الهاربون إلى التطرف
يذكّرني بعض الشباب المغرّر بهم تحت مسمى الجهاد أو غير ذلك من مسميات حق أريد بها باطل بما كان عليه عناصر "الجماعة السلفية المحتسبة" وهم شباب صغار السن لا يفقهون من الدين إلا ظاهره، أذكر أن بعضهم هرب من أهله ولعل سبب الهرب أحياناً لا يمت للدين بصلة إذ أن هروب الأحداث من أسرهم وأهليهم له أسباب عدة ولعل الأسرة تتحمل الجانب الأهم من المسؤولية وأحياناً تقع المسؤولية كاملة على عاتق شخص معين ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تضليل هذا الحدث وإلى انحرافه ولا نعني هنا انحرافاً أخلاقياً فقط وإنما فكري أيضاً مثل التطرف في فهم بعض النصوص الشرعية.. أغرب ما مر علي أن بعض الأحداث المتحمسين أخذوا على عاتقهم طمس الصور الإرشادية الموجودة على الطرق الخارجية التي تربط بين المناطق فكانوا يهربون من مدرستهم ويركبون وانيتهم ومعهم بخاخ رش بلون أسود وكما هو معروف ان الرسوم المعروضة على اللوحات تعبر عن صور الجمال (الإبل) غالباً وذلك لكثرة الجمال السائبة ووقتها لم يكن هناك خطوط سريعة ولا شبك ممتد على طول الطريق يحجز بين الجمال والخط العام يحكي لي أحدهم أنه كاد أن يتعرض للدهس بسبب لوحة على الجانب الآخر.
إلا أن أخطرها أو من أخطرها هروب الأحداث إلى من يستغلهم ويغرر بهم، وقد أدركت وعايشت حالات هروب منها هروب شاب من أهله تحت مسمى "الهجرة من دار الفسق إلى دار التقى أو الرحلة من دار الجهل إلى دار العلم" ودار الفسق أو الجهل هنا يقصد بها جميع المدن الكبيرة مثل الرياض أو جدة أو الدمام أو غير ذلك.. على كل حال هرب أحد الفتيان من أسرته وهي عائلة معروفة في الرياض.. هرب (ع س) إلى مكة والتقيت به هناك وكتب محمد بن عبدالله القحطاني قصيدته المشهورة بين الاخوان (لم يكن اسم شباب الصحوة عرف بعد) فقال:
عبد سرى في ليلة ظلماء
هرباً بتقواه من الفحشاء
هرباً من الفتن التي حاطت به
من فتنة السراء والضراء
عبد فتى في مستهل شبابه
عرف الهدى وطريقه بصفاء
قرأ القرآن تفهماً وتدبراً
وكذا اهتدى للسنة الغراء
ورأى حياة الصالحين سعيدة
بالخير في الإصباح والإمساء
إلى آخر القصيدة التي يبلغ عدد أبياتها 46بيتاً تقريباً والتي كانت تقرأ دائماً في تجمعات الإخوان في بيت الإخوان في منفوحة قرب (مسجد الرويل) حيث كان محمد عبدالله إماماً فيه وهو البيت الثاني الذي استأجره الإخوان بعد تركهم لأول بيت استؤجر في الرياض كمقر للإخوان في شارع الخزان كما طبعت هذه القصيدة مع السبع رسائل من غير ان يذكر اسم قائلها والقصيدة تدعي في مجمل أبياتها ان هذا الفتى هجر أهله وجماعته لأنهم في مكان فتن وفحشاء وضلال والحقيقة ان هذا محض افتراء فأهل هذا الفتى أناس فيهم خير كثير وبر وهرب الفتى وأنا أذكر أن مطلع القصيدة: (وفتى سرى في....).
أقول هرب الفتى من أهله مع أحد المسافرين الجوالين من الاخوان ووصل لمكة ونزل علينا في الصفيراء حيث كان يوجد بيت الاخوان ومكث هناك مديدة وتبعه والده وعمه واستدلا عليه في بيت الاخوان وحضرا وعملا على إقناع (الفتى ع س) وحضرت جزءاً من هذا اللقاء وحقيقة إن موقف الأب والعم وحرصهما على استعادة ولدهما الطائش يستحق الإشادة والتقدير لعلهما كفا عنه شراً كبيراً (مثل حادثة اقتحام الحرم والتي لم يتورط فيها هذا الشاب) ولو اهتم البعض بولده الذي ساير كل مدعٍ بعيداً عن رقابة الأهل لمنع شراً كثيراً وبعد توسلات العم وبكاء الأب عاد الفتى مع والده وعمه للرياض..
هناك واقعة أخرى من حوادث هرب الأبناء وكنت شاهداً عليها أيضاً وهي قصة الأخوين (ن د) و(خ د) كان (ن) من أسناني وتعرفت عليه في الرياض وهو من بادر أولاً في الهرب حيث ترك أهله وذهب للمدينة في الحرة الشرقية ثم هرب أخوه الأصغر (خ) وتبعه للمدينة وحضر هذه المرة للبحث عنهما في المدينة والدهما ووالدتهما وفشلت مساعي الأبوين في إقناع (ن) بالعودة معهما للرياض وعاد معهما (خ) أما (ن) فقد بقي في المدينة ثم انتقل لساجر ثم عاد للمدينة ..
المشكلة أن (ن) كان له تأثير سلبي على أخيه الصغير (خ) فكان (خ) دائم الهرب من أسرته وكان والده دائم البحث عنه في الحرة الشرقية بالمدينة المنورة.. إلى أن وقعت حادثة اقتحام الحرم فسلم (خ) من ذلك وتورط (ن).
وعلى طول مكوثي في مكة المكرمة وأثناء دراستي في معهد الحرم المكي ومن بعد ذلك سكناي في المدينة المنورة بالحرة الشرقية لفت نظري كثرة الشباب أحداث السن الهاربين من أهاليهم وغالباً أسباب الهرب عادية لا تستدعي الهرب من الأهل إلا أن حداثة السن تصور الأمور أكبر مما هي عليه إلا أن الغالب أو العامل المشترك بين هؤلاء الشباب ان الأهل لم يحسنوا التصرف معهم أو محاولة احتوائهم وهم في هذه السن، كما أن المكان يمثل غطاءً مقنعاً لمن يخبر أهله أنه ذاهب لأخذ عمرة أو عمل زيارة لمسجد الرسول وعليه من الممكن أن يلتقي بمن يريد من غير رقيب أو حسيب.. وبعد هذه السنين من القرب من هذه الجماعة أصبحت على يقين أن قبول أصدقاء الأبناء لا يكفي السبب فيه تدين الصديق لكي يحوز القبول والرضا والاطمئنان كما هو الأمر عند البعض إنما يجب أن يكون هناك نوع من الرقابة والملاحظة والمتابعة فهذا الصديق قد يكون متديناً إلا أنه قد يكون متطرفاً ويحمل أفكاراً ضالة قد يضل بها من يصل إليه من الشباب الأحداث.
كنت أعرف شاباً يبلغ من العمر ستة عشر عاماً وكان يقرأ معنا على الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في المدينة المنورة وترك الطلب بسبب مماشاته لأحد التكفيريين المتطرفين وأصبح يجادل في كل شيء (قضايا الإيمان أو الولاء والبراء وتشعيباتها) وتبنى الفكر التكفيري وأصبح يلتقي الشباب الصغار القادمين من بلدته لطلب العلم الشرعي بالمدينة المنورة ووصل به الحال إلى أن أصبح فتنة لأبناء بلده وغرر بمجموعة منهم وتابعوه حتى دخل بهم الحرم.
ما أريد قوله ان الرقابة على الأبناء مهمة ومطلوبة وكما قلنا سابقاً حتى لو كانوا يماشون شباباً من أعمارهم يرتادون المساجد ومشهوداً لهم بالصلاح لأنه ثبت في كثير من الحالات أن العبادات وأعمال الخير ليست هي السبب الوحيد لتجمع هؤلاء الشباب وما يتفق عليهم خلف الأبواب المغلقة هو الخطر الكبير عليهم وعلى مجتمعهم وبلدهم ودينهم.
المصدر: http://www.alriyadh.com/2004/05/09/article15448.html