دلالة الحكم بين عموم اللفظ وخصوص السبب

دلالة الحكم بين عموم اللفظ وخصوص السبب

 

يوسف أبا الخيل

 

يذهب جمهورالأصوليين (علماء أصول الفقه) إلى اعتبارعموم ألفاظ النصوص عند استنباط الأحكام الشرعية منها لحظة تنزيلها على الواقعة المراد تكييف حكم النص عليها ومن ثم يستبعدون أهم دوال النص في هذا المجال المعبرعنها بخصوص السبب. ولهم في ذلك قولة مشهورة مُضَمَّنة معظم كتب أصول الفقه وهي أن (العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب) مما يستلزم بالتالي معرفة ماهية خصوص السبب التي لم يولها الأصوليون أهمية تذكر؟ .

خصوص السبب هو تحديداً تلك اللحظة التاريخية التي تولى خلالها الواقع الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي أو أيٌ من أطياف الواقع المختلفة التي تتفاعل مع النص إنتاج نازلة جديدة لم يكن لأفراد ذلك الواقع الاجتماعي سابق خبرة أوتجارب معها مما يستلزم معها أن يتحرك النص قدماً نحو الاستجابة لهذه النازلة بتكييف وضعها الشرعي بشمولها بدالة من دوالّه المنتجة للمعنى.

من طبيعة النص وطبقاً لحراكه في واقعه التاريخي أنه لايتحرك في فراغ ولاينطلق أو يتجدد في بيداء مقفرة من واقع ثقافي يؤثرفيه نحو إنتاج دوال جديدة ويتأثرهو فيه أيضاً نحو إنتاج مزيد من النوازل الجديدة التي تتطلب بطبيعتها تكييفاً جديداً في عملية ديناميكية مستمرة.

بناءً على هذا الاستنتاج فالنص في حقيقته منتج ثقافي جاء على خلفية جدليته المستمرة مع الثقافة المعاشة التي تمده بالطاقة المتمثلة بالنوازل الجديدة المنبثقة عن احتكاك أفراد الواقع الاجتماعي ببعضهم وبكافة أجزاء ومفردات واقعهم الثقافي، وهذا الواقع الثقافي الذي تتولد النصوص على خلفية صراعها الجدلي معه لايشير إلى مفردة أو طيف بعينه فقط بل يشمل كافة النشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمجتمع نفسه أفراداً وجماعات ومنتِج النص نفسه (في النصوص الوضعية) وُمستقبِل النص (في الرسالات السماوية) وكافة المعنيين بالنص ومسبَّبات النصوص التي تعود لتشكل مرة أخرى محفزات واقعية ثقافية لإنتاج دوال أخرى نصية متى ما احتكت مع غيرها من مفردات الواقع وأنتج حراكها من ثم حاجة لتعديل النص المُكَيِّف للواقعة التي نزل استجابة لها أو لنص جديد . فكل هؤلاء يشكلون مفردات الواقع المعاش الذي تتحرك النصوص في محيطه.

بنفس الوقت الذي يؤثرفيه الواقع الثقافي- بالمعنى الشامل لمفهوم الثقافة - على النص ويتفاعل معه نحوتسهيل حراكه وقدرته على التماسك والاستمرار فإن النص بدوره لايكتفي بلعب دور المستجيب السلبي لحاجات الواقع فقط- على أهميتها الإستراتيجية - بل إنه هو الآخر يؤثر في الواقع من جهة إعادة تشكيله باعتبار أن تلك الظروف التاريخية التي عاش في ظلها النص هي كما يقول محمد عابد الجابري (بمعنى من المعاني نتيجة لهذا النص. لأن منهج القرآن الجدالي مثلاً يقوم أساساً على الفعل ورد الفعل).

إذاً ففي الوقت الذي يشكل فيه النص بطبيعته حركة استجابة للواقع المعاش من خلال التحرك نحو سد الفراغ القانوني الناتج من النوازل الجديدة فإنه بنفس الوقت لا يكتفي بمجرد تكييف هذه النازلة أوتلك لإدماجها في دواله لتتكيف إيجابياً مع الحراك الاجتماعي الذي ينتظمها، بل إنه بدوره يتفاعل مع الواقع الثقافي المحيط لمحاولة إعادة صياغة وتركيب هذا الواقع في صورة تركيبية جديدة تستجيب لدواعي التطور في المجتمع .. وقدرة النص في إعادة تركيب واقعه تنبع أساساً من علاقة جدلية فحواها تحول المناسبة التاريخية التي تولى النص تكييف وضعها القانوني إلى ألفاظ لغوية باعتبارأن النص يكيفها من خلال قوانين اللغة ذاتها. وهذه الألفاظ إذ هي تتداخل مع بعضها في علاقات تركيبية خاصة فإنها تشكل لها نوعأ من الاستقلال النسبي عن الثقافة التي تعيش معها جدلاً مستمراً بحيث يكون لهذه اللغة ومن ثم للنص الذي تمثله قدرة على إعادة تشكيل الواقع اعتماداً على هذه الاستقلالية .

معرفة خصوص السبب أو سبب النزول أو اللحظة التاريخية لولادة النص وكلها تشير إلى مفهوم واحد مهمة جداً من زاوية معرفة حكمة المشرع من تشريع حكم الجزئية التي يتناولها النص وهي ما يعبرعنه بلغة الأصوليين بعلة الحكم التي يُعتمد عليها بنقلها من مجالها الدلالي الخاص الذي شكلته تلك الجزئية الخاصة أو خصوص السبب إلى المجال العام بتطبيقها على الحالات المشابهة التي تتوافرعلى حيثيات أوعلل مقاربة ومن ثم تنزيل حكم النص عليها باستخدام آلية "القياس" المعروفة في علم أصول الفقه، ومن هذه الزاوية فإن معرفة خصوص السبب ليست من قبيل الترف العلمي بل إنها كما قال ابن تيمية فيما نقل عنه السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) "تعين على فهم الآية إذ أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبَّب" وبنفس الوقت فإن معرفة خصوصية السبب مهمة جداً لتلك النصوص المحكومة بظروفها فقط والتي لا تطَّرد علتها أو مناسبتها بحيث إن سياقها الإجتماعي كان محكوماً بواقعة ظرفية تاريخية معينة استدعت تنظيماً معيناً انتهى بنهاية ظرفه التاريخي، منها مثلاً ما قرره عمربن الخطاب في موضوع سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة .إذ رغم أن هذا السهم مقررفي القرآن الكريم في قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} (الآية 60من سورة التوبة) إلا أن عمر بن الخطاب أدرك أن السياق الاجتماعي الذي كان ينتظم الحاجة لهذا النص لم يعد له وجود الآن باعتبارأن الإسلام كان في بدايته ضعيفاً وقت نزول الآية وكان بحاجة إلى تقوية شوكته بتأليف هؤلاء الداخلين الجدد وغيرهم من رؤساء القبائل والعشائر، أما وقد أصبح الإسلام قوياً وقت ابن الخطاب بسيطرته على كامل الجزيرة العربية وامتداد سلطانه إلى ما وراءها من بلاد فارس وخراسان وإطاحته بممالك كسرى وقيصر فلم يعد من ثم حكمة لاستمرارتفعيل نص سهم المؤلفة قلوبهم، ولذا فقد أوقف سهم هؤلاء وأوقف بالتالي توظيف النص في السياق العام للمجتمع الجديد الذي لم يعد ينتظم الحاجة له التي كانت موجودة وقت نزوله، كما أوقف عمرنفسه حد السرقة عام الرمادة للمجاعة التي أصابت الناس وقتئذٍ بحيث أدرك أن فاعلية نص حد السرقة تتطلب توفرشروط موضوعية لم تعد متوافرة وقتها فأجل تطبيق النص إلى حين عودة تلك الشروط الموضوعية مرة أخرى، ولذا روي عنه أنه امتنع عن إيقاع حد السرقة على عبدين سرقا من سيدهما ليتقيا الجوع الذي كان سيدهما يوقعه عليهما بل وهدد السيد نفسه بإنزال الحد عليه إن عاد لتجويعهما مرة أخرى .

إن التمسك بعموم اللفظ في مجال إعمال نصوص القرآن خاصة يؤدي إلى نتائج لايمكن أن يرتضيها القائلون به من باب أولى وخاصة في مجال المعاملات التي اعتمد النص القرآني عند التعامل معها على التدرج في نقل فاعلية الناس من التعايش معها باعتبارها عادة متأصلة إلى النقيض تماماً باعتبارها من قبيل المحرمات.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2004/11/04/article12582.html

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك