العزلة في زمن العولمة

العزلة في زمن العولمة

 

يوسف أبا الخيل

 

العزلة تأتي على عدة معان أبرزها اختيار الإنسان لنفسه منفي اختيارياً يقيه معايشة الناس في نشاطهم الاجتماعي الناتج بالضرورة عن عقدهم الاجتماعي الأول الذي أقاموه فيما بينهم عندما اكتشفوا استحالة العيش وفق حرية فردية مطلقة، والعزلة بهذا المعنى آتية من عدم رضا المنعزل عن الطريقة أو الآلية التي يتبعها الناس في أدائهم لأنصبتهم الاجتماعية وفقاً لما حددته بنود ذلك العقد الاجتماعي الأول على مستوى التاريخ البشري، ويأتي على رأس تلك الآليات التي عادة ما ينعزل الإنسان بناءً على ظنياته تجاه خرق الناس لثوابتها ما يتعلق بالآليات الدينية، إذ أن كثيراً ممن امتهنوا العزلة قديماً وحديثاً كانوا يبررون اختيارهم لمنافيهم الاختيارية بغربة المجتمعات التي يساكنون أفرادها عن الدين وانسلاخهم من مبادئه مما يبرر لذلك المنعزل الانسحاب من ذلك المجتمع عطفاً على يأسه من إصلاح الأوضاع التي لاتكون سيئة بالضرورة بقدرما أن ممارسة الناس لها لا تكون في الغالب خاضعة للأيديولوجية الدينية التي يتماهى معها ذلك الشخص المنعزل ليس إلا.

إذا اعتبرنا أن العزلة بالمعنى الآنف الذكر تعتمد في تكوينها المادي الحسي على اتخاذ المنعزل مكاناً قصياً من المجتمع كأن يعيش في صومعة بعيدة (كما كان الشأن في قديم الزمان) أوأن يبتني له مسكناً شعبياً تنعدم فيه وسائل الراحة الحديثة (كما هي الطريقة المعاصرة) مما يعطي لنفسه على الأقل إحساساً بأنه يسير على طريقة الحنفاء الأوائل الذين كانوا يتمثلون قول النبي إبراهيم عليه السلام {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا} وإذا أقررنا من جانب آخر أن العزلة الانكفائية بذلك المعنى لم تعد ذات بريق يخلب الألباب ويجذب المريدين والأتباع، وبالتالي فلم تعد تشكل ظاهرة تستدعي الانتباه لها والخوض في مسبباتها، فإن هناك عزلة معاصرة لم تكن في ذهن المعتزلين الأوائل بحكم غياب تداعياتها، عزلة لا تمتهن الانكفاء المادي كما كان في السابق (اتخاذ الصومعة والمسكن الشعبي) بل تمتهن ما يمكن أن نطلق عليه العزلة الروحية أو المعنوية، عزلة يعيش فيها ممتهونها مع المجتمع في أجسادهم بينما أرواحهم مع المتصوفة الأُوائل الذين كانت طريقتهم خير ملاذٍ لمن أصبحوا أغراباً وسط المفازات المادية لعصورهم، هذه العزلة الاختيارية في طريقتها، الإجبارية فيما يتعلق بدوافعها النفسية، تعتمد على شعور متخذيها بأن لهم القدرة على مصارعة اتجاه الرياح العولمية، أبرز مثال لهذه العزلة المعاصرة ما يتعلق بمحاولة الكثيرين تجنب التعامل مع منتجات العولمة بجانبها الإعلامي، بتجنب إدخال منتجات تلك الطفرة الإعلامية لبيوتهم ومساكنهم ظناً منهم أنهم بهكذا طريقة يستطيعون تجنيب أنفسهم ومن يعولونهم مؤثراتها السلبية، وهي مؤثرات تستدعي حقاً أن يحاول الإنسان ما أمكن إتقاء شرها حتى بالعزلة إن كان ثمة قدرة، ولكن السؤال المحوري هنا هو: هل بإمكان من اختار طريق العزلة الروحية أن يتجنب المؤثرات السلبية لمنتجات الفضاء الإعلامية وعلى رأسها ماتجود به الأطباق الفضائية اللاقطة من مواد إعلامية نتفق معهم أنها تحوي الغث والسمين، وقد يكون الغث في كثير منها هو الغالب؟ .

إذا كانت تجربة هذا الشكل من الانعزال في السابق القريب، أي قبل حلول هذه الثورة الفضائية الجديدة لم تنجح ولم تُنِل من اتخذها ديدناً لتربيته لأولاده ما كان يأمله ويتمناه من قسرهم على تجنب مؤثراتها، فكيف بمن يحاول الآن وفي هذا العصر العيش مع تلك التجارب الانعزالية بمنع دخول الأطباق اللاقطة لبيته وقسر من هم تحت يديه على مشاهدة فضائيات بعينها - هذا إذاكان متحللاً من بعض أوهامه فسمح لبعضها والتي لا تتعدى في الغالب بعض الفضائيات المؤدلجة المسيرة وفق رأي أحادي معروف بمغامرة الدخول إلى بيته -؟ أتذكر الآن وأنا أعايش حالياً تجارب بعض الناس ممن هم يكابدون عناء مراقبة أولادهم أن لا يشاهدوا القنوات الفضائية الأخرى خارج ما سمحوا به لهم من مشاهدة قنوات متدثرة غالباً بالرداء الطالباني، بعد أن حصن بيته أو هكذا يظن مما سواها، أنني وبعضٌ من أبناء جيلي وتحديداً من بداية التسعينيات الهجرية يوم أن كانت أعمارنا لا تتجاوز العشر سنوات كنا نعايش عزلة قسرية مشابهة، إذ كان محرماً علينا وبدرجة لا تسمح بالمناقشة التعايش مع المذياع ناهيك عن التعامل مع ما كانوا يصفونه بالصنم الأكبر وهو التلفاز!!! فلم تكن منازلنا إذ ذاك تتوافر على شيء منها إلا بقدرما يستطيع به البعض منا ممن أوتوا شجاعة في التصرف إخفاء بعض أجهزة التسجيل أو الراديو للاستماع إليها في هزيع الليل الأخير !!! ومع ذلك فلم تكن تلك المحاولات تسلم من سوء عاقبة القبض عليها وعلى من تولى كبر إدخالها البيوت، بل إن الحظركان يمتد ليشمل حتى مجرد قراءة الصحف التي تتضمن صوراً فوتوغرافية، ومع كل تلك الأساليب المتناهية الحرص على إبقائنا بعيداً عن مظان الخطر، فلقد كانت لنا وسائلنا الخاصة في التعايش المستمر مع ما كان الإعلام وخاصة التلفاز يجود به، فقد كنا مثلاً ننتظر حتى يخلد أهلونا إلى النوم لنقوم بترتيب فرشنا على وضعية توحي للنظر المباشر أننا نغط في نوم عميق لنذهب على هيئة مجموعات صغيرة إلى حيث يسكن بعض الجيران الخارجين على النص الانعزالي المفروض آنذاك لنشاهد عندهم ما يجود به التلفاز، وإذا لم يتيسر لنا جيران على هذه الشاكلة فإننا لا نعدم وسيلة أخرى تتمثل في الذهاب إلى حيث تقع الأندية والمقاهي التي نضطر فيها إلى شراء ما لا نريده من مرطبات أحياناً لنتمكن من مشاهدة برامج التلفزيون مع ما كان يكتنف ذلك من خطورة على الناحية الأخلاقية خاصة ونحن في سني العمر الأولى، ولذلك فقد تعايشنا مع أبرز المسلسلات والبرامج التي كانت تبث آنذاك، لا زلنا حتى الآن نتذكر أحداث مسلسلات وبرامج من قبيل «وضحى وابن عجلان» و«رأس غليص» و«الحرامي وبنت الشاويش» و«عازف الليل» و«حمام الهناء» وغيرها الكثير، كل ذلك وأهلونا يظنون أننا لا نعرف كنه التلفاز فضلاً عن متابعة ما يبثه من فسوق وانحلال!!!!!، حدث ذلك كله رغم أنف تلك العزلة الصارمة التي فرضت علينا من قبيل الظن بضرورتها لحماية أخلاقنا.

هذا ما كان يحدث وما كنا نعايشه قبل ما يزيد على خمسة وثلاثين سنة مضت، وهو حدث يستدعي التساؤل عن مدى جدية من يحاول أن يمارس عزلة مشابهة في حاضر تحول العالم بموجبه بفضل الثورة الإعلامية المعاصرة إلى قرية كونية صغيرة يعلم من هو في دانيها ما يحدث في قاصيها في نفس اللحظة وبالصوت والصورة؟ هل لنا أن نقول إن ما عجزت عنه العزلة القديمة من قسرنا على ما يريده أهلونا والأقربون منا رغم ضيق اليد وشظف العيش إذ ذاك لكفيل بأن يؤكد أن العزلة المعاصرة لن تعجز فقط عن بلوغ مرادها، بل ستؤدي إلى عكس مراد من يحاول فرضها الآن باعتبار أن ردة الفعل السيكيولوجية لدى المقموع ستؤدى به إلى أن يسلك طريقاً مساوياً في شدته لشدة الآليات القسرية التي فرضت عليه ولكنه معاكساً لها في الاتجاه، وهو اتجاه سالب في كل الأحوال، ولا يبقى من عمل مثمر حيال تلك الحقيقة المرة رغم قسوتها إلا عمل جاد يستهدف تربية رقابة الضميرلدى النشأ، تلك الرقابة التي لا تستدعي الآليات الوعظية الكلاسيكية بقدر ما تستدعي تدشين المسؤولية الفردية الشخصية تجاه ما يتعامل معه الفرد في حياته إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والتي تربي معتنقيها على عدم محاكمة الآخرين وعلى رأسهم من يبثون إلينا ذلك الغثاء وفق معاييرهم الشرعية أو العرفية، بل تربيهم على الاقتناع بأن ما يبثونه نابع من معاييرهم الثقافية الخاصة التي تختلف عن معاييرنا الأخلاقية والعرفية والتي توجب علينا أن نتعامل مع سلبيات تلك المواد الإعلامية من منطلقاتها الثقافية الخاصة.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2006/03/30/article142115.html

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك