التسامح بين الثقافتين الأوروبية والعربية
التسامح بين الثقافتين الأوروبية والعربية
تأسس مفهوم (التسامح) بالمفهوم الغربي الحديث (لفترة مابعد الثورة الفرنسية تحديدا) وفق فلسفة وضعية مؤداها القبول بتسوية غير مريحة (شبيهة بالعقد الاجتماعي) يتقبل بموجبها أفراد المجتمع وضعا وسطا بين ما يتحمله كل واحد منهم برضا وحماس مما يخص ذاته وبين ما يخص الآخر المختلف معه الذي يجبر بواسطة التسامح على أن يقبل به.
مفهوم التسامح هذا (toleratoin) مؤسس بالأصل وفق منظور تاريخي أوروبي على الجذراللاتيني للكلمه وهو الفعل (tolrate) ومعناه (التحمل) ويعني ذلك أن الفرد عندما يتسامح مع نظيره فإنه سيضطر إلى تحمل مالاتحمد عقباه من جهته ومن ثم فإن هذا المفهوم وفق الجذر اللاتيني سيكون أمرا قابلا للإدانة باعتباره مؤديا إلى تحمل مالايطاق ولايسر من جهة الفرد المتسامح.
إذاً وفق المفهوم اللاتيني المجرد يصبح التسامح مجرد فضيلة أخلاقية مثلى يتفضل بها من أراد التسامح لينال مايؤمله من ثناء الناس وتبجيلهم لطيب نفسه وكرم أخلاقه ولكن لاقوة ملزمة له لأداء هذه الفضيلة ومن ثم يبقى وجودها في المجتمع معتمدا على وجود أولئك المثاليين الذين هم مستعدون للتحرر من غلواء النفس لأدائها عن طيب خاطرفقط.
كيف تحرر مصطلح التسامح من المفهوم المتعالي القائم على كرم النفس وطيب الخاطر إلى مفهوم ملزم وفق قانون الواجب ليس للفرد من حيلة لدفعه عن نفسه بل هو ملزم بأدائه للآخر سواء رضي أم لم يرض ؟ هذا له قصة رائعة مستوحاة من العمق الفلسفي الغربي.
يشير (سمير الخليل) في كتابه (التسامح بين شرق وغرب) إلى أن (تي إس إليوت) استطاع ببراعة حدسية نادرة إلى التقاط الخيط الرفيع الذي ينقل التسامح نقلة نوعية من كونه فضيلة مثالية تعتمد على أريحية الشخص إلى كونه واجبا يؤديه لاخيار له فيه إذ استطاع أن يحول مجرى المصدر اللاتيني (toleration) بشكل شبه جذري بإيجاد معنى جوهري مغاير تماما لمعناه السوسيولوجي المتداول آنذاك اعتمادا على المفهوم اللاتيني للكلمة.
فبعد نجاح الثورة الفرنسية ببث مبادئها العظيمه بمفاصل المجتمع الغربي ومن ضمنها مبدأ حرية التعبير أصبح الفرد الغربي مضطرا لأن يتعايش مع آراء ومعتقدات وأفكار قد لاتتفق وما يعتنقه وليس له من وسيلة لدفعها عنه إذ لاسبيل لآحادية الرأي وفرضه على الآخرين بل لكل رأيه وما يعتنقه وهذا يعني أنه لكي يتمكن الفرد من معايشة آرائه ومعتقداته بحرية كاملة فإن عليه أن يعطي ذات الحريه للآخرين للتعايش مع أفكارهم ومعتقداتهم.
لذا فقد اقتضى الأمر لتنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض وسط تدشين مبدأ سيادة حرية التعبير دخولهم في تسوية ستكون بالطبع ثقيلة على النفس البشريه ولكنها ستتيح وضعا وسطا بين ما يبديه ويعتنقه برضا وحماس مما يخص ذاته وبين معتقدات الآخر المختلف معه الذي سيجد نفسه مجبرا على القبول به من أجل إتمام الدخول في هذه التسوية فكان التسامح هو الآلية الوحيدة الناجعة لضمان تنفيذ واستمرار هذه التسوية بين أفراد المجتمع.
هكذا إذن استطاع إليوت قلب مفهوم التسامح إذ نقله من كونه قيمة مثالية اختيارية إلى كونه جزءا لايتجزأ من الحرية الفردية بل والضامن لممارستها سوسيولوجيا بلا مشاكل وبلا انتظارممل لبعث أناس مثاليين يتكرمون بخلعها على من يريدون وربما يمنعونها عمن لايريدون.
على الجانب الآخر فإن كلمة (تسامح( باللغة العربية تأتي كمصدر للفعل (سمح) الذي يعني في الفضاءاللغوي العربي قيام الفرد بالتنازل عن شيء ما تجاه الآخر عن طيب خاطر منه دون أن تكون مفروضة عليه بمعنى أنها لاتشكل إحدى طرفي تسوية ثنائية قبل بها ويؤديها بشكل تلقائي كإحدى بنود اتفاقية ملزمة له ليس له الخيار في أدائها من عدمه كما هو الحال في المفهوم الغربي الحالي أي أن المفهوم العربي يماثل المفهوم اللاتيني القديم القائم على ابتغاء ثناء الناس وتعاطفهم مع المتسامح ولكنه (أعني المفهوم) لايزال بغير قوة عرفية ملزمة به ؟
تباين التأصيل الفلسفي لمفهوم التسامح بين الثقافتين الغربية والعربية كان له أثره الكبير على الواقع السوسيولوجي والأبستومولوجي بين الثقافتين ومن ثم امتد أثره الى جميع مناحي الحياة الأخرى لكل جانب.
فبفضلها إستطاعت أوروبا أن تخرج من آحاديتها المظلمة وماترتب عليها من أوضاع خاصة تلك الحروب الدينية المرعبة في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تسببت فيها الأورثوذكسية الكاثوليكية التي قامت على تسنين عقيدة واحدة لايسمح لأحد كائنا من كان بالاتصال بالله تعالى خارج تعاليم أساقفتها إلى فضاء فلسفة عصر التنوير التي دشنت تأصيل مبدأ نسبية الحقيقة التي يقر فيها الفرد أنه لايملك (إن ملك) إلا جزءا بسيطا من الحقيقة يماثل ربما ما يملكه الفرد الآخرأويزيد أوينقص ولكنه يظل نسبياً ومن ثم فقبول هذا الآخر لم يعد مجرد زخرف من القول أو مجرد مفردة كرم يتفضل بها فرد على آخر.
أما وفق المفهوم العربي للتسامح فإنه يمكن القول بأن الثقافة العربية لم تعرف بعد هذا المصطلح كقيمة مركزية ضمن سلم واجباتها وكان لذلك أثره الكبير في بروز واستمرارالأورثوذكسية العربية (إن جاز التعبير) القائمة على النظرة الآحادية التي تنسف من يعتمر خارج عباءتها وأسست بلا شك لهذه النظرة المغالية المؤسسة للتطرف والفكر المتشدد الذي يستمد زاده من نظرة مقننة تظن أنها تمسك بالحقيقة مطلقا وبالتالي فكل فكر مخالف لتلك النظرة القويمة ينظر إليه باعتباره شاذا أو محرما مع المحاولة ما أمكن لزندقته ورميه بكل نقيصة و(تشريع) وأده وأصحابه في المرحلة الأخيرة من سلسلة العنف.
المصدر: http://www.alriyadh.com/2004/03/29/article16148.html