النزعة الإنسانية والبعد الحواري قراءة في رواية اونسام كاميل

النزعة الإنسانية والبعد الحواري قراءة في رواية اونسام كاميل

 

حسن السلمان

لاشك ان الحوار المرن، المنفتح، التعددي، الشفاف، الناطق، هو خطاب الناس الاحرار ولغة التحضر والرقي والسمو. وبعبارة شاملة، الحوار جوهر الانسانية وقيمتها الكبرى. على الطرف المقابل، يقف الذين لم ينزلوا من الشجرة بعد، ومعهم الذين مازالوا يحدقون في البحيرات الصافية للتزود من صور وجوههم الجميلة كما يعتقدون، وهم لايسمعون سوى اصواتهم المقبلة من الكهوف المظلمة،  والابار العتيقة،  ولاتدور على شفاههم سوى نغمة فريدة ووحيدة من نوعها.
مناسبة هذه التوطئة الموجزة، هو الدخول الى عوالم رواية (  اونسام كاميل ) للقاص والروائي اسعد اللامي ذات البعد الحواري كما سيمر بنا، ولكن قبل ذلك علينا التعريف بالرواية الحوارية او كما تسمى بالرواية البوليفونية. حيث يقصد بالبوليفونية، لغة تعدد الأصوات، وقد أخذ هذا المصطلح من عالم الموسيقى، ليتم نقله إلى حقل الأدب والنقد. ومن ثم، فالمقصود بالرواية البوليفونية، تلك الرواية التي تتعدد فيها الشخصيات المتحاورة، وتتعدد فيها وجهات النظر، وتختلف فيها الرؤى الإيديولوجية. بمعنى أنها رواية حوارية تعددية، تنحى المنحى الديمقراطي، حيث تتحرر بشكل من الأشكال من سلطة الراوي المطلق، وتتخلص أيضا من أحادية المنظور واللغة والأسلوب. وبتعبير آخر، يتم الحديث في هذه الرواية المتعددة الأصوات والمنظورات عن حرية البطل النسبية، واستقلالية الشخصية في التعبير عن مواقفها بكل حرية وصراحة، ولو كانت هذه المواقف بحال من الأحوال مخالفة لرأي الكاتب. وللتوضيح أكثر، تسرد كل شخصية الحدث الروائي بطريقتها الخاصة، وذلك بواسطة منظورها الشخصي، ومن زاوية نظرها الفردية، وبأسلوبها الفردي الخاص. بمعنى، أن الرواية تقدم عصارتها الإبداعية وأطروحتها المرجعية عبرأصوات متعددة؛ وهذا ما يجعل القارئ الضمني الواعي يختار بكل حرية الموقف المناسب، ويرتضي المنظور الإيديولوجي الذي يلائمه ويوافقه، دون أن يكون المتلقي في ذلك مستلبا أو مخدوعا من قبل السارد أو الكاتب أو الشخصية على حد سواء. ويعني كل هذا أن الرواية البوليفونية مختلفة أيما اختلاف عن الرواية المنولوجية الأحادية الراوي والموقف، واللغة، والأسلوب، والمنظور، وذلك بوجود تعددية حوارية حقيقية على مستوى السراد، والصيغ، والشخصيات، والقراء، والمواقف الإيديولوجية. ( 1 ). في هذا الصدد، ننوه من باب التحذير، الى انه هناك روايات تبدو حوارية في الظاهر فقط، على الرغم من توزيع الجهد السردي وتعدد المنظورات لان هيمنة الراوي وتسخير كل المفاصل والمسارات السردية لخدمة فكرته وجعلها الفكرة الوحيدة ينقض كل سمة حوارية ويجعلها تشبه الى حد بعيد شكل الاواني المستطرقة حيث تتعدد الاشكال ومنسوب المادة على نفس المستوى.  في اونسام كاميل وهو التهجئة الاجنبية للاسم العربي انسام كامل، يقوم اللامي بتوزيع ارسالياته السردية على شخصيات الرواية تاركا لها حرية اختيار المنظور السردي، وبث ملفوظاتها، وهواجسها، ورؤاها، وتصوراتها الفكرية مع الامتدادات المرافقة لها، كالتعرف على البيئة والاحوال السوسيو ـ ثقافية والجغرافية، ابتداء من شخصية الراوي، مرورا بشخصية اونسام والرضية وراشيل وغريب وانتهاء بالرواي ذاته، الذي يكتفي بتحرير الحكاية وتقديمها على شكل مخطوطة بعد تقديمها شفاهيا من قبل اونسام.  تدور الحكاية حول شخصية درامية او ( او غير منجزة ) وهو انسام كامل الذي نتعرف في الفصول التي تحمل اسمه الى تعرضه للارهاب والقهر من قبل الاب، والاغتصاب من قبل مصلح مدافئ، وقتل امه خنقا من قبل ابيه دون ذكر لاسباب ودوافع الجريمة بشكل ملموس، واسره في حرب تحرير الكويت، ومن ثم نقله على اميركا كعينة لاسرى الحرب، وايداعه في بيت المتقاعدين، وعودته ثانية الى العراق مع الجيش الاميركي للثأر من ابيه وموته بعد ذلك بعد اصابته. اما في فصل الرضية فنتعرف على لجوئه الى تلك القروية بعد حادثة الاغتصاب، حيث تقدم الرضية سردا مؤثرا ووافيا عن حياة الارياف، وتقاليدها، وثقافاتها، وبرامجها اليومية المعيشية ومعتقداتها، بالاضافة الى تقديم خارطة عن الجغرافيا والامكنة والتعريف بتلك العلاقة الانسانية بين انسان الارياف والحيوانات والطبيعة التي تشكل جزءا لايتجزأ من حياتهم. اما في فصل راشيل وهي امراة يهودية تقوم بتبني انسام من بيت المتقاعدين بدافع براجماتي صرف اشبه مايكون بتعويض نفسي نظرا للشبه الكبير بين ابنها المقتول في افغانستان وبين اونسام، نتعرف على شريحة من اليهود لاتؤمن بدولة اسرائيل وانما تؤمن استنادا الى وثائق وكتب مقدسة بان الارض الموعودة لليهود لن توجد الا عند قيام الساعة كما نتعرف على منظمة تدعى بمنظمة السلام الملائكي ذات افكار مثالية عن المحبة والسلام وتعالق الاديان استنادا الى واحدية مصدرها. لكن الارساليات السردية لهذه الفصول ليست ارساليات مستقلة، فكثيرا مانلتقي بتضايف اكثر من شخصية او راو في الفصل الواحد، واكثر من ملفوظ ووجهة نظر وحوار ضمني واخر مباشر، حيث تتعدد المنظورات السردية في الرواية البوليفونية، حيث ينتقل الكاتب من وجة نظر إلى أخرى،  فينطلق من الرؤية من الخلف ليمر إلى الرؤية الداخلية. وبعد ذلك، يستعمل الرؤية من الخارج. كما ينوع الضمائر السردية، حيث يشغل ضمير الغائب، فضمير المتكلم، ثم ضمير المخاطب. أو ينتقل من السارد الواحد إلى السارد المتعدد، كما ينتقل من السارد المطلق إلى السارد النسبي والسارد الشاهد، أو يتأرجح بين سارد حاضر وسارد غائب، أو بين سارد مشارك وسارد محايد. وكلما تعددت وجهات النظر، واختلفت المنظورات السردية، وتعددت الضمائر، وتنوع الرواة والسراد، كانت الرواية أقرب إلى الرواية الحوارية منها إلى الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد ( 2 ). ان احداث الرواية التي تجري في الامكنة المكشوفة والخطرة مثل ميادين الحرب والممرات والساحات والبراري والمؤسسات الحكومية والاسواق وفق مايسمى بـ ( فضاء العتبة ) مضافا اليها اعتماد الزمن المتموج للتنقل بين احداث الماضي والحاضر ضمن وحدة عضوية ودلالية، مع اعتماد (الشخصية غير المنجزة) وهي الشخصية التي تعيش حالة اللاإنجاز واللاكتمال واللاحزم داخل المسار السردي الروائي. ويعني هذا أن الشخصية غير المنجزة هي تلك الشخصية القلقة التي تعيش المعاناة، وتواجه تعقد الحياة، وهي كذلك شخصية غير مستقرة، تلك الشخصية التي تعاني داخليا، وتعيش فضاء العتبة، أو فضاء الأزمات والمواقف والأفكار. وقد ترتكب هذه الشخصية جنحا وجنايات للتعبير عن أفكارها، أو للتخلص من أعدائها الآخرين. وبتعبير آخر، الشخصية غير المنجزة هي الشخصية المهووسة والمريضة نفسانيا (3).ومع ماتقدم من اشتغالات فنية يكون اسعد اللامي قد قدم رواية حوارية ذات نزعة انسانية واضحة، وذلك باسقاط الحدود الفاصلة بين الثنائيات الضدية سواء على المستوى الجيو ثقافي والاجتماعي او على مستوى تحجيم السلطة السردية للراوي المطلق الذي يعادل موضوعيا كل سلطة شمولية مهيمنة، من خلال تعدد الرواة ووجهات النظر. اما على مستوى الخطاب وبالعودة الى العلاقة الاشكالية بين اونسام والاب، واستنتاجا من الايحاءات والاشارات الدلالية، يتضح بان شخصية الاب ماهي الا  معادل رمزي للسلطة الجائرة المهيمنة، وللممارسات اللااخلاقية الانتهازية وفقا لتحريك صورة الاب وتمثيلاتها، واعتمادا متأخرا على توضيح اللامي لرمزية شخصية الاب حيث يقول على لسان الراوي في آخر صفحة من صفحات الرواية   : ( وكمخرج توافقي  لهذا الاشكال، اظن انه ربما يكون قد رمز فعلا لما هو ابعد من مفهوم الاب بالمعنى البايلوجي، الاب بمعناه الشامل، الذكر المسيطر المسير للامور كما اعتدنا عليه خلال عقود ثلاثة مرت علينا ).  وهذا باعتقادنا خطأ تكتيكي اذ من المفروض اتاحة الفرصة للمتلقي في تاويل التمثيلات وفك الشفرات وملء الفجوات واعادة انتاج النص بشكل عام، اذ الرواية هي اصلا نص، والنص كما هو معروف حمال اوجه، حيث يستدعي بالضرورة، تشغيل حزمة من اليات التأويل، حتى وان شاب توضيح اللامي شيء من الظن. فانطلاقا من صورة السلطة الجائرة الارهابية بدلالة قتل الام خنقا، وهي هنا ايضا مرموزة للحياة، يشكل اللامي صورة للانتهازية وذلك عبر تغيير الاقنعة، والتكيف حسب طبيعة الظروف ومتطلبات المرحلة المحددة بحقبة مابعد سقوط النظام، كما تتكشف عدة صور عن انقلاب التصورات التي  كان يحملها اونسام عن المبادئ والالتزام والبراءة من خلال تحول توأمه ( بسام )  الذي كان بمثابة قرينه ومثاله ومرآته التي ينظر من خلالها المحبة والسلام، الى مجند في احدى الميليشيات الملثمة، يعترضه وهو في طريقه لرؤيته واصفا اياه بوصمة العار ويمزق وثاق الاخوة برصاصة في الجبين عبر مشهد فانتازي مقنع. عبر هذه التمثيلات، ومن خلالها، يوجه اللامي خطابا نقديا لمجمل الظروف الماساوية التي عاشها الناس، سواء في ظل حقبة النظام البائد او حقبة مابعد التغيير بمأساويتها التي لاتقل شأنا عن مآسي الماضي الدكتاتوري، وفضحه للاساليب الانتهازية بزيها الديمقراطي القبيح.

•هامش
•1 / 2 / 3 / الرواية البوليفونية او الرواية المتعددة الاصوات / د. جميل حمداوي

المصدر: http://www.iq23.com/details-464.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك