الاختلاف المذهبي بين منهجية الاستدلال الفقهي وإغراء الفتنة

الاختلاف المذهبي بين منهجية الاستدلال الفقهي وإغراء الفتنة

هاني فحص

المصدران الأولان والمتفق على مصدريتهما للفقه (العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية) لدى عموم المسلمين، هما: القرآن الموجود بين دفتي المصحف من دون زيادة أو نقصان، والسنة. والقائل بغير ذلك شاذ لا يلتفت إليه، وفي القرون المتأخرة لم تراود فكرة التحريف، زيادة أو نقيصة، ذهن أحد من مختلف المذاهب. أما المراودات القديمة فهي موزعة بين الجميع ومنبوذة من الجميع.

 

إذن فالكتاب والسنة -وسواهما موضع خلاف- لا يفترق المذهب الشيعي الإمامي الإثنا عشري، والأصولي منه أساسًا (وهو مختلف عن الإخباري)، وهو الأوسع انتشارًا، لا يختلف عن بقية المذاهب الإسلامية في المسألة السابقة التي ترقى إلى مستوى البداهات، فضلا عن كونها من المسلَّمات.

 

* الخلافات.. ومنطلقاتها النظرية

 

وإنما يأتي الخلاف أو الاختلاف في مناطق أخرى، منها منطقة الأدلة الأخرى، أي الإجماع والعقل اللذين يضيفهما الشيعة (المدرسة الأصولية) إلى الكتاب والسنة، من دون أن يدعوهما خارج الجدل الدائم حول تعريفهما ومصدريتهما، وحول آلية وصدقية مطابقة العقل للشرع، واشتراط حجية الإجماع بالكشف عن رأي المعصوم؛ مما جعل بعض علماء الشيعة المعاصرين لا يعتبرونه دليلا بذاته، بل من حيث كونه كاشفًا عن السنة، أي سنة، كما يضيف السنة على خلاف متحرك بين المذاهب الأربعة، خاصة فيما يعود إلى القياس، والاستحسان والاستصلاح، والمصالح المرسلة، وسنة الصحابة، فضلاً عن القياس والإجماع.

 

وهناك لدى علماء الشيعة والسنة من يدعون إلى توسيع مساحة الاجتهاد، أي نقله من مساحة المذهب إلى الفضاء المنهجي والعملي المشترك بين جميع المذاهب، مما يلزم الفقهاء منهجيًّا بالتدقيق في حقيقة الاختلاف بين المباني التي تتحرك عليها عملية الاستنباط، وتتكون منها المنظومة الخلافية، بحيث تدل بعض التجارب البحثية الجادة في أصول الفقه المقارن (السيد محمد تقي الحكيم) والمتخففة من القبليات والأنماط الجاهزة فيما يعود إلى الذات والآخر، والمتراكمة على مر تاريخ الخلاف انقطاعًا أو سجالا أو حوارًا، تدل على أن الخلاف في المباني يمكن أن يؤول أغلبه على موجب البحث المعمق إلى خلاف شكلي، وما يتبقى منه يبقى في حدود الطبيعي ويمكن استيعابه وتجاوزه، من دون حاجة إلى إلغائه تقديرًا لضرورة وجوده نسبيًّا كمصدر حيوية، إلى ذلك فإن إلغاءه يتضمن تعسفًا لا مكان له ولا مسوغ في حركة المعرفة الجادة.

 

والمنطقة الأخرى التي يأتي منها الخلاف، موصولة بالأصول، أي أصول العقائد، أي أنها متأثرة أو نابعة من الخلاف في علم الكلام التقليدي إلى حد كبير، في حين أن علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، التي انفتح بابها أخيرًا على أساس أن الاجتهاد الضروري فيها تم تخطيه لأسباب غير معرفية، مما يعني أن هذه المنطقة من الخلاف سوف تكون عرضة في المستقبل إلى كثير من الاكتشافات والمكاشفات التي تقرِّب المسافات أو تلغي المفتعل منها، وتدوِّر الزوايا وتنقل التعدد الفكري من موقع الثنائية الحادة والتقابل الفصالي إلى حال من التكامل على موجب الاختلاف الطبيعي الذي لا يعطل الحوار، بل تقتضيه كما لو كان شرطه الديني والمعرفي.

 

وتتركز المسألة المذكورة أعلاه في إلزام أو التزام الشيعة الإمامية بسنة الأئمة الاثني عشر من خلال التعريف الشيعي الإمامي للسنة بأنها "قول المعصوم أو فعله أو تقريره"، متعدين بذلك تعريف المذاهب السنية المختلفة للسنة بأنها: "قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره". مع إضافة قيد أو شرط كونه -أي الرسول صلى الله عليه وسلم- في مقام التشريع بناء على حصر العصمة في دائرة التبليغ أو مقامه.

 

وبناء على اعتقاد الشيعة الإمامية بالعصمة المطلقة لأئمة أهل البيت بسبب ربطهم بين مقام الإمامة ومقام النبوة، إلى حد أن بعض علمائهم يحيلون الأصول ثلاثة بدل الخمسة (أي التوحيد والنبوة والمعاد)، بدل "التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد"، كما هو العدد لدى الآخرين، على أساس أن العدل لدى الثلاثيين هو مقتضى التوحيد وبه يتم معناه، كما أن الإمامة هي مقتضى النبوة، والدليل على النبوة هو الدليل على الإمامة.. بناء على القول بعصمة الأئمة إذن يصبح الأئمة الاثنا عشر في المنظار الشيعي هم الطريق الأول -وربما كان الطريق الحصري- إلى معرفة السنة النبوية أي ثبوتها، أو ثبات الصدور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في حين يكون الرواة الثقات طريقًا لإثبات سنة الأئمة أو وقوع الأئمة في سند السنة النبوية.

 

وعودًا على بدء لا بد من التنبيه إلى أن إسقاط قيد أو شرط كون الرسول أو المعصوم في مقام التشريع من تعريف السنة مشفوعًا بالعصمة المطلقة للرسول أو الإمام لدى الشيعة الإمامية؛ يعني أن كل سنة هي تشريع، وأن المعصوم حسب المنظار الشيعي هو دائمًا في مقام التشريع، وفي كل شيء؛ مما يعني أن دائرة التشريع تتسع للسياسة، أي لنظرية الحكم والدولة الدينية وغيرها، كولاية الفقيه التي تتحدى الفقهاء من غير القائلين بها حسب قراءتهم للأدلة التقليدية التي يستند إليها القائلون بالولاية المطلقة، غاية الأمر في الاختلاف أن غير القائلين بولاية الفقيه إنما يستبعدون الإطلاق فيهما من دون أصلها، في الأمور الحسبية، وهذا التحدي مصدره المشتركات المبنائية المتفق عليها في عملية الاستنباط الفقهي، أي الأصول التي تتداخل فيها أصول الفقه مع أصول العقائد (علم الكلام) ومن دون فرق جوهري بين قائل بولاية الفقيه المطلقة أو المقيدة.

 

وإلى أين يذهب الفقيه السني الذي يقول بالدولة الشرعية أو الدينية، ليستدل على وجوبها أو مشروعيتها، إذا لم يكن لديه اقتناع أو عقيدة بالمباني الشيعية نفسها؟

 

كما هو ملحوظ فإن الفقيه السني يذهب إلى قراءة تأويلية (ألسنية) لعموميات في الكتاب والسنة، أي أنه لا يخضع نظرية الحكم لمنظومة مبنائية في الفقه، بل يتعامل مع النص مباشرة كمنجز نظري، ودلالي (أي معرفة) غير مسبوقة بمعارف قبلية، بل برغبات سياسية تبحث عن مسوِّغاتها بعد تكوينها في ذهن أهل الرغبة، لما يعني أن إشكالية الفقيه السني في مكان وإشكالية الفقيه الشيعي في مكان آخر.

 

إشكالية الفقيه السني في الافتقار إلى المسوغ الإلزامي، وهذا ليس عيبًا، وإشكالية الفقيه الشيعي أن إلزامية رؤيته لا تتأتى من السياق الفقهي، وهي عرضة لتقلبات الرؤية في علم الكلام؛ مما يعني أن الاستمرار في البحث في علم الكلام الجديد يمكن أن يصل إلى المساس بالمباني، وحينئذ يصبح لزامًا أن تبحث مسألة الحكم والدولة على نصاب معرفي مختلف، أي على أساس الإجابة الشافية عن السؤال عن موقع الدولة في أنظمة الاجتماع البشري، الذي يكيفه الدين فقهيًّا ولا يخترعه وجودًا ولا حراكًا، حتى إذا ما انتهى البحث إلى الاقتناع الآخذ في التعاظم سعة وعمقًا الآن، بأن الدولة ضرورة اجتماع؛ فإن العالم أو الفقيه سوف يعود إلى قراءة النصوص التأسيسية والمحطات التاريخية متحررًا من إلزامية الدولة شكلاً لينتقل إلى قبول مشروط بتعريف الدولة الحديثة وعدم وقوعها في موقع التضاد مع الرؤية الإسلامية لمسألة الحكم.

 

* المنهج الفقهي.. والمشتركات النظرية

 

إن السؤال الذي يلح بعد كلامنا السابق والمركز على الخلافات بين المذاهب الإسلامية موصولة بمنطلقاتها النظرية، هو: هل منع ذلك -أو يمنع- أن يتسع الفضاء المنهجي للاستنباط الفقهي محكومًا بالمنطق الداخلي والمعياري والمقاصدي المتفق عليه إجمالاً لدى الجميع، أن يتسع هذا الفضاء لمشتركات نظرية تترتب عليها موافقات متحركة في تشخيص الموضوعات وترتيب أحكامها عليها؟ خاصة إذا ما انفتح فقه الجميع على حقول المعرفة المختلفة (الإنسانية والألسنية والأدبية عمومًا والبحتة والدقيقة والتطبيقية.. إلخ) والتي من شأنها إذا ما اندمجت في حركة المعرفة الدينية، أن توسع المساحة المشتركة لدى علماء المسلمين في الرؤية والمرئي والرأي؟

 

على هذا الأساس تصبح المسافة بين المذهب الفقهي الإثنا عشري والمذهب السني أقصر من مسافة نوعية بين مذهبين غير محكومين بمصدر واحد وغاية واحدة؛ لتتماثل هذه المسافة مع مسافة الاختلاف القائم والمتحرك -طولاً وقصرًا، أو بعدًا وقربًا- بين أي مذهب سني وأي مذهب سني آخر، أو داخل المذهب السني الواحد، على أساس تعدد المدارس والاجتهادات وحتى المباني داخل المذهب الواحد، هذا فضلاً عن المسافة المعروفة والمتأسسة على فتح باب الاجتهاد لدى الشيعة وسدّه لدى السنة -وهذه ليست مسلمة لدي- ولا تتلاءم مع حيوية التراث الفقهي للمذاهب الأربعة بعد الربع الأول من القرن الخامس الهجري، أي تاريخ فرض الخليفة العباسي القادر لرؤيته التقليدية على فقهاء المذاهب؛ مما أدى في البداية إلى حالة من جمود الفقه السني من دون أن يكون الفقه الشيعي قد استطاع أن يتحرك -وحده- على مقتضى فتح باب الاجتهاد، خاصة بعد استيلاء طغرلبك السلجوقي على بغداد ووفاة الشيخ "الطوسي" -شيخ الشيعة ومجتهدها الأكبر في عصره- مما جعل الفقه الشيعي يتوقف، ويصبح تكرارًا لفقه "الطوسي" كمظلة وحيدة لحالة البطالة التي أصابت العقل الإسلامي تحت ظل السلاجقة؛ وهو ما امتد أثره السلبي لدى الشيعة إلى القرن الثامن الهجري.

 

وفي المحصلة كان فتح باب الاجتهاد لدى الشيعة، خاصة بعد نهاية السلاجقة واجتراء الفقيه الشيعي "ابن إدريس الحلي" على الدعوة إلى الخروج عن الطاعة العمياء للشيخ "الطوسي" وتعطيل النظر في فقهه واجتهاده.. كان كل ذلك مدعاة إلى تكون دائم للمسافات العظمى أحيانًا بين فقيه شيعي وفقيه شيعي آخر، ما تمظهر -ويتمظهر دائمًا- اختلافًا في أحكام غاية في الحساسية (ولاية الفقيه مثلا) إلى غيرها مما يتصل بالفقه السياسي والدستوري، بناء على حجم الجرعة المتحققة في عملية الاستنباط من مسلمات المنظومة العقائدية.

 

بين الأصوليين والإخباريين

 

ولا بد أن نتذكر هنا ونذكِّر بأن المسافة بين الفقه الشيعي الإثنا عشري الأصولي (نسبة إلى أصول الفقه) والفقه الشيعي الإثنا عشري الإخباري تبلغ في البعد والعمق حد عدم القدرة أو صعوبة تشخيص الصلة المذهبية الفقهية بين الفقهين، ما كان هو الكامن وراء الصراع الذي احتدم بين الأصوليين والإخباريين في القرن التاسع عشر الميلادي، واصطبغ بالدم أحيانًا، ثم عاد ليهدأ بعد ما سلم الإخباريون بغلبة الأصوليين، واندمجوا في إطار الحوزات العلمية حتى قربت المسافة العملية بينهم وأثرت بشكل ملحوظ على المسافة العلمية ولمصلحة المنهج الأصولي الاجتهادي أكثر الأحيان، وحتى أصبح عدد من علماء الإخبارية يبلغون درجة الاجتهاد ويقدمون أنفسهم كمجتهدين.

 

* هل الخلافات مسؤولة عن التباعد عن مقتضيات الوحدة؟

 

وهناك سؤال آخر: هل تتحمل هذه المسافة بين الفقه السني والفقه الشيعي -على صعوبة التعريف الجامع المانع لكل منهما- مسؤولية التمايز أو التباعد عن مقتضيات الوحدة في التاريخ الإسلامي؟ بحيث نعود لنحملها مسؤولية ما قد يترتب على إذعاننا لإملاءات الآخرين على طريق التفرقة والصراع الآن؟

 

سأحاول هنا أن أرسم علامات أو مفاتيح للشروع في تدبر الإجابة المتأنية والمشتركة على السؤال. مبتدئًا في استرعاء نظر وعلم ودين الجميع وحرصهم، إلى أننا الآن -كمسلمين شيعة وسنة- على أهبة الدخول في معمعة صراعية تعيد إلى الذاكرة تاريخًا بعيدًا لا علاقة لمشاهده الجارحة بعلمنا وعلمائنا، فضلا عن عقائدنا، وسوف تضيف إليه ما يجعله أقل مرارة في ذاكرتنا من الراهن والآتي. إذن فلا بد أن نسعى -معًا- لتفادي مشهد جارح متوقع وواسع، إن لم يكن مدمرًا لكل شيء، فلا بد أن يكون إعاقة نوعية على طريق دنيانا وآخرتنا.

 

إننا لا نبالغ عندما نقول: إن حركة الفتنة في هذا العصر، وعلى إيقاع المتحولات العلمية وثورة الاتصالات والمواصلات.. لم تعد تنحصر في أماكن نشوئها، بل هي تجنح إلى العموم والشمول بسرعة فائقة، خاصة عندما يتولى الإعلام -والفضائيات بصورة خاصة- نقل وقائعها كاملة أو منقوصة أو مزيدًا عليها ما يتحول إلى زيت يؤجج نارها.. وما من حادث جزئي يحدث الآن في حي من أحياء بغداد وفيه رائحة صراع مذهبي، أو فيه قطرة دم حرام مراقة مجانًا، من هنا أو هناك، إلا ويصل مع كل البهارات الحادة وذات النكهة الكاوية إلى باكستان مثلا.. وبعد أيام أو أسابيع يلد الدم العراقي دمًا باكستانيًّا أغزر وأشد هدرًا أو إيلامًا.

 

ودعك مما يثيره في أماكن أخرى، وما يحدثه ذلك من تضييق مساحة الاتفاق الإسلامي على القضايا الكبرى (فلسطين مثلا)، والتي كانت منذ كانت نصابًا للتوحيد والوحدة والشراكة الجهادية، لموقعها في نظام حياتنا وحضارتنا وكرامتنا المقارب لموقع التوحيد في نظام عقيدتنا؛ وهو ما يعني أن المس بها مس بالتوحيد، والمس بالتوحيد مس بها، ولا مجال في هذا المجال لتبرئة فاعل أو منفعل، ولا داعي لتمجيد محق وترذيل مبطل؛ لأننا جميعًا نكون مبطلين؛ لأن الحق هو الذي يتوسط ويحث على التسوية، والعدل هو الذي يعم الجميع.

 

* وماذا بعد؟

 

لو تركت خلافاتنا منذ القرن الهجري الأول، أي اجتهاداتنا، أي معرفتنا المتعددة بالإسلام، والتي يقرها الإسلام ويريدها "اختلاف أمتي رحمة".. لو تركت هذه الخلافات تنمو وتتحرك بشكل طبيعي وحر وإيماني، ومن داخلها، لكان حالها وحالنا أقرب إلى الصواب والسلامة، أي لكان الحوار بين المعارف المتعددة والمختلفة وبين العارفين من العلماء أنشط وأقرب إلى التكامل وترجيح الوفاق وضبط الخلاف، ولما كان من شأنها أن تنفجر دماءً وصراعًا، لولا أن مؤثرًا خارجيًّا تداخل مع نسيجها الداخلي، السياسة، السياسة السلطانية، بعد العهد الراشدي، أي بعد عهد السياسة الإمامية أو الخلافية، (بمعنى الخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم)، أي التأسِّي والاتباع والاجتهاد في ذلك.

 

وأحسن المسلمون الأوائل في هذا السياق فن التنازل الدائم عن الفرعيات حفظًا للأصول، لموارد الاحتياط، وصيانةً لمقاصد الشريعة، أحسنوا التسوية وظلوا يتعاطونها حفاظًا على الوجود وطموحًا إلى تحقيق كمالات هذا الوجود، إلى مقتل الحسين، وإباحة المدينة، وهدم الكعبة... إلخ.

 

لا ألح على الاستذكار؛ فالآن المسألة أشد خطرًا؛ فالأعداء أكبر وأخطر بكثير مما عرفنا، والمؤثرات الخارجية والرياح العاصفة تمتد مصادرها علينا من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وحكامنا ودولنا أضعفوا من حالهم وحالنا -وليس الوقت وقت محاسبة- حتى استُضعفوا واستضعفنا، وأتانا الآخرون، الأعداء دائمًا، ليقولوا لنا: لستم جديرين أو مؤهلين لبناء دول ومجتمعات، نحن نبنيها لكم على مقتضى مصالحنا. وأخيرًا يقول لسان حالهم لنا: لستم مؤهلين لأن تكونوا مجتمعات، نحن نفرقكم لنعيد جمعكم على نصابنا!!

 

هل يتسع فقهنا الخلافي الآن -مع كل المستجدات المعرفية العظيمة والواسعة- لتغطية سلوكنا الآيل إلى صراع دموي يقع في دائرة وإرادة غيرنا؟ هل الصراع المذهبي المدمر الموعود -لا حقق الله موعده ووعده؛ بشرط جهودنا وجهادنا طبعًا- هل هذا الصراع هو غير تطبيق لنظرية تكونت منذ حرب فيتنام؛ أي عدم جواز أن يقاتل الأمريكيون بلحمهم؟ بل بلحم غيرهم؛ أي لحمنا؟! كانت هناك ضرورة أمريكية في حصر احتلال العراق. أما الآن فموجبات الحصرية انتهت، ومن هنا عادوا إلى الأمم المتحدة والقوات المتعددة الجنسية.. فماذا نحن فاعلون؟ هل نخرج من فضائنا الدولي؟ هل نخرج من ذاتنا؟ هل نتقاتل لنوفر على الآخرين دماءهم وأموالهم؟!

 

المسألة الآن هي بحجم وجودنا ومستقبلنا، ولا بد من مبادرة جادة، عربية إسلامية، فكرية علمية وسياسية تحصينًا للعراق، تحصينًا لنا في العراق من أخطار ماحقة.

 

* إيقاظ الذاكرة.. من أجل سلامة الرؤية

 

وإذا كان لا بد من إيقاظ الذاكرة احتياطًا لسلامة الرؤية راهنًا والاستشراف الدقيق مستقبلا؛ فإن في تاريخنا الإسلامي الأول -ومنذ بدرت بوادر الاختلاف الطبيعي- ألف دليل ساطع وملموس وملزم، على أن أهل العلم والصلاح من الخلفاء الراشدين إلى التابعين وتابعي التابعين، من الصحابة والمتأسين بهم، لم يسمحوا للخلاف بأن يتحول إلى دم حرام وخراب عام، والذين اقترفوا ذلك كانوا أقرب إلى الجهل والجاهلين منهم إلى العلم والإسلام، وكان الدين ذريعتهم لا غايتهم، والدنيا مقصدهم لا الآخرة، ونحن الآن أين من أولئك وأولئك؟

 

أما تاريخنا الحديث في إيثار الوحدة على الفتنة؛ ففيه أن السنة والشيعة في الجليل وعامل في بلاد الشام تقاتلوا، ولكن ظاهر العمر وناصيف النصار قائدي الفريقين تصالحا، وقاتل الجميع -معًا- أهلَ الجور والطغيان، وقدموا أمثولة تستحق أن تستعاد، وعانى الشيعة مع سائر المسلمين من جور العثمانيين وجهلهم، من دون ظلم أو افتئات على العظماء من سلاطين آل عثمان وخاصة سليمان، ولكن الشيعة مع المسلمين -إلا من شذ منهم لأسباب مختلفة- مالوا في اللحظات الحرجة إلى جانب السلطنة، وأنصفوا عبد الحميد من دون أن يسوِّغوا أخطاءه في مواجهة الهجمة الاستعمارية عليه، وعطلوا تناقضاتهم مع "الاتحاديين" على مفصل الحرب الكونية الأولى إيثارًا للوحدة في مواجهة الأخطار العظمى، وعندما سقطت الدولة وأعلن فيصل نفسه ملكًا على بلاد الشام ناصروه علنا وبحماسة، وهو لم يكن يغري الشيعة منهم بتشيع ذرائعي، بل كان صريحًا في تسنّنه.

 

وفي محطة الشورى الدستورية (المشروطة) التي تأسست في إستانبول وكان لها صدى عظيم في طهران اندمج مجتهدو الشيعة في سياق المطالبة بالحرية والتحديث الأصيل، وعندما بدا أن الشاه القاجاري يتلكأ في تطبيق الدستور، وأن السلطان محمد رشاد في إستانبول ماضٍ في وعده بتطبيق هذا الدستور أرسل مجتهدو النجف العشرة الكبار رسالة تهديد إلى الشاه القاجاري، ورسالة تأييد إلى محمد رشاد مشفوعة بالولاء والبيعة، على موجب الدستور باسم الشيعة من دون أن يعترض أحد، اللهم إلا أولئك القلة من دعاة الاستبداد، وتبعًا للاختلاف على هذه المسألة (الاستبداد والدستور) لا على أساس الاختلاف بين السنة والشيعة. ** السيد هاني فحص : كاتب ورجل دين لبناني شيعي.

 

المصدر: موقع إسلام أون لاين

الأكثر مشاركة في الفيس بوك