في سبيل التعايش مع الآخر

في سبيل التعايش مع الآخر

 

يوسف أباالخيل

 

من أكثر إفرازات حقبة العولمة الحالية الضاغطة على (الأنا) العربية والإسلامية ذلك التداخل الإعلامي والثقافي بين الأمم الذي أصبح فيه العالم كما يقال عبارة عن قرية صغيرة واحدة، يؤثر ما يجري في أدناها على من هم في أقصاها سواءً أكان ذلك التأثير سلباً أو إيجاباً، ويعرف من هم في مشرقها ما يجري في مغربها والعكس قبل أن يرتد طرف المستمع أو المشاهد إليه.

هذا التطور العولمي فرض واقعاً جديداً لم نعايشه من قبل - على الأقل نحن شعوب العالم العربي والإسلامي - واقعا ثقافيا ضاغطا يمكن أن نطلق عليه "عولمة الأفكار" والذي أصبحت بموجبه الآراء والأفكار سائرة في أفلاكها الإعلامية تصل إلى كل بلد وإلى كل مجتمع، بل وإلى كل فرد، لا تحدها حدود مثلما لا تخفف من سرعة وصولها وتأثيرها على متلقيها رقابة أو متابعة من أي نوع كانت، ومن عولمة الأفكار هذه انبثقت تطورية أخرى أصبحت إحدى مفردات الحداثة التي لا يمكن تجنبها - على رأي المفكر الإيراني مصطفى ملكيان - وهي اعتراف الجميع - إن كان ذلك ضمناً أو صراحة - بالعجز عن "وأد" الرأي الآخر أو إبقائه في حدود سياقه الثقافي أو الجغرافي، إذ إنه فرض نفسه جنباً إلى جنب مع أفكارنا ورؤانا الخاصة التي كنا نعتقد أنها محصنة من الاختراق من قبل الرؤى والأفكار المخالفة التي كنا نزدريها ونشوهها في عيون متلقيها القلائل آنذاك تحت يافطة "الغزو الفكري" هذا الغزو !!!! الذي كنا سابقاً في فسحة كافية من الإمكانيات لدرأه وإبعاده عن محيطنا الثقافي والجغرافي وكنا بالتالي قادرين على توجيه مجتمعنا وجهة واحدة استطعنا قولبتها وفق تراث الأقدمين منا ممن نتقاطع مع آرائهم وتخريجاتهم للآثار والنصوص والفكر المعاش في الحاضر.

هذا العجز غير سلبي بطبيعته لأنه مخرج طبيعي من مخرجات فلسفة تطور التاريخ التي تعني أن البشرية سائرة في معاشها إلى مراحل أكثر تقدمية كلما جد بها المسير في مفازة الزمن، وهو بالتالي ما يفرض علينا بالضرورة إعادة النظر في تعاملنا مع الرأي المخالف، سواءً أكان هذا المخالف من داخل حظيرتنا الإسلامية أم من خارجها، على أن نراعي أن من أهم مبادئ التطور لمن لا يريد السير عكس هدير نهر العولمة الجاري مراعاة تراتبية مراحل تطور التاريخ، وذلك بعدم إحراق مراحله الأولى توهماً بإمكانية بالوصول إلى المراحل المتقدمة منه، والذي لا يلبث أن يفترَّ عن عجز كامل عن انتشال الذات من الوحل الذي تنتظر فيه، لأن مثل هذا الإحراق إنما يشكل قفزاً على قوانين التاريخ والاجتماع البشريين، نتذكر في هذا السياق كيف بادر "نخبة" من مثقفينا على وقع صدمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى المبادرة بعرض فلسفة تعايش جديدة غلفوها ببيان عنونوه ب "على أي أساس نتعايش" على جمعٍ من المثقفين الأمريكان الذي كانوا قد بادروا إلى إصدار بيان يوضح وجهة نظرتهم تجاه الحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية على أفغانستان آنذاك والمعروف ببيان "على أي أساس نقاتل" وهم الذين لم يتعايشوا مع مخالفيهم من المسلمين من المذاهب الأخرى، بل لم يتعايشوا وإلى اليوم مع مخالفيهم من داخل مذهبهم، والنتيجة المتوقعة التي آل إليها ذلك العرض المفاجئ للتعايش، هو الفشل الذريع الذي كان من أبرز سماته أن جل من وقعوا عليه لم يتزحزحوا قيد أنملة عن إقصائيتهم المتشددة لكل من لا يشاركهم آراءهم الخاصة، وكان الأجدر بهم بطبيعة الحال أن يسارعوا إلى التعايش مع بني جلدتهم أولاً قبل الذهاب بعيداً في إحراق مراحل التاريخ غير القابلة بطبيعتها للاحتراق !!

هنا وانطلاقاً من فلسفة تطور التاريخ التي يأتي على رأسها انتفاء القدرة تدريجياً على (لجم) الصوت المخالف، فإنه يجب علينا أن نتصالح مع أنفسنا أولاً بالتعايش مع من هم من داخل منظومتنا الثقافية ممن لا يشاركوننا ما نذهب إليه ونميل له من الأقوال والآراء والتفسيرات والقراءة الخاصة للنصوص الشرعية، وذلك بحمل آرائهم على المحمل الحسن بدل حفلات التخوين والتفسيق والتكفير وسائر أخواتها من باقات التهم الجاهزة.

ولعل أمضى الأسلحة الفكرية التي عادة ما يستخدمها المتشددون لإقصاء مخالفيهم تكمن في إنزال مقتضى جملة من النصوص الدينية التي نزلت في سياق خاص على ما يعتبرونه آراء مخالفة لما تتلمذوا عليه طوال سني تربيتهم الثقافية، ومقتضيات تلك النصوص التي قلت إنها نزلت في سياق خاص، تتوزع عادة ما بين الاستهزاء بالإسلام أو بالذات الإلهية أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو موالاة من حاد الله ورسوله أو تولي الكفار والمسارعة فيهم خشية دوران الدائرة على المخالف (المسارع) !!! .

ولقد اعتدنا ومنذ صعود نجم جماعات الإسلام السياسي في الثمانينيات الميلادية خاصة، أن يبادر الإقصائيون منهم (وهل يحظى بمباركتهم من ليس إقصائياً !!!!) إلى وصم من ينتقد تصرفات أو آراء بعض المحسوبين عليهم بأنه يستهزئ بالله وبرسوله ثم يستتبعون ذلك بإشهار سيف التكفير المصلت بوجهه بتلاوة الآية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} أما عندما يواجهون من يدعو إلى التعايش السلمي مع الأمم الأخرى ومشاركتهم قطار الحضارة المنطلق فسيرمون في وجهه تهمة (موالاة) أعداء الله ورسوله اتكاءً على عدة نصوص قرآنية نزلت في التحذير من موالاة المعتدين منها قوله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقوله تعالى {لا تجد قوماً يؤمنون بالله ورسوله يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، الآية} وقوله تعالى {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، الآية} والواقع أن إنزال مقتضى هذه النصوص على الآراء المخالفة أو أصحابها، بالإضافة إلى أنه يشكل نوعاً من نرجسية ذاتية تتمثل في تزكية النفس بالادعاء بحصرية الحق في أقوال بشرية بعينها مع ما نهى الله عنه من مثل تلك النرجسية بقوله تعالى {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} فإنه يشكل أيضاً نقلاً تعسفياً لتلك النصوص من سياقاتها الخاصة التي وردت فيها إلى سياقات مختلفة تماماً لا يتوفر فيها الشرط الأساس إن لم يكن الوحيد لإعمالها، ألا وهو الاعتداء على الأوطان والإخراج من الديار أو المظاهرة على الإخراج، انطلاقاً من حصر كل ذلك بعموم قوله تعالى {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم الآية}. .

وفي الواقع فإن النصوص التي يوهم ظاهرها بمفاصلة علائقية دائمة مع الآخر غير المسلم لا يجوز استحضارها عند الحديث عن علاقتنا بالآخر غير المسلم إلا مساوقة مع استحضار سياقها التاريخي الخاص الذي وردت فيه، وإذا ما تم ذلك بإحكام (أعني استحضار السياق التاريخي لها) فسنجد أن تلك المفاصلة العلائقية محكومة باعتداء ذلك الطرف الذي تدعو تلك النصوص إلى مقاطعته بل وحربه على الدولة الإسلامية آنذاك، وبالتالي فمقتضياتها غير قابلة على إنزالها على الآخر غير المسلم المسالم غير المعتدي، ناهيك عن قبولها الإنزال على واقع الآخر المسلم المخالف بالرأي فقط.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2006/12/29/article212779.html

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك