ضرورة الحوار

عبدالله الناصر

الحوار مطلب إنساني جمعي قبل أن يكون مطلباً فردياً.. فالحوار هو السبيل الوحيد إلى الاستقرار الكوني، والأمن البشري، الذي يفترض أن يسود فوق كوكبنا، كي يخلو ولو في بعض أوقاته من القتل، والإبادة والجور.

إذاً الحوار ضرورة حتمية يمليها جوهر العقل كما تمليها ضرورة الحياة نفسها، وليس لوناً من ألوان الاستعراض اللفظي. وكماليات ادعاء العيش بسلام، بيد أن الحوار له شروطه وله قواعده، وله أصوله وأنظمته، والتي يجب أن تكون قاعدة يقوم عليها، أي أن يكون حواراً مؤسساً.. أما إذا افتقدت هذه الشروط، فإن الحوار يصبح لغواً ونوعاً من أنواع العبث، أو نوعاً من أنواع المداهنة والرياء الإعلامي والاستهلاك الزمني.

فكثيرون يدعون إلى الحوار عبر وسائل الإعلام، وهم لا يحترمون قواعده، ولا يريدون أن يطبقوا أبسط نظمه، وطرحهم للحوار إنما هو نوع من أنواع الحيلة والمداهنة من أجل إقامة الحجة عليك، ليقولوا إننا ندعوك ونفتح قلوبنا لك، ولكنهم في الواقع عندما يأتي الجد لا يمتثلون لتلك الضوابط، والحقوق المشروعة، فتصبح الدعوى باطلة، ومضللة، وفيها الكثير من الكيد، والخبث، والنفاق السياسي أو الفكري أكثر مما فيها من الجد، والفلسفة الحوارية الإنسانية الصادقة..

وسوف أحاول أن ألقي الضوء على بعض النقاط المهمة حول إمكانية الحوار مع الغرب مثلاً، وهو مطلب مطروح بقوة ويظهر فيها الغرب وكأنه يتهمنا نحن بالرفض، وعدم الاستعداد للدخول معه في حوار خلاق، وبناء، يجعل التعايش معه ممكناً، ووفقاً لهذا الادعاء اتجه كثير من وسائل الإعلام، بل والمؤسسات، وبعض الحكومات، إلى التشديد على مبدأ الحوار من جانبنا، وأنه أصبح ضرورة تمليها علينا شروط التعايش، وهذا الملمح، أو المؤشر، يوحي إن لم أقل يجهر باتهامنا نحن بعدم الاستجابة لمبدأ الحوار، وقصورنا وتقصيرنا في هذه الناحية. ولكي لا نقع في مأزق تفنيد هذا الزعم، أو قبول صحته، دعوني أسأل سؤالاً علمياً محايداً: هل يقبل الغرب الحوار معنا بكل شروط الحوار ومبادئه ومن ثم نتائجه...؟ بمعنى أوضح لو دخلنا في حوار مع الغرب، واتضح قصورنا في جانب، وإقامة الحجة علينا، ثم قبلناها واعترفنا بخطئنا تجاهه.. هل سيقبل لو افترضنا أن الحجة قامت عليه بخطئه..؟ هل سيقبل ومن ثم يعترف بنتائج هذا الحوار ويتخلى عن خطئه إذا اتضح ذلك من خلال الحوار..؟

انه سؤال منهجي وأخلاقي، وملح وضروري، وإجابته هي التي تحدد جدوى الحوار من عدمه، وهذا السؤال تتوالد عنه أسئلة تاريخية من خلالها تتكشف الإجابة عن صدق النوايا والجدية في جدوى الحوار.

ولو سألنا سؤالاً تاريخياً اضطرارياً بالنسبة لنا عن سبب هذا الواقع الذي نعيشه، في التعامل مع الغرب، وسألنا هل الغرب منذ نظرته الأولى بعد أن صارت له اليوم شخصيته المهيمنة هل كان ينظر إلينا باحترام وتقدير..؟ أي هل كان يعتبرنا أصحاب حق في ما نملك، وفوق أرضنا التي عليها تكوّنا، وتكوّن تاريخنا، ومنها وفيها مصير عيشنا وبقائنا؟ أم أن الغرب نظر إلينا نظرة نقص، وعداء، واتجه بكل قوته إلى ضرب مناطقنا والاستيلاء على خيراتها، ومواقعها الجغرافية، التي تعتبر حساسة لمشاريعه التنافسية، والاستعمارية.. وبقول أوضح: ألم يستعمر الغرب أراضينا بالقوة، ويقتل المقاومين، ويشن الحروب العنيفة علينا، وعلى مناطقنا، ابتداء من القرن الثامن عشر وإلى هذه اللحظة..؟ هل ترك الغرب منطقة واحدة في بلادنا لم يجرب فوقها عتاده الحربي..؟ ألم يقتل خلال هذه الفترة قرابة عشرة ملايين عربي.. غير المشردين، والمنكوبين، والمشوهين، وغير وسائل تدمير الأراضي، والمزارع والنفوس.. وغير إشعال الفتن على الحدود وتمزيق الدولة الواحدة..؟ مع انه عندما أخرج من بعض بلداننا بالقوة كالجزائر مثلاً لم تشكل لمواطنيه محاكم تفتيش.

ألم يخطط الغرب ولا يزال يخطط لتقطيع أوصال الوطن العربي وتحويله إلى دويلات، قد لا تتعدى حدود المدن، كسايكس - بيكو مثلاً، وهو يعلن اليوم وفي مناسبات كثيرة عن تغيير خارطة المنطقة العربية..؟.

 

أليس الغرب وراء الفكرة المركزية للكيان الصهيوني داخل الوطن العربي، وتحويل هذه الفكرة إلى واقع موجود في قلب العالم العربي..؟.

ألم يفرض الغرب دولة إسرائيل بالقوة على حساب سكانها الذين هُجّروا، ونزحوا، وأخرجوا من ديارهم..؟ أليست إسرائيل اليوم بكل ما في وجودها من أخطار سياسية، وأخلاقية، ونووية، هي عمل غربي متفق عليه ضد العرب..؟ ثم بعد فرض إسرائيل ألم ترتكب خلال وجودها آلاف الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، والشعب العربي، باعتراف هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، وتدان بعشرات القرارات الدولية، فترفضها بمباركة الغرب..؟ بل أليس هو الذي يستعمل الفيتو عشرات المرات لصالحها.. إلى آخر ما في الحكاية الفلسطينية من أمور مثيرة، ومملة، تثير اليأس، والقنوط.. فهل يعترف الغرب بهذه الأخطاء عندما نتحاور معه.. أم انه يطلب إلينا أن نتحاور معه حوار من يقبل الظلم ويقبل يد الظالم..؟

ألا يرى الغرب في قوانينه، وأعرافه، وأخلاقه، أن الدفاع عن الأوطان حق مشروع لكل أمة وقع عليها هذا الظلم..؟ بينما يصبح الفلسطيني الذي يدافع عن مزرعته، وبيته، وأخته، وطفله، إرهابياً في نظره..؟

أليست الديمقراطية مطلباً غربياً ترى أنه الحل الوحيد والكفيل لخيار الإنسان أن يعيش بكرامة وحرية..؟ فإذا طبق لدينا صار جريمة، كما هي الحال في فلسطين، حيث نجحت حماس ديمقراطياً فحاربها الغرب حرباً شرسة، قاسية، لئيمة، وصلت حد منع الدواء، والخبز، عن أفواه الجياع والمرضى..!

فماهي المعايير الأخلاقية، وماهي المعايير الإنسانية، وماهي المعايير القانونية البشرية التي يتعامل بها معنا الغرب في الحوار معه..؟

ألم يحتل الغرب (التحالف الغربي) بلداً عربياً بلا مبرر قانوني، ولا شرعية دولية، باسم البحث عن سلاح الدمار الشامل..؟ فلما لم يجد شيئا قال مصالح امريكا، ثم قال محاربة الارهاب..!! وهو يصنع اليوم في هذا البلد "العراق" أكبر مؤسسة للإرهاب عرفها التاريخ البشري..

ألم يحول البلد الى خرائب، وحرائق، وجثث، ومدافن جماعية، ومزابل لأدوات ومواد حربية، لم تستعمل الا في العراق..؟ ألم يحول البلد الواحد الى بلدان مختلفة ومذاهب، وطوائف مختلفة، ولأول مرة في تاريخه يصبح الأخ يقتل أخاه، والجار يغتال جاره..؟ ألم يصبح العراق بالاحتلال الغربي اليوم موطنا للذعر، والخوف، والدمار، وموئلا للصوص، وتجار السلاح وتجار الأوطان، وخونة التاريخ..؟

فهل يقبل الغربي السياسي والإعلامي الحوار وطرح الأسئلة الصريحة حول هذه الأمور التي تدور في عالمنا العربي..؟ أليس الغرب اليوم هو الذي يؤجج الصراع في السودان جنوبا وغربا..؟

ألا يؤجج الآن الصراع في الصومال، فيقسمه إلى شطرين متحاربين، أحدهما بمباركته، وبامداده، وعونه، وتشجيعه..؟

أليس في هذا استعلاء، واستكبار، ليس في منطق الاحتلال، والعنف السياسي، بل حتى في العنف الإعلامي، والتعامل الأخلاقي في مبدأ الحوار معنا، ومعنا بالذات..؟

هل يتحاور الغرب معنا وتجاه قضايانا، كما يتحاور مع من كان يسميهم بمحاور الشر كإيران وكوريا وغيرهما..؟ هل اللغة الحوارية، وهل موائد الحوار التي يقوم عليها النقاش الظاهر والباطن مع تلك الدول، هي نفسها التي سيتم التحاور - لو حصل - عليها..؟

هل لغة الخطاب الغربي اليوم تجاه أولئك، هي اللغة التي يتعامل بها معنا في فلسطين، والعراق، والسودان، والصومال..؟

كل هذه الأسئلة أطرحها كي أصل الى نتيجة مقنعة تقنعني، وتقنع القارئ معي بأن الغرب فعلاً جاد، وصادق، في مبدأ الحوار.. الحوار الإنساني اللائق بنا كأمة لها الحق في العيش على أرضها، والتعايش مع الآخرين بسلام، ولها الحق في العيش بفكرها الذي تؤمن به.. ومسألة الفكر والحوار الفكري مع الغرب هي موضوع حلقة قادمة إن شاء الله.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2008/01/18/article309985.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك