أحادية «العقل» وتعددية الإنسان
ملاك الخالدي
رغم تطابق الناس في تكوينهم الفيسيولوجي إلا أنهم يتفاوتون فكرياً وروحياً، ويتعددون عرقياً وثقافياً وجغرافياً، فمن جماليات كلمة «إنسان» هي أحادية التكوين وتعددية التوليد، وهنا تكمن حيوية هذه المفردة التي عُطّلت في مراحل كثيرة من التاريخ البشري حيثُ ساد العقل الواحد فأصبح فيما بعد الأوحد وما سواه ليست إلا أصوات ناشزة منحرفة، رغم أن من دفع بذلك الفكر الأوحد في حقيقته هو الناشز عن المقاصد القرآنية العظيمة التي رفضت العقلية الآبائية التي تفرض على الجميع الفكرة الواحدة والنمط الأوحد دون إعمال العقل الفردي للأخذ والرد والتصحيح.
فالعقل الجمعي وإن كان يرتكز على أسس دينية في المجتمعات المتدينة إلا أنه فكر بشري تكوّن نتيجة تراكمات تاريخية وتغيرات حضارية وصراعات أيدولوجية وسياسية، ومع ذاك بقي خارج نطاق المساءلة والنقد فدخل في إطار المقدس.
فجبُل الناس على عقلٍ أحادي في مساحة ديموغرافية متباينة ما أدى إلى غياب التفكير العقلاني الخلاق أو العقل الفعّال ومن ثم توقف حركة الإبداع بشكلها الطبيعي باستثناء نماذج مُفكرة كان لها امتدادها وتأثيرها العقلي والإبداعي رغم تفردها وتهميشها واستهجانها.
وفي هذا السياق يقول قاسم شعيب: «إن الإنسان اجتماعي بطبعه كما تشير إلى ذلك الدراسات الأنثروبولوجية غير أن اجتماعية الإنسان لا يمكنها أن تجعل منه ببغاءً مقلداً، بل الإنسان بوعيه وعلمه وإرادته يمكنه الخروج من حالة الغوغائية إلى حالة السيادة التي تمكن الإنسان من امتلاك عقله وإرادته».
لذا بلغ العقل الأحادي ذروة إقصائيته في قمع كل فكرة مغايرة قد تنزع عنه حالة القداسة وتخضعه للمساءلة والنقد أو تؤدي إلى القبول بالتعددية التي تُفضي إلى النسبية التي من شأنها تغيير المعايير السائدة، لذا سعى الفكر الواحد لقولبة جميع العقول في إطار فكري أحادي، وهذا بالتأكيد ليس حصراً على العالم الثالث إنما نسق مرت به أغلب الحضارات البشرية إلا أنها تجاوزته بمراحل.
لذا ساد الركود العقلي أرجاء العالم الثالث، فغابت فاعلية هذا الامتداد البشري لقرونٍ خلت، فكان هذا الواقع المتراجع هو السبب بحالة الإحباط التي أصابت العالم العربي بعد الهزائم العسكرية والاقتصادية والسياسية التي مُني بها في منتصف القرن العشرين فدفعت بعض المفكرين العرب إلى توجيه التهمة للعقل العربي وهو ما قام به محمد عابد الجابري ومحمد أركون في مشروعيهما الفكريين حول نقد العقل العربي والإسلامي، كردة فعل على النمط الفكري الواحد الراكد في المشرق الإسلامي والتسارع الحضاري والإبداعي الذي ابتدأه الغرب في القرن الثامن عشر أو ما يُسمى بعصر «العقل» والذي كان الشرارة الأولى لقيام النهضة الغربية الحديثة.
المصدر: http://www.al-jazirah.com/culture/2012/27092012/fadaat9.htm