التقريب.. أسسه وقيمه ودور العلماء فيه

التقريب.. أسسه وقيمه ودور العلماء فيه

محمد علي التسخيري

إن ما أطلق عليه اسم (حركة التقريب) في العقود الأخيرة يمتلك جذورًا تمتد إلى أقدم العصور الإسلامية؛ لأنها تستمد أصالتها وحيويتها من أصول الشريعة الغراء، وتتضح ضرورتها كلما اتسع نطاق مسؤولية هذه الأمة في صنع الحضارة الإنسانية أو الإسهام الفاعل فيها على الأقل.

 

لقد وضع علماء وشخصيات كبيرة في أواخر الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي اللبنات الأولى لهذه الحركة المباركة، وجاهدوا حقًّا في تبيين معالمها، وكتبوا العديد من المقالات لترسيخها في النفوس بعد أن أصلوها وبينوا جذورها الشرعية وضرورتها المتنامية.

 

ونحن سعداء -حقًّا- إذ نجد هذه البذرة قد نمت وتحولت إلى شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

 

* الأسس الإيمانية المشتركة بين المذاهب :

 

إننا نعتقد أن الإيمان بمسألة "التقريب" يتأتى بكل منطقية إذا لاحظنا الأسس التالية التي تؤمن بها كل المذاهب الإسلامية دون استثناء، وهي:

 

أولا: الإيمان بأصول الإسلام العقائدية الكبرى، وهي: التوحيد الإلهي (في الذات والصفات والفعل والعبادة)، وبالنبوة الخاتمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي جاء به وما فيه، والمعاد يوم القيامة.

 

ثانيًا: الالتزام الكامل بكل ضروريات الإسلام وأركانه من: الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغيرها.

 

ثالثًا: الالتزام الكامل بأن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المصدران الأساسيان لمعرفة رأي الإسلام في شتى الأمور: المفاهيم عن الكون، والحياة، والإنسان: ماضيه وحاضره، ومستقبله في الحياتين. والأحكام والشريعة التي تنظم حياته وسلوكه الفردي والاجتماعي. أما الأصول والمصادر الأخرى كالعقل والقياس والإجماع وأمثالها، فهي لا تملك أي حجية إلا إذا استندت إلى ذينك المصدرين الكريمين، واستمدت مصدريتها منهما.

 

رابعًا: الالتزام بأن الإسلام سمح لعملية الاجتهاد باعتبارها عملية "بذل الوسع لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره" أن تكون هي الموصلة لمعرفة الإسلام. كما أنها تلعب دورها في تأكيد مرونة الشريعة وقدرتها على استيعاب التطورات الحياتية طبقًا لمعايير وضوابط معينة، وهذا يعني -بالضرورة- إمكان إيجاد الصلة بين مختلف النتائج التي أدى إليها الاجتهاد وبين الإسلام حتى لو كانت مختلفة ومتضادة فيما بينها، وذلك لاختلاف الأفهام وزوايا النظر والقناعات (وهو ما يدرس في العلوم الإسلامية تحت عنوان: أسباب الخلاف).

 

وإننا نرى أن الإسلام إذ سمح بذلك فلأنه دين واقعي فطري، فلا طريق لمعرفة أية شريعة ممتدة على مدى العصور ينقطع وحيها ويموت معصومها إلا طريق الاجتهاد، رغم أن هذا الطريق يبتلى أحيانًا بالذاتية ويفرز آراء متخالفة قد لا يطابق بعضها واقع المراد الإسلامي في علم الله تعالى.

 

كما أننا نجد أن هذا الأسلوب المنطقي يعم استنباط كل الأمور كالعقائد، والمفاهيم[1]، والأحكام، بل وحتى المواقف الإسلامية من بعض القوانين الطبيعية.

 

خامسًا: أن مبدأ (الوحدة الإسلامية) يعبر عن خصيصة مهمة من خصائص هذه الأمة المباركة، ومن دونها لا يمكن لها أن تدعي اكتمال هويتها.

 

وقد وضع الإسلام خطة متكاملة لتحقيق هذه الوحدة بانيًا لها على أساس الاعتصام بحبل الله المتين -وهو أي سبيل معصوم يوصل إلى الله- ومؤكدًا على وحدة الأصل والخلق ووحدة الهدف ووحدة الشريعة والمسير، داعيًا إياها للدخول المجموعي في إطار التسليم الكامل لله ونفي خطوات الشيطان، ومذكرًا بآثار الوحدة، وغارسًا الأخلاقية وعناصر التضحية بالمصالح الضيقة في سبيل الهدف العام، حاذفًا كل المعايير الممزقة كاللغة والقومية والوطن والعشيرة واللون، مركزًا على المعايير الإنسانية كالعلم والتقوى والجهاد، ومؤكدًا على لزوم تحري نقاط اللقاء، وداعيًا إلى استخدام المنطق السليم؛ منطق الحوار الهادئ الموضوعي، إلى ما هنالك من عناصر آثرنا ألاَّ نذكرها وألا نستشهد لها لوضوحها ولئلا يطول بنا المقام.

 

إن الإيمان بهذا المبدأ له مقتضياته التي سنشير إليها -إن شاء الله تعالى- فيما بعد، ولكنه يعد من ركائز حركة التقريب.

 

سادسًا: مبدأ الأخوة الإسلامية: وهو جزء من الخطة التي أشرنا إليها أعلاه، ولكنا آثرنا التركيز عليه؛ لأنه أهم جزء، ولأنه ينظم مجمل العلاقات الاجتماعية في الإسلام، ولأننا نعتقد أن آثاره لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية فحسب، بل تتعداها إلى الجوانب التشريعية وتترك أثرها الكامل على عملية الاجتهاد نفسها، لكي لا نشهد في هذه الساحة أحكامًا تتناقض معه.

 

هذه الأسس الستة هي أهم ما يمكن أن تبتني عليه "حركة التقريب"، فيكاد التصديق بالأسس يؤدي بشكل منطقي عفوي للإيمان بهذه الحركة.

 

ومن هنا فنحن نعتقد أن التقريب لا يقتصر على الجوانب الأخلاقية أو الجوانب الشعارية، ولا يتحدد بالجوانب التشريعية أيضًا، بل يعبرها إلى مختلف الجوانب الفكرية والحضارية. وينبغي أن تشترك فيه كل النخبة المفكرة الفقهية والفكرية، بل يجب -بشكل كامل وربما بشكل أولى- أن تعبر النخبة إلى الجماهير، فيبدأ تثقيفها بثقافة التقريب؛ لأن الإسلام إن كان يسمح بالاختلاف الفكري غير المخرب والطبيعي، فإنه لا يسمح مطلقًا بأدنى خلاف في الموقف العملي من القضايا المصيرية الداخلية والخارجية، ولذلك يعتبر الراد على الحاكم الشرعي -وهو الجهة التي يفترض بها أن تكون الموحدة للموقف العملي للأمة- رادًا على الله بعد أن اقترنت طاعته بطاعة الله ورسوله.

 

* المبادئ التي ينبغي أن يلتزم بها التقريبيون :

 

وبناء على تلك الأسس، وتبعًا لما أعلنه العلماء والدعاة التقريبيون؛ فإننا ندعو للقيم التالية، معتبرين إياها خطوطًا عامة للسياسات التي ينبغي أن يراعيها الخط التقريبي ليحقق أهدافه المرجوة:

 

الأول: التعاون فيما اتفقنا عليه:

 

والمتفق عليه في المجالات كثير جدًّا، فللمذاهب الإسلامية مساحات مشتركة كثيرة، سواء كانت في الأصول العقائدية أم في المجالات التشريعية (والتي يصل بها بعض العلماء إلى أكثر من 90% من المساحة العامة)، أو في المجالات الأخلاقية، حيث التوافق يكاد يكون كاملاً، وكذلك في مجال المفاهيم والثقافة الإسلامية، وحتى في المسيرة التاريخية والحضارية، طبعًا في مفاصلها الرئيسية، رغم الاختلاف في تقييم المواقف المعينة.

 

أما المواقف العملية فهم يتفقون جميعًا على لزوم توحيدها عبر التكاتف والتكافل الاجتماعي، وعبر وحدة القرار الاجتماعي الذي تتكفله جهة ولاة الأمور الشرعيين، ولا ريب أن التعاون في المشتركات الفكرية يعني التعاضد في تركيزها في الأذهان وتجنب كل ما يؤدي إلى نقضها، وبالتالي تعميقها في مجمل المسيرة.

 

وأما التعاون في المجالات المرتبطة بالسلوك الفردي والاجتماعي والحضاري؛ فواضح وتنضوي تحته المجالات الحياتية المختلفة من قبيل: تطبيق الشريعة الإسلامية، تعظيم الشعائر الإلهية كالجمعة والحج، وتحقيق خصائص الأمة الإسلامية كالوحدة، وهكذا..

 

وهنا نشير إلى أن حركة التقريب يجب أن تبذل قصارى جهدها لاكتشاف المساحات المشتركة هذه وتوعية الجماهير -وأحيانًا نضطر إلى توعية النخبة أيضًا- بها. كما تعمل على توسعة نطاق هذا الجانب المشترك عبر الإشارة -مثلا- إلى كون النزاع والخلاف لفظيًّا لا جوهريًّا، أو عبر التوعية بأسلوب ثالث يشترك فيه المختلفان.

 

الثاني: التعذير عند الاختلاف

 

فما دمنا نؤمن بانفتاح باب الاجتهاد -وهي الحالة الطبيعية التي لا يمكن إغلاقها بقرار- وما دامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادية قائمة وطبيعية.. فمعنى ذلك الرضا باختلاف الآراء والفتاوى، ومن الجدير بالذكر هنا: أننا لا نجد نهيًا إسلاميًّا عن الاختلاف في الآراء، وإنما ينصب النهي على التنازع العملي المُذهب للقوة، والتفرق في الدين والتحزب الممزِّق، وأمثال ذلك. وهذا يعبر عن عقلانية الإسلام ومنطقيته.

 

وعليه فيجب أن يُوطّن الفرد المسلم -عالمًا أو متعلمًا، مجتهدًا كان أو مقلدًا- على تحمل حالة المخالفة في الرأي، وعدم اللجوء إلى أساليب التهويل والتسقيط وأمثالها، وحينئذ يكون الخلاف أخويًّا ووديًّا (لا يفسد للود قضية).

 

ونشير هنا إلى ورود نصوص كثيرة تدعو المؤمن للصبر والمداراة، وسعة الصدر، ويمكن عكسها على واقعنا الحالي. ونحن نذكر هنا هذا النص عن الإمام الصادق (رحمه الله)، حيث جرى ذكر قوم فقال الراوي: "إنا لنبرأ منهم لا يقولون ما نقول، فقال الإمام: يتولّوننا، ولا يقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟ قلت: نعم، قال: هو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم". إلى أن قال: "فتولوهم ولا تبرؤوا منهم: إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان.. فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين..." [2]. وتعامُل أئمة المذاهب فيما بينهم مثال رائع على هذه الحقيقة. وسيطول بنا الحديث لو تعرضنا لما يرويه التاريخ عن ذلك[3].

 

الثالث: تجنب التكفير والتفسيق والاتهام بالابتداع

 

ونحن نعتبر مسألة التكفير من المصائب التي ابتلي بها تاريخنا، فرغم النصوص الشريفة التي تحدد المسلم من جهة وتمنع من التكفير للمسلم من جهة أخرى[4] لحظنا سريان هذه الحالة التي حجرت على العقل أي إبداع أو مخالفة، حتى إننا شاهدنا من يؤلف كتابًا، ويرى أن مخالفة حرف واحد فيه تؤدي إلى الكفر وهذا أمر غريب[5]!

 

ومن هنا فنحن ندعو إلى التحول بالمسألة من (الإيمان والكفر) إلى مرحلة (الصواب والخطأ)، متحلين في ذلك بروح القرآن التي تدعو إلى الموضوعية، حتى في النقاش مع الكفار الحقيقيين، حينما يُخاطَب الرسول أن يقول لهم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سـبأ: 24].

 

الرابع: عدم المؤاخذة بلوازم الرأي

 

من المنطقي أن يحاسب الإنسان على رأيه ويناقش بكل دقة وأناة، إلا أننا اعتدنا على مناقشات تبتني على لوازم الآراء، وبالتالي يأتي التكفير والاتهام بالابتداع، في حين أن صاحب الرأي قد لا يقبل تلك الملازمة، وكمثال على ذلك، نجد البعض ممن يؤمنون بمسألة التحسين والتقبيح العقليين يصفون من لا يقبلون بهما بأنهم يغلقون باب الإيمان بصدق النبي، استنادًا إلى أن ما يدفع احتمال كذب النبي الآتي بالمعجزة هو حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب عقلاً، فإذا فرضنا عدم وجود أي تقبيح عقلي فمعنى ذلك أننا أغلقنا باب الإيمان بالنبوة، وهكذا يقال بالنسبة لمسألة طاعة الله تعالى، فإن الملزم لنا بإطاعته تعالى هو العقل لا غيره. وعلى هذا الغرار نجد البعض الآخر يتهم القائلين بالتوسل أو الشفاعة أو القسم بغير الله بالشرك؛ لأنه لازم لهذا القول وهلم جرًّا.

 

إن المناقشة العلمية الهادئة أمر مطلوب، ولسنا مع إغلاق باب البحث الكلامي مطلقًا، بل المنطق يقتضي فتحه، ولكننا ندعو للمناقشة المنطقية، فلا ننسب للآخر ما لم يلتزم به، وما دام لا يؤمن بالملازمة بين رأيه والرأي الآخر، فإننا نلتمس له العذر، وبهذا نستطيع أن نغلق بابًا واسعًا من الاتهامات الممزِّقة.

 

الخامس: التعامل باحترام عند الحوار

 

ذلك أننا نعلم أن الحوار هو المنطق الإنساني السليم في نقل الفكر إلى الآخرين، وأن القرآن الكريم طرح نظرية رائعة للحوار المطلوب، تناولت مقدمات الحوار وظروفه وأهدافه ولغته بشكل لا مثيل له، وكان مما تناوله مسألة الاستماع للآراء واتباع أحسنها، ومسألة عدم التجريح، حتى إن الآية الشريفة تقول: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سـبأ:25]، في مجال توجيه حوار الرسول مع غير المؤمنين بالإسلام، وإبعاده عن مسألة إثارة حزازات الماضي والاتهامات المتبادلة فيه، والتوجه لمنطقية الحوار نفسه، وهي مع أن السياق اللفظي كان يتناسب معه، فكيف بنا ونحن نتحاور كمسلمين متفقين على المبادئ التي أشرنا إليها في إشارتنا لأسس عملية التقريب؟!

 

السادس: تجنب الإساءة لمقدسات الآخرين

 

والحقيقة هي أن هذا الأمر يتبع المبدأ السابق، بل هو في الواقع أولى منه؛ لأنه يخلق جوًّا عاطفيًّا معاكسًا، ويفقد الحوار توازنه المطلوب. وقد رأينا القرآن ينهى عن هذه الحالة فيقول تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108]. بهذه الروح الإنسانية يوجه الله تعالى المؤمنين في تعاملهم بعد أن يوضح لهم وظائفهم الدعوية لا التحميلية، وفرض الرأي على الآخرين حتى لو كانوا مشركين: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام:107].

 

والنصوص الإسلامية في النهي عن السب واللعن معروفة، فإذا كان هذا هو الحال أن المفروض هو الحوار بين مسلمين أخوين يعملان لهدف واحدٍ، ويشعر كل منهما بآلام الآخر وآماله، فإن الموقف لا يتحمل مطلقًا احتمال الإهانة، وخصوصًا للأمور التي يؤمن الآخر بقدسيتها لارتباطها مع معتقداته الأصيلة.

 

السابع: الحرية في اختيار المذهب

 

ذلك أننا بعد أن اعتبرنا المذاهب نتيجة اجتهادات سمح بها الإسلام، علينا أن نعدها سبلا مطروحة للإيصال إلى مرضاة الله تعالى. وحين تختلف فإن من الطبيعي أن يدرس المسلم هذه المذاهب وينتخب الأفضل منها وفق معاييره التي يؤمن بها، والتي يشخص من خلالها أنه أبرأ ذمته أمام الله وأدَّى أمانته وعهده. وحينئذ فليس لأحد أن يلومه على اختياره حتى لو لم يرتح لهذا الاختيار. كما أنه لا معنى لإجبار أحد على اختيار مذهب ما؛ لأن ذلك مما يرتبط بالقناعات الإيمانية، وهي أمر لا يمكن الوصول إليه إلا بالدليل والبرهان.

 

وهنا أؤكد أن لكل مذهب الحق في توضيح آرائه ودعمها، دونما تعدٍّ على الآخرين أو تهويل أو تجريح، فلا ندعو إلى إغلاق باب البحث المنطقي السليم، وإنما نرفض محاولات الاستغلال السيئ، والاستضعاف، والجدال العقيم، وفرض الرأي، وأمثال ذلك.

 

ونحن نعتقد أن ما جرى من تعدٍّ خلال تاريخنا الطويل ناشئ عن عدم الالتزام بقواعد الحوار المطلوبة، ونسيان حقيقة أن جميع المذاهب تعمل لإعلاء كلمة الإسلام وفق تصورها عن هذه الكلمة.

 

* دور العلماء والمفكرين في عملية التقريب :

 

لا شك أن العبء الأكبر من العملية يقع على عاتق العلماء والمفكرين في مجال التقريب؛ وذلك لأنهم -من جهة- ورثة الأنبياء وحملة الدعوة وبناة الجيل، وهم -من جهة أخرى- أعلم بالأسس التي يعتمدها التقريب، وأكثر أثرًا في توحيد الصفوف وتحقيق خصائص الأمة.

 

وإذا أردنا أن نقترح باختصار الأدوار التي يجب أن يقوموا بها اقترحنا ما يلي:

 

1-ضرورة التعمق في أسس هذه الحركة وقيمها، وتأصيلها في نفوسهم، وعكسها في بحوثهم ودراساتهم وكتاباتهم، بل وأخذها بعين الاعتبار في استنباطاتهم الفقهية والفكرية، وملاحظتها كأصل توجيهي ومصلحة مرسلة مهمة، تقدم -في مجال التزاحم- على الأحكام الأقل أهمية بمقتضى قواعد التزاحم المعروفة في أصول الفقه. ومن هنا فقد دعونا في بعض المؤتمرات الدولية إلى دعم حركة "التقريب الفقهي"، ومحاولة التركيز على تقريب الآراء الفقهية، وكثيرًا ما نجد أن بعض النزاعات الفقهية -بعد التأمل فيها- تحول إلى خلافات لفظية ناتجة عن اختلاف زوايا النظر أو اختلاف في المصطلحات، كما نجد الأمر كذلك في بعض البحوث الأصولية، كالبحث عن القياس أحيانًا والاستحسان، وسد الذرائع، وأمثالها. وهو اتجاه نلحظه في بعض الكتب الأصولية من قبيل "أصول الفقه" للمرحوم العلامة الشيخ محمد رضا المظفر، والمرحوم العلامة السيد محمد تقي الحكيم، وقد وفقنا الله للتتلمذ على يديهما.

 

وهنا لا بد أن أشير إلى كثير من الكتابات المغرقة في تعميق الخلاف وإعطائه أبعادًا متخيلة توحي للقارئ بأن اللقاء مستحيل، وأن الخلاف يستشري في كل المجالات، بحيث لا معنى لتصور أية عملية تقريب بينها. وإني لأظن أنها كتابات تجافي الحقيقة، وتتناسى وحدة المنابع ووحدة الأساليب والملكات ووحدة الهدف.

 

2-العمل المنسق على توعية الأمة والانتقال بقافلة التقريب إلى المستوى الجماهيري، فلا يشعر الفرد المسلم تجاه الآخر إلا بشعور الأخوة الصادقة والتعاون، رغم الاختلاف المذهبي، وتتسع الصدور للممارسات والتعددية المذهبية، وتنتفي المشاحنات العاطفية والترسبات التاريخية والموروثة التي خلفت وراءها صورًا لا تطاق دونما مبرر، فالاختلاف في حكم شرعي، والتفاوت في تقويم موقف تاريخي، والافتراق في سلوك اجتماعي، كلها أمور يمكن تبريرها وتحملها ما دامت في الدائرة الإسلامية العامة، وناتجة عن الاختلاف في الاجتهاد.

 

نعم إذا خرج السلوك -في رأي المجتهدين جميعًا- عن الدائرة تم العمل على نفيه بأفضل أسلوب.

 

3-السعي المشترك المتضافر لاتخاذ المواقف الوحدوية النموذجية في كل القضايا المصيرية من قبيل:

 

- تطبيق الشريعة الإسلامية.

 

- تحقيق نظام السيادة الشعبية في الإطار الديني.

 

- مواجهة العدو وخططه في محو وجود الأمة وهويتها.

 

- صيانة وحدة الأمة ونبذ التفرقة.

 

- تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة.

 

4-تشجيع إيجاد المؤسسات التقريبية من قبيل:

 

- أقسام الدراسات التقريبية المقارنة.

 

- النوادي الاجتماعية المشتركة.

 

- المعسكرات التقريبية في مختلف الشؤون.

 

- إيجاد جماعات التقريب في شتى أماكن وجود المسلمين.

 

أما المراكز، بل والحكومات الإسلامية، فيمكنها أن تقوم بدور مهم في هذا المجال من خلال تشجيع حركة التقريب، وإقامة المؤتمرات، وتنفيذ المشروعات، واعتماد الإعلام المسؤول، ونفي مظاهر التفرقة وعناصرها، ونشر ثقافة التسامح المذهبي، وأمثال ذلك. ** الشيخ محمد علي التسخيري : الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والورقة قدمت لمؤتمر التقريب بين المذاهب الذي انعقد مؤخرًا في البحرين 20-22/9/2003

 

1- وهي تصورات تقوم على أساس العقائد من جهة، وتتصل بالواقع مباشرة من جهة أخرى، من قبيل مفهوم الخلافة الإنسانية لله تعالى.

2- وسائل الشيعة، طبعة مؤسسة أهل البيت (ع) ج16، ص160

3- يراجع بحث الشيخ واعظ زاده حول الموضوع في كتابه "دراسات وبحوث" ج1، ص545

4- يمكن مراجعة أحاديث كتاب "الإيمان" في الصحاح وكتب الحديث مثل "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري، الجزء الأول.

5- الشواهد لدينا مسجلة ولا نرغب في عرضها.

 

المصدر: موقع إسلام أون لاين

الأكثر مشاركة في الفيس بوك