أدب الجدل
بسم الله الرحمن الرحيم
أدب الجدل
تعريف الجدل في اللغة :
قال ابن فارس : " الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه " .
ومادة " جدل " تدور في اللغة العربية حول أربعة معانٍ :
الأول : الإحكام ، يقال جدله يجدله إذا أحكم فتله .
الثاني : الشدة ، ومنه يقال للأرض جدالة لشدتها .
الثالث : الصراع ، ومنه قيل للصريع : مجدل ومنجدل .
الرابع : الجدل في الخصومة ، ومنه يقال : رجل جدِل ومجدال ، أي شديد الخصومة .
تعريف الجدل في الاصطلاح :
قال في المصباح المنير - وهو كتاب يعنى بتعريف المصطلحات الشرعية - : الجدل هو مقابلة الأدلة لظهور أرجحها .
وقال الشريف الجرجاني- في كتابه " التعريفات " - : الجدل هو دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو برهان .
وكلا التعريفين صحيح ، ومن هذين التعريفين يتبين أن المجادلة لا بد أن تشتمل على عدة عناصر :
1- المدافعة بين شخصين أو أكثر ، فتأمل الشخص في ذهنه لا يسمى جدالاً.
2- أن المقصود من المجادلة ظهور أرجح الأقوال .
3- الأدلة ، فإن كانت مجرد دعاوى من دون أدلة فهذه مخاصمة وليست مجادلة .
تعريف المناظرة في اللغة:
المناظرة مفاعلة من النظر ، وفي الغالب فإن صيغة المفاعلة في اللغة العربية تدل على المشاركة بين اثنين أو أكثر ، كما في المقاتلة والمشاتمة ونحو ذلك .
ويطلق النظر في اللغة العربية على عدة معانٍ منها:
1-النظر الحسي:
قال تعالى:" وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة". أي مبصرة بعينيها .
2-النظر المعنوي أي لتفكر:
قال تعالى:" أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت". يتأملون ويتفكرون.
3-الانتظار:
قال تعالى:" يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم". أي أمهلونا
وقال تعالى "قال أنظرني إلى يوم يبعثون". أي أمهلني.
المعنى الاصطلاحي:
النظر في الاصطلاح عند المتكلمين والأصوليين هو:
"فكر القلب أو تأمله في حال المنظور ليعرف حكمه جمعاً أو فرقاً أو تقسيماً".
شرح هذا التعريف:
فكر القلب: التمعن والتبصر في حال المنطور.
ملاحظة: القلب هو الذي يتمعن ويتبصر، أما الدماغ فهو الذي ينظم تلك الأوامر الصادرة من القلب والواردة إليه .
المنظور: الذي يتأمل به.
ليعرف حكمه: أي إيجاباً أو سلباً، لأن الإدراك إما أن يكون تصديقياً أو تصورياً ، فالإدراك بلا حكم تصور ، وبه تصديق .
جمعاً: أن يلحق بغيره
فرقاً: يفصل عن غيره
تقسيماً: بعضه ملحق بكذا وبعضه ملحق بكذا.
الفرق بين الجدل والمناظرة :
اختلف أهل الكلام في هذه المسألة، والصحيح أن الجدل بمعنى المناظرة والعكس، فكلاهما بمعنى الآخر. والقرآن استعمل لفظ المجادلة بينما المناظرة – التي يراد منها معنى المجادلة - من المصطلحات الحديثة .
ألفاظ مرادفة للجدل والمناظرة :
منها:
1-المُحاجة :كقوله تعالى:" وحاجه قومه"
2-المحاورة : كقوله تعالى :"والله يسمع تحاوركما"
3-المناقشة :كقوله عليه السلام:{من نوقش الحساب عُذب}
4-المباحثة :من المصطلحات الحديثة المعاصرة وهي متداولة في كتب الأصوليين والمتكلمين.
نشأة علم الجدل وأهم المصنفات فيه :
لما كثرت المنازعات بعد تدوين المذاهب الكلامية وكان كل فريق ينصر مذهبه احتاج الناس إلى وضع قوانين وضوابط خاصة بالجدل .
ومن أول من صنف في علم الجدل : الإمام محمد البزدوي ، لكن القواعد التي وضعها كانت خاصة بالفقه .
ومن أهم المصنفات في علم الجدل :
- " المعونة في الجدل " للشيرازي
- " المنهاج في ترتيب الحجاج " للباجي
- " التقريب لحد المنطق " لابن حزم
- " الكافية في الجدل " للجويني
- " الجدل على طريقة الفقهاء " لابن عقيل
من فوائد وثمرات علم الجدل :
1- تحقيق الحق وإظهار الصواب .
2- تمحيق الباطل ودفع الشبه .
3- تمحيص الأدلة وكشفها وتمييز صحيحها من سقيمها .
4- القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
5- تحصيل ملكة الجدل والمناظرة وذلك بعد تشحيذ الأذهان وصقل الخواطر والأفهام .
6- تأييد صحيح المنقول بصريح المعقول
7- تثبيت المؤمنين ، ودفع الشبه عنهم .
حكم المجادلة والمناظرة :
جاءت نصوص في القرآن الكريم وفي السنة تحث على المجادلة وفي المقابل جاءت نصوص أخرى تحذر من المجادلة وتذمها وتصفها بأنها طريقة أهل الكفر والأهواء والبدع . فهل بين هذه النصوص تعارض؟
الجواب : ليس بينها أي تعارض ، فعند التحقيق والتأمل في هذه النصوص يتبين أن المجادلة على نوعين:
1-نوع محمود 2-نوع مذموم
والأصل في المجادلة أنها محمودة، أي من النوع المحمود، ولكن قد تكون مذمومة في الحالات الآتية:
1-إذا كانت مجادلة في آيات الله بقصد ردها.
2-مجادلة في الأدلة القطعية.
3-أو كانت لدحض الحق.
4-أو كانت لتقرير الباطل والدفاع عنه.
5-أو كانت بغير حجة ولا برهان.
أي أن الذم قد يكون بسبب مقصود المجادل أو بسبب طريقته في الجدال .
قال أبو المعالي الجويني : " ثم من الجدال ما يكون محموداً مرضياً ، ومنه ما يكون مذموماً محرماً ، فالمذموم منه ما يكون لدفع الحق ، أو تحقيق العناد أو ليلبس الحق بالباطل ، أو للماراة وطلب الجاه والتقدم إلى غير ذلك من الوجوه المنهي عنها ، وهي التي نص الله في كتابه على تحريمها فقال : " ما ضربوه لك إلا جدلا" .. وفي مثله قال صلى الله عليه وسلم : " دع المراء وإن كنت محقا " ، وهذا فيمن خرج عن أدب الجدل أو لم يقطع اللجاج بعد ظهور الحق كدأب الكفار مع الرسل ، وأما الجدال المحمود والمدعو إليه فهو الذي يحقق الحق ويكشف عن الباطل ويهدف إلى الرشد مع من يرجى رجوعه عن الباطل إلى الحق ، وفيه قال سبحانه : " وجادلهم بالتي هي أحسن " . اهـ
الأدلة على كلا النوعين:
أولاً : الجدال المحمود :
وهو ما كان القصد منه الوصول إلى الحق ، والتزم المجادل بآداب المناظرة .
الأدلة من القرآن :
1-الدليل الأول :قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" .
فالأصل في الدعوة أن تكون بالحكمة ، وهذا أمر عام ، ثم جاء التفصيل فبعض الناس قد يكون من الحكمة دعوتهم بالموعظة ، فالموعظة قد تردع بعض الناس ثم إذا لم تنفع فبالمجادلة، والحكمة هي القاعدة العامة ثم جاء التخصيص فمن كان من الناس يحتاج إلى مجرد وعظ فتكفي الموعظة وإذا لم تنفع فبالمجادلة.
وعلى هذا فالعطف هنا متنوع :
- فعطف الموعظة على الحكمة من عطف الخاص على العام.
- وعطف المجادلة على الحكمة من عطف الخاص على العام
- وعطف المجادلة على الموعظة من عطف المتباينين.
وقوله : " وجادلهم بالتي هي أحسن " : قيل هي" لا إله إلا الله، وقيل هي القرآن الكريم، وقيل هي الأسلوب الحسن والأمثل في الدعوة . وكل هذه المعاني صحيحة ، وهذا من اختلاف التنوع .
2- الدليل الثاني : قال تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"
وهذا دليل على أن بعض المجادلة حسن وبعضها مذموم.
3- الدليل الثالث : قال تعالى عن نوح: "قالوا قال يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا"
4- الدليل الرابع : قصص جدال إبراهيم عليه السلام، وهي كثيرة في القرآن:
أ- مع النمرود: قال تعالى : " ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر "
ب- مع أبيه وقومه:"وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة؟ .. إلى أن قال سبحانه : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه"
ت- مع قومه عندما حطم الأصنام : "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم فال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .."
ث- عندما بشرته الملائكة بغلام حليم (إسحق) وأخبرته بأمر الله بإهلاق قوم لوط :"فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ..." جاء في بعض الآثار أنه قال أتقتل قرية فيها مائة مؤمن قال لا قال أتقتل قرية فيها خمسون مؤمناً قال لا ….إلى أن قال أتقتل قرية فيها مؤمن واحد قال لا! ، قال : فإن فيها لوطاً ، قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته " .
الأدلة من السنة ( على الجدال المحمود ) :
1- الدليل الأول : ما جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يقتدون بأمره ويهتدون بسنته ثم إنها تخلُفُ من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}. (خُلوف: مخالفين خارجين عن سنته)
2- الدليل الثاني : ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم}
فجهاد الكفار بالأنفس يعني القتال في سبيل الله ، والجهاد باللسان يكون بالقلم والبيان والمجادلة ، وكلا النوعين مشروع .
3- الدليل الثالث : قال تعالى:" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"
ومن المعلوم أن جهاد المنافقين لا يكون إلا باللسان والمناظرة .
وعلى هذا قال أهل العلم : يجوز صرف الزكاة في المشاريع التعليمية أو في إنشاء مجلة أو وسيلة إعلام تدافع عن الإسلام لأن هذا من الجهاد في سبيل الله .
4- الدليل الرابع : ما جاء في البخاري في قصة صلح الحديبية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا فقال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟قال قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به .
فجدال عمر رضي الله عنه هنا من الجدال المحمود ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانياً : الأدلة على الجدال المذموم :
وقد سبق بيان الحالات التي يكون فيها الجدال مذموماً ، والجدال المذموم قد يكون من الكفار أو من المسلمين :
فمن جدال الكفار المذموم :
1- قوله تعالى:" ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد".
2- وقال تعالى:"وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق". هذا لرد الحق وإثبات الباطل.
3- وقال تعالى:" أآلهتنا خير أم هو ، ما ضربوه لك جدلاً بل هم قوم خصمون".
ذم الله تعالى طريق الكفار في المجادلة عندما نزل قوله تعالى"إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية : " يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قال غير واحد يضحكون أي أعجبوا بذلك .. وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " الآيات . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس فقال : أما والله لو وجدته لخصمته سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله . اهـ
4-وقال تعالى:"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير".
5-"إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه". وقوله " سلطان " أي حجة ويرهان.
ومن جدال المسلمين المذموم :
1- قوله تعالى :"الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"
2- وقوله سبحانه :"كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون". وهذه الآية نزلت في غزوة بدر.
3- ومن السنة قال عليه الصلاة والسلام:{ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ثم قرأ:"ما ضربوه لك إلا جدلاً". رواه أبوداود
مسألة : حكم مناظرة الكفار والمشركين :
إن الله تعالى أرسل رسله بالبينات ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمر اتباعه بالدعوة إليه وتبليغه للناس وجعل لذلك وسائل ، فم تلك الوسائل استخدام الحكمة ، ولهذا فإن جميع أنبيائه جاءوا بلسان أقوامهم لأن ذلك أكمل في تبليغ قومه ودحض حجج المخالفين وشبهاتهم .
وإذ تعينت المجادلة سبيلاً لدعوة الكفار فلا شك في مشروعيتها ، لأن كل أمر في الكتاب والسنة بالدعوة فهو يتضمن الأمر بالمجادلة لأن الجدال أحد سبل الدعوة ، ولهذا ذهب عامة أهل العلم إلى أن جدال الكفار مشروع ، فهو قد يكون واجباً ، وقد يكون مستحباً .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن جدال الكفار منسوخ بآية السيف وهي قوله تعالى : "فاقتلوهم حيث ثقفتموهم" ، وقوله سبحانه : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، فيكون المشروع في حق الكفار هو القتال وليس الجدال .
وهذا القول – أعني القول بنسخ الجدال – ضعيف جداً ، وبيان ذلك أن الكفار على نوعين :
وما تدل عليه نصوص القرآن والسنة يجب أولاً:
النوع الأول : الكفار غير المحاربين ، من أهل العهد أو الذمة ، أو المستأمنين ، فهؤلاء يشرع دعوتهم بالحسنى وموعظتهم ومجادلتهم لأن المسلم مأمور بالدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام .
النوع الثاني : المحاربون من الكفار الذين يناجزون المسلمين بالسلاح فهؤلاء يشرع قتالهم لا جدالهم.
وبهذا التقسيم تجتمع الأدلة في هذه المسألة ، ومما يؤيد ذلك :
1-قوله تعالى:"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" وهذا النص محكم غير منسوخ .
2- وقوله تعالى"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم"
فدلت الآية الكريمة أن أهل الكتاب والكفار على نوعين:
-فمنهم من يستحق المجادلة ، وهم المسالمون .
-ومنهم من يستحق القتال, وهم الظالمون المحاربون .
3- وقوله تعالى في سورة براءة: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" فحتى المحارب إذا طلب الأمان لسماع كلام الله فيجب تأمينه .
4-وقال عليه الصلاة والسلام:{ جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم} فأشار فيالحديث إلى المشروع في حق كل فئة من المشركين : فمن كان محارباً فإنه يجاهد بالنفس ، ومن كان مسالماً فجهاده باللسان ، والجهاد بالمال يشمل النوعين كليهما .
حكم جدال أهل البدع :
جدال أهل البدع فيه تفصيل :
• فيشرع هجر المبتدع لا مجادلته فيما إذا رجي من هجره صلاحه وإقلاعه عن بدعته ، أو كان يغلب على الظن أن الناس ينصرفون عنه بهجره ، أو كان المُناظِر له من غير الراسخين في العلم ، ففي هذه الحالات يشرع هجره ، لما يلي :
لقوله تعالى : " وإذا رأيت الذين يخاضون في آياتنا فأعرض عنهم "
وقال ابن عباس : لا تجادلوا أهل البدع فإن مجادلتهم تمرض القلب "
وجاء رجل إلى الإمام مالك فقال : يا إمام " الرحمن على العرش استوى " ، كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ( أي معناه معلوم ) ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعاً ، فأمر به فاخرج .
• وفيما عدا ذلك يشرع مناظرتهم ، فقد ورد أن أبا حنيفة ناظر الدهرية ، وناظر عمر بن عبدالعزيز الخوارج ، وناظر ابن عمر الدهرية ، والإمام أحمد ناظر المعتزلة ، وغيرهم من العلماء كثير .
حكم المراء :
المراء : في اللغة بمعنى الشك ، قال تعالى : " فلا تك في مرية منه "
وشرعاً : الجدال على جهة الشك ، قال تعالى : " قول الحق الذي فيه يمترون "
والمراء جاء في القرآن في أكثر من عشرين موضعاً على سبيل الذم ، وهذا هو الأصل فيه أنه مذموم ، ويستثنى من ذلك ما كان مراء ظاهراً كما قال تعالى – في عدة أصحاب الكهف - : " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم .. فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً " والمراد بالمراء الظاهر ما كان سهلاً هيناً مبنياً على الحجج والبراهين مما علمه الله تعالى .
أما المراء على سبيل الإطلاق ( أي ما عدا المراء الظاهر ) فهو مذموم ، والأدلة على ذلك :
1- قال تعالى : " أفتمارونه على ما يرى "
2- وقال : " ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد "
3- وقال : " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه "
4- وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار . رواه ابن ماجه
5- وعن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا . رواه أبوداود
6- وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مراء في القرآن كفر . رواه أحمد ، والمراد به عدة أمور منها :
I. الشك في كونه من عند الله .
II. أو الاختلاف في معانيه بما يؤدي إلى ضرب الكتاب بعضه ببعض .
III. أو معارضته بالعقل .
قواعد الجدل والمناظرة
القاعدة الأولى
إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل
النقل هو أن تذكر كلاماً لغيرك مع بيانك إسناده لمن نقلته عنه؛ كقولك:قال صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو بكر رضي الله عنه، أو مالك رحمه الله، أو نحو ذلك، فإن التزم الناقل صحة ما نقل، كأن يقول: وما نقلته صحيح، فهو مدّعٍ، وهذا الذي قاله دعوى، تحتمل أن تكون صدقاً، وتحتمل أن تكون كذباً، وإن كان لم يلتزم صحة ما نقل؛ فإن كان بديهياً أو مسلّماً عند الخصم أو معتبراً من ضروريات مذهبه لم يتوجه إليه شيء من الاعتراضات، ولزم خصمه القبول والتسليم، وإن كان ليس كذلك، فلا يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل بطريق يثبت بها صحة ذلك النقل، وقد يسمى طلب تصحيح النقل منع الدعوى.
والدليل على الشق الأول قوله تعالى:" قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"(آل عمران 93)
فكل دعوى –ينازع فيها – لا بد من إقامة الدليل عليها، وإلا كانت مجرد دعوى خلية عن البرهان، والدليل إما أن يكون نقلياً أو عقلياً، والمطلوب في النقلي تحرير صحته، وفي العقلي إظهار صراحته وبيان حجته:
والدليل على الشق الثاني : قال تعالى:" قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" (البقرة 111)، فهذا عام في كل دعوى، لا بد من تصديقها بالدليل.
ومن هنا قال علماء أدب البحث والمناظرة: إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل.
ولهذا تجد كثيراً من أهل البدع يستدل على بدعته بنقل ضعيف أو موضوع، أو دلالة ضعيفة، أو بعقل فاسد:
فالشيعة –مثلاً- يكثر عندهم الاستدلال بالنقول الموضوعة والضعيفة، وكذلك الدلالة الضعيفة، ويشاركهم في ذلك طوائف من المتصوفة.
أما أهل الفلسفة والكلام، فيكثر عندهم الاستدلال بالأقيسة العقلية الفاسدة، أو الاحتمالات والتجويزات في مقام القطعيات واليقينيات.
القاعدة الثانية
موافقة النصوص الشرعية لفظاً ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ
وذلك أن متابعة الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى أكمل وأتم من متابعتهما في المعنى دون اللفظ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم علّم البراء بن عازب كلمات يقولهن إذا أخذ مضجعه وفيها: (………آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: (آمنت برسولك الذي أرسلت. قال- أي النبي صلى الله عليه وسلم-قل آمنت بنبيك الذي أرسلت) تحقيقاً لكمال الموافقة في اللفظ والمعنى.
ولهذا منع جمع من العلماء نقل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى، ومن أجازه اشترط أن يكون الناقل عالماً بما يحيل المعنى من اللفظ، مدركاً لأساليب العرب حتى يستبين الفروق.
فالناس في موافقة نصوص الكتاب والسنة أقسام:
أحدها: من يوافقها لفظاً ومعنى، وهذا أسعد الناس بالحق.
الثاني: من يوافقها في المعنى دون اللفظ، كمن يتكلم في المعاني الشرعية الصحيحة بألفاظ
غير شرعية؛ وهذا كالألفاظ المجملة والتي تحتمل حقاً وباطلاً وهذا أقل مرتبة من الأول
الثالث: من يوافق نصوص الكتاب والسنة في اللفظ دون المعنى، وهؤلاء كطوائف الباطنية
وغيرهم عن عقائدهم الفاسدة بألفاظ شرعية؛ فالصلاة عندهم كشف أسرارهم، والصيام
كتمانها، والحج القصد إلى شيوخهم، ونحو ذلك.
الرابع: من يخالف نصوص الكتاب والسنة لفظاً ومعنى، وهؤلاء أشقى الطوائف، وهم من
الكفرة والملاحدة ونحوهم.
القاعدة الثالثة
لا ينبغي بتر الدليل والاستدلال بجزئه
وهذا شأن أهل الابتداع حتى يجدوا من الكلمات الشرعية ما يسوّغ لهم بدعتهم ويجعلها تروج عند ضعفاء المسلمين.
وقد عاب الله تعالى على من يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضه فقال سبحانه : " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فماجزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب " .
ولما احتج غيلان الدمشقي أمام عمر بن عبد العزيز على مقالته في القدر بقوله تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً* إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً". (الإنسان 2-3) قال له عمر: اقرأ آخر السورة "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً* يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً" (الإنسان 30-31)، ثم قال له عمر: ما تقول يا غيلان، قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالاً فهديتني…………. فأظهر توبته، ثم رجع إلى مقالته في عهد هشام بن عبد الملك.
القاعدة الرابعة
الحق يقبل من أي جهة جاء
الحق يقبل لكونه موافقاً للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه؛ ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي: قال تعالى:"فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم" (البقرة 213). وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: {……اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}. قال ابن القيم رحمه الله: فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى الله لما اختُلف فيه من الحق.
وقال تعالى:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة 8) . ومن العدل فيهم قبول ما عندهم من الحق.
وهكذا أدبنا القرآن الكريم حين ساق كلام بلقيس-وقت كفرها- ثم وافقها عليه؛ قال تعالى-حكاية عنها-:"قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة" قال الله تعالى:" وكذلك يفعلون" (النمل 34).
ولما دلّ الشيطان أبا هريرة رضي الله عنه إلى آية الكرسي لتكون له حرزاً من الشيطان، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:{أما إنه قد صدقك وهو كذوب}.
وقد قبل عليه الصلاة والسلام الحق من بعض اليهود ففي سنن النسائي عن قتيلة - امرأة من جهينة - أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت
بل يقبل الحق وإن جاء على لسان البهائم ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أومن به وأبو بكر وعمر قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب فقال له من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر .
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً-أو قال فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ولكنّ الحق يقبل من كل من تكلم به ".
القاعدة الخامسة
الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف رجاله
(هذا الكلام مما ينقل عن علي رضي الله عنه)، والحق ما وافق الدليل من غير التفات إلى كثرة المقبلين، أو قلتهم، فالحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، ومجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين لا يدلّ على صحة قول أو فساده، بل كل قول يحتج له، خلا قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج به.
وكثرة الأتباع ليس دليلاً على صدق الدعوى ، كما أن قلة الأتباع ليست دليلاً على ضعفها أو فسادها ، ففي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد – الحديث .
ولهذا قال بعض السلف : عليك بالحق ولا تستوحش من قلة السالكين ، وإياك والباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين .
القاعدة السادسة
الحق واحد لا يختلف
الحق عند الله تعالى وفي نفس الأمر واحد لا يختلف ولا يتعارض، لكنه قد يتنوع، فيكون جنساً واحداً له أنواع، كلها ترجع إلى جنس واحد، كما قيل في صيغ التشهدات والأذان والإقامة ونحو ذلك مما قد شرع جميعه.
أما أن يثبت أحد المتناظرين شيئاً وينفيه الآخر، أو يوجبه ويمنعه خصمه، ويكون كلاهما محقاً، فهذا لا يكون أبداً ، وهذا لا يمنع من أن يكون كلاهما مأجوراً في نفس الوقت ، ففي الصحيح : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد " .
ولهذا لا يمكن أن يكون دليلان قطعيان متعارضين، سواءً كانا من المنقول أو من المعقول، أو كان أحدهما نقلياً والآخر عقلياً. فالله تعالى أنزل الكتاب وأنزل الميزان-وقياس العقل منه- فهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فالنقل الصحيح لا يتعارض في نفسه لقوله تعالى:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" (النساء 82). وكذلك العقل الصريح لا يتعارض في نفسه، وأيضاً لا يتعارض الشرع الصحيح مع العقل الصريح، فلا تجد نصاً شرعياً صحيحاً في ثبوته صريحاً في دلالته معارضاً لدليل عقلي صح، هذا لا يمكن بحال، بل الشرع الصحيح والعقل الصريح متصادقان، متعاضدان، متناصران، يصدق أحدهما الآخر، ويشهد أحدهما بصحة الآخر.
ولكن قد يحار العقل في بعض ما جاءت به الشريعة، وهذا من العقل حيرة لا إحالة، وإنما ذلك لكمال الشريعة وتفوقها، فهي تأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها، فتأتي بما لا يعلمه العقل، وبما يعجز العقل عن معرفته، أما أن تأتي بما يُعلم بصريح العقل انتفاؤه وامتناعه، فلا.
ولهذا فإن كلّ ما قد يسمى تعارضاً بين الأدلة الشرعية والعقلية فهو بسبب أن أحد الدليلين غير صحيحي أو غير صريح، أما مع الصحة والصراحة فلا تعارض.
القاعدة السابعة : الاختلاف قد يكون اختلاف تنوع أو اختلاف تضاد :
واختلاف التنوع على صنفين :
" أحدهما " أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى :
وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن ، ومثل اختلاف المفسرين في معنى الصراط المستقيم ، فقيل : هو الفرآن ، وقيل الإسلام وقيل السنة ، وكل هذه المعاني صحيحة إذ لا تعارض بينها فهي من اختلاف التنوع .
الصنف الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل :
ومن أمثلة ذلك : الاختلاف في صيغ الأذان والتشهد وأدعية الاستفتاح ونحو ذلك ، ومنه أيضاً اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى : " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " فقيل : الظالم لنفسه هو من يفرط في الصلوات امفروضة ، والمقتصد من يقتصر على أداء الفرائض دون النوافل ، والسابق بالخيرات : من يصلي الفرائض والنوافل ، وقيل : الظالم لنفسه : هو من لا يؤدي الزكاة المفروضة ، والمقتصد من يقتصر على أدائها فقط ، والسابق بالخيرات من يؤديها ويتصدق أيضاً ، وقيل مثل ذلك في الصيام ، وكل هذا الأقوال صحيحة ولا تعارض بينها ، فهي من اختلاف التنوع ، واختلاف التنوع أشبه ما يكون بالتنوع في ذكر الأمثلة .
ومن اختلاف التنوع أيضاً : الاختلاف في معنى قوله تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، فقيل : هي الزوجة الصالحة وقيل : المال ، وقيل : العافية ، وكل هذه المعني صحيحة .
أما اختلاف التضاد : فهو الاختلاف الذي لايمكن تصحيح جميع الأقوال فيه ، ومثال اختلاف التضاد : الاختلاف في حكم قراءة الفاتحة على المأموم ، وانتقاض الطهارة بمس المرأة ونحو ذلك .
القاعدة الثامنة
وجوب عرض أقوال الناس على الشرع:
ما يقوله سائر الناس من الكلام في المطالب الشرعية لا بد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو حق يقبل، وإن خالفها فهو باطل يرد.
ولهذا كان الأئمة الأربعة ينهون أتباعهم عن تقليدهم في كل شيء ، يقول أبوحنيفة : إذا خالف الحديث قولي فاضرب بقولي عرض الحائط ، ويقول مالك : كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر – يقصد النبي - ، ويقول الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، ويقول أحمد : لا تقلدني ولاتقلدن أباحنيفة ولا مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا .
,قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ذم الله تعالى في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله وهو : أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد ; فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان ; في سره وعلانيته وفي جميع أحواله . وهذا من الإيمان قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } وقال : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وقال : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } . وقد أوجب الله طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من أربعين موضعا من القرآن وطاعته طاعة الله : وهي : عبادة الله وحده لا شريك له وذلك هو دين الله وهو الإسلام وكل من أمر الله بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج ; فلأن طاعته طاعة لله . وإلا فإذا أمر بخلاف طاعة الله فإنه لا طاعة له وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع وكذلك الأمير إذا أمر عالما يعلم أنه معصية لله والعالم إذا أفتى المستفتي بما لم يعلم المستفتي أنه مخالف لأمر الله فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيا وأما إذا علم أنه مخالف لأمر الله فطاعته في ذلك معصية لله " اهـ .
القاعدة التاسعة
السكوت عما سكت الله عنه ورسوله
كل مسألة من مسائل الشريعة- ولا سيما مسائل الاعتقاد- لا يحكم فيها نفياً أو إثباتاً إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه، وما ورد بنفيه نفيناه، وما لم يرد بغثباته ولا بنفيه دليل توقفنا، ولم نحكم فيه بشيء لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أن المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب علينا التوقف: إما مطلقاً أو لحين وجدان الدليل:
قال تعالى:" ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً" (الإسراء 36). قال قتادة: لا تقل: رأيتُ ولم ترَ، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإنّ الله تعالى سائلك عن ذلك كلّه. وقال صلى الله عليه وسلم:{ إنّ الله عزّ وجلّ فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياءَ من غير نسيان فلا تبحثوا عنها}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أُثبت، وما علم نفيه نُفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سُكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته).
القاعدة العاشرة
الامتناع عن مناظرة أهل السفسطة
إذا وضح الحق وبان لم يبق للمعارضة العلمية ولا العملية محل، فإنّ الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة، بينة بنفسها ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً؛ فلا ينبغي مناظرته بعد ذلك، قال تعالى:"وقل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29). وقال تعالى:" يجادلونك في الحق بعدما تبين" (الأنفال 6). فكل من جادل الحق بعد وضوحه وبيانه، فقد غالط شرعاً وعقلاً.
القاعدة الحادية عشرة
الباطل لا يرد بالباطل، بل بالحق
السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات باطلاً، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وفاسداً بفاسد. فالباطل يرد بالحق، والبدعة ترد بالسنة الصحيحة.
القاعدة الثانية عشرة
الإنكار لا يعارض بالإنكار
فمن الخطأ معارضة الإنكار بالإنكار في المناظرة؛ مثل أن يقول السائل للمسؤول: أنت تقول كذا، أو لِمَ تقول كذا؟ فيقول المسؤول: وأنت أيضاً تقول كذا، أو لأنك أنت-أيضاً- تقول كذا، فيأتيه بمثل ما أنكره عليه، أو أشنع. فهذا كله خطأ فاحش وعار عظيم، واقتداء بالخطأ، وهروب من الإقرار بالحق.
القاعدة الثالثة عشرة
عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم
كثير من المتناظرين قد يجعل عمدته في نفي وجود أمر ما، عدم علمه بالدليل على وجوده، والأصل أن عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم الوجدان ليس نفياً للوجود، فكما أنّ الإثبات يحتاج إلى دليل، فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، وإلا فما لم يعلم وجوده بدليل معين، قد يكون معلوماً بأدلة أخرى.
فمثلاً: عدم الدليل العقلي على وجود أمر ما لا يعني عدم وجوده؛ لأنه قد يكون ثابتاً بالدليل السمعي، أو غيره.
القاعدة الرابعة عشرة
في لازم المذهب
ينبغي أن يعلم أنّ اللازم من قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا صحّ أن يكون لازماً فهو حق، يثبت ويُحكم به؛ لأن كلام الله ورسوله حق، ولازم الحق حق.
أما كلام غير الله ورسوله ، فله حالات :
الحالة الأولى: أن يذكر له لازم قوله فيلتزمه، مثل: أن يقال لمن يثبت وزن الأعمال في الآخرة:
يلزمك القول بجواز وزن الأعراض . فيقول المثبت: نعم ألتزم به، لأن أحوال الآخرة
تختلف عن أحوال الدنيا، والله تعالى على كل شيء قدير.
وهذا اللازم يجوز إضافته إليه إذا عُلم منه أنه لا يمنعه.
الحالة الثانية: أن يذكر له لازم قوله، فيمنع التلازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول نافي الصفات
لمن يثبتها: يلزمك أن يكون الله تعالى مشابهاً للخلق في صفاته، فيقول المثبت: لا يلزم
ذلك؛ لأننا عندما أضفنا الصفات إلى الخالق سبحانه قطعنا توهم الاشتراك والمشابهة.
وهذا اللازم لا يجوز إضافته إليه بعد أن بين هو وجه امتناع التلازم بين قوله وبين ما أضيف إليه.
الحالة الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه فلا يذكر بالتزام ولا منع، فهذا حكمه ألا ينسب إليه؛
لأنه إذا ذكر له اللازم: فقد يلتزمه، وقد يمنع التلازم، وقد يتبين له وحه الحق فيرجع عن
اللازم والملزوم جميعاً.
القاعدة الخامسة عشرة
الاستدلال على المسألة التنازع فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه
الخصمان إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا، فإن لم يتفقا على شيء لم تقع بمناظرتهما فائدة، وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل، وكان الدليل عند أحد الخصمين متنازعاً فيه، ليس عنده بدليل، صار الإتيان به عبثاً لا يفيد فائدة ولا يحصل مقصوداً.
القاعدة السادسة عشرة
الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات
وهي خاصة العقل الصحيح وصفة الفطرة السليمة، وعليها قامت أحكام الشرع، فالشيء يعطى حكم نظيره، وينفى عنه حكم مخالفه، ولا يجوز العكس بحال: وهو أن يفرق بين متماثلين، أو يجمع بين مختلفين:
قال الله تعالى في ذم اليهود:"أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" (القرة 85)، وذلك أنهم أغفلوا حكم التوراة في سفك الدماء وإخراج أنفسهم من ديارهم، وأقاموه-أي حكم التوراة-في مفاداة الأسرى، وكان الواجب عليهم إقامته في شأنهم كله.
القاعدة السابعة عشرة
هل على النافي دليل؟
إذا سأل المناظر خصمه عن شيء فأجابه ثم سأله عن دليله، فقال: لا دليل على خلاف ما قلت، فمن ادعى خلافه فعليه الدليل. أو قال: خلاف ما قلت لا يصح، وأنا نافٍ، وليس على النافي دليل.
فهل يكون مَن هذا وصفه مقيماً للحجة، يلزم الخصم الكلام عليه؟ جمهور العلماء على أنه لا يكون مقيماً للحجة.
والدليل أن النافي ينفي ما ينفي ليثبت نقيضه وعكسه، فقد ادعى الإثبات بنفي الحجة، وذلك نقض قوله.
القاعدة الثامنة عشرة
الاصطلاحات الحادثة لا تغيّر من الحقائق شيئاً
قد يستخدم المبتدعة بعض الألفاظ الحسنة يصفون بها ما هم عليه من العقائد الفاسدة، رجاء قبولها عند ضعفاء الناس وشيوعها بينهم، ويستخدمون في حق منازعيهم من أهل السنة الألفاظ الذميمة والألقاب الشنيعة تنفيراً منهم، وتحقيراً لعلومهم.
فأهل الكلام يسمون ما عندهم من الكلام عقليات وقطعيات ويقينات، ويسمون ما عند غيرهم من العلوم: ظواهر وظنيات.
ومحرفو الكلم عن مواضعه يسمون تحريفهم تأويلاً ليروج ويقبل، ومن المعلوم أن التأويل في استعمال القرآن هو العاقبة التي يؤول إليها الأمر، وفي عرف السلف: تفسير الكلام وشرح معناه.
والمعطلة للصفات يسمون نفي الصفات تنزيهاً وتقديساً وتوحيداً، ويسمون إثباتها: تجسيماً وتشبيهاً وحشوا ً، ويلقبون مثبتيها بالمجسمة والمشبهة والحشوية.
وكل هذه الاصطلاحات لا ينبغي أن تغير من الحقائق شيئاً.
آداب الجدل والمناظرة
الأدب الأول
إخلاص النية لله تعالى
يقول أبو الوليد الباجي رحمه الله:"ينبغي للمناظر أن يقصد بنظره طلب الحق والوكالة عليه، ليدرك مقصوده، ويحوز أجره، ولا يقصد به المباهاة والمفاخرة؛ فيذهب مقصوده، ويكتسب إثمه ووزره".
ومن علامات الإخلاص أن لا يقنع بغفلة خصمه عن دلالة صحيحة لدليل أورده، وقد تنبه هو لها، بل ينبغي أن ينقاد لها، وإن غفل عنها خصمه. فكل جدل لم يكن الغرض فيه نصرة الحق، فإنه وبال على صاحبه، والمضرة فيه أكثر من المنفعة.
ومن إخلاص النية لله تعالى أن لا يعجب بكلامه، ويفتتن بجداله، فإن الإعجاب ضد الصواب، ومنه تقع العصبية، وهو رأس كل بلية. قال مسروق: بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله، وبحسب امرئ من الجهل أن يعجب بعلمه.
الأدب الثاني
البدء بذكر الله تعالى
قال ابن عقيل رحمه الله:" ومن أدب الجدل أن يجعل السائل والمسؤول مبدأ كلامهما حمد الله تعالى، والثناء عليه، فإن كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر".
الأدب الثالث
التأدب في الجلوس
ينبغي للمناظر أن يستشعر في مجلسه الوقار، ويستعمل الهدي وحسن السمت، وطول الصمت إلا عند الحاجة إلى الكلام. قال عبد الله بن المعتز:"إذا تم العقل نقص الكلام".
الأدب الرابع
اجتناب الهوى
وهو التجرد من حظ النفس، فينبغي للمجادل أن يغلّب متابعة الحق على حظ النفس والانتصار لها ولكبريائها، ومن علامات ذلك:
-عد التفريق بين أن ينكشف الحق على لسابه أو على لسان خصمه.
ولقد ضرب لنا سلفنا الصالح أمثلة مشرقة في مدافعة الهوى، والتجرد من حظ النفس، فمن ذلك:
-ما ساقه أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل علياً عن مسألة، فقال فيها، فقال الرجل: ليست كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال رضي الله عنه: ( أصبتَ وأخطأتُ ): "وفوق كل ذي علم عليم" (يوسف 76)
الأدب الخامس
الرجوع إلى الحق متى تبين
واجب على كل مسلم أن يرجع إلى الحق، وينقاد له، ويلتزم به، ويفرح به، بل هذا من لوازم الإيمان؛ قال تعالى:" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" (النساء 65).
وقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في الحق بعدما تبين ووضح؛ قال تعالى:" يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون" (الأنفال 6). قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: فينبغي لمن لزمته الحجة، ووضحت له الدلالة أن ينقاد لها، ويصير إلى موجباتها، لأن المقصود من النظر والجدل طلب الحق واتباع تكاليف الشرع؛ قال الله تعالى:
" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب"
(الزمر 18).
الأدب السادس
التحلي بالحلم والصبر
إذ المجادلة مظنة المشاحنة، وتحريك النفوس بالبغضاء، فتتفلت الألفاظ بالأذى والإيذاء قال تعالى:" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون" (البقرة 83). وقال صلى الله عليه وسلم:{ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب}.
ومن الحلم أنه إذا أخطأ أحدهما وأراد الإقالة، فعلى خصمه أن يقيله، لأن المرء ليس قوله جزءاً منه، لكنه واجب عليه ترك الخطأ إذا عرف أنه خطأ فالمانع من الإقالة ظالم مشاغب جاهل.
ومن الحلم أنه إذا بدرت من خصمه في جداله كلمة كرهها أغضى عليها، ولم يقابله بمثلها؛ فإن الله تعالى يقول: "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون" (المؤمنون 96).
الأدب السابع
التريث
وهو أن يمهل المناظر خصمه، ويفسح له حتى يتم كلامه، ويبين حجته، ويورد أدلته، ولا يقطع عليه شيئاً من ذلك .
وفي التريث فائدة للسائل والمجيب على السواء،: أما السائل: فربما يخطئ بالاستعجال فيظهر جهله، وقد يذكر المجيب بعد إقامة دليله ما يظهر به ما خفي على السائل، فيكفيه مؤونة البحث.
وأما المجيب: فربما غير دليله الذي استدل به، أو زاد عليه بما يدفع به الاعتراض، أو يحذف منه ما يوجب الخلل، أو يستدل على مقدمة نظرية، أو ينبه على مسألة خفية فيسلم من مناقشة خصمه والاعتراض عليه.
الأدب الثامن
التزام الصدق
فلا تحملنه شدة المقام والرغبة في الغلبة، والظهور على خصمه على الكذب؛ فإن الكذب مذموم في كل حال-إلا ما استثناه الشارع كما في الحرب والإصلاح بين الناس- فإذا كان الكذب مطية لضياع الحق، ونصرة الباطل فهو أشد؛ لأن فساده يتعدى إلى أديان الناس وعقائدهم.
ولهذا إذا سئل المناظر عن شيء لا يعلمه، فليقل: لا أعلم. وليتأدب بالهدي القرآني حيث يقول تعالى:" ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً" (الإسراء 36)، وليكن له في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فكم من مرة يُسأل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء لا يعرفه، فلا يتقدم بالجواب حتى يأتيه الوحي من ربه.
الأدب التاسع
الترفق بالخصم
وذلك بمساعدته على الوصول إلى الحق، وذلك بتجنب ما ينفره ويصده عن قبول الحق منى ما تبين له.
ومن الترفق بالخصم أنه إذا أخطأ وأراد الإقالة وجب على صاحبه أن يقيله.
الأدب العاشر
حسن الاستماع لكلام الخصم
ينبغي أن يكون كل واحد من المتناظرين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال مناظرته، مستمعاً كلامه إلى أن ينهيه؛ فإن ذلك طريق معرفته، والوقوف على حقيقته، وربما كان في كلامه ما يدله على فساده وينبهه على عواره، فيكون ذلك معونة له على جوابه.
قال إبراهيم بن الجنيد: قال حكيم من الحكماء لابنه:" يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ فإن حسن الاستماع إمهالك المتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال بالوجه، والنظر، وترك المشاركة في حديث أنت تعرفه".
الأدب الحادي عشر
الإنصاف
فمن آداب الجدل والمناظرة إنصاف الخصم، وممارسة العدل معه، والآيات القرآنية التي تأمر بذلك، أو تشير إليه كثيرة؛ منها:
قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون" (المائدة 8). قال الحافظ بن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: (أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد؛ صديقاً كان أو عدواً).
الأدب الثاني عشر
إصلاح المنطق وتهذيبه
وذلك بأن يكون كلامه يسيراً جامعاً بليغاً، فيه التحفظ من الزلل مع الإقلال دون الإكثار، مع ما قد يكون في الإكثار من خفاء الفائدة، وضياع المقصود، ثم إنه يورث الحاضرين الملل.
فلا يطول الكلام بينهما بما لا فائدة فيه، وأن يفضيا إلى الاختصار الذي لا يقصر عن البيان الموعب.
ومن إصلاح المنطق تجنب اللحن في كلامه، والإفصاح عن بيانه، فإن ذلك عون له في مناظرته، ألا ترى إلى استعانة موسى كليم الله بأخيه هارون عليه السلام حيث قال:"واحلل عقدة من لساني* يفقهوا قولي*واجعل لي وزيراً من أهلي*هارون أخي" (طه 27-30)، وقال:"وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون" (القصص 34).
الأدب الثالث عشر
تجنب المماراة
فالمماري لا يطلب الحق، بل المغالبة ومعارضة الخصم وكسره أبداً وهذا ليس من شيم أهل الحق. ومن صور ذلك: أن كل واحد من الخصمين المماريين لا يريد الرجوع عن مذهبه واعتقاده، بل يريد أن يخطئ صاحبه، ويظهر عليه.
الأدب الرابع عشر
المناظرة المفيدة إنما تكون بين النظراء في العلم
ولهذا قالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونا متقاربين، أو متساويين في مرتبة واحدة من الدين والفهم والعقل والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة.
ومن فوائد ذلك تدريب المَلَكَة في النظر والمناظرة.
الأدب الخامس عشر
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية
المفترض في كل متناظرين أنهما طالبا حق، لكن قد يخفى الحق عليهما أو على أحدهما، والخفاء قد يكون سببه خفاء الدليل أو الدلالة، فيختلفان فتقع بينهما المناظرة، وقد تنكشف المناظرة ولا يتفقان على قول واحد، لكنهما مستصحبان للنية الأولى وهي طلب الحق. فهذا الاختلاف لا يقطع حبل المودة بينهما، ولا يعكر على القلوب صفاءها، فضلاً عن التنابذ والتدابر ونحو ذلك.
ولقد ضرب لنا سلفنا أمثلة شامخة في هذا الباب، من ذلك:
1-ما قاله يونس الصدفي (264هـ) قال:ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: ( يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة) ؟!
2-ما رواه ابن عبد البر عن العباس بن عبد العظيم العنبري قال: كنت عند أحمد بن حنبلا وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، قال:فتناظرا في الشهادة، وارتفعت أصواتهما حتى خفت أن يقع بينهما جفاء ، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف، قام أحمد فأخذ بركابه.
3-وقال الإمام أحمد بن حنبل عن إسحق بن راهويه: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً).
الأدب السادس عشر
تجنب الإساءة إلى الخصم
وذلك بترك مقاطعته، والصياح في وجهه، والحدة عليه ودفعه للضجر، والإخراج له عما هو عليه، واستصغاره واحتقاره، والتشغيب عليه. ونحو ذلك مما يسيء إلى خصمه.
الأدب السابع عشر
تجنب الحيل في المناظرة
استعمال الحيل لأجل قطع الخصم محظور، يجب اجتنابه، فهو من دأب أهل الفسق في المناظرة، ومِن عمل مَن قصده بالمناظرة المماراة، وهو مجانب لطريق أهل الديانة والنصيحة، بعيد عن سلوك سبيل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن عرف من خصمه الاعتماد على الحيل، قطع مكالمته، إلا إذا لم يكن له بد من مناظرته، فعندئذ عليه بالحذر والاحتراز عن السقوط من حيث لا يعلم.
ومن ذلك أن يحتال الخصم على مناظره بالتعمق في العبارات حتى لا يفهم عنه.
الأدب الثامن عشر
استعمال الأمثال والحكم في المناظرة
نماذج من الأمثال والحكم:
1-أن يقول المناظر عند إرعاد الخصم وإبراقه، ومدح مذهبه واستحسانه في تعظيم ما يورد من دلائل؛ مثل ما قال الله تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون" (الأنبياء 18)
ومثل قول الراجز:
عند الرهان يعرف المضمار ويعرف السابق والخوار
2-أن يقول عند وهاء ما ادعاه الخصم حجة، مثل قوله تعالى:"مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" (العنكبوت 41)
3-إذا رأى خصمه لا يمكنه الإفصاح عما يختلج في صدره من المعاني، قال ما قال الله تعالى:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون" (الأعراف 58).
4-وإذا رأى نفسه منفرداً بين خصوم كثيرين كلهم يخالفونه، ويريدون كسره، والظهور عليه بكثرتهم، استظهر عليهم بقوله تعالى:" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) (البقرة 249).
5-وإذا رأى خصمه يتعاظم بسمته وحسن لباسه، تمثل بقوله تعالى:"أو من ينشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين" (الزخرف 18).
6- وإذا رأى من يعيب كلامه تمثل بقول المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الجهل السقيم
7-وإذا رأه لا ينقاد للحق على الرغم من ظهوره دعاه بقول الله تعالى:" فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله" (الزمر 17-18).
الأدب الحادي والعشرون
أصناف ينبغي تجنب مناظرتهم
1-جاهل لا يقر بجهله.
2-مسفسط متعنت.
3-معتد لا يحب النصفة.
4-من عادته التسفه في الكلام.
مقدمات جدلية
أولاً : النسب الأربع :
اعلم أن كل معقولين لابد أن تكون بينهما إحدى نسب أربع لا خامسة لها ، وهي : المساواة ، والتباين ، والعموم والخصوص المطلق ، والعموم والخصوص الوجهي .
فإن كانا لا يجتمعان البتة فهما المتباينان ، مثل الإنسان والحجر .
وإن كانا لا يفترقان أبداً فهما المتساويان ، مثل الأسد والليث .
وإن كانا يجتمعان تارة ويفترقان أخرى ، فلهما حالتان :
الأولى : أن يكون أحدهما يفارق صاحبه والآخر لا يمكن أن يفارقه ، فبينهما عموم وخصوص مطلق ، مثل الحيوان والإنسان ، فالحيوان أعم مطلقاص والإنسان أخص مطلقا ً .
والثانية : أن يكون كل واحد منهما يفارق الآخر في بعض الصور ، فبينهما عموم وخصوص وجهي ، كالإنسان والأبيض ، فإنهما يجتمعان في الإنسان الأبيض ، وينفرد الأبيض عن الإنسان في الثلج مثلاً ، وينفرد الإنسان عن الأبيض في الإنسان الأسود .
ثانياً : معنى الكلي والجزئي :
الكلي : هو كل لفظ مفرد وضع لأكثر من شيء واحد .
مثاله : الإنسان والحيوان ، والرجل ، والمرأة ، ونحو ذلك ، فإنه يشترك في مفهوم هذه الألفاظ أفراد كثيرة .
أما الجزئي : فهو ما يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه ، أو هو بمعنى آخر : اللفظ الدال على شيء واحد فقط .
مثاله : العَلَم ، واسم الإشارة والضمير والأسماء الموصولة ، فإنها من حيث الاستعمال جزئية فلا تستعمل إلا في شيء معين خاص .
ثالثاً : أقسام الكلي :
ينقسم الكلي باعتبار استواء معناه في أفراده وتفاوته فيها إلى متواطئ ومشكك :
فالمتواطئ : هو الكلي الذي استوت أفراده في معناه ، كالإنسان والجل والمرأة فغن حقيقة الإنسانية والذكورة والأنوثة مستوية في جميع الأفراد ، وإنما التفاضل بينها في أمور زائدة على مطلق الماهية .
والمشكك : هو الكلي الذي الذي تتفاوت أفراده في معناه قوة وضعفا ، كالنور ، فالنور في الشمس أقوى منه في السراج .
رابعاً : الكل والجزء :
الكل : ما تركب من جزئين فصاعداً ، مثل الكرسي فإنه مركب من خشب ومسامير .
والجزء : فهو ما تركب منه ومن غيره كل . كالمسمار بالنسبة للكرسي .
خامساً : الفرق بين الكل والكلي :
يختلف الكل عن الكلي من جهتين :
الأولى : أن الكلي يجوز حمله على كل فرد من أفراده حمل مواطأة ، كقولك عمرو إنسان ، وزيد إنسان ، بخلاف الكل فلا يجوز حمله على جزء من أجزائه ، فلا يصح أن تقول الكرسي مسامير ، أو الشجرة جذوع .
الثانية : ان الكلي يجوز تقسيمه بأداة التقسيم إلى جزئياته ، كأن تقول : الحيوان غما إنسان أو فرس أو بغل .. الخ ، بخلاف الكل فلا يجوز تقيمه إلى أجزائه بأداة التقسيم فلا يصح أن يقال : الكرسي : إما خشب أو مسامير .
سادساً : الكلية والجزئية :
القضية الكلية : هي الحكم على كل فرد من أفراد الموضوع الداخلة تحت العنوان ، كقولك : كل إنسان حيوان ، فإن كل فرد من أفراد الإنسان مستقل بالحكم عليه بأنه حيوان .
وقد قرر علماء المعاني أن لفظة " كل " إذا اقترنت بحرف سلب أي نفي ، فإن كان حرف النفي قبل " كل " فلا يقع الحكم على الموضوع إلا مجموعاً ، ولا يتبع كل فرد من أفراده .
مثل قولك : ما كل بيضاء شحمة ، فقد تكون البيضاء شحمة .
وإن كان حرف النفي بعد " كل " فهو من الكلية ، فالحكم شامل لكل فرد ، كقولك : كل من مات موحداً لا يخلد في النار .
والقضية الجزئية : هي التي حكم بمحمولها على بعض أفراد موضوعها ، مثل : بعض الإنسان حيوان .
واعلم أن القضية إذا لم يكن الحكم فيها معلقاً على شيء فتسمى " القضية الحملية " ، مثل قولك : عمرو جالس ، والإنسان حيوان .
والقضية تتألف من موضوع ، ومحمول ، وتتنوع بحسب الكم ( أي الكلية والجزئية ) والكيف ( أي الإيجاب والسلب ) إلى ستة أقسام :
1- كلية موجبة : مثل :كل الإنسان حيوان ، ( ملاحظة : " كل " هنا تسمى سوراً كلياً ،ومثل " كل " في الحكم : جميع ، وعامة ، وكلما ، ومهما كان .ز ونحو ذلك ) ، والإنسان هنا يسمى : موضوعاً ، و" حيوان " يسمى محمولاً
2- كلية سالبة : مثل : لاشيء من الإنسان بحجر .
3- جزئية موجبة : مثل : بعض الحيوان إنسان ( بعض هنا تسمى سوراً جزئياً ، ومثلها : من ، قد يكون ونحو ذلك )
4- جزئية سالبة : مثل بعض الحيوان ليس بإنسان
5- شخصية موجبة : مثل زيد قائم
6- شخصية سالبة : مثل زيد ليس بقائم
سابعاً: أنواع القياس الاقتراني :
وهو أحد أهم أنواع القياس في الجدل ، ويتألف من قضيتين ، في كل منهما كلمتان ، وهي :
1- موضوع القضية الأولى 2- ومحمولها
3- وموضوع القضية الثانية 4- ومحمولها
وهذه الكلمات الأربع لابد أن تكون واحدة منها مكررة ، وتسمى الكلمة المكررة ب " الحد الوسط " ، والقضية الأولى يطلق عليها : الصغرى ، والثانية يطلق عليها : الكبرى .
وعند الإنتاج يراعى ما يلي :
- يحذف الحد الوسط
- موضوع الصغرى هو موضوع النتيجة
- ومحمول الكبرى هو محمول النتيجة
وبالتالي تكون النتيجة متآلفة من موضوع الصغرى ومحمول الكبرى .
أشكال القياس الاقتراني :
للقياس الاقتراني أربعة أشكال لا خامس لها :
الشكل الأول : أن يكون الحد الأوسط محمولاً في الصغرى موضوعاص في الكبرى :
ويختلف بحسب الكم والكيف إلى ستة عشر ضرباً .
ويشترط لإنتاجه شرطان :
I. بحسب الكيف وهو كون صغراه موجبة ،
II. وبحسب الكم وهو كون كبراه كلية.
ولا ينتج من ضروبه إلا أربعة :
1- كليتان موجبتان ينتجان كلية موجبة :
مثل : كل إنسان حيوان ، وكل حيوان حساس ، ينتج : كل حيوان حساس .
2- كليتان صغراهما موجبة وكبراهما سالبة ، ينتج كلية سالبة .
مثل : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الحيوان بحجر ، ينتج: لا شيء من الإنسان بحجر .
3- موجبتان صغراهما جزئية وكبراهما كلية ، ينتج جزئية موجبة .
مثل : بعض الحيوان إنسان ، وكل إنسان ناطق ، ينتج بعض الحيوان ناطق .
4- جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى : ينتج جزئية سالبة .
مثل : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الإنسان بفرس ، ينتج : بعض الحيوان ليس بفرس .
الشكل الثاني : أن يكون الحد الوسط محمولاً فيهما :
ويشترط لإنتاجه شرطان :
1- بحسب الكيف وهو اختلاف مقدمتيه
2- بحسب الكم ، وهو كون كبراه كلية .
وضروبه المنتجة أيضاً أربعة :
1- كليتان صغراهما موجبة وكبراهما سالبة ، فينتج كلية سالبة .
مثل : كل ياقوت حجر ، ولاشيء من إنسان بحجر ، فينتج : لاشيء من الياقوت بإنسان .
2-كليتان صغراهما سالبة وكبراهما موجبة ، فينتج كلية سالبة .
مثل : لا شيء من الإنسان بحجر ، وكل ياقوت حجر ، ينتج : لا شيء من الإنسان بياقوت .
3- جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ، فينتج جزئية سالبة .
مثل : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الفرس بإنسان ، ينتج : بعض الحيوان ليس بفرس .
4- جزئية سالبة صغرى وموجبة كلية كبرى ، ينتج جزئية سالبة .
مثل : ليس بعض الحيوان بناطق ، وكل إنسان ناطق ، ينتج ليس بعض الحيوان بإنسان .
الشكل الثالث :أن يكون الحد الوسط موضوعاً فيهما :
فيشترط لإنتاجه :
1- بحسب الكيف أن تكون الصغرى موجبة .
2- وبحسب الكم وهو أن تكون إحدى مقدمتيه كلية .
والضروب المنتجة منه ستة :
1-كليتان موجبتان ، فينتج جزئية موجبة .
مثل : كل إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ، ينتج : بعض الحيوان ناطق .
2- كليتان صغراهما موجبة وكبراهما سالبة : ينتج جزئية سالبة .
مثل : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الإنسان بفرس ، ينتج : ليس بعض الحيوان بفرس .
3- موجبتان صغراهما جزئية وكبراهما كلية ، ينتج جزئية موجبة .
مثل : بعض الحيوان إنسان ، وكل حيوان حساس ، ينتج : بعض الإنسان حساس .
4- موجبتان صغراهما كلية وكبراهما جزئية ينتج جزئية موجبة .
مثل : كل إنسان حيوان ، وبعض الإنسان بصير ، ينتج : بعض الحيوان بصير .
5- موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى ، ينتج جزئية سالبة .
مثل : بعض الإنسان بصير ، ولاشيء من الإنسان بجماد ، ينتج بعض البصير ليس بجماد .
6- موجبة كلية صغرى وجزئية سالبة كبرى ينتج جزئية سالبة ، مثل كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ليس ببصير ، ينتج : بعض الحيوان ليس ببصير .
الشكل الرابع : أن يكون الحد الوسط موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى :
ويشترط لإنتاجه ألا تجتمع فيه خستان .
وضروبه المنتجة أربعة :
1- موجبتان كليتان ، ينتج موجبة جزئية .
مثل : كل إنسان حيوان ، وكل ناطق إنسان ، ينتج : بعض الحيوان ناطق .
2-موجبتان صغراهما كلية وكبراهما جزئية ، ينتج جزئية موجبة .
مثل : كل إنسان حيوان ، وبعض الأبيض إنسان ينتج : بعض الحيوان أبيض .
3- كليتان صغراهما سالبة وكبراهما موجبة ، ينتج كلية سالبة .
مثل : لا شيء من الإنسان بفرس ، وكل ناطق إنسان ، ينتج :لا شيء من الفرس بناطق .
4- موجبة كلية صغرى وسالبة كلية كبرى ، ينتج جزئية سالبة .
مثل : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الفرس بإنسان ، ينتج : بعض الحيوان ليس بفرس .
خصائص وأساليب الجدل القرآني
الخصائص :
يمتاز الجدل القرآني بعدد من الخصائص ، من أهمها :
1- أن له قوة تأثير عظيمة في النفوس : وهذا يدل على إعجازه ، وهو ما جعل المشركين يصفونه بالسحر ، وما هو بسحر ، وجعلهم يتناهون عن الاستماع إليه ، قال تعالى : " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون "
وقال تعالى عن بعض النصارى : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق "
وقال تعالى عن بعض الجن : " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ، قالوا يا قومن إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاص لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم "
2- أنه يخاطب العقل والوجدان جميعاً : فيأتي بالفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معاً وعلى مستوى واحد مما لا يوجد مثله في كلام البشر ، فمن نظر في كلام الناس من الفلاسفة والحكماء وكلام الشعراء والأدباء لم يجد إلا غلواص في جانب وقصوراً في الجانب الآخر ، فالحكماء مثلاً يقدمون لك ثمار عقولهم من غير أن تتطلع نفوسهم إلى إشباع عاطفتك ووجدانك ، أما الشعراء فيقصدون إلى استثارة الوجدان وتهييج العاطفة ولا يبالون بما صوروه هل يكون غياص أو شدا .
3-أن القرآن نزل لهداية الناس كافة ، وما فيه من الاستدلال إنما هو لمخاطبة الناس كافة : وذلك على مختلف مستوياتهم العقلية والعاطفية بعكس طريقة المناطقة والمتكلمين فلا يفهما إلا طائقة خاصة من الناس .
4- أنه يعرض القضية الواحدة المراد تقريرها في أكثر من أسلوب : فمثلاً : قضية البعث جاء إثباتها في القرآن بأساليب متعددة ، مثل : ضرب الأمثال ، والتذكير بالنشأة الأولى ، وخلق الأسماوت والأرض ، وتأمل قول اللله تعالى في سورة يس : " أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون ، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " فذكر الله في هذه الآيات عدة براهين على هذه القضية .
5- أنه يرشد خصومه إلى إعمال عقولهم وفكرهم : لأن القرآن لا يخاف نتائج العقل ، لأنها إذا كانت صحيحة صريحة فإنها لا تتعارض مع الحقائق الإيمانية ، قال تعالى : " قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوما لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " ، ونجد في آيات كثيرة المطالبة بالتزام ما يقتضيه العقل ، كما في قوله تعالى : " يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أننزلت التوراة وافنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم .. ما كان إبراهيم يهودياص ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين "
وقال سبحانه على لسان إبراهيم : " افتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئاً ولا يضركم ، أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون "
6- أنه يلتزم إنصاف الخصم وتذكيره بما معه من الحق ليحمله ذلك على التزام الحق في جميع مقاماته : ولهذا نجد أن القرآن يخاطب اليهود والنصارى بقوله : " يا أهل الكتاب " ففيه إشادة بهم ، وتذكير لهم بألا يكتموا الحق الذي معهم .
وفي آيات كثيرة يلتزم القرآن عدم التعميم في وصفهم بالصفات القبيحة ، كما في قوله تعالى : " إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل .. " وقال تعالى : " وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب .." وقال : " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك "
7- أنه قد يأتي في صورة قصة : لأن القصص في الغالب فيها تشويق وتجذب أنظار المخاصمين ، لا سيما إذا كان موضوع القصة رسولاً يعرفونه ويدعون متابعته فتأتي الحجة على لسانه فيكون ذلك أقوىتأثيراص وأشد إلزاما .
ومن أمثلة ذلك قصص الأنبياء في القرآن .
أساليب الجدل القرآني :
من أساليب الجدل القرآني ما يلي :
1- قياس الخلف : وهو إثبات الأمر بإبطال نقيضه ، وذلك لأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وذلك كالاستدلال على التوحيد بإبطال الشرك ، كقوله تعالى : " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا ً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " فهذا دليل الامتناع في الخلق والإيجاد ، وقال تعالى : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " وهذا دليل الامتناع في العبادة والقصد .
2- السبر والتقسيم : وهو أن تذكر جميع أقسام موضوع المجادلة ثم يبين المجادل فسادها جميعاً سوى الحق الذي يقصد إثباته .
3- قياس التمثيل : وهو أن يقيس المتدل الأمر الذي يدعيه على أمر معروف عند من يخاطبه أو على أمر بدهي لا تنكره العقول ، مثل قياس البعث على النشأة الأولى أو على خلق السماوات والأرض ، أو على إحياء الأرض بالمطر ، وهذا كثير في القرآن .
4- القول بالموجب : وهو رد كلام الخصم من فحوى كلامه ، كما في قوله تعالى : " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم " ، وقوله : " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "
5- الانتقال : وهو أن ينتقل المستدل إلى دليل آخر لكون الخصم لم يفهم وجه الدلالة من الدليل الأول او فهمها لكنه قصد المعاندة ، ومن أمثلة ذلك مناظرة إبراهيم الخليل للذي حاجه في ربه .
6- مجاراة الخصم : وذلك بالتسليم للخصم في بعض مقدماته مع الإشارة إلى أنها لا تنتج ما يريده ، كما في قوله تعالى " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " وقال سبحانه : " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ، قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده .
7- التحدي : وذلك إظهاراً لعجز الخصم ، كما تحدى الله المشركين لما قالوا : " إن هذا إلا قول البشر " فتحداهم أن ياتوا بقرآن مثله ، فلم يستطعوا ، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله ، فلم يستطيعوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة ن فلم يستطيعوا ، ثم تحداهم أن ياتوا بحديث فلم يستطيعوا .
8- المناقضة : بأن يبين تناقض الخصم ، كما في قوله تعالى : " فلما جاء هم الحق قالوا لولا أوتي مثلما أوتي موسى ، أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل "
9- المباهلة : ومعنى المباهلة : أي الملاعنة ، وصورتها : أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة الله على الظالم منا .
والمباهلة تكون في آخر المجادلة ينتهى عندها أحد الخصمين إلى العناد والمكابرة .
حكمها : الجواز ، وذلك عند ظهور الحجة على الخصم ، ويدل عليها :
• مباهلة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود ، وذلك في قوله تعالى : " قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكن أوليااء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " قال ابن عباس : أي ادعوا على أي الفريقين أكذب .
• مباهلة النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى ، وذلك في قوله تعالى : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون ، الحق من ربك فلا تكن من الممترين ، فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكافرين " جاء في صحيح البخاري عن حذيفة قال جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة
• وعن ابن عباس أنه قال : من شاء باهلته أن المسائل لا تعول – أي في الفرائض –
• وقد فعلها بعض أهل العلم كابن تيمية مع فرقة البطائحية وابن حجر مع بعض محبي ابن عربي وغيرهم .
جدل القرآن مع أهل الكتاب
جادل القرآن أهل الكتاب بطائفتيهم : اليهود والنصارى في قضايا كثيرة ومتنوعة ، لكنها تدور في معظمها حول محورين أساسين :
- التوحيد
- والنبوة
ومن أهم القضايا التي تعرض لها القرآن مع أهل الكتاب ما يلي :
أولاً : نسبة الولد إلى الله :
فاليهود يزعمون عزيراً ابن الله ، والنصارى يزعمون المسيح ابن الله ، فتصدى القرآن للرد على كلا الطائفتين فقال سبحانه : " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون "
واليهود لم يجتمعوا على هذه المقالة بل هو مذهب طائفة منهم ، ولهذا لم قولهم الشنيع هذا إلا في موضع واحد ، بعكس النصارى فقد كان مذهباً لعامتهم ، ولهذا جاء ذمهم وتكذيبهم في مواضع شتى من القرآن .
وقد رد الله تلك المقالة البطالة بأوجه متعددة ، فمن ذلك :
I. أن النصارى يستندون في دعواهم بنوة المسيح إلى ولادته من غير أب ، فرد الله تعالى بأن آدم مخلوق من غير أب بل ومن غير أم ، فإن كان عيسى ابناً لله فآدم أولى منه قال تعالى : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "
II. كما رد الله تعالى بأن نسبة الولد تستلزم نسبة الزوجة ، وهم ينفون عن الله الزوجة فكيف يثبتون له الولد ، قال سبحانه : " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة "
III. وبأن الله تعالى له مافي السماوات والأرض ، وهو قادر على كل شيء ، ومبدع كل شيء فكيف يعجزه أن يخلق عبداً من غير أب ، قال سبحانه : " وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون "
ثانياً : دعوى النصارى إلهية عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :
ومستند دعواهم أنه خلق من غير أب ، وأنه أتى بالخوارق من إحياء الموتى وشفاء المرضى ، وقد أبطل الله هذه الفرية من عدة أوجه :
I. ما تقدم من تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً لله
II. إضافة عيسى إلى أمه من حيث هي الرحم التي حملته ، وإلى كلمة الله التي بها يقول للشيء كن فيكون ، وإلى الله تعالى الذي خلقه وأمر بالنفخ في مريم ، قال تعالى : " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا "
وقوله " وكلمته " معناها أن عيسى بالكلمة كان ولم يكن هو الكلمة ، كما قال تعالى لمريم : " إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادراً عنه .
وقوله : " وروح منه " الإضافة هنا إلى الله تعالى إضافة تشريف لأنها من باب إضافة الأعيان ك" بيت الله ، وناقة الله ورسول الله " فكل هذه إضافة تشريف ولو كان كل ما يضاف إلى الله جزءاً منه لقيل ذلك في البيت والناقة والرسول ، بل كل ما في السموات والأرض فإنه يضاف إلى الله لكونه خاقه ولا يعني ذلك أنه جزء منه ، قال تعالى : " وسخر لكم ما في السماولات والأرض جميعاً منه "
وقوله : " فنفخنا فيها من روحنا " أراد بالروح جبريل وإليه الإشارة بقوله تعالى : " وأيدناه بروح القدس " وأضاف الفعل إليه سبحانه في قوله "فنفخنا" – مع أن النافخ جبريل – لأنه سبحانه هو الآمر والفعل يضاف إلى الآمر كما يضاف إلى المباشر .
وإضافة جبريل إلى الله تعالى في قوله : " من روحنا " من باب إضافة التشريف والتكريم كقوله تعالى في حق آدم : " ونفخت فيه من روحي "
III. جريان أحكام البشرية عليه من الأكل والشرب والولادة والموت والبعث ونحو ذلك ، قال تعالى : " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " وقال : " والسلام علي يوم ولدت ويوم أبموت ويوم أبعث حيا "
IV. تبرؤ عيسى من فعل النصارى وضلالهم ، قال تعالى : " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي به علم إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت العليم الحكيم .. "
V. إقراره عليه الصلاة والسلام بعبوديته لربه وأنه عبد الله ورسوله ، وفي هذا رد على اليهود الذين أنكروا نبوته وزعموا أنه ابن زنى ، ورد على النصارى الذين غلوا فيه وجعلوه إلهاً ، قال تعالى : " قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " وقال سبحانه على لسان عيسى : " إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "