لخلافات الفقهية والعقائدية: حديث عن التفعيل

الخلافات الفقهية والعقائدية: حديث عن التفعيل

 

يوسف أبا الخيل

 

وإذن فالخلافات الفقهية بحسبانها توطدت وخرجت من رحم الاجتماع بعيداً عن حمى السياسة فقد انثالت في بطون الكتب تراثاً فقهياً ذا صبغة اختلافية إيجابية تشهد بالقدرة على مسامرة الخلاف والقدرة على التعايش معه باعتباره حقاً ذاتياً للمخالف وبحسبانه اعترافياً اجتماعياً بالتسلل الزماني والمكاني لمكونات المنظومة الثقافية وتلوينها بالأطياف المتباينة والمتغيرة لجدلتي الزمان والمكان.

هذه الاختلافات تشيء بطبيعتها بمسلمة إيجابية تمهد لأنسنتها وتأطيرها عملياً وهي أنها بخلاف معظم الغيبيات قد استندت في مضامينها على نصوص معينة إما على ظاهرها وهو القليل وإما على باطنها وهو الكثير باستخدام آليات أصولية مقررة ومعروفة عند الأصوليين تعتمر أساساً بالنص وبه تستبين كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة على خلاف بين الفقهاء بشأن استصحاب هذه الآليات مجتمعة أو بعضها فقط، ومن ثمَّ فمع اعتبار تعدد آليات إنتاج المعنى في مقابل وحدة النص فالمحصلة النهائية أو النتيجة الضرورية لهذين المتقابلين (تعدد المعنى مقابل وحدة النص) هو اختلاف وتعدد القراءات للنص الواحد، وتعدد القراءات يشير بدوره إلى اختلاف قارئي النصوص أنفسهم من حيث دوافعهم وميولهم ورغباتهم ونفسياتهم المتكئة بدورها على اختلاف ظروف زمانهم ومكانهم.

عندما كان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يناظر الخوارج الذين كانوا يُدَبِّجُون لأيديولوجية وحدة قراءة النص من خلال احتكار تفسيره كان يقول لهم "إن القرآن حَمَّالُ أوجه" أي أن النص باعتباره وحدة أو مفردة لغوية فهو فضاء مفتوح على كافة الاحتمالات والتفسيرات التي تأخذ حمولتها الظنية اعتماداً على معطيات زمانها ومكانها، ومن ثمَّ والحالة هذه فهذه الحمولات الظنية مرشحة لإخلاء مكانها لاحتمالات أخرى عندما لا تسايرها الظروف التي خَصَّبَتءها لإنتاج معنى متلازم بتلازمها ومعتمد على مكنوناتها.

عندما قَرَّ القرار بالإمام الشافعي رحمه الله في أرض الكنانة اختلفت فتاواه وتسامحت أكثر مما هي عليه عندما كان في أرض الرافدين ونشأ على إثر هذه الهجرة الشافعية فقهان معروفان في الفقه الشافعي، أحدهما يُرءمَز له بالتقديم كناية عن إرث الإمام محمد بن إدريس عندما كان في العراق، والآخر يرمز له بالجديد عندما تَمَصَّرَ رحمه الله بعد ذلك وأوحت له حينها ظروفه المصرية الجديدة تباريح انتهاج آلية أخرى لإنتاج معنى آخر رغم أنه انطلق في قديمه وجديده من ذات النص. ومعظم علماء المذاهب الفقهية لهم أكثر من رأي في المسألة الواحدة، فتجد الفقيه يفتي بمسألة معينة برأي معين وعندما تتآكل ظروف إنتاج هذا الرأي وتستجد ظروف أخرى يجد حينها أنه لزاماً عليه محاكاة الظروف الجديدة بإنتاج رأي آخر. مثال ذلك ما نجده في مسألة طواف الإفاضة للمرأة الحائض التي استقر رأي ابن تيمية على جواز ذلك لما رأى من بعد الشقة على الناس وصعوبة انتظار قوافل الحجاج للنساء الحيَّض معهم وبنفس الوقت صعوبة أو استحالة بقائها على إحرامها وقَفءلها راجعة مع رَحءلها ومن ثمَّ عودتها إلى مكة لاحقاً رغم أن هذا الطواف ركن من أركان الحج.

هذه التخريجات الفقهية المختلفة لشخص واحد اعتماداً على نص واحد ثابت تؤكد على حقيقة لا مراء فيها وهي أن الاختلاف مسلمة أبدية سواء أكان منظوراً له من زاوية اختلاف آراء الشخص الواحد تبعاً لمعطيات يومه وغده أو من زاوية اختلاف عامة الناس مع بعضهم، وهي حقيقة قررها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان متمثلة في قول الله تعالى {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} ا(لآية 118من سورة هود) والاستنباط الفاعل من هذه الآية أن الله عز وجل عَبَّر عن اختلاف الناس بالفعل المضارع الناسخ (لا يزالون) التي تفيد لغة الاستمرار وهي إشارة إلى أبدية هذا الخلاف واستمراره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ثم إليه يرجعون.

من الناحية الأخرى فإن الله تعالى عَبَّر عن اتحاد الناس واتفاقهم على رأي واحد بالفعل الماضي متمثلاً في قوله تعالى {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقُضي بينهم فيما فيه يختلفون} (الآية 19من سورة يونس). كان الناس وفق الآية الكريمة متحدين في السابق فاختلفوا وسيظلون مختلفين ولو شاء الله تعالى لقضى بينهم في مسائل الخلاف ليعودوا متحدي الآراء ولكن سبقت كلمته الفاصلة سبحانه وتعالى بدوام الاختلاف الذي لولاه لضمرت الحياة واضءمَحَلَّتء لانعدام التجديد والتجدد اللازم لاستمرارها.

من سياق آيات تقرير الاختلاف بحياة الناس يتضح أن إرادة الله سبحانه وتعالى الكونية قضت بأبدية هذا الاختلاف في هذه الحياة ومن ثمَّ فلا مجال لقسر الخلق على أمر يخالف هذه الإرادة الكونية الأزلية، أما إرادته الشرعية فقد اتجهت إلى تقنين هذا الاختلاف بتسييره بمساره الإيجابي المتفاعل مع الحياة سِلءماً وُغنءماً باتجاه البناء الحضاري المحقق لثمرة الاستخلاف الإنساني لعمارة الأرض وتحقيق غاية الوجود الإنساني على بساط المعمورة وتتضح الإرادة الشرعية الإلهية في مسألة الاختلاف في استلهام قول الله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الآية 46من سورة الأنفال). وهذه الآية وإن جاءت على خلفية غزوة بدر الكبرى إلا أنها تنبئ عن أن النزاع مكمن للفشل، والنزاع لا يُتَصَوَّرُ إلا حيث يتصور تعدد الآراء، ولما كان تعدد الآراء إرادة كونية لا سبيل لدفعها وجب من ثمَّ تأطير نواتجها وتبعاتها لتكون بعيدة عن التنازع والتنابذ، وبدلاً من ذلك يكون الاعتراف لكل ذي رأي برأيه، يتضح ذلك جلياً في قول الله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذابٌ عظيم} (الآية 105من سورة آل عمران) فالله سبحانه وتعالى ذم التفرق الناتج عن الاختلاف كنتيجة سلبية لعدم استلهام هذا الاختلاف باعتباره ركناً كونياً تقوم عليه الحياة ولذا فطالما أن الاختلاف يشكل في جوهره إرادة كونية لا مناص منها فالأمر الشرعي المنبثق من الإرادة الشرعية أن نتجه لتفعيل هذا الاختلاف ليكون وسيلة اجتماع لا وسيلة تفرق ووسيلة حب لا وسيلة كره فطالما ليس لنا يد في تغيير إرادة الله الكونية فلنتجه لتفعيل إرادته الشرعية الداعية لأنسنة هذا الاختلاف ومنحه الإيجابية.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2004/08/16/article13870.html

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك