التطرف في الخطاب العلمي
التطرف في الخطاب العلمي
«جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث»
د. إبراهيم الشتوي
يمثل الخطاب العلمي النتيجة العلمية لطريقة عمل العقل الذي من خلاله ينظر الإنسان إلى الأشياء، ويحكم عليها، وحين تصاب هذه النتيجة بالخلل، فإن هذا يعني أن العقل المنتج نفسه مصاب، وهو ما يعني عدم الثقة بما ينتج عنه، وتأزم المشكلة التي يعانيها الإنسان.
وحين تتسلل مكونات التطرف إلى العقل، فتصبح قائدة له في النظر، والحكم، كما تصبح المنطلقات التي ينطلق منها في النظر إلى الأشياء، فإن هذا يعني أن الجهاز العلمي أجمع قد سقط باعتبار أن معايير التمييز قد اختلت فأصبح يقدم ما ليس مقدما، ويفضل الأشياء بناء على اتصافها بصفات خاصة حددت سلفا ليست مما تواضع عليها العلماء، وهنا لا يمكن الوثوق بالعلم ولا الاعتماد عليه أو على أحكامه في النظر والتقويم.
فمكونات التطرف المتمثلة بالإقصاء، والتصنيف، وتضخم الذات، ورفض الآخر بناء على موقفه الثقافي تتجلى في عدد من الأعمال العلمية، وذلك من مثل أعمال الكاتب جمال سلطان كما في كتابه «جذور الانحراف...»، الذي يتناول فيه جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث كما هو العنوان.
يذكر في المقدمة أن جذور الانحراف قديمة لم تتوقف إلا قبل عقدين من الزمن. والإشكالية لا تتمثل في النقد الذي وجهه إلى التجربة السابقة بأنها ناقصة، أولم تثمر ثمرا يانعا، أو أن له عليها ملحوظات، أو أن هذه التجربة الجديدة تحاول أن تسد نقص التجربة السابقة وتكملها، فإن هذا أمر معتاد في البحث العلمي الذي ينبغي أن يقوم على ذلك، وإنما تتمثل بوصف التجربة بأنها «انحراف». ونحن نعلم الإيحاء الذي تحيل إليه هذه اللفظة في ذاكرتنا اللغوية، إذ يتصل بالانحراف الأخلاقي، أو الديني. وهو ما يبينه قوله:
«وقلما كنا نحاول تفهم أسباب الانحراف، لقد كنا نكتفي بالمثل العربي القديم «البعرة تدل على البعير» وحقا لقد كان حجم البعرة التي خلفتها هذه التجربة في الفكر والقيم والتمدن، من السوء والانحطاط والكآبة، إلى الحد الذي يشهد على عمق الضلال الذي عاشه أبناؤها» (سلطان، 1412، ص5).
هذه الأوصاف التي أطلقها على التجربة وأبنائها، تبين موقف الكاتب الأيديولوجي، الذي لم ينطلق من معطيات موضوعية تبين نوع الانحراف، وحجمه الذي أصاب تلك الجذور، وهو ما يبينه حديثه عن رفاعة الذي لم يذكر فيه تلك المآخذ التي جعلته يعده من جذور الانحراف إلا خطأ واحدا تردد في كل ما ذكره عنه، وجاء عنوانا جانبيا لحديثه ذلك «النهضة تشرق غربا».
على الرغم أن هذه الحقيقة لا تعارض المبدأ الأصيل القائم على «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا» الذي يدعو إلى الاعتراف بحق المتقدمين بالتقدم وبفضلهم مهما اختلفنا معهم، وأن الأمم يستفيد بعضها من بعض، واللاحق من السابق. يتمثل هذا المأخذ بأن رفاعة يرى وجوب الاستفادة من التقدم الأوربي، والتحاور معهم، والاتصال بهم، والتتلمذ عليهم بدلا من التحارب معهم، وذلك بناء على أنهم متقدمون ونحن متخلفون. وقد نص رفاعة نفسه على أن ذلك فيما لا يتعارض مع القيم والثوابت الإسلامية كما نقل المؤلف نفسه: «ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية» (سلطان، 1412، ص20). في حين يرى الكاتب أن إسقاط المواجهة مع المتفوقين حضاريا يفتح إلى طريق ذي اتجاه واحد هو طريق التبعية.
هذا الموقف الإيديولوجي للكاتب/جمال سلطان القائم على العلاقة الضدية مع الآخر موقف متطرف لأنه لا يرى في العلاقة بالآخر إلا التبعية أو المواجهة ولا يمكن أن تكون هناك علاقة احترام، الأمر الذي جعله يؤول كل ما قام به رفاعة من جهود تحافظ على الأسس العلمية والثقافية العربية إلى النقيض منها، بما في ذلك موقفه السابق، وموقفه من أصول الفقه الذي يرى فيه علما يحتوي على المعارف والأسس العلمية التي قامت عليها قوانين الأوربيين، وهو ما يعني أن الفقه المعتمد عليه بالاستنباط قادر على أن يفي بحاجات الناس الحقوقية، وسواها من المواقف التي ذكرها الكاتب.
فمواقف الطهطاوي المتكررة والمتضمنة دفاعه عن التراث الإسلامي التشريعي، واعتماده بالاستحسان على ما لم يخالف الشريعة المحمدية، وإيمانه المطلق بأن التمدن ينبغي أن يكون للإسلام، وذمه لفرنسا وتفضيل مصر عليها لأنها مسلمة، ذهبت لأنه ترجم بعض الكتب الفرنسية، ودعا إلى توثيق العلاقات بالممالك الأجنبية بحجة إسقاط الحاجز النفسي بين البلاد العربية والأوربيين، وأن هذا نوع من التبعية الحضارية، و»التعبئة النفسية للأمة لكي تتقبل عملية تقليد التشريع الأوربي» (سلطان، 1412، ص16).وهي حجج قائمة على تأويلات نفسية لمشروع علمي وثقافي جعلته يعد الطهطاوي من جذور الانحراف، ويصفه بأنه من دعاة التبعية المطلقة، التي لا تحمل إلا وجها واحدا، ومن الذين يعانون الانفصام الحضاري كما أنه محاسبة له على ما قامت به الأجيال من بعده، وليس ما قام هو به، أو على معطيات علمية محددة من خلال أعماله.
والأمر اللافت للانتباه أن ما ذكره المؤلف من انقطاع الطهطاوي للعلم وطلبه منذ وقت مبكر في حياته، واتصاله بالثقافة الفرنسية بعد إتقانه العلوم الأزهرية وحفظه القرآن ، لم يشفع له في اعتبار ما سعى إليه كان اجتهاد عالم بذل وقته، وأنفق جهده في سبيل أمته، وقد أخطأ الأئمة السابقين، ولم يشنع بهم أحد، فلم يصبح خطأ الطهطاوي دالا على الانحراف، والتبعية، والخيانة إذا كان هناك خطأ حقيقي؟
وما قام به الكاتب هنا يؤدي إلى تضييق دائرة الصواب في جماعته هو، وحصرها في الأنا، والتقوقع عليه، ليس الأنا العربي المسلم في مقابل الآخر الأوربي، ولكنه تقوقع في الأنا الضيقة داخل العربي المسلم التي تتحول إلى آخر، وإذا لم يكن هذا هو التطرف فما هو التطرف إذا؟
المصدر: http://www.al-jazirah.com/culture/2012/31052012/fadaat13.htm
تناولت في المقالة السابقة نموذجاً من نماذج البحث العلمي، بدت فيه الرؤية الأيديولوجية طاغية على الرؤية العلمية؛ فقد بنت الدراسة المقدمات الخاطئة لتؤسس عليها نتيجة محددة سلفاً من خلال الموقف من الكاتب وما يُنسب إليه من انتماءات مغايرة لتوجه المؤلف. وفي هذه المقالة أتناول كتاباً آخر سار في الاتجاه عينه، وإن كان وَفْق طريقة مغايرة؛ إذ يسعى للتنظير لعلم جديد اسمه «بلاغة أهل السنة» من رؤية ليست بعيدة عن الأولى، وإن كانت تتوسل منهجية أكثر صرامة، لكنها تعتمد مكونات انبنت عليها رؤيتها الفكرية مسكوتاً عنها في الكتاب، تبدو من خلال المفهومات التي استعملها المؤلف، والغايات التي توخاها، وكانت الأساس الذي بنى عليها مقدماته. هذا الكتاب هو «بلاغة أهل السنة» للأستاذ الدكتور محمد بن علي الصامل.
صدر هذا الكتاب عن دار كنوز أشبيليا في طبعته الأولى مطلع 1418هـ في 153 صفحة من دون المراجع والفهارس. ويتناول الكتاب كما هو واضح من عنوانه موضوع البحث عن بلاغة أهل السنة، ومن هنا فهو يسعى منذ البدء في تقعيد هذا اللون من البلاغة، وهو ما أكده في آخر المقالة حين قال إن هذا البحث يتمم «الدعوة إلى منهج بلاغي يلائم معتقد أهل السنة» (الصامل، 1426، 12).
والسؤال الذي تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ الكتاب بناء على عنوانه، وما جاء في أهدافه، والقضية التي ندب إليها الباحث نفسه، هل هناك بلاغة لأهل السنة وأخرى للشيعة، وثالثة للمعتزلة؟ إذا كانت البلاغة تعتمد على اللغة للتأثير على المتلقي، وإقناعه، والبحث عن التعبير الجميل، فهل هذا يعني أن مذهب الإنسان يجعل تأثيره يختلف؟ وهو ما يدفعنا للسؤال: هل اختلف شعر الشيعة عن شعر السنة، أو حتى شعر النصارى عن شعر المسلمين من حيث اللغة، وهل أثر شرك شعراء العصر الجاهلي على بلاغتهم، وقد قال الله فيهم {بل هم قوم خصمون} (الزخرف،493)؟ وهل اختلفت بلاغة القرآن عن بلاغة المشركين الذين نزل بلغتهم؟ إذا ثبت ذلك أدركنا أن العنوان يفترض فرضية لا يمكن أن تصح؛ لأنه لا فرق في البلاغة نفسها بين مذهب وآخر، ودين ودين, قد تختلف في اللغات بناء على أن التأثير والإقناع يعتمد على الأعراف والتقاليد الثقافية، والخبرات الشخصية للجماعة، فما تتأثر به جماعة لا تتاثر به الأخرى، على الرغم من أن هذا ليس بدقيق؛ لأن العرب في قديمهم وحديثهم قد استفادوا من البحث البلاغي للأمم الأخرى وأخذوا عنه، وقد أدت ترجمات عبد الله بن المقفع في وقت مبكر في نشأة البلاغة العربية وأبحاثها.
هذه الحقيقة تدفعنا إلى النظر في الكتاب لمعرفة مفهوم بلاغة أهل السنة لديه، ونجده في بنية الكتاب قائماً على جمع التأويلات البلاغية التي قد يُفهم منها أحياناً أنها تخالف منهج أهل السنة في العقيدة، ثم البحث عن وجه آخر لها يلغي تلك الرؤية العلمية، فسعى الباحث إلى أن ينظر في مؤلفات البلاغيين منذ بداية التأليف البلاغي، ويقف عندها واحداً واحداً مبيناً عقيدة كل واحد منهم، وذاكراً المبررات التي جعلته يصنف هذا المؤلف هنا أو هناك، بناء على تأويلاته البلاغية. وتتحدد الملاحظات في المقولات التي تتكرر في كتب البلاغيين، ورأى بعض الدارسين أن المقصود منها هو نفي الصفات، من ذلك المشاكلة في قوله تعالي: {ويمكرون ويمكر الله}، أو تأويل الاستواء بالاستيلاء ونحوها.
وهو ما يعني أن بلاغة أهل السنة تتحدد في هذه التأويلات البلاغية التي يلتزم بها الباحث منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة. كما أنها تتحدد في التأويلات التي لها تماس مع قضايا العقيدة ولا تدخل في مسائل البلاغة الأخرى. وعلى هذا فليست بلاغة أهل السنة كما يرى الباحث سوى مراجعة بعض الآيات للتحقق من أن تأويلها لا يخالف منهج أهل السنة والجماعة، وهو ما يعني أحد أمرين:
أولاً- أن أخذ الأمر على ظاهره، وعدم استخدام أدوات الإقناع المختلفة، واعتبار القول على ظاهره وذا معنى واحد محدد هو بلاغة أهل السنة، وهذا خطأ؛ لأن الباحثين في أصول الفقه بحثوا عن المعنى المجازي، وفي منطوق الحكم ومفهومه، بمعني أن أهل السنة لا يلتزمون في تعاملهم مع النص بوجوهه المختلفة بمعنى واحد لا يتجاوزونه؛ فهم لا يحرمون البلاغة بأساليبها المختلفة.
ثانياً- أنه ليس المقصود بلاغة أهل السنة بمعنى الخصائص التي يصبح به الكلام بليغاً عند أهل السنة بوصفها مختلفة عن الشيعة أو المعتزلة أو الجهمية، وإنما البحث البلاغي عند أهل السنة بمعنى الذين بحثوا في المسائل البلاغية من أهل السنة، وهو بهذا المعنى إلى تاريخ البلاغة أقرب منه إلى البحث النظري في البلاغة الذي سعى الباحث أن يقيمه؛ ولذا فقد يكون العنوان الأنسب لهذا البحث هو: «البحث البلاغي عند أهل السنة». لكن الباحث لم يسر في الاتجاه، وإنما سعى لأن يبني عقيدة المؤلفين على التفسير البلاغي، باعتبارها لازماً بينهما، واعتبار أن هذا التفسير ليس له وجه سوى الوجه العقدي.
وقد يكون مؤلفو تلك الدراسات ينتمون إلى مذاهب وفرق غير المذهب السني، وذلك من خلال مؤلفات أخرى لهم، أو جهود علمية أخرى، لكن السؤال هنا يتصل بالبحث البلاغي وحده، باعتباره حدًّا فاصلاً بين المذاهب العقدية أولاً، ثم بنسب مثل هذه التأويلات المحددة إلى أهل السنة وفصلها لأن تكون بلاغة مستقلة ثم أن يكون التوجيه البلاغي وحده دليلاً على عقيدة المرء.
المصدر: http://www.al-jazirah.com/culture/2012/14062012/fadaat10.htm