صورة البحث ، وأدعى لبحثه الطابع العلمي الأكاديمي ، بينما بقيت دعوة التبشير في حدود مظاهر العقلية العامة ، وهي العقلية الشعبية.
استخدم الاستشراق الكتاب والمقال في المجالات العلمية ، وكرسى التدريس في الجامعة ، والمناقشة في المؤتمرات العلمية العامة.
أما التبشير فقد سلك طريق التعليم المدرسي في دور الحضانة ورياض الأطفال والمراحل الإبتدائية والثانوية للبنين والبنات على السواء ، كما سلك سبيل العمل الخيري الظاهري في المستشفيات ودور الضيافة والملاجئ للكبار ، ودور اليتامى. ولم يقصر التبشير
(1/40)
________________________________________
في استخدام النشر ، والطباعة ، وعمل الصحافة - في الوصول إلى غايته.
إن البلاد العربية والإسلامية في يقظتها الحالية تتعثر في خطاها نحو التماسك الداخلي بسبب الرواسب التي تخلفت عن التنبشير والاستشراق ، وبسبب آخر له وزنه وأثره في هذا التعثر ، وهو ضعف المواجهة التي يلقاها في البلاد الإسلامية ، هذان هما العاملان القويان في تركيز الاستعمار وبعثرة القوى الوطنية في كل بلد عربي وإسلامي.
وطريق التبشير لتوهين المسلمين لم يكن بالدعوة إلى المسيحية والعمل على ارتداد المسلمين إلى النصرانية ، وإنما كان طريقه تشويه الإسلام ومحاولة إضعاف قيمته. ثم تصوير المسلمين في وضعهم الحالي بصورة مزرية بعيدة عن المستوى الحضاري في عصرنا الحاضر.
يقول و. س. نلسون : "وأخضع سيف الإسلام شعوب أفريقيا وآسيا شعباً بعد شعب".
ويقول جوليمين : "إن محمداً مؤسس دين المسلمين قد أمر اتباعه أن يخضعوا العالم ، وأن يبدلوا جميع الأديان بدينه هو ، ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنين (يعني المسلمين) وبين النصارى! إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة ، وقالوا للناس : أسلموا أو موتوا ، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرهم وإحسانهم ، ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا ؟ إذن لكنا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين.
(1/41)
________________________________________
وقد رغب المسيحيون في التبشير بدينهم بين المسلمين ، فأقبلوا على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز الدعاة وأرسالهم إلى العالم الإسلامي ، ومن أمثال هؤلاء بيننا الآن - دكتور جون بادو - السفير الأمريكي بالقاهرة ، والذي كان من قبل مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
والتقت مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار ، فمكن لهم ، وأعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق. وأقنع المبشرون والمستشرقون زعماء الاستعمار بأن المسيحية ستكون قاعدة للاستعمار الغربي في الشرق. وبذلك سهل الاستعمار لهم مهمتهم ، وبسط عليهم حمايته ، وزودهم بالمال والسلطان ، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول مرة على أكتاف المبشرين والرهبان ، ثم اتصل بالاستعمار.
وقد حاول المستشرقون أن يحققوا أهدافهم بكل الوسائل : ألفوا الكتب ، وألقوا المحاضرات والدروس ، وبشروا بالميسحية بين المسلمين ، جمعوا الأموال وأنشأوا الجمعيات ، وعقدوا المؤتمرات ، وأصدورا الصحف ، وسلكوا كل مسلك ظنوه محققاً لأهدافهم.
ومن المبشرين نفر يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية ، أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك ، ثم يدفعون هؤلاء إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية ، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية التي يعتبرونها نصرانية ، لأن أمم الغرب تدين بالنصرانية ، ليخرجوا دائماً بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية والإسلامية ، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب ، وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام ، وما غايتهم
(1/42)
________________________________________
من ذلك إلا خلق تخاذل روحي وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين ، وحملهم من هذا الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية.
ولقد يستخدم المبشرون دور التعليم للتبشير كما يستخدمون وسائل أخرى ، منها الصحافة ، فكتاب "التبشير والاستعمار" يذكر نقلاً عن مصادر للتبشير ما يلي :
"يعلن المبشرون أنهم أشتغلوا بالصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن الآراء المسيحية أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي آخر. لقد ظهرت مقالات كثيرة في عدد من الصحف المصرية ، إما مأجورة في أكثر الأحيان ، أو بلا أجر في أحوال نادرة".
وهذا ليس بغريب ، فإن المؤسسات الصحفية الأجنبية في مصر ذات الشهر العالمية معروفة للخاص والعام ، ولعل تأميم الصحافة في الجمهورية العربية المتحدة مما يشمل هذه الصحف عن الاستهتار بسيادة الدولة ، والتشيع لدول الاستعمار.
(1/43)
________________________________________
أشهر المؤسسات التعليمة في الشرق العربي
1- جامعة القديس يوسف في لبنان
وهي جامعة بابوية كاثوليكية وتعرف الآن بالجامعة اليسوعية.
2- الجامعة الأمريكية ببيروت
وهي التي كانت من قبل تسمى الكلية السورية الإنجلية ثم كلية بيروت ، وقد أنشئت في عام 1865 م وهي جامعة بروتستانتية.
3- الجامعة الأمريكية بالقاهرة
وكانت تعرف بالكلية الأمريكية بالقاهرة ، ثم أصبحت الجامعة الأمريكية ، وقد كان القصد من إنشائها أن تكون قريبة من المركز الإسلامي الكبير وهو الجامع الأزهر.
4- الجامعة الأمريكية باستانبول
وهي كلية روبرت في استانبول ، التي أصبحت تسمى بالجامعة الأمريكية هناك.
5- الكلية الفرنسية في لاهور
والكلية الفرنسية في لاهور أسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الإسلامي في تكوينه في شبه القارة الهندية.
ولقد أبانت هذه الكليات عن أغراضها السافرة التبشيرية كما جاء في منشور الجامعة الأمريكية ببيروت.
(1/44)
________________________________________
منشور الجامعة الأمريكية
أصدرت الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1909 منشوراً ردا على إحتجاج الطلاب المسلمين لإجبارهم على الدخول يومياً إلى الكنيسة
- يتضح من المادة الرابعة منه طابع هذه المؤسسة وأمثالها ، ونص هذه المادة :
إن هذه كلية مسيحية ، أسست بأموال شعب مسيحي ، هم أشتروا الأرض ، وهم أقاموا الأبنية ، وهم أنشأوا المستشفى وجهزوه ، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء ، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده ، فتعرض منافعه الحقيقية المسيحية على كل تلميذ. وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقاً ماذا يطلب منه".
كما أعلن مجلس الأمناء بالكلية في هذه المناسبة "إن الكلية لم تؤسس للتعليم العلماني ، ولا لبث الأخلاق الحميدة ، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوارة ، وأن تكون مركزاً للنور المسيحي وللتأثير المسيحي ، وأن تخرج بذلك على الناس وتوصيهم به".
أما وقد انتهيت من الإفصاح عن العمل التبشيري والاستشراقي فأنتقل إلى تبيان الرسم البياني في صفحتى 27 ، 28 :
من الرسم البياني في صفحة 27 يتبين الجهاز الكنسى ، والجهات
(1/45)
________________________________________
العليا التوجيهية لسياسة الكنيسة في العالم الإسلامي على هذا النحو :
1- إتحاد الكنائس :
إتحاد فيدرالي بين محفلى الولايات المتحدة وبريطانيا ، لتنسيق الجهود التبشيرية ، ولتنفيذ سياسة إتحادية استعمارية في ربوع العالم الإسلامي ، وينعقد مرة كل بضع سنوات ، تارة في الولايات المتحدة ، وأخرى في بريطانيا.
2- المحفل العام :
ومقره الدائم للأمريكان واشنجتن ، وللانكليز لندن ، وهذا المحفل يعقد من مندوبين من سنودسات الدول التي تحتضن المذهب البروتستانتى في أراضيها ، كالجمهورية العربية المتحدة ، وفلسطين ، ولبنان ، والعراق ، وتركيا ، والهند ، والباكستان ، ومن المحفل العام هذا تخرج التوجيهات ، يحملها المندوبون لتنفيذها ، كل في دائرة اختصاصه.
3- المؤتمر العام :
والمؤتمر العام يجتمع مرة كل فترة من السنوات في عواصم البلاد العربية من مندوبين من السنودسات كما سبق ذكره في البند السابق. وعملهم في هذا المؤتمر دراسة كافة المشاكل التي تتعرض لها خططهم ، ووضع الحلول والإقتراحات لتقديمها إلى المحفل لإبداء الرأي النهائي فيها ، وإتخاذ ما يمكن إتخاذه من قرارات ، وسن ما يرون من قوانين.
(1/46)
________________________________________
4- السنودس :
ويحدد مقره في الدولة التي يتبعها ، ففي الجمهورية العربية المتحدة تحدد مقره في أحد هذه المدن بالتتالي : القاهرة ، المنيا ، أسيوط. وينعقد مرة في السنة ، وينعقد من جميع قساوسة ورعاة الكنائس في كل وادي النيل مصر والسودان ، وينعقد في شهر مارس من كل سنة ، وفي السنودس يتدارسون المشاكل التي تعترض الكنيسة المصرية أو السودانية ، وخطة التعليم الموضوعة لتنفيذها في المدارس التابعة للمرسلية ، والسنودس في هذا التمثيل يشبه إلى حد كبير المجالس النيابية ، وبالإضافة إلى ذلك يشبه الهيئة التنفيذية في تنفيذ ما قد تحدد من قرارات وما قد سن من قوانين. وهو يشبه أيضاً الهيئة القضائية في تحرير أو صياغة القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية.
من هذا كانت مكانة السنودس مكانة القيادة بالنسبة لكنائس الجمهورية العربية المتحدة.
5- المجمع الأمريكي :
إن المرسلين الأمريكيين هم السدى واللحمة في نسيج الكنيسة الإنجيلية المشيخية ، وهم يستأثرون بإجتماع خاص لهم ، لا يسمح لأجنبي بالدخول فيه ، وينعقد هذا المجمع في أواخر شهر يناير من كل سنة ، ومقره الدائم كلية أسيوط الأمريكية الثانوية بأسيوط ، ويجتمع جميع المرسلين من السودان إلى الدلتا بالجمهورية العربية المتحدة ، ويحضره أحياناً مندوبون من البورد الأمريكي ، وينعقد هذا المجمع لدراسة الشئون التبشرية ، وتنسيق الجهود مع كافة المذاهب الإنجيلية بالجمهورية العربية المتحدة والسودان ، وسياسته سياسة توجيهية ، لها أثرها في المجامع العربية والسنودس.
(1/47)
________________________________________
6- المجمع العربي :
وهذا المجمع كما بينته بالرسم صفحة 28 يتمثل فيه مجمع الوجه البحري على سبيل المثال ، وينعقد في دورتين في السنة ، الدورة الأولى في شتاء كل سنة في الأسبوع الأول من شهر يناير ، والدورة الثانية في صيف كل سنة في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر. ويشتمل على جميع قساوسة المنطقة ، ولهم الإختصاصات التي سبق ذكرها من تشريع وتنفيذ ، كما يتدارسون الميزانية العامة ، أبواب الإيراد وأبواب الصرف ، كما يتدارسون شئون الشعب وما يتعرض له من مشاكل فردية أو جماعية ، وتتكون في أثناء إنعقاد هذه المجامع لجان لدراسات معينة ، وجلسات هذه اللجان سرية.
وبعد هذا العرض والتحليل يتبادر إلى الذهن هذا السؤال :
ما هي الأضواء التي سلطت على العالم الإسلامي ليصبح مطمع الغرب ؟
وللرد على هذا التساؤل من واقع التاريخ والأيام نستعرض تاريخ الشرق كله ، الذي كان فيما مضى رقعة من رقاع الإمبراطوية الرومانية المترامية الأطراف ، ثم كان ولايات عثمانية تخضع لنفوذ الدولة العثمانية منذ سنة 1517م.
ومما يؤسف له في عهد الدولة العثمانية إهتمام السلاطين بعروشهم المتداعية ، حتى فقدوا ثقتهم بمن حولهم ، وتلفتوا إلى نصير ، فلم يجدوا لضمان عروشهم ولاستتباب الأمن في الولايات المترامية الأطراف إلا محالفة الغرب. وكان لهذا التحالف ثمن دفعه السلطان في ثوب الإمتيازات الممنوحة للأجانب ، وثمن آخر بالنسبة للولايات العثمانية أنها ذلت بعد عزة.
(1/48)
________________________________________
واستغل نابليون بونابرت هذا الضعف في جسم السلطنة العثمانبة ، واستأذن في دخول مصر سنة 1799م لقهر المماليك ، وما أن سمح له بالدخول حتى أصطحب معه بعثة علمية لدراسة البيئة المصرية وأحوال البلاد ووضه التقارير اللازمة لتمكين الاستعمار الفرنسي من توطيد دعائم احتلاله للبلاد.
وكان من آثار البعثة العلمية - مشروع وصل برزخ السويس بالبحر الأبيض المتوسط عن طريق قناة السويس.
وأثار موقع مصر الاستراتيجي بين بريطانيا والهند مطامع الإنكليز ، فأخذوا يتحايلون للدخول إلى مصر بأي كيفية من الكيفيات ، لضمان الطريق إلى الهند ، حتى استطاع القائد نلسن أن يحطم الأسطول الفرنسي في أبي قير ، وتمكن بتحالفه مع الجيش العثماني من اجلاء الفرنسيين من مصر سنة 1801م. ومنذ تلك اللحظة بدأت بريطانيا تفكر في غزو مصر بالطرق غير المشروعة ، ولم تجد سبيلاً إلى ذلك إلا تدفق طلائعها من المبشرين والمستشرقين إلى البلاد ، يحميهم ويساندهم الإمتيازات السخية من الباب العالي ومن خديوي مصر.
تدفق التبشير والاستشراق بمصر
ونشأة الكنيسة البروتستانتية
استطاع الأمريكيون تحت لواء الإمتيازات الممنوحة للأجانب وباسم الصداقة للشعوب الآسيوية الأفريقية أن يغزوا آسيا وأفريقية بوفود المبشرين والمستشرقين ، واستطاعوا بأموالهم أن يؤسسوا لهم مراكز تبشيرية وعلمية سيأتي الحديث عنها بإسهاب في حينه ، واستطاعوا بفضل نفوذهم السياسي وتحت ضعف أقباط مصر أن
(1/49)
________________________________________
ينتزعوا نفرا من بين أبناء الكنيسة القبطية لتأسيس الكنيسة البروتستانتية ، واستطاعوا أيضاً بمعونة الإنكليز أن ينتزعوا من الباب العالي ومن خديوي مصر حق حماية الأقلية بمصر والسودان ، مما ثبت أقدامهم في البلاد ، ومكنهم من استغلال مواردها.
حدث هذا كله في حمى السلطان ، حتى انبثوا في طول البلاد وعرضها ، تارة باسم الدين ، وطورا باسم العلم ، وقد نجحوا في بناء أول كنيسة من خليط من جنسيات مقيمة بمصر ، هم : نصر أفندي السوري ، من تجار الموسكي ، ويعقوب أفندي متياس الأرمني الصائغ ، والراهب ميخائيل من البلينا بصعيد مصر ، وعوض أفندي حنا ، الذي أصبح أساساً لجمعية التوارة ، ولم يلبث المرسلون الأمريكيون أن استأذنوا المحفل العام بأمريكا باسم هذه الكنيسة ليخول لهم حق تنظيم مجمع كنسى ، ووافق المحفل ، وتم تنظيم أول مجمع مشيخي مصري بالقاهرة في 13 أبريل سنة 1860م ، وكان هذا المجمع برئاسة القس جيمس بارنيت ، وسكرتارية القس توماس ماكيج ، وعضوية القس جوليان لانسنج.
وتوالت التنظيمات الإدارية بموجب هذا التفويض ، ففي 23 مايو سنة 1960 أنضم إليهم المرسل الإنكليزي القس يوحنا هوج ، الذي يعتبر رسول المذهب البروتستانتي ، وفي 15 فبراير 1863 انتظمت أول كنيسة وطنية ، مقرها الجديد بدار المرسلية الأمريكية ، وفي أبريل سنة 1871 انتظمت كذلك أول كنيسة وطنية بالصعيد بقرية النخيلة مركز أبو تيج مديرية أسيوط.
وكانت محاضر الجلسات تدون كلها باللغة الإنكليزية ، وما أن أصبح القس تادرس كاتباً للمجمع حتى أصبحت اللغة العربية تشق طريقها في محاضر الجلسات.
(1/50)
________________________________________
ومن هنا يتبين أن الكنيسة البروتستانتية قد أقيمت معتمدة على أبناء الكنيسة القبطية ، وكل الهدف الأساسي من نشأة الكنيسة البروتستانتية أن تقوم على أبناء المسلمين الذين يعتنقون النصرانية ويشقون عصا الطاعة على والديهم وذويهم ، ولكن باءت محاولاتهم كلها بالخيبة والفشل المرير. فوجهوا جهودهم لسلب الكنيسة القبطية أبناءها ، والتغرير بهم ، وتهيئة المجالات العلمية والأدبيه لهم ، والإغداق عليهم بهبات ، وأختصاصهم بإمتيازات سياسية ، وبسط الحماية عليهم ، وتولى شئون عائلاتهم في مراحل التعليم وفي العلاج بمستشفياتهم وفي تهذيبهم في كنائسهم.
هذا كله ساعد على نمو الكنيسة البروتستانتية مما أدى إلى التنظيم الإداري كما بينت في صفحتى 27 ، 28 بالرسم البياني ، فقسموا وادي النيل إلى مجامع تشبه في التنظيم التقسيم الإداري الحكومي إلى محافظات.
وهذه المجامع مجتمعة تشبه في التنظيم الاداري مجلس الأمة ، وهو ما يسمى بالسنودس. وكان إجتماع السنودس في 8/3/1951 هو الإلتئام الثالث والخمسون بمدينة المنيا ، وهذا السنودس يضم ثماني مجامع ومرسلية عربية للعمل التبشيري ، وهذه المجامع هي :
1- مجمع الوجه البحري 5- مجمع سوهاج
2- مجمع الأقاليم الوسطى 6- مجمع الأقاليم العليا
3- مجمع ملوي 7- مجمع السودان
4- مجمع أسيوط 8- المرسلية العربية
وتقوم المرسلية بإيفاد القساوسة للعمل التبشيري في بغداد ، ودمشق ، والكويت ، والأردن ، والسودان الجنوبي ، ويعملون على منهاج المرسلية الإنكليزية الأمريكية وبأموالها.
(1/51)
________________________________________
ما مدى نشاط هذا العمل التبشيري :
يسير العمل التبشيري في أي قطر متأثرا بالناحية السياسية تأثراً كبيراً ، ففي البلاد المتمتعة بحريتها واستقلالها يسير العمل التبشيري في أسلوب الدهاء باستخدام تلاميذ المبشرين والمستشرقين من الوطنيين ، حتى لا يصدموا بقوانين البلاد ، فيكرهوا إلى الرحيل الفوري ، لهذا كان لابد من قوة عسكرية تساند الحركة التبشيرية ، وهذه القوة كانت تكمن في نوايا الإنكليز منذ أن اشتركوا مع القوات العثمانية في إجلاء الفرنسيين عن مصر سنة 1801م ، واستطاعوا بفضل الوفود من المرسلين والمستشرقين أن يثيروا فتناً في البلاد ، وتمكنوا من التفريق العنصري بين المسلمين والأقباط ، حتى كانت ثورات داخلية دفعت خديوي مصر إلى التفكير في الاستعانة بأية دولة من دول أوروبا لتمكينه من العرش ، ووجدت إنجلترا الفرصة سانحة لتدخل مصر التي تتشوق إلى احتلالها ، واستطاعت الجيوش الإنكليزية أن تبطش بالمجاهدين من الضابط الأحرار في 15/9/1882م ، كما استطاع خديوي مصر أن يتخلص من الأحرار من زعماء الثورة العرابية بالنفي والتشريد.
وهكذا وطد الاستعمار أقدامه في البلاد بحجة حماية عرش الخديوي ، وأصبح المصريون نهباً بين استعمارين غاشمين ، استعمار الأسرة العلوية ، واستعمار الأجنبي ، حتى كانت الصيحة المدوية التي أهتز لها العالم بأسره ، والتي أسقطت الملكية في مصر ، وأخرجت الطاغية الفاسد من البلاد ، ثم طهرت البلاد من الاستعمار والرجعية بفضل جهاد أبطال الثورة بقيادة السيد الرئيس جمال عبد الناصر ، فما أن بزغ فجر يوم 23 يوليو سنة 1952 م حتى أشرق على البلاد عهد جديد من الحرية والعدالة والاشتراكية ، واستطاعوا بفضل إيمانهم بالله وبرسوله من إجلاء المستعمر الغاصب
(1/52)
________________________________________
في 19/10/1954. ولقد صدق الله تعالى في قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
فالمؤسسات التي ورد بيانها في صفحة 28 تتبع المذهب البروتستانتي.
وبالإضافة إلى هذه المؤسسات هناك مؤسسات للمذهب الكاثوليكي لا تقل في ضخامتها وبرامجها عن المؤسسات البروتستانتية ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
1- المعهد الشرقي بدير الدومنيكان بشارع مصنع الطرابيش بالعباسية بالقاهرة.
2- معهد دار السلام بكنيسة دار السلام بمصر القديمة.
3- المعهد الفرنسي بالمنيرة.
4- مدارس الفرنسيسكان بالفجالة.
5- مدارس الفرير بالخرنفش.
وهذه المؤسسات - سواء ما يتبع المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي - ملحق بها مطابع كمطبعة النيل المسيحية التي يملكها البروتستانت بشارع الأصبغ بالزيتون. وهذه المؤسسات تخضع مباشرة للنفوذ الأمريكي الإنكليزي الفرنسي.
وتبحث هذه المؤسسات في التراث الإسلامي ، وتتعاون مع أبنائها من الوطنين الذين تثقفوا بالثقافة الإنكليزية أو الفرنسية ممن درسوا في أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا الآداب الشرقية ، والثقافة الإسلامية ، وهؤلاء يزداد أثرهم كلما أرتفع شأنهم ،
(1/53)
________________________________________
واتصلت مشورتهم بتوجيه الآداب أو الثقافة في مصر ، وعلى هذا القياس بالنسبة للدولة الإسلامية.
وكان يرعى الجانب البروتستانتي (كينيت كراج) ، وهو أمريكي شديد التعصب ضد الإسلام ، قام بالتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لفترة من الوقت ، وهو الآن يشغل وظيفة رئيس تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية ، وهي مجلة تبشيرية سافرة. ورئيس قسم اللاهوت المسيحي في جامعة هارتفورد ، ورئيس جمعية البعثات الأمريكية في الخارج.
وقد جاء بعده القس صموئيل زويمر ، ثم جاء بعده القس أ. أ. ألدر ، ثم جاء بعده الدكتور جون طمسن ، ويعاونه القس والقس ماكجل الرئيس الحالي للإرسالية الأمريكية بالجمهورية العربية المتحدة وجمهورية السودان.
كما يرعى الجانب الكاثوليكي المستشرق الفرنسي لويس ماسيثون ، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال أفريقيا.
ولهذه المؤسسات سياسة جغرافية رشيدة ، تهدف إلى تحقيق العمل التبشيري ، فالمستشفى أو المدرسة أو الجمعية ينبغي أن تكون في دائرة شعبية ، وكل الطرق تؤدي إليها دون مشقة أو عناء ، وعلى سبيل المثال قاعدة إنشاء المستشفيات ، ولنأخذ مثلاً مستشفى هرمل ، فإن الموقع الجغرافي للمستشفي له أثر فعال في تحقيق أهداف التبشير ، ومن عجب أن واضع تصميم مستشفى هرمل الإنكليزي وتصميم مستشفى القصر العيني - وكلاهما في عهد اللورد كرومر - مهندس إنكليزي.
ولنأخذ للكليات مثلاً الجامعة الأمريكية ، فهي في منطقة عمرانية
(1/54)
________________________________________
في ميدان التحرير ، وكل الطرق توصل إليها ، وجامعة القاهرة في منطقة نائية بالجيزة ، ويصل الجيزة بالقاهرة كوبري عباس ، فإذا ما حدث شيء ما ، من تعطيل المواصلات أدى إلى تخلف الطلبة عن الانتظام بكلياتهم ، ثم أن المسافة بين جامعة القاهرة بالجيزة ودار الكتب التي هي مصدر الإطلاع للطلبة شاسعة ، والمسافة بين الجامعة الأمريكية ودار الكتب بباب الخلق بضع خطوات.
مثال آخر : كلية أسيوط الثانوية الأمريكية تقوم في منطقة آهلة بالسكان ، مع أن المدرسة الأميرية الثانوية في بلدة الوليدية ويستدعى الوصول إليها عبور قناطر أسيوط.
ثم أن هذه السياسة ثابتة لا تتغير بتغير الأشخاص ، ولا بتقادم الزمن ، لأن منهاج العمل ثابت ، وما على الإداريين إلا التنفيذ وفق هذا المنهاج دون تغيير أو تبديل. والذين يضعون هذا البرنامج هم أعضاء المحفل العام أثناء انعقاد المحفل ، ومن هذا كانت السياسة المنهاجية سياسة مدروسة من كل جوانبها ، ولنأت إلى شرح الخطة الجغرافية في بناء المستشفيات :
مقارنة بين مستشفى قصر العيني ومستشفى هرمل :
إن مستشفى قصر العيني يخضع لروتين معين ، وموظفو المستشفى وأطباؤه مسئولون أمام الجهات العليا عما يعملون ، والإمكانيات في المستشفى محدودة ، فإذا ما تجاوز المرضى عدد أسرته رفض إتاحة الفرصة لهم بالنزول إليه.
وهنا تظهر السياسة الماكرة في قرب مستشفى هرمل من مستشفى قصر العيني إذ يتوجه المرضى الحائرون - في مرارة نفس وفي خور وضعف كارهين - إلى مستشفى هرمل ، وهناك يجدون
(1/55)
________________________________________
من الابتسامات والترحيبات ما ينسيهم مرارة المرض وقسوته ، ويرون الفرق في المعاملة دون أن يدركوا أن موظفي مستشفى قصر العيني مقيدون بتعليمات ولوائح لا يمكن تخطيها إطلاقاً.
ويطمئن المريض إلى مستشفى هرمل وإلى موظفيه ، وهنا يبدأ معه النشاط التبشيري السافر في أسلوب الصداقة والمحبة والإنسانية ، والمريض منذ اللحظة التي يدخل فيها مستشفى هرمل تدون له بطاقة شخصية لمعرفة كل شيء عنه.
وبهذه المناسبة يحق للمسلم أن يسألني : ما مدى خطورة المبشر ؟ وما هي شخصيته ؟
المبشر الإنجيلي هو الإنسان الذي وهب حياته وماله للمسيح وللكنيسة ، فهو يتفانى بعلمه وماله في سبيل التبشيري ، وهو - في مستواه العلمي - لا يقل بأي حال من الأحوال عن الدرجة الجامعية بتفوق. ذلك لأن طبيعة عمله وقيامه بالتبشير السافر توجب عليه طاقات من المعرفة ، ليستطيع أن يناقش ويباحث وينتصر.
وللمبشر الإنجيلي من التوجيهات الكتابية ما يحفزه للاستبسال في هذا العمل ، فمن الآيات التي وردت في الإنجيل : "أحتمل المشقات ، أعمل عمل المبشر تمم خدمتك" (1 تي 4 : 5) وفي انتظار الجزاء من الله : "أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (فيلبى 3 : 14).
ولهذه المواعيد يستبسل في جهاده ، وشعاره : (من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أو اضطهاد أم جوع أو عرى أم
(1/56)
________________________________________
خطر أم سيف . . . فإني متقن أنه لا موت ولا حياة ، ولا ملائكة ، ولا رؤساء ، ولا قوات ، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلية ، ولا علو ، ولا عمق ، ولا خليفة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح" (رومية 8 : 35 - 39).
لهذه الروح العالية التي يتميز بها المبشر في جهاده ، ولعظم مسئوليته العلمية يستطيع أن يعرف كل شخص تقابل معه لسنين مضت ، يعرف اسمه ، وأكثر من هذا ، يستطيع أن يعرف صلات هذا الشخص بالآخرين ، وهذا بفضل ما يدونه من ملاحظات في كراسة خاصة بأرشيف مكتبه ، هذه الكراسة يستعرضها في خلواته للصلاة من أجل هؤلاء ليربحهم للمسيحية وللكنيسة ، ويحمل المبشر مسئوليات ضخاما يقوم بها طواعية وكأن الله يراقبه عن قرب ، ويطالبه بالتفاني في الخدمة.
ألا ليت هذه الروح النبيلة تتحول إلى الدعوة الصادقة الأمنية في خدمة الإسلام ، والله يهدي قلوبهم إلى الصراط المستقيم ، ويهدي أفكارهم إلى الوحدانية الصافية الخالصة التي أفصح عنها القرآن الكريم. وبينها الرسول العظيم ، سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، إمام المرسلين ، وخاتم النبيين ، وسيد المجاهدين.
وأنتقل بالقارئ النبيل إلى حقيقة العمل التبشيري ونطاقه ووسيلته :
العمل التبشيري بين المسلمين فن من الفنون. يحتاج إلى تدريب ودارية كاملة ، يتوقف عليها استعداد المرء الفطري من الذكاء وسرعة البديهة وقوة الجلد والصبر على المكارة وتحمل المشقات والعوز دون تذمر أو تضجر ، ورجحان الفكر ، ونضوج العقل ،
(1/57)
________________________________________
وسعة الصدر ، وقوة الإدراك ، لينفذ إلى أعماق السائل أو الطالب ، ويدرك ما يخطر على باله من أسئلة.
وينقسم العمل التبشيري ثلاثة أقسام :
1- التبشير بين الجماعات : وهذا يحدث بالمدارس والمستشفيات وفي الندوات الدينية العامة.
2- التبشير مع الفرد الواحد : وهذا يحتاج إلى مثابرة وصبر واستعداد للترحاب بالضيف وإظهار كل إمكانيات الود والصداقة ، حتى يأنس إليه الفرد ويثق به ، وهنا يصبح آلة مسخرة يكيفها المبشر كما يشاء ويصل بها إلى النصرانية ، طواعية واختياراً.
3- العمل التبشيري الصامت : وذلك بتوزيع الكتاب المقدس ، والنشرات الدينية ، والصور والأيقونات ، ومن الكتب الجدلية الخطيروة - التي يستعين بها المبشر للوصول إلى غايته.
هذه المجموعة هي :
1- كتاب ميزان الحق : للدكتور فاندر المستشرق الأمريكي ، والدكتور سنكلير تسدل.
2- كتاب الهداية : ويقع في أربعة أجزاء ، وهو تفنيد مريع للإسلام ، وطعن سافر في القرآن الكريم.
3- كتاب مقالة في الإسلام : للدكتور المستشرق سال.
4- كتاب مصادر الإسلام : للدكتور سنكليز تسدل.
وهذه الكتب الأربعة تعتبر للمستشرقين والمبشرين من أخطر المراجع للهجوم على الإسلام والقرآن الكريم والرسول الأمين.
(1/58)
________________________________________
ولا يفوتني أن أشير إلى جهاد المسلمين في هذا الصدد ، فقد هب رجال من المسلمين للدفاع عنه ، والزود عن الرسول الكريم.
والكتب الآتية هي ردود على ما جاء بالكتب المذكورة آنفاً :
1- إظهار الحق : للشيخ خليل - رحمه الله - الهندي ، هذا الكتاب لو تم تحقيقه لكتن قوة تفند مزاعم أعداء الحق وتسد أفواههم.
2- السيف الحميدي الصقيل : للرد على كتاب الهداية.
وإذا شاء القدير أن يبوئني المكانة الثقافية الدينية التي تخول لي حق البحث والكتابة فسأقوم بفضل الله بالرد على كتابي "مقالة في الإسلام" ، و"مصادر الإسلام" وكتاب ثالث متداول بين أيدي جمهور المسيحيين ، هو "المسيحية في الإسلام" ، للايغومانس إبراهيم لوقا ، والله المستعان.
والعمل التبشيري في الدول المختلفة يسير على نمط واحد مع مراعاة مقتضى المقام ، فمثلاً الناحية الشعبية التي يتميز بها المستشفى غير الناحية الخاصة التي تتميز بها الكلية ، ولهذا يتلخص العمل التبشري في هذا الأسلوب :
1- التبشير بالفانوس السحري.
2- التبشير بسرد قصص الأنبياء والتابعين لهم والمتواترة بين المسلمين.
3- التبشير بإلقاء المواعظ في المناسبات العامة : الجنازات ، الاحتفالات العلمية.
4- التبشير بإلقاء المواعظ السافرة المقارنة ، ويقوم بها الآن
(1/59)
________________________________________
الشيخ كامل منصور كل يوم اثنين من كل أسبوع بدار الإرسالية الأمريكية بالأزبكية ، ويتنقل من الإسكندرية إلى طنطا وإلى المنيا وإلى أسيوط وإلى عواصم المحافظات - لهذه المواعظ السافرة.
أولاً : العمل التبشيري في المستشفيات :
يتوافد المرضى على العيادة الخارجية ، ويقوم الكاتب وهو واعظ إنجيلي بتحرير بطاقة له ، كما تقوم الممرضة بمعرفة شخصية المريض وظروفه الخاصة ، هذه التحريات كلها تباعاً إلى مكتب قسيس المستشفى ، لتبويبها وتصنيفها.
ويلقى واعظ من قبل قسيس المستشفى قصة دينية قصيرة على جمهور المرضى المنتظرين في خيمة الاجتماع ، فإذا دخل المريض المستشفى فإنه يستمع لدرس دسني في أصيل كل يوم ، وقد يتبعه عرض بالفانوس السحري ، ثم توزع على المرضى النشرات لقراءتها والتسلي بها.
وفي هذا كله تعقد بمكتب القسيس أو بمنزله ندوات تبشيرية فردية لمن يقبل على المسيحية ، وإذا وثق القسيس بإخلاصه أغدق عليه الهبات ما ينسيه الأهل والأصدقاء. وإذ يتمادى الإنسان في هذا التيار يجد نفسه مخزياً ، وكأن المسلمين حوله يكظمون غيظهم ويتمنون الفتك به ، فإذا صادف أحد مشايخه الأفاضل من المسلمين ، ووجهه التوجيه السليم ، استطاع أن ينأى عن فخ التبشير الكاذب الخادع ، وسار في الطريق المستقيم.
ثانياً : العمل التبشيري بالمدارس :
يسير العمل التبشيري بالمدارس بحسب تدرج المراحل التعليمية. ففي مرحلة التعليم الجامعي والثانوي يأخذ التبشير
(1/60)
________________________________________
أسلوب المناقشة والبحث العلمي ، ويحاول المبشر أن يعتمد كثيراً على الكتب الإنكليزية أو الفرنسية. ومما لوحظ أن هؤلاء الطلبة ليسوا على شيء من المعرفة والفقه بالأمور الدينية ، وهذا مما يساعد على العمل التبشيري مساعدة إيجابية.
ويذهل المسلم حين تبشيره بالنصرانية من القرآن الكريم ، وتظهر عليه علامات الدهشة التي تستغل استغلال حكيم في تكييف الموقف ، فمن الآيات الدالة على تدعيم الوحدانية بحسب العقيدة المسيحية قوله تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}.
إلى هنا نكتفي من الآية. وهيهات أن يتذكر المسلم بقية الآية وهي قوله تعالى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
ومن الآيات الدالة على مكانة المسيح بن مريم قوله تعالى : {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. وتطابقها بما جاء بإنجيل لوقا 1 : 30 - 35 (لا تخافي يا مريم ، لأنك قد وجدت نعمة عند الله ، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع ... وقال لها : الروح القدس يحل عليك ، وقوة العلي تظللك).
ومن الآيات ما يجعل المسيح بن مريم فريداً بمنزلته بين الأنبياء كقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، ويطابقها ما جاء في إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا : (الروح القدس يحل عليك ، وقوة العلي تظللك ، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله) ، (في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله. "يو 1 : 1").
(1/61)
________________________________________
وبهذا التدرج نصل بالمسلم إلى عقيدة التجسد.
ولكي نؤكد له هذه العقيدة من القرآن الكريم نذكر قوله تعالى :
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}.
ثم نبرز فكرة التجسد من قوله تعالى : {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ، نتدرج في المناقشة والبحث العلمي ، ثم نطابق هذا بما جاء في التوراة : (وظهر ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة ، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تحترق ، فقال موسى أميل لأنظر هذا المنظر العظيم ، لماذا لم تحترق العليقة ؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة ، وقال : موسى موسى. فقال ها أنذا. فقال : لا تقترب إلى هاهنا ، اخلع نعليك من رجليك ، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. (سفر الخروج 3 : 2 - 5).
ويبرز المبشر فكرة التجسد من هذين القولين في القرآن الكريم {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ، وفي التوراة (ناداه الله).
ومن هنا يتبلبل ذهن المسلم ويصيخ بأذنيه ، ويستسلم للبحث العلمي في إثبات نظرية التجسد.
ويحاول المبشر أن يأتي بآية من الإنجيل فيأتي بقوله : (عظيم هو سر التقوى ، الله ظهر بالجسد).
وللمسلم أسوق أن التوراة تنفي تجسد الله سبحانه وتعالى ، فهذا سيدنا موسى عليه السلام قال لله سبحانه وتعالى : (أرني مجدك. فقال : أجيز كل جودتي قدامك ، وأنادي باسم الرب
(1/62)
________________________________________
قدامك. وأتراءف على من أتراءف ، وأرحم من أرحم ، وقال : لا تقدر أن ترى وجهي ، لأن الإنسان لا يراني ويعيش ، وقال الرب : هو ذا عندي مكان ، فتقف على الصخرة ، ويكون متى أجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة ، وأسترك بيدي حتى أجتاز ، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي ، وأما وجهي فلا يرى). (سفر الخروج 33 : 18 - 32).
والقرآن الكريم براء من هذا الهراء ، فإن قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ينفي عن الله - عز وجل - المادية والكيفية والكمية والنوعية ، وهذا لأنه واجب الوجود لذاته ، وما سواه ممكن الوجود في ذاته.
ويتحدث المبشر عن تزكية القرآن الكريم بمودة النصارى في قوله تعالى : {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (البقرة 62).
وفي هاتين الآيتين تذكير للمسلم بمساواة النصراني بالمسلم من حيث الوحدانية ومن حيث تمتعه برضوان الله.
ويسترسل المبشر في قوله ، فيقول : أن الله كلف الرسول الكريم باستفتاء أهل الكتاب فيما استعصى عليه بقوله تعالى : {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ... زهنا يتغاضى عن ذكر بقية الآية ، وهيهات للمسلم أن يتداركها. وهي : (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
ويؤكد المبشر صدق التوراة والإنجيل بقوله : {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ
(1/63)
________________________________________
الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ثم يربط بين هذه الآية وما جاء في الإنجيل من القول : (لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان ، بل تكلم أناس الله مسوقين بالروح القدس).
(2 بطرس 1 : 21).
ويسترسل المبشر في تأكيد حلول الروح القدس على المسيح بقوله تعالى : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (110 : المائدة). {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، ثم يتغاضى عن قوله تعالى بعد ذلك : {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، (البقرة 87). ويربط بين هذه الآية وبين جاء ما جاء بالإنجيل : (أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس). (لوقا 4 : 1)
رواسب التبشير والاستشراق :
هذه الحقائق سالفة الذكر مريرة ، لكنها كانت رواسب للتبشير والاستشراق ، بل توجيه سافر من الاستعمار الذي ظل منذ سنة 1882 وهو يهدف إلى شل القيم الدينية الإسلامية ، وإلى الازدراء باللغة العربية بصورة إيجابية ، وذلك بتقويم العلم الأوربي ، وتمجيد الحضارة الأوربية ، والاستمساك بأهداب المدنية الغربية. ولقد نجحوا إلى حد ما في هذا ، إذ خلقوا لفترة السبعين سنة خلت أجيالاً متعاقبة لا تفقه من الإسلام شيئاً ، ولا تحفظ من القرآن إلا آيات معدودات ، ولهذا كان من اليسير غزوهم وبلبة أفكارهم.
ويقول الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف السابق ما نصه :
"وكان المبشرون والمستشرقون آمنين في عملهم ، إذ أيقنوا أن المؤسسات الإسلامية على تعددها وتنوعها لم تعرف للآن وضعيه
(1/64)
________________________________________
التبشير والاستشراق في توجيه الشعوب الإسلامية ، حتى نحاول أن تلقاها ، فضلاً عن أن يكون لقاؤها إياها ضعيفاً أو قوياً. فالأزهر الشريف - وهو أكبر المؤسسات الإسلامية في الشرق وفي العالم الإسلامي - لم يخرج برسالته كثيراً عن أن يكون ترديداً للخلف عن السلف. وجمعية الشبان المسلمين تقليد لجمعية الشبان المسيحية في جانب واحد وهو ممارسة الرياضة ، ومع هذا لا تقلد جمعية الشبان المسيحية في جعل الرياضة وسيلة للتهذيب الديني ، وإن عقدت اجتماعات دينية فينقصها عنصر الجدية وحرارة الإيمان ، هذا بالإضافة إلى أن جمعية الشبان المسيحية جزء من النظام العالمي وهي تخضع في مجموعها إلى الكنيسة".
وهم يتجهون دائماً في عملهم التبشيري الفردي إلى إدعاء أن القرآن الكريم موضوع وليس موحى به من الله ، وإلى أن الفلسفة العربية أفكار يونانية كتبت بأحرف عربية ، وأن اللغة العربية لم تعد صالحة اليوم لاستيعاب كل الأغراض ، بدليل الكلمات الأجنبية الدخيلة على العربية ، كما يجتهدون في إحياء الشعوبية بين الدول الشرقية : الفرعونية في مصر ، والأشورية في العراق ، والبربرية في شمال أفريقية ، والفينيقية على ساحل فلسطين ولبنان ، ويفضلون اللغة الفارسية في إيران - كلغة آرية - على اللغة العربية - كلغة سامية.
وكان لهذا الاتجاه الجديد الأثر السيئ في بلادنا إبان الثورة "ثورة 23 يوليو المجيدة" ، إذ دفع جماعة من أقباط مصر إلى تشكيل هيئة دينية سرعان ما سرت في كل أنحاء الوادي باسم "جماعة الأمة القبطية" حوالي سنة 1954 ، وقد بدأت في أسيوط ، وكانوا
(1/65)
________________________________________
يتظاهرون بقيامهم بثورة كنيسة لإصلاح النظام الكنسي ، ونتيجة لهذا اختطفوا "الباب من دار البطريركية" ، وإذ أراد الله بالجمهورية العربية المتحدة سلاماً وأمناً بارك في رجال الثورة الذين استطاعوا أن يقمعوا هذه الحركة قبل أن تصبح خطراً تسانده الدول الغربية ، وصدر قرار جمهوري بحل جميع الأحزاب السياسية وكان لهذا القرار الأثر الطيب في استقرار وتوطيد الأمن في البلاد.
وكان هذا العمل الجليل لطمه على وجه بريطانيا ، ولكنها كظمت غيظها حتى معركة بورسعيد سنة 1956م إذ انفجرت مع فرنسا وإسرائيل لغزو الجمهورية العربية المتحدة ، ولكن هذه الدول الثلاث قد قهرها الله - عز وجل - على أمرها ونصر الله رجاله وأعز جنده وأمن البلاد وطمأن أهليها.
والمبشرون والمستشرقون يدعون إلى قراءة الكتب ، فيؤسسون المكتبات العامة ويؤثثونها بكل وسائل الراحة للقراء والمطالعين ، ويزودونها بمختلف أنواع الكتب في شتى العلوم والفنون ، وبدار طباعة لطبع جريدة أسبوعية باسم "الصداقة" ، ويرسلونها إلى المترددين على مكتباتهم العامة ، ويستغلون المكتبة في القيادة التوجيهية للمتمردين عليها ، ويعملون مسابقات في المطالعة بتلخيص مجموعة من الكتب تختار من بين مجموعة تعرضها لجنة المكتبة ، ويمنحون جوائز تشجيعية في حفل رائع للفائزين.
وكل هذه الأعمال كفيلة باكتساب صداقة عناصر جديدة لتذوق اللغة الإنكليزية أو الفرنسية والتشرب بالثقافة الأوربية ، حتى جاء على الشرق حين من الدهر أصبح في الأسرة الواحدة عدة ثقافات ، فبينما تجد الفتاة تجيد اللغة الفرنسية ، والفتى يجيد اللغة الإنكليزية ، تجد الوالد يعيش على لغة قومه اللغة العربية ، ويرى
(1/66)
________________________________________
نفسه غريباً بين أفراد أسرته التي استمسكت بأهداب المدنية الغربية بدلاً من استمساكها بالعروة الوثقى ، وأصبحت الأسرة تجعل الأحد عطلة نهاية الأسبوع جرياً على عادات أهل الغرب ، ونسيت يوم الجمعة وما فيه من فرض وسنة ، وما في أداء شعائره من مثوبة. أما المثوبة ففي لقاء المؤمنين بعضهم لبعض ، أما الفرض ففي أداء صلاة الجمعة ، أما السنة ففي التزيى بخير ما لدى الإنسان من ثياب {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، وفي أداء الفرض والسنة ، وفي لقاء المؤمنين من الأجر العظيم ما فيه.
فهل بعد كل هذا يستبدل المسلم يوم الجمعة بيوم الأحد ؟
ومن حسنات حكومة الثورة أنها استأصلت هذه الانحرافات ، فجعلت العطلة الرسمية لكل المؤسسات بالجمهورية العربية المتحدة يوم الجمعة فقط ، وأصدرت قانوناً بجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للتعامل في كل دروب الحياة ، في التجارة والصناعة والعلاقات الدولية ، وبهذا حفظت للغة العربية ، لغة القرآن الكريم ولغة التفاهم بين المسلمين قاطبة ، سيادتها.
الإسلام قوة لا تقهر :
لم يكن المستشرقون ولا المبشرون يوماً ما ينصفون الحقيقة العلمية للعلم ، بل كانت أبحائهم كلها موسومة بصورة واضحة من أسس عقائدهم ، مقاصدهم الخبيثة.
وكان لزاماً على في هذه العجالة أن آتى بحقيقة سجلها التاريخ بمداد من ذهب على صفحات الأيام ، فأشرقا دائماً بأمجاد الإسلام والعروبة ، وهذه الحقيقة تتلخص في هجرات المسلمين :
(1/67)
________________________________________
في هجرة جعفر إلى أبي طالب إلى الحبشة ، وإكرام النجاشي له ، بعد تأثره بما عرف من فضائل الإسلام ، ولم يكن بيد جعفر سيف يحارب به؛ بل هاجر مجرداً من كل سلاح إلا سلاح الإيمان ، ليجد في جوار النجاشي حماية وأمناً وسلاماً.
ويسمع النجاشي بالرسول الكريم ، ويصيخ بأذنيه إلى القرآن الكريم ، فيؤمن بالله وبرسله ، ويحمي ضيوفه المهاجرين في رحابه ، الذين حين جاءوا غليه حيوه بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فسألهم النجاشي بقوله : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل ؟ فقال جعفر : "أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل القوى منا الضعيف ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ، وصدق قوله وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى توحيد الله وأن لا يشرك به شيئاً ، ونخلع ما كنا نعبده من الأصنام ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والداء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ، وأمرنا بالصلاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام - فآمنا به وصدقناه ، وحرمنا ما حرم علينا ، وحللنا ما أحل لنا ، فتعدى علينا قومنا فعذبوننا ، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. فلما قهرونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك". فقال النجاشي : "هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟" قال : "نعم" فقرأ عليه سورة مريم. فبكى النجاشي وأساقفته وقال النجاشي : "إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة". وأرسل إليهم النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح فقال جعفر : "نقول فيه الذي جاءنا به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول". فأخذ
(1/68)
________________________________________
النجاشي عوداً من الأرض وقال : "ما زاد على ما قاله عيسى مثل هذا العود" فنخرت بطارقته (أي تكلمت مع غضب ونفور) فقال : "وإن نخرتم". وقال للمسلمين : "أذهبوا فأنتم آمنون" وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني أشهد إنك رسول الله ، صادق مصدق ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفر بن أبي طالب ، وأسلمت لله رب العالمين". وكان - رضي الله عنه - رداءاً للمسلمين نافعاً حاكماً بالقسط ، مات بأرض الحبشة في رجب سنة تسع ، وقيل قبل الفتح.
عن عبد اله بن عتبة ، عن ابن مسعود قال : "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي ونحن نحوا من ثمانين رجلاً فيهم عبد الله بن مسعود ، وجعفر ، وعبد الله بن عرفطة وعثمان ابن مظعون ، وأبو موسى ، فأتوا النجاشي".
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ، ثم
(1/69)
________________________________________
قالا له : "إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا" قال : "فأين هم ؟" قالوا : "هم في أرضك فابعث إليهم". ؟ فبعث إليهم ؟
فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم ، فاتبعوه. فسلم ولم يسجد ، فقالوا له : "ما لك لا تسجد للملك ؟" قال : "أنا لا نسجد إلا لله - عز وجل -" قال : "وما ذاك" ؟" قال : "إن الله - عز وجل - بعث إلينا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمرنا ألا نسجد لأحد إلا الله - عز وجل - ، وأمرنا بالصلاة والزكاة".
قال عمرو بن العاص : "فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم" قال : "ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟" قالوا : "نقول كما قال الله - عز وجل - : هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد ؟".
قال : فرفع عوداً من الأرض ثم قال : "يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ، فو الله ما يزيدون على الذي يقول فيه ما يسوي هذا ، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده ، أشهد إنه رسول الله فإنه الذي نجد في الإنجيل ، وإنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم ، أنزلوا حيث شئتم ، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتين حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه".
(1/70)
________________________________________
وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما! ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً ، وزعم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر له حين بلغه موته.
رواه أحمد واللفظ له وأورده الهيثمي وقال رواه الطبراني.
ويقول فضيلة الأستاذ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية :
جميع رسالات السماء متفقة على أصول لا تتغير ذواتها ، وإن كانت قد تتغير صورها على مقتضى مطالب الأزمان ، ومستويات الفهوم والمقاصد.
فالتوحيد ، والعبادة ، والفضائل ، والخير ، والإيمان بالجزاء. هي الأصول الخمسة ، التي قامت عليها جميع الأديان ، وهي الحقائق التي تنقلت على ألسنة كافة الرسل ، وانتقلت معهم من أرض إلى أرض ، ومن زمان إلى زمان.
وهذه الحقائق ، هي معاني الإسلام ، الذي هو روح كل الأديان {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} من قبل ومن بعد.
ولا يتم إيمان العبد حتى يؤمن بكل دين سابق من عند الله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
(1/71)
________________________________________
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. ويقول الله تعالى : {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ويقول تعالى : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقال تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وقال تعالى : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقال تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}.
ومن ثم كان دين الله واحداً كما قلنا ، في أصله ، وإن اختلفت صوره ، ودين الله هو الإسلام ، ولا غير الإسلام ، سابقاً ولاحقاً.
فمثلاً نوح يقول : {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
ويقول إبراهيم : {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، ويقول أيضاً : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، ويبلغ القرآن عن يعقوب : {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وهذا يوسف يقول كما قال جده إبراهيم {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وهؤلاء هم سحرة فرعون يقولون : {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وهؤلاء هم حواريو عيسى يقولون : {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وهذا رسولنا الخاتم - صلى الله عليه وسلم - يقول : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
هذا هو الحق وإن كره المبشرون والمستشرقون يظاهرهم ويساندهم الاستعمار.
(1/72)
________________________________________
السياسة العامة للتبشير والاستشراق :
سلك المبشرون والمستشرقون كل مسك ظنوه محققاًَ لأهدافهم ، واستطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر ، والمجمع العلمي بدمشق ، والمجمع العلمي ببغداد ، كما تدخلوا - بتأييد الاستعمار - في مجال التربية والتعليم محاولين غرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين ، ونجحوا في هذا إلى حد كبير ، حتى إن أولياء العهد لملوك المسلمين كانوا يقصدون إنجلترا للدراسة والعلم ، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر :
1- الملك السابق فاروق (مصر)
2- الملك فيصل - قتله الثوار - (العراق)
3- الملك حسين (الأردن)
ولعل الغرض من هذا كله أن يشبوا متشبعين بمبادئ الغرب ممالئين له ، وبهذا تخف في نفوسهم موازين القيم الإسلامية والقيم الوطنية العربية.
ومن أعمالهم :
1- الاشتراك في المجالات العلمية الرسمية :
أولاً : المجمع اللغوي بمصر
(1) هـ. أ. ر. جب ، أكبر مستشرق إنكليزي ، وكان عضواً بالمجمع اللغوي بمصر ، وهو الآن أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة هارفارد الأمريكية ومن كبار محرري وناشري (دائرة المعارف الإسلامية) ، وله كتابات كثيرة فيها عمق وخطورة. وهذا هو شر خطورته.
(2) لوي ماسينيون ، أكبر مستشرق فرنسي معاصر ، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال أفريقيا ، والراعي
(1/73)
________________________________________
الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر ، وكان عضواً بالمجمع اللغوي المصري ، والمجمع العلمي العربي بدمشق ، وهو متخصص في الفلسفة والتصوف الإسلامي.
(3) د. س ؟ مرجوليوث ، إنكليزي متعصب ضد الإسلام ، ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية) ، وكان عضواً بالمجمع اللغوي المصري ، والمجمع العلمي بدمشق.
(4) ر. أ. نيكولسون ، كان من أكبر مستشرقي إنجلترا المعاصرين ، ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية) ، تخصص في التصوف الإسلامي والفلسفة ، وكان عضواً بالمجمع اللغوي بمصر ، وهو من المنكرين على الإسلام أن الإسلام دين روحي ، ويصفه بالمادية وعدم السمو الإنساني.
ثانيا : المجمع العلمي بدمشق
(1) جريفنى ، الإيطالي ، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق.
(2) جوتهيل ، الكولومبي ، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق.
(3) جويدي ، الإيطالي ، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق.
(4) جي سو ، الفرنسي ، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق.
(5) نالينو ، الإيطالي وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق. وهو مشهور بكتاباته ضد الإسلام.
(6) هارتمان ، ألماني الأصل ، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق ، ومن مؤلفاته الإسلام والقومية.
(7) م. هوتمان ، الهولندي ، وكان عضواً بالمجمع العلمي بدمشق ، ومن محرري (دائرة المعارف الإسلامية).
(1/74)
________________________________________
من هذا يستطيع المرء أن يدرك مدى خطورتهم وتداخلهم في المجالات العلمية ، وهم يعملون وفق خطط مدروسة ، حيث يجتمعون في هيئة مؤتمرات بين الحين والحين.
وقد تركزت أهداف الاستشراق والتبشير أخيراً ، مع تنوعها في خلق تخاذل روحي ومعنوي ، وإيجاد شعور بالنقص في نفوس المسلمين والشرقيين عامة ، وحملهم من هذا الطريق على الرضا والخضوع للتوجيهات الغربية.
ومنهم نفر اشتغلوا بالآداب الشرقية والعربية والعلوم الإسلامية ، ثم ساروا بدراستهم إلى الموازنة بين الآداب الغربية وسموها وكمالها ، والآداب العربية (الإسلامية) وتخلفها عن ركب الحياة.
ومن المؤتمرات التي عقدوها وتدارسوا فيها منهاج سياستهم :
1- مؤتمر القاهرة - عام 1906.
2- مؤتمر بيروت - عام 1911.
3- مؤتمر القدس - عام 1924.
4- مؤتمر القدس - عام 1935.
5- مؤتمر دلهي بالهند - عام 1961.
وهم فيما يخرجون به من قرارات - إنما يقررون ما يستطيعون تنفيذه ، فهم لا يدعون المسلمين إلى المسيحية ، بل يحاولون تشويه الإسلام وإضعاف قيمته ، ثم يصورونه ويصورون المسلمين للرأي العالمي الأوربي والأمريكي بصورة مزرية ، بعيدة عن المستوى الحضاري في عصرنا الحاضر. فالمسلمون في تصويرهم قوم يعشقون الملذات ، ويدمنون المخدرات ، ويغرمون بالنساء وتعدد الزوجات ويستدلون على ذلك بما يبدو من ملوك وسلاطين المسلمين.
(1/75)
________________________________________
2- مقاصدهم من التمثيل في المجلات الرسمية :
وإذا كانت الدول الإسلامية قد سمحت لهؤلاء المستشرقين بأن يساهموا في المجمع اللغوي - فهل عرفت هذه الدول آراءهم في الإسلام والمسلمين قبل أن تسنح لهم بذلك ؟ هذه حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن الذهن. ولنبدأ بعرض شيء من هذه الآراء :
(1) يصور المنسنيور كولي الإسلام - في كتابه "البحث عن الدين الحق" - بهذه الصورة : (في القرن السابع برز في الشرق عدو جديد ، ذلك هو الإسلام الذي أسس على القوة ، وقام على أشد أنواع التعصب ، لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتبعوه ، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق ، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب ، ووعد الذين يهلكون في القتال (يستشهدون في سبيل الله) بالاستمتاع الدائم بالملذات (في الجنة) ، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وأفريقيا وأسبانيا فريسة له ، حتى إيطاليا هددها الخطر ، وتناول الاجتياح جنوب فرنسا ، لقد أصبحت المدنية مصابة ، ولكن هياج هؤلاء الأشياع (المسلمين) تناول في الأكثر كلاب النصارى ... ولكن أنظر ، ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سداً منيعاً في وجه الإسلام المنتصر عند بوانية سنة 752م ، ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين (1019 - 1254) في سبيل الدين ، فتدجج أوربا بالسلاح ، وتنجي النصرانية ، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب ، وأنتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة".
وقد نال هذا الكتاب رضا البابا ليون الثالث عشر سنة 1887 ، وعاش في المدارس المسيحية في الشرق والغرب إلى اليوم.
(1/76)
________________________________________
(2) يقول و. س. نلسون : "لقد لأخضع سيف الإسلام شعوب أفريقيا وآسيا شعباً بعد شعب".
(3) ويقول أديسون : أن محمداً لم يستطع فهم النصرانية ، ولذلك لم يكن في خياله منها إلا صورة مشوهة ، بني عليها دينه الذي جاء به للعرب.
3- مؤلفاتهم :
1- دائرة المعارف الإسلامية.
2- دائرة المعارف "القسم المتصل بالإسلام والعرب".
3- دراسة في التاريخ "القسم المتصل بالإسلام والرسول". تأليف العلامة أرنولد توينبى.
4- حياة محمد ، تأليف سير ويليام موير.
5- الإسلام ، تأليف ألفرد جيوم.
6- الإسلام (باللغة الفرنسية). تأليف هنري لامنس.
7- دعوة المئذنة ، تأليف كينيث كراج.
8- طريق الإسلام ، تأليف جماعة من المستشرقين منهم هـ. أ. ر. جب ، وترجم إلى اللغة العربية.
9- ترجمة القرآن ، وضع أ. ج. أربري.
10- الإسلام ، تأليف صموئيل زويمر.
11- الهداية ، ترجم إلى اللغة العربية في أربعة أجزاء.
12- ميزان الحق ، ترجم إلى اللغة العربية.
13- مصادر الإسلام ، تأليف سنتكلير ، وتسدل.
(1/77)
________________________________________
14- المسيحية في الإسلام (باللغة العربية) ، تأليف الايغومانس إبراهيم لوقا.
4- تلاميذ المستشرقين والمبشرين (عملاء الاستعمار) :
وإذا كان الاستشراق والتبشير قد قام على أكتاف الرهبان والآباء في أول الأمر ، ثم أتصل من بعد ذلك بالمستعمرين. فإنه لا يزال حتى اليوم يعتمد على أولئك ، و إن تظاهروا برسالتهم الدينية والخيرية فإنهم يقظون دائماً ، يحدقون بعيونهم ويصيخون بآذانهم إلى مختلف الأوساط لمعرفة كل الاتجاهات ، حتى يستطيعوا أن يذللوا أي عقبة تعترض في سبيل نشاطهم وعملهم ، فهم في سرية أعمالهم كالجمعية الماسونية ، تنشد في الظاهر السلام العالمي ، لكنها دعوة سرية لاستتاب حكم التوراة في ربوع العالم ، أما عيون هؤلاء وآذانهم فمنهم على سبيل المثال لا الحصر :
(1) الأستاذ عزيز عطية سوريال ، مصري مسيحي ، كان أستاذاً بجامعة الإسكندرية ، وهو يدرس الآن بإحدى جامعات أمريكا ، شديد الحقد على الإسلام والمسلمين ، كثير التحريف للتعاليم الإسلامية ، يندفع في حقده على الإسلام لكون بعيداً عن مصر والعالم الإسلامي ، له بعض كتب عن الحروب الصليبية.
(2) الدكتور فيليب حتى ، لبناني مسيحي ، أكتسب الجنسية الأمريكية ، وكان أستاذاً بقسم الدراسات الشرقية بجامعة برنستون بأمريكا ، ثم رئيساً لهذا القسم ، وهو الآن بالمعاش ، ومن ألد أعداء الإسلام.
(3) دكتور بطرس عبد الملك ، مصري مسيحي ، وهو أستاذ اللغة العبرية ، وكان أستاذي بكلية اللاهوت الإنجيلية من سنة 1945 - 1948م ، عرضت عليه الإذاعة العمل بالأقسام الموجهة
(1/78)
________________________________________
فرفض ، وقد أشتغل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة رئيساً لقسم الدراسات الشرقية ، ثم نزح بأسرته إلى أمريكا حيث أصبح هناك أستاذاً بجامعة برنستون سنة 1961.
5- تمويلهم :
يعتمد المستشرقون والمبشرون في تحقيق أهدافهم وتمويلها على ما تقوم به المؤسسات الدينية والسياسية والتجارية في الغرب ، وكان ملوك وأمراء أوربا وأثرياء أمريكا يحبسون أوقافاً ومنحاً لهذا العمل. ومن هؤلاء (دكتور جبسون) الذي وقف أموالاً طائلة لطبع التوراة والإنجيل وتوزيعها مجاناً على كل العالم ، و(روكفلر) ومنحة العلمية للوافدين من آسيا وأفريقيا. وكان هذا السخاء مما دفع المستشرقين إلى الاستزادة من كشف طلاسم التوراة ، فدرسوا اللغة العبرية ، وتفقهوا فيها ، وأصبحوا أساتذتها ، وأدت بهم هذه الدراسة إلى دراسة اللغة العربية والأدب والإسلام ، واتسع نطاق النشاط العلمي حتى شمل ديانات ولغات وثقافات الشرق بأسره.
(1/79)
________________________________________
السياسة التوجيهية العامة
يجدر بي - وقد التزمت بالصراحة في خدمة الإسلام والعروبة - أن أتحدث عن مجال نشاط الاستشراق والتبشير (الاستعمار) في رجال التوجيه في بلدان الشرق ، فإن للاستعمار وسائله الخاصة.
إن مجال نشاط المستشرقين والمبشرين يبلغ المدى البعيد بين صفوف رجال التوجيه في بلدان الشرق ، ولهم في ذلك وسائلهم الخاصة في تفريق شمل المسلمين وإضعاف شوكتهم ، والعمل على الغض من اللغة العربية التي هي في نظرهم لغة القرآن الكريم.
ووسائلهم في توجيه الرأي العربي إلى ما يريدون - بطريق غير مباشر - يتم بصورتين :
الصورة الأولي : استخدام تلاميذ المستشرقين والمبشرين "عملاء الاستعمار" من الوطنيين الذين درسوا بجامعاتهم وتشربوا بمبادئهم ، وهؤلاء - وقد أصبحوا قادة الفكر - إنما ينفذون سياسة المستعمر بقصد أو بغير قصد منهم وبإيحاء من توجيهات المستشرقين والمبشرين.
الصورة الثانية : قيام بعض الغربيين بمؤلفات عن الثقافة الإسلامية ، وعمل موازنات بينها وبين الثقافة الغربية (النصرانية) ثم العمل على تشويه الحقائق.
(1/80)
________________________________________
أما الصورة الأولى : فتتلخص في قيام بعض المفكرين من المسلمين بحركة تقدمية في الإسلام ، وعلى غير قصد منهم يقررون سياسة المستعمر ، ويثبتون ولايته على المسلمين من الوجهة الإسلامية ، أو بعبارة أخرى تبغي عدم تحديه أو معارضته في مباشرة سلطته على المسلمين أو في إدخال ما يسميه بنظم الإصلاح الحديث بينهم ، وكان من تلاميذ الاستعمار في تحقيق هذه الصورة (السير أحمد خان) بالهند ، الذي أشتهر بحركته العلمية القائمة على الافتتان بالعلم الطبيعي وبالحضارة الغربية.
والافتتان بالعلم الطبيعي - أو الطبيعة كما يقال - يؤدي إلى خفة وزن القيم الروحية والمثالية ، وهي القيم التي تقوم عليها رسالة الأديان السماوية التي يمثلها الإسلام أوضح تمثيل. ولم يكن السير أحمد خان داعية فقط لهذا التجديد أو لهذه التقدمية في الإسلام ، بل كان كذلك صحفياً ومؤلفاً ومدرساً ومشرفاً على كلية علمية دينية هي : (الكلية الإنكليزية الشرقية المحمدية).
وفي هذه الكلية كان يدرس الدين المسيحي بالعناية التامة التي يدرس بها الإسلام ، ولهذا كان للسير أحمد خان نفوذه سياسي تربوي ، أقترن بحركته التجديدية التي أثرت - فيما بعد - في خلق المذهب القادياني والأحمدية بالهند.
ومن تلاميذ الجامعات الفرنسية الدكتور طه حسين ، وهو صاحب التجديد في الأدب العربي في مصر ، وحركته تقوم على الانطلاق في التفكير الحر الرزين جرياً وراء الحقائق ، وكان بلا منازع عميد
(1/81)
________________________________________
الأدب العربي ، بل عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة ، ثم أصبح فيما بعد وزير المعارف العمومية.
وكان في نشأته رئيساً لتحرير مجلة الكاتب المصري ، وهي مجلة تصدرها شركة الكاتب المصري التي هي جماعة من يهود مصر الذين هجروا مصر نهائياً عقب الانتصار على العدوان الثلاثي ببورسعيد سنة 1956م.
وهو مؤلف لعدد كبير من الكتب ، منها : الشعر الجاهلي ، ومستقبل الثقافة في مصر ، وكثير غيرهما.
ولقد كان للسيدة قرينته الأثر القوي في دفعه إلى النجاح بمؤازرتها له بكل ما تملك من الإخلاص المعنوي والمادي ، وهي سيدة فاضلة فرنسية المولد.
أما كتابه الشعر الجاهلي فإنه يقوم على فكرة واحدة ، هي أن الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام ، وفي هذا نقتطف بعضاً من أقواله ، قال : (إن العرب لم يكونوا على غير دين ولم يكونوا جهالاً ، ولا غلاظاً ، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى كذلك يمثلهم القرآن (ص 22 ، 23). ويستطرد فيقول : (وإذا كانوا أصحاب علم ودين ، وأصحاب ثروة وقوة وبأس ، وأصحاب سياسة متصلة
(1/82)
________________________________________
بسياسة عامة بها مؤثرة فيها - فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية ، لا أمة جاهلية همجية ، وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن ظهر في أمة جاهلية همجية) (ص 15).
ومن هذا يخرج بهذه النتيجة : (فالقرآن الكريم أصدق مرآة للعصر الجاهلي). ويستطرد فيقول : (أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن أنفع وأجدى من التماسها في هذا الشعر العقيم الذي يسمونه الشعر الجاهلي ؟ أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهلين) (ص 22 ، 23).
يم يستطرد في انتفاضه لإعجاز القرآن الكريم فيقول : (أفترى أحداً يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية وغيرها من الديانات التي لا يدينها أحد في مصر ؟ ولكني أهيج النصارى حين أهاجم النصرانية ، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية ، وأحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام) (ص 16 ، 17). وينتهي بهذا كله إلى الرأي القائل بأن الإسلام دين بشرى ، وأن القرآن ليس وحياً إلهياً ، إنما قاله صاحبه لقوم معينين ، ولذلك تجاوبوا معه أو قاموا ضده.
وفي هذه المداراة حقق هدفاً من أهداف الاستشراق هو أن القرآن موضوع وليس وحياً من الله ، وإن القرآن مرآة لأفق خاص من الحياة ، هو أفق من عقائد تلكم العقائد المنتشرة وقتئذ في رقعة الجزيرة العربية ، لا سواها.
وبهذا يتفق مع آراء المستشرقين وكتاباتهم أمثال المستشرق
(1/83)
________________________________________
الإنكليزي "جب" أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة ، فهو يتفق مع جوهر كتابه (المذهب المحمدي) ويتفق مع كتاب سنكلير تسدل (مصادر الإسلام) من أن شرائع الإسلام تأسست من شرائع الأديان المعاصرة له والمنتشرة وقتئذ في الشرق ، ألا وهي اليهودية ، والمسيحية ، والهندية ، والصابئة ، والفارسية ، والجاهلية.
ويحسن بي أن أورد نموذجاً لافتراءاتهم في هذا الموضوع ليتبين المسلم مدى خطورة مثل هذه الكتب :
لقد زعموا أن الإسلام أخذ من الجاهلية : صلاة الجمعة ، وصوم عاشوراء ، وتطييب البيت الحرام ، وحظ الذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين ، التكبير ، والأشهر الحرم ، والحج والعمرة ، نتف الإبط ، وحلق العانة ، والوضوء والاغتسال ، والختان ، وتقليم الأظافر.
وأخذ من الصابئة : الصلوات الخمس ، والصلاة على الميت ، وصيام شهر رمضان ، والقبلة ، وتعظيم مكة ، وتحريم الميتة ولحم الخنزير ، وتحريم الزواج من القرابات.
وأخذ من الهندية والفارسية : قصة المعراج ، والجنة والحور والولدان ، والصراط.
وأخذ من اليهودية : قصة قابيل وهابيل ، وقصة إبراهيم ، وقصة ملكة سبأ ، وقصة يوسف.
وأخذ من النصرانية : قصة أهل الكهف ، وقصة مريم العذراء ، وقصة طفولة يسوع.
(1/84)
________________________________________
وبالموازنة بين "المذهب المحمدي" لمؤلفه المستشرق الإنكليزي (جب) وكتاب "الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين ، نجد تطابقاً تاماً في المفاهيم مع اختلاف في الأداء والعبارات وتطابقها فيما يأتي :
1- أن محمداً أستغل المقدسات الدينية في مكة ويف مقدمتها (البيت الحرام) ، وكانت ثورته ضد الحياة الاجتماعية الظالمة ثورة طابعها ديني ، ويستطرد كتاب "الشعر الجاهلي" إلى الرأي القائل : إن محمداً قبل قصة إسماعيل وتعلم اللغة العربية لاستعداد المكيين أنفسهم لقبولها رغبة منهم في الوحدة والتكتل ، ليكونوا قوة ثالثة في مواجهة قوتي الفرس والروم.
2- إن الحياة الجاهلية قبل الإسلام كانت حياة حضارية اقتصادية دينية.
3- إن القرآن لم يكن جديداً عليهم حتى عقيدة الوحدانية ذاتها لم تكن غريبة عنهم. لكن - كما يقول المستشرق الإنكليزي _(جب) - أن ثورة العرب ومعرضته له كانت خشية للمنافسة السياسية.
بينما يقرر الشعر الجاهلي بقوله : (لو لم يكن القرآن مألوفاً لما حفل به أحد).
4- إن دعوة الإسلام دعوة محلية ، لجماعة خاصة ، ولحياة خاصة. إذ يقول المستشرق الإنكليزي (جب) في كتابه "المذهب المحمدي" : إن الإسلام انطباع للحياة الجاهلية ، ويقول الدكتور طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي : إن الإسلام تعبير صادق عن هذه الجماعة في حياتها الخاصة وأمانيها.
(1/85)
________________________________________
ولم نطلع على كتابة للدكتور طه حسين يرجع فيها عن شيء مما كتب ، أو يعدل ويشرح شيئاً منه.
ومن هذا يخلصون بآرائهم إلى القول بأن القرآن ليس وحياً من الله ، إذ إنه لو كان وحياً من عند الله لكان للناس جميعاً في كل مكان ، وكل زمان.
وأمام هذه النزعات الخطيرة ضد الإسلام يقول الله سبحانه في شأن القرآن الكريم : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، ويقول عن الرسول الكريم ، وعن العرب الذين بعث فيهم : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. "الجمعة 2 - 4".
ويقول : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "الحاقة 40 - 43".
ويقول : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} "الأعراف 157".
ويقول في عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. "سبأ 28". ويقول : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. ويقول : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
(1/86)
________________________________________
ويقول جل شأنه ، بشأن إعجاز القرآن الكريم : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. "البقرة 23".
ويحذرهم مغبة انحرافهم وضلالهم ، فيقول : {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} "البقرة24".
ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه ، وسجل التاريخ شهادة قوية تؤيد الحق والإسلام فيقرر ابن خلدون عن القرآن الكريم ما نصه : "فأعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا يفهمونه ويعلمون معانيه في مفردات وتراكيبه. وكان ينزل جملاً جملاً ، وآيات آيات ، لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية ، ومنها ما هو في أحكام الجوارح ...".
وقال في موضع آخر : "ويدلك على هذا كله أن القرآن من بين الكتب الإلهية إنما تلقاه نبينا صلوات الله عليه ، متلوا كما هو بكلماته وتراكيبه ، خلافاً للتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية ، فإن الأنبياء يتلقونها في حالة الوحي معاني ويعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد لهم ، ولذلك لم يكن فيها إعجاز".
ويتفق في هذا الرأي أعلام اللاهوتيين الغربيين ، ومنهم دوملو ، ودكتور شاف ، وغيرهما ، ويقول دوملو في تفسيره للكتاب المقدس
(1/87)
________________________________________
ما ترجمته : "إننا لا ينبغي أن نقيم الكتاب المقدس ككتاب كامل تماماً ، بإعتبار الله ذاته هو واضعه مستخدماً البشر أيديهم وعقولهم كما يستخدم الإنسان الآلة الكاتبة".
ويقول دكتور فيليب شاف في كتيب له : " إن الأناجيل لا ينبغي أن نعتبرها كتباً موحي بها ، وأن الله هو المصدر الوحيد لها لا الإنسان. ولكن ينبغي أن ننظر إليها من زاوية أخرى ، أنها محاولات لرجال امتازوا بالورع ولكنهم ليسوا بموهوبين من أتباع المسيح الذين عاصروا حياته".
الصورة الثانية - من صور توجيه المبشرين والمستشرقين للرأي العام الإسلامي :
وهذه تكون بقيام بعض العلماء الغربيين بإبراز الخلافات المذهبية ، وتأكيد الفجوات والثغور بين الطوائف والشعوب الإسلامية من الجهة الشعوبية أو الجغرافية أو نظام الحكم.
وهؤلاء العلماء قد يفدون إلى البلاد في سياحة في الشرق يعودون على أثرها وقد أعدوا للكتابة مؤيدون ما يكتبونه بالصور الفوتوغرافية التي يلتقطونها ، أو بالرسوم التي يرونها من واقع الحياة مع خيالهم السابح في الأوهام مما يسيء إلى مكانة الدول الشرقية في الخارج ، ويؤسفنا أن هذه الكتب تكتب عادة بأسلوب تهكمي قصصي يغذي خيال الشعوب الغربية الأوربية والأمريكية ، ولها أثر سيئ في تصوير المسلمين تصويراً غير حقيقي.
وينتهز المستشرقون هذا اللون من الكتابة فيدونون - باسم البحث العلمي - كتباً في علم الأجناس ونفسية "فسيولوجية"
(1/88)
________________________________________
الشعوب فيها ، ويخرجون من هذا بقولهم : إن مفهوم الإسلام يختلف باختلاف الشعوب ، فهناك إسلام الهند ، وإسلام تركيا ، وإسلام البربر في شمال أفريقيا ، وإسلام مصر ، وإسلام الملايو ، وإسلام اندونيسيا ، وإسلام الصحراء الكبرى ، وإسلام أفريقيا السوداء. وكل إسلام يختلف عن الآخر باختلاف الجنس ، ولكل إسلام في فهم القرآن والسنة طريق خاص يوافق المصادر التي يستقي منها منهاجه وشريعته.
ومن هذا النشاط أيضاً ، كتبهم العقائدية المريرة ، يتحدثون فيها عن الخلاف بين أهل السنة والشيعة ، بين أهل السنة في مصر ، والشيعة في بغداد. ثم يعرجون إلى الحديث عما يسمونه بالعداء بين المملكة العربية السعودية وما يسود فيها من مذهب محمد بن عبد الوهاب من جانب والعراق وإيران وما يسودهما من اتجاه شيعي من جانب آخر ، ويتحدثون عن الفجوة بين البيت الهاشمي في العراق من ناحية ، والبيت السعودي في شبه الجزيرة العربية من ناحية أخرى.
من هذا يتبين أن الإسلام في نظرهم ليس واحداً ، بل هو متعدد ، وهذا التعدد وفق الشعوب المؤمنة به ، أو الطوائف أو المصادر التي تحتضنه ، وهذه السموم التي ينفثونها للتأثير في اتجاه المسلمين والتسلط على الشعوب المسلمة ، ولا عجب فإنها وجدت إقبالاً من المشتغلين بالثقافة الإسلامية.
والأمر لا يقف عند هذا الحد من التصورات والأوهام ، بل زج المبشرون بأنفسهم وتعرضوا لمكانة العلماء الأفاضل من المسلمين ،
(1/89)
________________________________________
وأخذوا ينسبون إليهم شروحاً مفتعلة بأهوائهم للوصول إلى أهدافهم ، مما تسبب عنه الانحراف بالتعاليم الإسلامية وتحويلها عن أهدافها الأصلية.
ومن الشرائع الإسلامية التي حولوها عن أهدافها الحقيقية :
تعدد الزوجات ، وإباحة الطلاق ، وقد ظنوا أن الرجل بسيادته على المرأة لا يجد فيها إلا متعة ولذة. وهذا ما كتبه اللورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) إذ يقول : "إن الرجل المسلم يتمسك بإسلامه لما يمكنه الإسلام من السيادة على المرأة ، وهو في تمسكه بالإسلام أشد تمسكاً به من المرأة المسلمة ، ويعلل هذا الافتراض بأنه ظاهرة في الحياة الإسلامية ترجع إلى اختلاف وضع كل من الرجل والمرأة في الإسلام على النحو المضار إليه".
وحول هذا المعنى دارت المحاضرة التي ألقاها بقاعة الإمام محمد عبده بجامعة الأزهر في 19/12/1964 ضيف وزارة الأوقاف ، المستشرق الفرنسي ، الدكتور برجير فاشون ، رئيس قسم التشريع الإسلامي بكلية جامعة باريس.
وفي هذا ما يقيم الدليل مرة أخرى على انحراف اجتهاد المستشرقين في تأويل المفاهيم والأوضاع الخاصة بالتأملات الإسلامية الأمر الذي ينبغي أن يكون موضع دراسة مستفيضة من علمائنا المسلمين لإقناع أمثال هؤلاء الباحثين وتوجيههم إلى الحقائق الأصلية التي شرعها الله سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين.
(1/90)
________________________________________
كمال التشريع الإسلامي (ولو كره الكافرون)
وللرد على مثل هذه المفتريات لا يسعني إلا أن آتي بإقرار رجل من رجال القانون البارزين ، وعالم من العلماء الإنكليز هو مستر بنتام الذي يقول في كتابه (أصول الشرائع) في نقد النظام الكنسي :
"حقاً إن الزواج الأبدي هو الأليق بالإنسان ، والملائم لحاجته ، والأوفق لأحوال الأسرة ، والأولى الأخذ به .... ولكن إن اشترطت المرأة على الرجل إلا تنفصل عنه حتى لو حلت في قلبيهما الكراهية الشديدة مكان الحب والثقة لكان ذلك أمراً منكراً ، لا يستسيغه أحد من الناس ، على أن هذا الشرط موجود بدون أن تطلبه المرأة ، إذ القانون الكنسي يحكم به ، فيتدخل بين العاقدين حال التعاقد ، ويقول لهما : أنتما تقترنان لتكونا سعيدين ، فلتعلما أنكما تدخلان سجناً سيحكم غلق بابه ، ولن أسنح بخروجكما وإن تقاتلتما بسلاح العداوة والبغضاء".
ويعلق الفيلسوف بنتام على هذا بقوله : ولو كان الموت وحده هو المخلص من زواج هذا شأنه لتنوعت صنوف القتل واتسعت مذاهبه ، ولكن لحسن الحظ استحدث المسيحيون من القوانين المدنية
(1/91)
________________________________________
ما يفتح لهم أبواباً للطلاق ، ويعفيهم من أن يلجأوا إلى القتل أو الانتحار للخروج من هذا السجن.
وهذه الظاهرة - وهي السير في الأحوال الشخصية وفق قانون مدني يختلف عن تعاليم الدين - لا تكاد توجد في غير شعوب الغرب المسيحي ، فجميع أهل الملل والنحل الأخرى حتى البرهميون والبوذيون ، والوثنيون ، والمجوس ، يسيرون في أحوالهم الشخصية وفق تعاليم دياناتهم.
وقد نجد من بينهم من استحدث في الأحوال العينية قوانين مدنية تختلف عن تعاليم دينه ، ولكننا لا نكاد نجد من بينهم من استحدث قوانين مدنية في الأحوال الشخصية ، أي في شئون الزواج والطلاق ، وما إلى ذلك ... وأمكن لهذه النحل والملل أن تساير الحياة العملية ، وتجاري طبيعة البشر في هذه الشئون ، والمسيحيون وحدهم هم الذين كفروا بدينهم من الناحية العملية في الأحوال الشخصية على العموم ، وفي شئون الطلاق على الخصوص ، لأنهم هم أنفسهم قد وجدوا أن تعاليمه في هذا الصدد تنكر الواقع ، وتتجاهل طبيعة الإنسان ، ولا تصلح للتطبيق في الحياة.
ولم يستطع رجال الدين المسيحي سبيلاً إلى صد هذا التيار ، ولا الوقوف في وجه المنطق والعقل وضرورات الحياة الإنسانية ، فتركوا الأمور تجرى في أعنتها ، واكتفوا بأن يظهروا من حين إلى حين على مسرح الحوادث حينما يتعلق الأمر بملك أو عظيم ، وحينما تكون الظروف السياسية مواتيه لظهورهم ، كيما يثبتوا وجودهم ، وكيما يبقوا على شيء من سلطانهم الديني ، كما حدث في موضوع ملك إنكلترا الأسبق "إدوارد الثامن" الذي أراد أن يتزوج
(1/92)
________________________________________
بعشيقته ، وهذا ما تندد فيه الكنيسة إذ أن مسز سمبسون مطلقة ، وتعتبر في نظر الكنيسة زانية ، وهذه المطلقة قد ملكت على الملك قلبه وحواسه ، وكانت الظروف السياسية لسوء الحظ مواتية لإحراج هذا الملك ، والوقوف في سبيل رده عم نزواته ، فظهرت الكنيسة بأناجيلها ، وبأن من يتزوج بمطلقة يزني ، وخير له أن يمتثل لهذا الخرافات ، ويحتفظ لنفسه بالعرش الإمبراطوري العظيم ، أو ينزل على حكم قلبه فيتنازل عن العرش ، وكان أن آثر الملك إدوارد الثامن أن يتنازل عن العرش على أن يستسلم إلى خرافات الكنيسة.
ومن الغريب في الأمر إنه كان معروفاً لدى الخاص والعام ولدى الكنيسة والشعب أن هذا الملك كان يعاشر خليلته هذه وهي لا تزال في عصمة زوجها مستر سمبسون ، قبل أن تطلق منه ، وكان لها جناح خاص في قصره ، ولم يرتفع صوت الكنيسة ، ولا صوت الشعب بالاحتجاج على ذلك.
فمعاشرة الملك لها كخليلة لم يثر فيهم غضبة أو نفوراً إطلاقاً ، بل كانوا غاضين النظر عن تعاليم الإنجيل ، ولما أبدى رغبته في أن سنة الأب والابن والروح القدس ، وأن يعاشرها معاشرة شرعية ، لا معاشرة الرفيق لرفيقته - بعد أن تمت إجراءات طلاقها من زوجها الأول اللورد سمبسون - إذا بالكنيسة تهب في وجهه ، ويجتمع رجال الدين ويلوحون بالتعاليم الكنسية.
وموقف آخر لرجال الدين في إحراجهم للأميرة مرجريت ، التي أحبت كابتن تاونسد ، وكانت ترافقه في رحلاته ، فلما شرعت في الزواج منه هبت الكنيسة في وجهها بأن هذا الكابتن الذي
(1/93)
________________________________________
عشقته مرجريت مطلق ، ولا يجوز لها أن تتزوج بمطلق لئلا تعتبر زانية في نظر الكنسية ، مع أن طلاقه كان قد تم وفق الأوضاع الكنيسية نفسها ، إذ أقرت زوجته السابقة بتهمة الخيانة الزوجية وثبت ذلك عليها بأدلة مادية قاطعة ، وأعتقد الرأي العام المسيحي أنها زانية ، ولابد أن تطلق.
وهكذا لا يظهر رجال الكنيسة بسخافاتهم هذه إلا حينما يكون الأمر متعلق بملك أو عظيم ، وحينما تكون الظروف السياسية مواتية لظهورهم ، فهم لا يقصدون بذلك إلا انتهاز الفرص لإثبات وجودهم في صورة بارزة ، والإبقاء على شيء من سلطانهم الديني ، والظهور أمام الشعب بمظهر الجلال والقدسية ، وإقامة الدليل بطريق عملي على أن مكانتهم فوق مكانة التيجان ، ومنزلتهم فوق منزلة الأمراء والملوك.
ولا أدل على ذلك من أن حالات الطلاق وزواج المطلقين والمطلقات تحكم بها المحاكم الأوربية والأمريكية ، وتنفذها الهيئات المدنية في مختلف شعوب الغرب المسيحي على مرأى من الكنيسة ، ومسمع من رجال الدين ، دون أن تحرك ساكناً ، أو تقوى على الاعتراض على القوانين التي تبيح ذلك ، أو على الحالات في تطبيقها.
ولا أدل على ذلك أيضاً من أن رئيس وزراء إنكلترا السابق (السير أنطوني إيدن) قد طلق زوجته الأولى التي هربت مع عشيقها إلى أمريكا ، وهو الآن متزوج من غيرها ، ولم يرتفع صوت الكنيسة بالاعتراض عليه ، ولا على توليه أكبر منصب في الدولة ، لأن الظروف السياسية لم تكن مواتية لارتفاع مثل هذا الصوت ، أو التلويح بالأناجيل في وجهه.
(1/94)
________________________________________
هذا هو النظام المسيحي الذي أهمله أهله أنفسهم ، وهذا هو إقرار من سادتهم من رجال القانون ، ومع عدم ملاءمة شريعة الزواج عند النصارى للتشريع الإلهي وصلته بالإنسان ، يحاولون أن يذيعوا بين الأوساط الإسلامية استنكار تعدد الزواج ، واستنكار الطلاق ، ويتابعهم في هرائهم هذا المتفرنجون من أبناء وبنات المسلمين ، وهم لا يدرون أن الفرنجة لا يقصدون بذلك إلا الكيد للإسلام ، وتشويه تعاليم الإسلام القدسية ، وتوهين منزلته في نفوس معتنقيه ، وإشاعة الفوضى والانحلال في الأمم الإسلامية.
(1/95)
________________________________________
الشريعة الإسلامية
الإسلام وحده يرعي مصالح العباد ، ويضع الأصول الصالحة الكاملة للعلاقات الزوجية. فالقرآن الكريم يقرر علاج الموقف قبل البت في الطلاق ، كما بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء 19).
ويقول الحكيم العزيز : {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء 128).
ويقول - عز وجل - : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء 35).
فإن حدث الطلاق فإن القرآن يضع من الأحكام ما فيه الحرص على سلامة الأسرة كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
(1/96)
________________________________________
أَمْرًا} (الطلاق 1). ويقول العليم الحكيم : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق 2). ويقول الرحمن الرحيم في عدد مرات الطلاق. وإباحة المراجعة في المرتين الأولى والثانية حرصاً على بقاء الزوجية : {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة 229).
ويقول القدوس السلام : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (البقرة 213).
ويقول الوهاب : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة 228).
ثم يوجب نفقة الزوجة على زوجها بقوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة 233). وقوله - عز وجل - : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق 6) وقوله - صلى الله عليه وسلم - :
(1/97)
________________________________________
"اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (رواه مسلم). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة - وقد شكت إليه شح زوجها أبي سفيان : "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف" (رواه البخاري).
هذا هو نظام الإسلام السمح في المعاملة بين الزوجين أثناء العشرة ، وعند الطلاق ، وهذه هي إجراءاته المنصوص عليها في القرآن الكريم ، وإيقاع الطلاق على غير هذا الوجه المنصوص مخالف لما شرعه الله - عز وجل -. ويطول بنا الكلام لو أردنا بيان كل ما جاء به ، فليرجع من أراد إلى الفقه الإسلامي المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله ، ليرى من ذلك كل ما فيه صلاح وإسعاد للزوجين.
الاستعمار لا يزال يناهض الإسلام ...
والاستعمار يتربص بالعرب والإسلام بعمل إيجابي أيضاً هو تمجيد القيم الغربية المسيحية بمقارنتها بالقيم الإسلامية والتيئيس من التضامن والتكتل الإسلامي ، ليصل بذلك إلى تفتيت وحدة المسلمين إلى الأبد. ومظهر هذا التمجيد للقيم الغربية يظهر في إبراز التفوق الغربي في الصناعة ، وبالتالي في زيادة الدخل الخاص والعام ، وازدهار المدنية والحضارة.
والاستعمار لا يهدأ حتى يحقق له هدفاً من تلك الأهداف ، وكل أعماله الآن تبوء بالفشل ، لأن مصر اليوم غير مصر بالأمس ، فمصر اليوم رائدة التحرر ، لأنها أدركت معنى الحرية ، ورائدة الإسلام ، لأنها أدركت القيم التي يحتويها الإسلام "العزة لله ولرسوله وللمؤمنين". والعرب والعالم الإسلامي من ورائها سائرون.
(1/98)
________________________________________
لقد كان المبشرون والمستعمرون بالأمس يسخرون من الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ويطعنون في القرآن الكريم ، بل كانوا يتجاهلون السيرة النبوية وما للرسول الكريم من آثار خالدة في الجهاد ، إنهم يكتبون عن الرسول ما شاء لهم الخيال ، ليخففوا عن أنفسهم آلام هزائمهم أمام المسلمين في الحروب الصليبية ، وقد بلغ من حقدهم في عداوتهم للإسلام أن كنيسة روما في سنة 1530م قد أحرقت في مدينة البندقية نسخة من القرآن الكريم ، وحرم البابا إسكندر طبعه أو طبع ترجمته ، وكان المستشرقون - ليبرروا ترجماتهم للقرآن الكريم - يمهدون لأعمالهم بمقدمة وتذييلات لتفنيد القرآن الكريم ودحضه وإثباتا لحسن إيمانهم بالكنيسة وبالكتاب المقدس ، ودفعاً للشبه أمام أهل ملتهم. هذا ، والقرآن بإعجازه كالجبل الراسخ لا يعبأ بترهاتهم ولا تنال من حقائقه أكاذيبهم.
والحمد لله أن رجال الثورة قد فطنوا لأسباب تخلف الشرق واستطاعوا بقوانين ثورية أن يشقوا طريقهم إلى العزة القومية ، فكان التأميم الذي شمل جميع المرافق الحيوية والمؤسسات ذات سمة التوجيه والمؤسسات ذات السيادة الرأسمالية حتى استطاع المواطن أن يدرك حقيقة الحياة الاشتراكية التي يعيشها ، وتقييم حياة الفرد : الفلاح والعامل والمثقف حياة الوئام والقوة ، واستطاع أن يعيد مجد مصر القديم. ولو تحررت كل الشعوب الإسلامية وسارت في درب هذه المعاني التي نسير فيها لكنا قوة نرهب به عدو الخير ولاستطعنا أن نقهر الاستعمار المعنوي كما قهرنا الاستعمار العسكري.
* * *
(1/99)
________________________________________
كلمة أخيرة ذات معنى
إن من أقوى تسرب الأخبار للدول الغربية الحقيبة الدبلوماسية.
لعل أقوى مثل لهذا سفير الولايات المتحدة بالجمهورية العربية المتحدة (جون بادو) ، ومن هو ؟ إنه الأستاذ بالجامعة الأمريكية ثم مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وله عدد كثير من أصدقائه من خريجي الجامعة ، من هؤلاء من يتبوءون مراكز أدبية حساسة ، ولهذا السفير اجتماعات حول موائد الشاي تارة ، وفي عيد الاستقلال الأمريكي طورا آخر ، وفي عيد الشكر يجتمعون ويتسامرون ، ثم يعقدون اجتماعات خاصة ، ثم تكون المعلومات ، ثم تعد الحقيبة الدبلوماسية لتطير إلى الولايات المتحدة. ومصداقا لهذا ما ثبت من قضية الجاسوسية التي استطاع الرائد أديب حنا وضع يده عليها ، فإنها تؤكد أن الأخبار كانت تتسرب إلى الخارج عن طريق الحقيبة الدبلوماسية كما أفادت الجرائد وقتئذ.
ثم هذا سفير آخر هو ملس ميشيل عندوم ، كان طالبا بكلية أسيوط ، وكان على صلة بالأمريكان وتحت رعايتهم ، وكانت الكنيسة الأثيوبية تخضع لسلطة الكنيسة الأرثوذكسية بالقاهرة ، إلا أنها - لأسباب سياسية بحتة - انفصلت نهائيا في أيامنا هذه. ولعل هذا الانفصال كان بإيعاز من الإنكليز حتى لا تتأثر الحبشة بالمجال السياسي للجمهورية العربية المتحدة.
(1/100)
________________________________________
لا يستطيع بنو البشر أن يطفئوا نور الشمس
من الفيوضات الربانية للأمة الإسلامية أن هذه الحركات التبشيرية قد خدمت الإسلام والمسلمين ، فظهر في الإسلام رجال دافعوا عن الإسلام ، وكتبوا كتباً أصبحت مع الأيام مراجع علمية زاخرة. كما قيض الله من بين رجال الغرب علماء أنصفوا الحقيقة فكتبوا أروع ما كتبوا عن الإسلام والقرآن الكريم ، هذا بالرغم مما بذله الاستعمال بنفوذه ودعائه ومؤازرته للتبشير بالفكر المسيحي وبحضارة المسيحيين ، ومن تيئيس المسلمين في صور شتى في مستقبلهم وفي علاقاتهم بالإسلام.
بالرغم من كل ذلك وجد من قادة الفكر الحر من الغربيين ومن المسلمين من تصدي لمثل هذه الضلالات في أوربا وفي آسيا وأفريقيا.
لقد أخذ الإسلام مع بزوغ القرن الثامن عشر وفي العصر الذي يسمونه بعصر النور والإصلاح - أخذ من قادة الفكر الغربي اعتبارا جعلهم يحسنون تقديرهم للإسلام شيئا فشيئا على نحو مستمر ، ولكنه لا يكاد يحس به إنسان من فرط بطئه ، فهناك الآن رجال أحرار ينصفون الإسلام في كتاباتهم ، ويستعينون بمراجع غير تلك التي كتبها المستشرقون والمبشرون ، مراجع من المسلمين أنفسهم ، كالمؤرخ العربي أبو الفدا. ومن هذا التراث الإسلامي ظهرت هذه الذخيرة :
1- الديانة المحمدية للعلامة الهولندي أدريان ربلان.
2- كتاب حياة محمد للعلامة الفرنسي أرنست جانييه 1723.
3- كتاب حياة محمد للعلامة الفرنسي هنري كونت دي بولاتفيه 1730.
4- كتاب تاريخ محمد مشرع العربية للعلامة الفرنسي فرنسوا هنري.
(1/101)
________________________________________
وفي الهند - ظهر محمد إقبال يهاجم القاديانية هجوما عنيفا من الوجهة الإسلامية والوطنية ، وفي الوقت نفسه يكتب كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام".
وفي الجمهورية العربية المتحدة - ظهر الإمام الشيخ محمد عبده يهاجم الاستشراق ، ويضطره هذا الهجوم إلى الكتابة عن نوايا الإسلام بالنسبة للمسيحية.
ومع هذين الرجلين : محمد إقبال ومحمد عبده ، ظهر جمال الدين الأفغاني من الفترة من سنة 1839 - 1893 في أوج الحركة التبشيرية والنفوذ الاستعماري في الشرق - ظهر يحمل على السيد/ أحمد خان وينقد كتابه وفلسفته (السلوك الطبيعي) نقدا مرا في كتابه الرد على الدهريين ، وفي الوقت نفسه أخذ يدعو المسلمين جميعا إلى العودة إلى القرآن الكريم.
هؤلاء الثلاثة كانوا من المفكرين ، وكان ثلاثتهم من السياسيين أصحاب التوجيه ضد الاستعمار.
أما وقد انتهيت من بسط تقريري هذا فلا أقل من عرض العلاج الحاسم لدرء شر الاستعمار وإجلائه مادياً ومعنوياً عن آسيا وأفريقيا ، ويعجبني ما جاء به السيد الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف وشئون الأزهر سابقا في تقريره "المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام" في صفحتي 4 ، 5 عن العلاج الحاسم ، إذا وضع ثقة مطلقة في المؤتمر الإسلامي ، وأنا أضيف على النسق المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. والله المستعان.
(1/102)
________________________________________
العلاج
كما يراه الدكتور محمد البهي
وزير الأوقاف وشئون الأزهر سابقاً
"إن المؤتمر الإسلامي - كمؤسسة ناشئة ذات إمكانيات خاصة - عليه إزاء التبشير والاستشراق :
أولا : أن يساهم في تنقية الحياة المصرية والعربية والإسلامية من رواسب هذين العاملين ، فيبعد عملاءهما من حياة التوجيه في مصر في جوانبها المتعددة ، ويكون ذا صلة وثيقة بوزارة التربية والتعليم في الإشراف على حياة مصرية إسلامية أفضل في مدارس المبشرين - وهي المدارس الدينية التابعة للفاتيكان في طوابعها المختلفة ، من فرنسية وإيطالية وأسبانية وألمانية ، وهلم جرا. . . وعلى صلة وثيقة بالصحافة ووزارة الثقافة والإرشاد القومي في توجيه القلم والكتاب.
ثانيا : ثم عليه أن يكون مع المؤسسات التعليمية الإسلامية - كالأزهر - جهازا ثوريا يلقي به كتب المستشرقون ، وبحوثهم في مجلاتهم ومؤتمراتهم ، في الرد عليهم وشرح القيم الإسلامية ، وتقوية أواصر القربى بين الشعوب الإسلامية.
(1/103)
________________________________________
ثالثا : ثم عليه أن يخرج للمسلمين عاجلا في مشارق الأرض ومغاربها :
1) "دائرة معارف إسلامية" يكتبها علماء مسلمون متمكنون في فهم التراث الإسلامي من جميع بلاد العالم الإسلامي ، وتكون مرجعا للجوانب الثقافية العديدة.
2) وأن يقر "ترجمة" في كل لغة من اللغات التي ترجم إليها القرآن فعلا ، بعد مراجعتها مراجعة دقيقة ، من علماء لهم سعة إطلاع في التفسير والعلوم الإسلامية.
3) وأن يخرج "قاموسا" للفقه الإسلامي ، على نمط القواميس العلمية الحديثة في الاجتماع والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد. . . يكون مرجعا سريعا لمعرفة المصطلحات الفقهية ومدلولاتها في المذاهب الفقهية المختلفة.
والفرق بينه وبين "دائرة المعارف الإسلامية" أن هذه لا تقصر موضوعاتها على الفقه ، بل تعالج جوانب التراث الإسلامي كموسوعة علمية عصرية.
أما القاموس فمهمته التعريف في صورة مجملة سريعة علمية منظمة للفقه الإسلامي. والمسلم المعاصر - وبالأخص في البلاد التي تعرف اللغة العربية - في حاجة ماسة إلى مثل هذا القاموس.
4) وأن يصدر "مجلة" تتبع بحوث الاستشراق التي يزودها الغرب الصليبي للشرق الإسلامي في الوقت الحاضر ، سواء في كتبه
(1/104)
________________________________________
عن التراث الإسلامي أو في بحوث مجلاته العديدة التي تعني بهذا التراث وبوضعية المسلمين وتوجيههم. وحركة الغرب في توريده لهذه البحوث حركة ضخمة وسريعة كما يرى من الدوريات التي تنشرها الجمعيات الاستشراقية في مختلف بقاع العالم بلغات مختلفة. ومن الكتب التي تصدرها دور الطباعة الكبيرة في عواصم أمريكا الشمالية وإنجلترا وفرنسا.
وما سبقت الإشارة إليه من البيان. . . يعطي صورة تقريبية ولكنها صورة مزعجة للموجهين في العالم الإسلامي.
وإذا ابتدأ المؤتمر الإسلامي بالقاهرة في مواجهة (الاستشراق) مواجهة سافرة - وليس هناك حتى اليوم أية مؤسسة إسلامية في العالم تقوم بهذا الدور لأكثر من سبب - فستظهر له سبل أخرى يرى لزاما عليه أن يسلكها كي يصل إلى هدفه وهو :
إعادة تقويم القيم الإسلامية في نفوس المسلمين وفي نفوس الرأي العام العربي.
كما أرى أن تكون هناك مكاتب اتصال ملحقة بسفاراتنا بالخارج لتتبع كتابات المستشرقين والمبشرين وموافاتنا بها سريعا.