أسباب الاتفاق والاختلاف في العمل الإسلامي بين الخلف والسلف

أسباب الاتفاق والاختلاف في العمل الإسلامي بين الخلف والسلف

أ. د. عمر يوسف حمزة

الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، وبعد..

 

فإن هذا البحث قد اشتمل على مقدمة بيّنت فيها أهمية الوحدة بين المسلمين، وإن الإسلام ثـمّن روح التعاون، وحارب العزلة وكل ما يدعو إلى الفرقة والتمزق، وإن الاعتصام بحبل الله تعالى من الجميع هو أساس الوحدة والتجمع، كما بيّن البحث أن الاتحاد فريضة دينية وهو كذلك عصمة من الهلكة.

 

اشتمل البحث على بيان أسباب الاختلاف عند السلف من الصحابة والتابعين في الفروع، وهي أربعة أسباب بينتها بالتفصيل في مواضعها من البحث، وبيّن البحث أسباب الفرقة بين المسلمين في القرون الماضية، وأسباب الفرقة بين المسلمين في العصر الحاضر، وأهم مقومات الوحدة الإسلامية وهي:

 

(1) التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

(2) التعارف الإنساني وقوة التآخي وقوة الشعور بأن المسلمين جسم واحد.

 

(3) التعاون في دفع الضر وجلب الخير.

 

كما اشتمل البحث على خاتمة تضمَّنت أهم نتائج البحث.

 

وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

مقدمة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد..

 

فإنه استجابة للدعوة الكريمة التي تلقيتها من قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم لحضور المؤتمر العلمي بعنوان: (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق)، وإسهاماً مني في هذا العمل المبارك كتبت هذه الورقة؛ والتي سوف أتناول فيها ــ بإذن الله ــ أسباب الاتفاق والاختلاف في العمل الإسلامي بين السلف والخلف رضي الله عنهم.

 

إن من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن جعلنا من أمة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهدانا إلى أن نكون في زمرة أهل السنة والجماعة، ورحمنا بالسلامة من أهل البدع والضلالة، ورزقنا محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم، ومما يجب علينا نحن المسلمين أن نتعرف على القواعد التي قام عليها المجتمع الإسلامي في العصور الفاضلة للإسلام، حيث كان مجتمعاً يسوده التعاون والتضامن والترابط، ويشيع الاستقرار في جوانبه، وقد سعد أفراده بظلال الأمن الوارفة، وبروح المحبة الصادقة، فكان كل فرد فيه يشعر بمحبة أخيه المسلم له، مما جعلهم مثالاً طيباً، وقدوة حسنة لمن أتى بعدهم، ونحن الآن إن أردنا العزة التي فقدناها والقوة التي ننشدها، فعلينا أن نعيد صياغة مجتمعاتنا الإسلامية على هذه العناصر وتلك القواعد التي أقام عليها الإسلام مجتمعه الأول.

 

نحن ــ كأفراد ــ مدينون في حياتنا للجماعة التي تعيش بين أظهرنا، فلولا رعاية الأبوين للطفل الوليد، ولولا عناية الأستاذ بالفتى التلميذ، ولولا وجود هذه المهن التي تقوم بكل ما يحتاج إليه الإنسان من شؤون معيشته، لولا هذا كله ما استطاع الإنسان أن يعيش آمناً على نفسه، مستفيداً من ثروته وجهوده، وبذلك كان كل فرد في المجتمع، مهما علا شأنه، مديناً للآخرين بجهودهم وصنعتهم وأعمالهم([1">).

 

ولذا كان من أبرز مظاهر الوعي والرقي في الأفراد شعورهم بحق الجماعة عليهم، وتصرفهم في حدود التعاون الاجتماعي؛ حتى يكون المجتمع متراصاً لا تجد فيه ثغرة ولا خللاً، وبهذا الميزان يقاس رقي الأمم وخلود الحضارات وعظمة الديانات.

 

فالدين الحق هو الذي ينمي في الفرد روح الجماعة والشعور بحقها في الحياة الكريمة، والحضارة الخالدة هي التي تحمل أبناءها على أن يشعروا بالجماعة، والأمم الراقية هي التي تُغلِّب الروح الجماعية على كل نزعة فردية وانعزالية في أبنائها.

 

ومن الحق أن الإسلام يحتل مكان الصدارة بين الديانات التي تدعو إلى التعاون، وتحارب العزلة وأسباب الاختلاف بين المسلمين، ومن الأمور الهامة التي ينبغي أن نركز عليها هو أن الترابط الاجتماعي في الإسلام يقوم على عناصر لها صلة قوية بأركان هذا الدين وقواعده، وهذا هو السر في بقاء الإسلام قوياً بذاته، وإن تخلى عنه كثير من أبنائه، فقد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً ولا يزال جديداً يحمل للناس كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، ومرَّت به أزمات لو نزلت بالجبال لفتتها، وواجه عقبات لو صادفها الفولاذ لأذابته، ونزلت به ضربات لو نزلت بغير الإسلام لأصبح ذكرى يتحدث عنها التاريخ.

 

ولكن هيهات.. فقد خرج من كل ذلك قوياً بذاته، ولا يزال صامداً في الميدان، وأننا لنلاحظ أنه كلما ابتعد المسلمون عن دينهم سخر الله من يحمل رايته، ويدفع عنه المعتدين، ويحبط كيد الكائدين تحقيقاً لقول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [سورة الحجر: 9">.

 

القرآن الكريم يدعو إلى الوحدة ونبذ الفرقة

 

يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأمّا الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) [سورة آل عمران: 100ــ107">، هذه الآيات الكريمة دعوة قوية إلى توحيد الكلمة واجتماع الصف المسلم على الإسلام، وقد تضمنت الآتي:

 

(1) التحذير من دسائس غير المسلمين، ومن طاعتهم فيما يوسوسون به فليس وراءها إلا الارتداد على الأعقاب والكفر بعد الإيمان.

 

(2) التعبير عن الإتحاد بالإيمان، وعن التفرق بالكفر، فإنّ معنى (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) أي بعد وحدتكم وأخوتكم متفرقين متعادين كما يدل على ذلك سبب النزول([2">).

 

(3) أن الاعتصام بحبل الله من الجميع هو أساس الوحدة والتجمع بين المسلمين، وحبل الله هو الإسلام، والقرآن الكريم.

 

(4) التذكير بنعمة الأخوة الإيمانية بعد عداوات الجاهلية وإحنها وحروبها، وهي أعظم النعم بعد الإيمان، قال تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) [سورة الأنفال: 63">.

 

(5) لا يجمع الأمة أمر مثل أن يكون لها هدف كبير تعيش له، ورسالة عليا تعمل من أجلها، وليس هناك هدف أو رسالة للأمة الإسلامية أكبر ولا أرفع من الدعوة إلى الخير الذي جاء به الإسلام، وهذا سر قوله جلّ شأنه في هذا السياق: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)([3">).

 

(6) التاريخ سجل العبر، والواعظ الصامت للبشر، وقد سجل التاريخ أن من قبلنا تفرقوا واختلفوا في الدين فهلكوا، ولم يكن لهم عذر لأنهم اختلفوا بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم البينات من ربهم، ومن هنا كان التحذير الإلهي: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)، فالله تعالى يقول للمؤمنين: لا تكونوا كاليهود والنصارى الذين تفرقوا في الدين واختلفوا فيه بسبب اتباع الهوى من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحات: (وأولئك لهم عذاب عظيم) ([4">) أي: لهم بسبب الاختلاف عذاب شديد يوم القيامة.

 

هذا وقد أكد القرآن الكريم أن المسلمين ــ وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم وأوطانهم ولغاتهم وطبقاتهم ــ أمة واحدة، وهم الأمة الوسط الذين جعلهم الله شهداء على النّاس، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [سورة البقرة: 143">، وأعلن القرآن أن الأخوة الواشجة هي الرباط المقدس بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبر عن حقيقة الإيمان: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) [سورة الحجرات: 10">، وحذَّر القرآن من التفرق أيما تحذير، ومن ذلك قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) [سورة الأنعام: 65">، فجعل تفريق الأمة شيعاً ــ يذيق بعضها بأس بعض ــ من أنواع العقوبات القدرية التي ينزلها الله بالناس إذا انحرفوا عن طريقه، ولم يعتبروا بآياته، وقرنها القرآن بالرجم ينزل من فوقهم "كالذي نزل بقوم لوط أو بالخسف يقع من تحت أرجلهم كالذي وقع لقارون"([5">).

 

وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) [سورة الأنعام: 159">. جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين تفرقوا واختلفوا في دينهم، وجاء عن غيره أنّها نزلت في أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة.

 

قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، فإنّ الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد، لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه (وكانوا شيعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء([6">) والضلالات، فإن الله تعالى قد برّأ رسول الله صلى الله علي وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ًوالذي أوحينا إليك * وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [سورة الشورى: 13">.

 

الاتحاد والترابط فريضة دينية

 

يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين له الإتحاد والألفة، واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة، وكل ما يمزق الجماعة، أو يفرق الكلمة: من العداوة الظاهرة، أو البغضاء الباطنة، ويؤدي إلى فساد ذات البين، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً.

 

فلا يوجد دين دعا إلى الأخوة التي تتجسد في الاتحاد والتضامن والتساند والتعاون، مثل الإسلام في قرآنه وسنته، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إياكم والظنّ فإنّ الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، و لا تناجشوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً))([7">). هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الآداب عظيمة فيها ما فيها من التخلي عن كثير من الرذائل، والتحلي بفضيلة من أجلِّ الفضائل وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في نهاية هذا الحديث العظيم بأن نكون ((إخواناً))([8">) بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ومتعاونين على الحق متكاتفين ضد الباطل حتى نؤدي ما علينا لله عز وجل، وما علينا لهذا المجتمع الذي تعيش فيه، حتى يسير الكل على الجادة والصراط المستقيم، قوله صلى الله عليه وسلم: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) في صحيح مسلم: زاد في آخر الحديث من رواية صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذه الجملة: ((كما أمركم)) فتكون الجملة بأجمعها في صحيح مسلم من هذه الرواية: ((وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله)) أي بهذه المقدَّم ذكرُها، فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبتها إلى الله لأنّ الرسول مبلغ عن الله، قال جلّ شأنه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [سورة النساء: 80">، وهذه الجملة تؤيد القول بأنّ المراد بالعبودية هنا هي عبودية المؤمنين بالله وحده، والذين رضوا به رباً، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (كما أمركم الله) يعني بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) [سورة الحجرات: 10"> ، فإنه خبر بمعنى الأمر كأنه قال: تعاملوا معاملة الإخوة أيها المؤمنون.

 

قال ابن حجر: "وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم ــ يقصد ابن حجر جملة: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) ــ كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخواناً: أي اكتسبوا ما تصيرون به إخواناً مما سبق ذكره، وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتاً ونفياً، وقوله: ((عباد الله)) أي يا عباد الله بحذف حرف النداء، وفي ذلك إشارة إلى الرابطة التي تربط بينهم بأواصر الود والأخوة وهي العبودية لله، وقد قبلوها مختارين راضين بتبعاتها، ومتطلباتها، وفما أحقهم بأن يتآخون بها، ويتعاونوا على البر والتقوى تحت لوائها".

 

وقال القرطبي في معنى هذه الجملة: "كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة، والمحبة، والمساواة، والمعاونة،و النصيحة"([9">).

 

وقد أكدت السنة النبوية وفصَّلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف، والتحذير من التفرق والاختلاف، فقد دعت السنة إلى الجماعة والوحدة، ونفّرت من الشذوذ والفرقة، ودعت إلى الأخوة والمحبة، وزجرت عن العداوة والبغضاء. روى الترمذي عن ابن عمر قال خطبنا عمر بالجابية (اسم موضع) فقال: يا أيها الناس، إني قمت مقام رسول الله صلى الله عليه سلم فينا، فقال: ((أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة))([10">). وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة))([11">). وفي الصحيحين: أنّ: ((من فارق الجماعة شبراً فمات، فميتته جاهلية))([12">).

 

ومن كراهية الإسلام للفرقة والاختلاف نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالانصراف عن قراءة القرآن إذا خشي من ورائها أن تؤدي إلى الاختلاف، فقد روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه))([13">)، أي تفرَّقوا وانصرفوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر. فرغم ما هو معلوم لكل مسلم من فضل قراءة القرآن، وأن لقارئه بكل حرف عشر حسنات، لم يأذن بقراءته إذا أدت إلى التنازع والاختلاف، سواء كان الاختلاف في القراءة أو كيفية الأداء، فأمروا أن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته، كما ثبت فيما وقع بين عمر وهشام، وبين ابن مسعود وبعض الصحابة وقال: كلاكما محسن.

 

إن كان الاختلاف في فهم معانيه، فالمعنى: اقرؤا القرآن والزموا الائتلاف على ما دلَّ عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف، أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق، فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله في الحديث الأخر: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم))([14">)، وفي هذه الأحاديث ــ كما قال الحافظ ابن حجر ــ الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف، والنهي عن المراء في القرآن بغير حق([15">).

 

لماذا حرص الإسلام على الوحدة والترابط؟

 

حرص الإسلام على الوحدة والترابط لأن في الاتحاد منافع كثيرة في حياة الأمة لا تخفى على عاقل:

 

(أ) فالاتحاد يقوي الضعفاء ويزيد الأقوياء قوة على قوتهم فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها وإن بلغت الملايين، ولكنها في الجدار قوة لا يسهل تحطيمها لأنها؛ باتحادها مع اللبنات الأخرى في تماسك ونظام، أصبحت قوة أي قوة، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف بقوله: [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"> وشبَّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.

 

(ب) والاتحاد كذلك عصمة من الهلكة، فالفرد وحده يمكن أن يضيع، ويمكن أن يسقط يفترسه شياطين الإنس والجن، ولكنه في الجماعة محميٌّ بها؛ كالشاة في وسط القطيع لا يجترئ الذئب على أن يهجم عليها؛ فهي محمية بالقطيع كله.

 

أسباب الاختلاف عند السلف من الصحابة والتابعين في الفروع

 

لم يكن الفقه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدوَّناً، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء حيث يبيِّنون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب.

 

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيرى أصحابه وضوءه؛ فيأخذون به من غير أن يبيِّن أن هذا ركن وذلك أدب. وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي، وحج فرمق النّاس حجه([16">)؛ ففعلوا كما فعل، وهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم، ولم يبيِّن لهم أن فروض الوضوء سبعة أو أربعة، ولم يفرض أن يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، و إلا ما شاء الله، و قلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلهن في القرآن، منهن (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) [سورة البقرة: 217">، (يسألونك عن المحيض) [سورة البقرة: 222">، قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"([17">).

 

قال ابن عمر رضي الله عنهما: "لا تسأل عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن".

 

قال أبو القاسم: "إنكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها، وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي، لو علمناها ما حلَّ لنا أن نكتمها". وعن عمرو بن إسحاق قال: "لقد أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة  ولا أقل تشديداً منهم"([18">). وعن عبادة بن نسي الكندي سئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: "أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم و لا يسألون مسائلكم"([19">).

 

وكان صلى الله عليه وسلم يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويري الناس يفعلون معروفاً فيمدحه، أو منكراً فينكره عليهم، وما كل ما أفتى به مستقيماً عنه أو قضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات.

 

ولذلك كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها شيئاً ــ يعني الجدة ــ"، وسأل الناس، فلما صلى الظهر قال: "أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجدة شيئاً؟"، فقال المغيرة بن شعبة: "أنا"، قال: "ماذا؟" قال: "أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدساً"، قال: "لم يعلم ذلك أحد غيرك؟"، فقال محمد بن مسلمة: "صدق". فأعطاها أبو بكر السدس([20">).

 

وبالجملة فهذه كانت عادته الكريمة صلى الله عليه وسلم فرأى كل صحابي ما يسره الله له، من عباداته وفتاواه وأقضيته فحفظها وعقلها وعرف لكل شئ وجهاً من قبل حفوف القرائن به([21">). فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على الاستحباب، وبعضها على النسخ؛ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلاّ وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال، كما ترى العرب بفهمون مقصود الكلام فيما بينهم، وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون.

 

فانقضى عصرهم الكريم وهم على ذلك، ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد منهم قدوة للنّاس، في بلد من البلاد فكثرت الوقائع، ودارت المسائل فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه واستنبطه ما يصلح للجواب اجتهد برأيه وعرف العلة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم في منصوصاته، فطرد([22">) الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهداً في موافقة غرضه عليه الصلاة والسلام فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب:

 

منها: أن صحابياً سمع حكماً في قضية أو فتوى ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك، وهذا على وجوه:

 

أحدها: أن يقع اجتهاده موافق الحديث، مثاله ما رواه النسائي وغيره أنّ ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها([23">)، لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك، فاختلفوا عليه شهراً وألحوا، فاجتهد برأيه وقضى بأنّ لها مهر نسائها([24">) لا وكس ولا شطط([25">). وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.

 

ثانيها: أن يقع بينهما المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن، فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع. مثاله: ما رواه الأئمة من أنّ أبا هريرة رضي الله عنه كان من مذهبه أنّه من أصبح جنباً فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف مذهبه فرجع.

 

ثالثها: أن يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده، بل طعن في الحديث. مثاله: ما رواه أصحاب الأصول من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة الثلاث فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فرد عمر شهادتها وقال: "لا نترك كتاب الله لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، لها النفقة والسكن"([26">). يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عليه رحمة الله معلقاً على هذا الحديث: قوله: "لا ندري أصدقت أم كذبت" ليس بهذا اللفظ في الأصول الخمسة، فالذي عند مسلم: "لا ندري حفظت أم نسيت"، ونحوه عند أبي داود والترمذي، ولم تذكر هذه الجملة عند النسائي وابن ماجة، وجاءت بلفظ مسلم في [المصنف لابن أبي شيبة 147:5"> فعمر رضي الله عنه، عندما اتهم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها بالكذب والافتعال للخبر، إنّما أراد أنّها قد تكون أخطأت، بلفظ "لا ندري".

 

قال الخطابي: "والعرب تضع الكذب موضع الخطأ في كلامها، فتقول: كذب سمعي، وكذب بصري، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي وصف له العسل: ((صدق الله، وكذب بطن أخيك))" ([27">).

 

رابعها: أن لا يصل إليه الحديث أصلاً، مثاله: ما أخرجه مسلم أن ابن عمر كان بأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك فقالت: "يا عجباً لابن عمر هذا، يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن([28">) أفلا بأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت اغتسل أنا وسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد علي أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات". مثال آخر: ما ذكره الزهري من أنّ هنداً لم تبلغها رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في المستحاضة([29">).

 

وبالجملة اختلف مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثوراً عن كبار الصحابة، كالمذهب المأثور عن عمر وابن مسعود في تيمم الجنب، اضمحل عندهم لما استفاض من الأحاديث عن عمار وعمران بن حصين وغيرهما، فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهبُ على حياله، وانتصب في كل بلد إمامٌ مثل: سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة. وبعدهما الزهري، والقاضي يحيى بن سعيد، وربيعة بن عبد الرحمن، وعطاء بن رباح بمكة. وإبراهيم النخعي، والشعبي بالكوفة. والحسن البصري بالبصرة. وطاوس بن كيسان باليمن. ومكحول بالشام. فأظمأ الله أكباداً إلى علومهم، فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستغنى منهم المستفتون، ودارت المسائل بينهم، ورفعت إليهم الأقضية.

 

أسباب الفرقة بين المسلمين في القرون الماضية

 

أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعائم الوحدة بين المسلمين على أسس متينة، واستمرت في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد ملوك بني أمية وملوك بني العباس، وكيف لم يؤثر فيها عصاة الملوك مادامت قلوب أهل الإيمان مطمئنة راضية بحكم الله، نافرة عن حكم الطاغوت.

 

الأسباب المعنوية:

 

إنّ الوحدة ائتلاف فكل ما ينافي الائتلاف، ويوجد النفور إنما هو سير في طريق الفرقة، والأسباب المعنوية كبيرة متضافرة، تكافت حتى اعتكرت بها النفس الإسلامية، فاستعدت للافتراق بعد الاجتماع، والأعمال التي قام بها الحكام في الفرقة فإنما حرثت أرضها الأمور المعنوية، وقد ظن الكثيرون أنّ السبب الأكبر هو قيام العصبية العربية من سباتها وانبعاثها من مرقدها، ولا شك أنّ ذلك جزأ من الأسباب، ولكنها جاءت في هذه المرة تنازعاً بين مضرية وربيعية، وإن ظهر شيء من ذلك في الفرق الإسلامية.

 

ويمكن الإشارة إلى أسباب الفرقة بإيجاز فيما يلي:

 

(1) شدة التعصب للعرب وكان ذلك من بعض الحكام والأمراء كما في الدولة الأموية.

 

(2) حقد المسلمين من غير العرب، ذكر ابن حزم أن من أسباب الفرقة حقد أهل فارس على الإسلام.

 

(3) الفرق الإسلامية وانقسامها كانت من ذرائع الفرقة وفكِّ الوحدة الإسلامية، وهي وغيرها من الأسباب المعنوية تصيب الجسم الجماعي، كما تصيب الأمراض جسماً تكمن فيه، وما دام الجسم قوياً، فإنّ حيويته تخفيها، فإذا كان الضعف، ووهن العظم فإنه حينئذ تظهر الأمراض، ويتضاعف الوهن، ويمتد التخاذل، وتنقطع الأوصال، وكذلك قد كان.

 

والفرق السياسية كانت تثير الفتن ابتداءً، ثم صارت من بعد ذلك جرحاً في جنب الدولة حتى تمزقت مزقاً وتفرقت دولاً، أو جزئيات من دول وأظهر الفرق السياسية التي ظهرت:

 

الشيعة والخوارج:

 

نبتت نابتة الفرقتين في وقت واحد وهو خلافة علي رضي الله عنه، في حربه مع البغاة عقب واقعة صفين، وإن هاتين الفرقتين وغيرهما من الفرق التي تجعل جزءاً من عملها سياسياً، فهي تدور حول محوره، فتبعد عن لب الدين، أو تقترب، ولكنها في حالي القرب والبعد تجعل الدين هو الأساس الذي تبني عليه قولها في السياسة.

 

تعددت فرق الشيعة على نحل مختلفة، منهم الغلاة، ومنهم أمة مقتصدة، ومنهم من خرجوا بتشيعهم عن الإسلام، لأنهم ألهَّوا علياً رضي الله عنه، واعتقدوا بحلول الألوهية فيه، وفي الأوصياء من بعده، ومنهم من قال: إن النبوة كانت لعلي ثم أخطأ جبريل، ونزل على محمد، لأنه بشبهه كما يشبه الغراب الغراب؟!

 

(4) ضعف اللغة العربية، لقد كانت اللغة العربية هي اللغة الجامعة بين الشعوب الإسلامية تجمعهم ديناً، لأنها وعاء الإسلام، إذ هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبها نزل القرآن، ومن المفروض أن يعرف المسلم من اللغة العربية قدراً يصحِّح به دينه، وهي لغة التفاهم بين المسلمين، وبها يتعارفون، ويجتمعون.

 

(5) الشعوبية وإحياء اللغات القديمة: استيقظت الشعوبية قوية وهي التي تفضيل الأعاجم على العرب، وقويت في العصر العباسي الثاني الذي صار الحكم فيه لغير العرب، وإن كانت بذورها قد وجدت في العصر الأموي.

 

أسباب الفرقة بين المسلمين في العصر الحالي:

 

إننا الآن مفترقون، بل بيننا تناحر وتنازع في بعض نواحينا. وأنّ ذلك داء اعترانا بعد أن لم يكن، ورأينا مقدساتنا كيف تتهدم بأيدي أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإسلام، ووجدنا من لحن أقوالهم ومراميهم أنهم يرمون البيت الحرام وروضة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قائلهم بعد أن استولوا على إيلياء والمسجد الأقصى: لقد صار الطريق إلى مكة والمدينة مفتوحاً وهم متفقون على باطلهم ونحن متفرقون متنازعون على حقنا، وأهم أسباب التفرق ما يلي:

 

أولها: وهو أعظمها أثراً، فساد الحكم عند الحكام، وصيرورته ملكية تتغالب مع غيرها، وتطبيق قانون الغابة على المسلمين بعضهم مع بعض، فلم يفرِّق الحكام بين حكم نبوي يستمد أصوله من الإسلام وحكم الغلب والقهر. وأن فساد الحكم نجم من ثلاثة عناصر مخالفة كل المخالفة لأحكام القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم:

 

(أ) إهمال الشورى عند تعيين الحاكم، وفي حكمه، فإنّ الله تعالى قال: (وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [سورة الشورى: 38"> ، وأنّ ذلك يقتضي ألاّ يختار الحاكم إلاّ بشورى المؤمنين، وأن تكون بعد الشورى حرية المبايعة، وأن يوفى الحاكم بحق البيعة، ويوفى المحكوم بحقها، وحقها من الحاكم العدل، وألا يهلك الحرث والنسل، وأن يعمل ما فيه خير المسلمين، وأن يستشير حتماً أهل الرأي والخبرة على حسب النظام الذي يناسب الزمان، وحقها على المحكوم الطاعة في غير معصية الله تعالى([30">).

 

(ب) من عناصر الفساد جعل الحكم وراثياً، يتلقاه الخلف عن السلف كأن الشعوب مادة تورث، ومن فساد الحكم إهمال الأحكام الإسلامية فتشيع المحاباة وتباح الدماء ويهمل القصاص، وتُضيَّع الحدود التي أمر الله تعالى بإقامتها، فريضة محكمة لا مناص من اتباعها والقيام بحقها.

 

(ج) وشر مظهر من مظاهر الفساد في الحكم الإسلامي، أن يستعان بغير المسلم على المسلم،كما استعان الفاطميون على الأيوبيين بالصليبيين، وكما استعان بعض حكام المسلمين في العصر الحديث بأمريكا على ضرب أفغانستان والعراق حيث نشاهد ما يعانيه إخواننا في العراق وأفغانستان وفلسطين، ومن هذا النوع سكوت الحاكم المسلم القوي عن معاونة من يستغيث ولا مغيث، وتركهم سليم الأول وسليمان القانوني حتى شُرِّدوا، ومزقوا كل ممزق، وذهبت دولة الأندلس.

 

ثانياً: الطائفية: وهي من الأسباب التي فرقت بين المسلمين، وكانت الطائفية أول طريق اتجه بالمسلمين إلى الفرقة والانقسام، ولكن المِعْوَل الأول رُدَّ على صاحبه، وذلك لأنّ الجدار الإسلامي كان قوياً، يحطم من يحاول أن يحطمه ولكن الأثر امتد بعده. فالطائفية ظهرت سبباً في الفتن والثورات المتوالية على بني أمية أولاً ثم  بني العباس  ثانياً.

 

ثالثاً: انقسام الناس في هذا العصر الحديث إلى فرق وطوائف متناحرة، كل فرقة تعتقد أنها هي الناجية وأن غيرها على خطر عظيم، وهذه الفرق انقسمت في داخلها إلى طوائف، وكل فرقة من هذه الفرق ترى أنها الطائفة الناجية المنصورة التي بشَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الفرقان بين الحق والباطل) أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر وصدراً من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم، ثم في أواخر خلافة عثمان حدثت أمور أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين، وحدث في أيامه الشيعة أيضاً، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف:

 

(1) طائفة تقول أنه إله وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنّار.

 

(2) والثانية السابّة وكان قد بلغه عن ابن السوداء أنه كان يسب أبا بكر وعمر، فطلبه فلم يجده.

 

(3) والثالثة المفضلة الذين يفضلونه علي الشيخين، وقد تواتر عنه أنّه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر"، وروى ذلك البخاري في صحيحه.

 

ثم في آخر عهد الصحابة حدثت القدرية، ثم حدثت المرجئة([31">)، ويقول ابن تيمية في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك لتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) [سورة المائدة: 14">، فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإنّ الجماعة ورحمة، والفرقة عذاب، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) إلى قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)[ سورة آل عمران: 102ــ 104">، فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف من شريعة الله تعالى.

 

مقومات الوحدة الإسلامية

 

الوحدة الإسلامية تحققت في الماضي، ويمكن أن تحقق في العصر الحاضر إذا رجع  النّاس إلى دينهم، ويمكن تلخيص هذه المقومات في الآتي:

 

أولاً: التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن روح العصر توجب على المسلمين أن يتجمعوا حول هذا الأصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله تعالى يناديهم من وراء الخلود في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) تقدمت هذه الآيات ، إنه لا بد أن تجتمع بعد طول الافتراق، لأنّ الأمة الإسلامية تقوم فيها الروابط على وحدة الدين والعقيدة، ووحدة المبادئ الخلقية الفاضلة، والنظم الاجتماعية العادلة، والعبادات الجامعة.

 

ثانياً: التعارف الإنساني،وقوة التآخي، وقوة الشعور بأنّ المسلمين جسم واحد.

 

ثالثاً: التعاون في دفع الضر وجلب الخير والتعاون في الكسب والطيب، وأن نجتمع على ما اتفقنا عليه وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

 

خاتمة البحث

 

أحمد الله تعالى على توفيقه ورعايته وعنايته لكتابة هذا البحث الذي أرجو له القبول من الله تعالى، وأن يجعله مساهمة ذات قيمة في هذا المؤتمر العلمي الجامع، وأن يتقبل من القائمين عليه عملهم هذا وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم؛ إنه سميع مجيب الدعاء، وبعد..

 

فإنّ البحث قد توصل إلى النتائج التالية:

 

(1) الوحدة بين المسلمين واجبة وأنه لا ينبغي لأحد أن يزعزع هذه الوحدة.

 

(2) إن العمل على توحيد صف المسلمين وتنقية عقولهم مما علق بها ــ من أسباب الفرقة والتمزق ــ واجب على كل مسلم يرجو النجاة في الدنيا والآخرة.

 

(3) مقومات الوحدة بين المسلمين قائمة وراسخة، والعيب ليس في الإسلام وإنما العيب فينا.

 

(4) إن الأمة الإسلامية تواجه أخطاراً عظيمة داخلية وخارجية منظمة، تقوم على رعايتها دول عظمى سخرت كل مواردها من أجل حرب الإسلام والمسلمين، ونحن في سبات عميق نتناطح ونتنابذ من أجل أهواء شخصية وقضايا هامشية كانت سداً منيعاً في وجه وحدة العمل الإسلامي.

 

(5) حذَّر الله تعالى من الفرقة والاختلاف لأنها طريق الهلاك والدمار.

 

(6) جعل الله تعالى تفريق الأمة شيعاً ــ يذيق بعضنهم بأس بعض ــ من أنواع العقوبات القدرية التي ينزلها الله بالنّاس إذا انحرفوا عن طريقه ولم يعتبروا بآياته.

 

(7) يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين له، الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف والبعد عن الاختلاف والتفرق.

 

(8) يمكن للعمل الإسلامي أن يوحد بين المسلمين إذا قام على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما كان عليه المسلمون في عصور الإسلام الأولى، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها.

 

(9) الإخلاص في القول والعمل، والتجرد من الدنيا والأهواء والمصالح الذاتية.

 

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)

 

وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

 

 

أهم مصادر البحث

 

(1)              عناصر الترابط في المجتمع الإسلامي، أ.د. عمر يوسف حمزة، الطبعة الأولى، دار الثقافة، قطر، الدوحة، 1410هـ،1989م.

 

(2)              الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام السيوطي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، عام 1412هـ.

 

(3)              إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، لأبي السعود العمادي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

 

(4)              تفسير الكشاف، للزمخشري.

 

(5)              صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، الطبعة الأولى، دار القرآن الكريم، 1401هـ ــ 1981م.

 

(6)              تفسير ابن كثير، طبعة الحلبي.

 

(7)              تفسير القاسمي المسمى (محاسن التأويل)، محمد جمال الدين القاسمي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الفكر، 1398هـ،1987م.

 

(8)              قبس من مكارم الأخلاق والآداب، د. عاطف أمان، الطبعة الثانية، عام 1409هـ.

 

(9)              لباب النقول في أسباب النزول للإمام السيوطي، الطبعة الثالثة، دار المعرفة، بيروت، 1421هـ .

 

(10)         صحيح الإمام البخاري، طبعة دار ابن حزم، 1419هـ.

 

(11)         صحيح الإمام مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثانية، تونس، دار سحنون، 1413هـ.

 

(12)         فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ ابن حجر، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، 1419هـ.

 

(13)         المسند، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، الطبعة الثانية، تونس، دار سحنون، 1413هـ.

 

(14)         سنن الترمذي.

 

(15)         مستدرك الحاكم على الشيخين.

 

(16)         اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، لمحمد فؤاد عبد الباقي.

 

(17)         سنن الدارمي.

 

(18)         مجمع الزوائد للإمام الهيثمي.

 

(19)         أعلام الموقعين للإمام ابن القيم.

 

(20)         المعجم الكبير للإمام الطبراني.

 

(21)         موطأ الإمام مالك.

 

(22)         سنن ابن ماجة.

 

(23)         الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، ولي الدهلوي.

 

(24)         عون المعبود شرح سنن أبي داود.

 

(25)         روضة الناظر لابن قدامة الحنبلي.

 

(26)         قواعد في علوم التحديث، للتهانوي.

 

(27)         الوحدة الإسلامية، الشيخ محمد نور أبو زهرة، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، 1397هـ 1977م.

 

 

 

 

 

([1">) انظر: عناصر الترابط في المجتمع الإسلامي، أ.د. عمر يوسف حمزة، ص7، وما بعدها ط1/1410هـ 1989م، دار الثقافة قطر الدوحة.

 

([2">) نقل السيوطي في الدر المنثور ج2 ص58،57 في سبب نزول هذه الآيات جملة آثار عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

 

([3">) انظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبي السعود ج1 ص255 والكشاف ج1 ص2915 وصفوة التفاسير 1/221.

 

([4">) انظر صفوة التفاسير 1/221.

 

([5">) انظر البحث القيم للدكتور يوسف القرضاوي (أمتنا الإسلامية بين التفرق الممنوع والاختلاف المشروع) ص16 في مجلة مركز البحوث جامعة قطر العدد الرابع 1409هـ، 1989م.

 

([6">) انظر: تفسير ابن كثير ج2 ص196 طبعة الحلبي.

 

([7">) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ج8 ص23.

 

([8">) انظر قبس من مكارم الأخلاق والآداب ص77 للأخ الزميل الدكتور أحمد أمان ط2 عام 1409هـ الموافق 1988م دار التوفيق النموذجية بالقاهرة.

 

([9">) فتح الباري ج10 ص483 بتصرف.

 

([10">) رواه الترمذي في الفتن (2166) وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي انظر المستدرك 1/114.

 

([11">) الترمذي (2167)... به، ورواه الحاكم 1/115، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير (8065) وشهد له ما قبله.

 

([12">) متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

 

([13">) متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث (1706).

 

([14">) متفق عليه كما في المصدر السابق، حديث رقم (1705).

 

([15">) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري.

 

([16">) أي نظروا إليه ليأخذوا عنه أفعال الحج وأحكامه.

 

([17">) رواه الدارمي في سننه ج1 ص48، وذكره الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد 1/158) عن الطبراني في الكبير، وهذا الحصر الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنهم ما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلها في القرآن، حصر إضافي، وذلك بالنظر إلى ما ذكر من سؤالهم له في القرآن أما سؤالهم الذي جاء في السنة فأكثر من أن يحصى، وقد جمع الحافظ ابن القيم في آخر كتابه (أعلام الموقعين) جملة كبيرة من أسئلتهم له صلى الله عليه وسلم وفتاواه فيها، انظر الجزء الرابع ص266ــ 414.

 

([18">) يعني أنهم لم يكن عندهم تنطع وتشديد في عبادتهم وتدينهم لا أنهم متساهلون في أمور الدين.

 

([19">) أخرج هذه الآثار الدارمي في سننه ج1 ص47ــ48.

 

([20">) رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي، وصححه الترمذي.

 

([21">) أي إحاطة القرائن به.

 

([22">) طرد الحكم: جعله عاماً.

 

([23">) أي لم يسم لها مهراً.

 

([24">) أي مثيلاتها من النساء.

 

([25">) أي من غير زيادة أو نقصان.

 

([26">) انظر الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص24: ولي الله الدهلوي.

 

([27">) عون المعبود ج1 ص163 وهدي الساري لابن حجر2/150 وجامع بيان العلم وفضله 2/154 وقواعد في علوم التحديث للتهانوي ص170ــ171 وروضة الناظر لابن قدامة الحنبلي ص45.

 

([28">) أي شعر رؤوسهن.

 

([29">) المستحاضة: هي المرأة التي يستمر خروج الدم منها بعد أيام الحيض المعتاد وقد رخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل مرة واحدة إذا انقضت أيام الحيض المعتادة وتتوضأ لكل صلاة.

 

([30">) الوحدة الإسلامية، الإمام محمد أبو زهرة ص234 طبعة دار الفكر العربي، ط2 1397هـ - 1977م.

 

([31">) محاسن التأويل للقاسمي ج4 ص186.

http://www.meshkat.net/new/contents.php?catid=5&artid=5062

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك