الفتوى جهد فكري ملازم لتطورات الواقع

الفتوى جهد فكري ملازم لتطورات الواقع

 

يوسف أباالخيل

 

الفتوى الشرعية تعد ولا شك احد نتاج آلية تفاعل أوجدل الواقع مع النص، إذ أن الواقع - زمناً ومكاناً - بصفته فاعلاً في النص، فإنه يعيد صياغة مفاهيمه وتأويلاته بواسطة الفاعلين الاجتماعيين لاستخراج دلالات جديدة تنتظم الأزمنة والظروف المغايرة لظروف العالم والواقع الذي أُنْتِجَ فيه النص، ومن هذه الزاوية يكتسب النص ديمومته وحيويته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

وفقاً لآلية التأثير المتبادلة بين النص والواقع الناتجة من عملية التفاعل بينهما فقد تغيرت فتاوى بل وفقه كثير من الأئمة عندما تفاعلوا مع واقع جديد مخالف لما نشأوا عليه وتعلموا فيه ، الإمام الشافعي مثلاً له كما هو معروف فقهان: أحدهما يُعرف بالقديم، والثاني يشارله بالجديد، الأول يرمز إلى الفترة الأولى من حياة الإمام عندما كان في العراق، أما الثاني فيرمز إلى الفترة الثانية الرئيسية من حياته عندما استقر به المقام أخيراً في مصر، وفيها - فترة المقام بمصر- تغيرت آراؤه ومنهجيته الفقهية مقارنة بالفترة الأولى، الإمام أحمد بن حنبل أيضاً له عدة أقوال في المسألة الواحدة تبعاً لتطور رؤيته للواقع والمستجدات عليه، وكذلك الإمامان مالك وأبوحنيفة، جُلُّ الأئمة السابقين والمعاصرين كانت لهم تنقلات فكرية بين مفاهيم متنوعة للنصوص، هذه الاختلافات والتنقلات لا شك أنها ميزة إيجابية تعبر عن ثراء نصوص الشريعة وقدرتها على التفاعل مع معطيات الواقع المحيط لإنتاج ما ينتظمها تشريعياً بحيث تستجيب لحاجات الناس المعاصرين وتوقعاتهم من النصوص.

هذه الاختلافات أو التغيرات في الفتاوى والفقه عموماً تعتبر في رأيي من المعلوم به من تراثنا الفقهي بالضرورة، ولكن أن تتغير الفتوى أو تختلف وفقاً لحال متلقيها أو هويته فهذا ماليس مفهوماً وليس له سلف معتبر- في حدود علمي على الأقل - بل إنني أجزم أن حدثاً كهذا لن يعطي صورة حسنة عما ندين به الآخر الذي سيعتمد في تقييمه لمنهجنا في بناء العلاقة معه - نظرياً على الأقل - وفق ما نتفوه به ونقوله عن أنفسنا خاصة في ما هو من مجال الفتاوى الدينية التي سينظر إليها هذا الآخر باعتبارها جواز هوية لنا من ناحية قدرتنا على التسامح والتعايش مع الآخر وقبل ذلك صدقنا واطرادنا في التعبير عما ندين به، أقول هذا الكلام بعد أن تردد صدى بعض الفتاوى المغموسة ببعض الانفتاح والتسامح والتي تراجع عنها أصحابها بحجة أنهم أرادوا بها أساساً الآخر الغربي لا المستهلك المحلي الذي عليه أن يحوم حول حماها إذ أنه باقٍ على ما أفتى به سابقاً.

في رأيي فإن هذه التفرقة في الفتوى حسب المتلقي تلقي بظلال من السلبية المتوقعة على صعيدها الداخلي والخارجي:

فعلى الصعيد الداخلي، فإن الجمهور المتلقي بطبيعة الحال لن يكون قادراً على الاقتناع بمبررات ذلك المفتي حيال تفصيله في أمر تلك الفتوى اعتماداً على وجهة متلقيها، فهو يعرف جيداً أن الأحكام الشرعية المرتبطة بباب المعاملات خاصة وفي زمن مخصوص لا تتحمل إلا نوعاً واحداً مما هو متاح من تفاصيل أخرى، بمعنى أن المفتي لن يكون في وسعه أن يفتي مثلاً بجوازكشف المرأة لوجهها ووجوب تغطيته في آن واحد، فجواز كشفه يعني بالضرورة جواز تغطيته أيضاً لا وجوبه، كما أن هذا المتلقي لن يكون في فسحة من قناعة براغماتية يبرر بواسطتها لنفسه بأن ذلك الرأي الأخيرأو التراجع - سمه ما شئت - جاء نتيجة لمراجعة المفتي لرأيه السابق على ضوء أدلة أخرى تبينت له لاحقاً جعلته يعدل عن ما أدلى به سابقاً من آراء أو فتاوى، إلا إذا صرح بذلك في فتواه الأخيرة بما سُيعتبرمعه مصححاً لقوله السابق أكثر من تراجعه عنه لأن المتلقي سيفترض أن الفتوى لا تصدرمن المتصدي لها إلا بعد تروٍ وتقصٍ كاملين.

أما على الصعيد الخارجي فالأمرأشد وانكى في السلبية المترتبة عليها، إذ سيأخذ المتلقي الخارجي - خاصة الغربي - على ثقافتنا عدم الجدية في إظهارمكنونات التسامح الإسلامي، بل وسيتهمها بالنفاق معه ومهادنته مرحلياً إذا كنا نقول لشعوبنا بلسان الحال بأننا نقول الشيء بلا اقتناع أو تمرس منهجي قدر ما نريد به دفعاً مرحلياً لضغوط تمارس علينا من ذلك الغريب المتربص، أما عندما تنكشف الغيمة فالرواحل ستعود فوراً إلى مهاجعها وسنعاود القول بما ظللنا مقتنعين به من قبل وبما كنا نسامره قبل الأزمة مما لا يعطي الأمر جديته المطلوبة نحو تحسين الصورة التي كونها الغرب بالذات عن الإسلام والمسلمين خاصة لما بعد أحداث الحادي عشرمن سبتمبر، وبالتالي فمن الضروري أن لا يقرن المفتي - لا أقصد المفتي الرسمي - تراجعه بالتفرقة بين متلقٍ وآخرفي مجال الفتاوى، قد يبررذلك المفتي بأن المتلقي المستهدف في الغرب ليس الأفراد العاديين وإنما مراكزالقوى وصناع القرار الذي لا يزالون يدِّعون بأننا نحن من صدَّرالعنف مع الآخرالمخالف خصوصاً من زاوية التعامل مع المرأة والمخالف في الدين، إلا أن الأمر سيكون يومئذٍ أشد وقعاً بما سيتتبع ذلك من تناول إعلامي متوقع لما سيعتبرونه إضطراباً علمياً ومنهجياً لدينا على أحسن أحوال الظن بنا.

من الناحية الأخرى فإن من الواجب النظر إلى أي رأي من هذا النوع في المستقبل على أنه رأي شخصي يحمل بصمات صاحبه الخاصة نتيجة لما توافر عليه من اجتهاد خاص أدى به إلى أن يقول ذلك القول أو الرأي بعيداً عن إلباسه لباس الفتوى الرسمية التي يُظن بها التعميم، إذ يجب أن تظل الفتوى الرسمية منوطة بجهتها الرسمية المخولة أمر الفتيا ويظل ما يقوله المفتون خارجها وما سيقولونه مستقبلاً من باب القول الذي يؤخذ منه ويترك وكلنا كما قال الإمام مالك يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2005/07/05/article77779.html

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك