الخلافات الفقهية عناصر الاتفاق وضوابط الافتراق

الخلافات الفقهية عناصر الاتفاق وضوابط الافتراق

د. كمال عبيد

المقدمة : مقتضى الإيمان بالله ورسوله الاعتقاد بأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد جمعت فأوعت، وأجابت عن تساؤلات الخلق فيما يخص معاشهم ومعادهم، وعمـلت على إصلاح حالـهم دنيا وأخرى، كل ذلك وفقاً لأحكام عادلة غير صادرة عن البشر (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، ولكن شاءت قدرة الله تعالى ــ وهو العليم بخبايا النفس البشرية (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ــ أن يحكم هذه النفس وفق ضوابط محددة، لا تصلح ــ أي النفس البشرية ــ إلا بالتزام هذه الضوابط وتنفيذها والاحتكام إليها.

 

هذه الضوابط جاءت لتحدد طبيعة هذه العلاقة بين الفرد وربه، وبين الفرد وغيره من الناس، وبين الفرد ونفسه ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا))، وإنها لتتدخل في أخصِّ خصائص حياة الفرد؛ حتى تكون حياته كلها ربانية، وبذلك يتحقق للفرد ما عجزت البشرية عن أن تحققه له اعتماداً على عقلها وإعمالاً لرأيها بعيداً عن الله.

 

هذه الضوابط ذخر بها كتاب الله تعالى وذخرت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يألُ فقهاء هذه الأمة جهداً في استنباط الأحكام من هذه المصادر، وصاغوها في قواعد وقوانين تلبّي حاجة البشر مباشرة في كل مكان وزمان؛ وذلك تأكيداً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن القرآن: ((فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد))، وتلبية لحاجات النفس البشرية المختلفة، وحلاًّ لقضاياها حال تدنِّيها، وحال وسطيتها، وحال مثاليتها، وتلبيةً لحاجة المجتمعات في مرحلة البساطة ومرحلة التعقيد، ولعل هذا هو السر في أن يكون الإسلام هو دين آخر الزمان، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل وخاتم النبيين.

 

هذه الضوابط المستقاة من الكتاب والسنة ــ والتي تأخذ صفة الإلزام، ويتوفر بموجبها للوالي حق الجزاء ــ نطلق عليها لفظ أحكام، وهذه الأحكام في مجملها تكوِّن الشريعة الحاكمة لسلوك الفرد والجماعة، الضابطة لتصرفات الراعي والرعية.

 

هذه الشريعة شاء الله تعالى أن تكون أحكامها في القرآن بصورة مجملة في كثير من جوانبها، كما كانت طبيعة الحياة وسنة الله في كونه أن تختلف ظروف حياة الأمم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان في الزمان الواحد، وحتى تستجيب هذه الشريعة الخاتمة للرد على كل التساؤلات، وحل كل المشكلات التي تقابل الناس في حياتهم؛ كان لا بد أن تحتوي على قدر من المرونة يمكِّنها من ذلك، مرونة لا تفقدها فتصاب بالجمود، ولا تفرط فيها فينفرط عقدها.

 

لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض له المشكلة فيفتح الله عليه حلها وحياً يُتعبد بتلاوته في الكتاب، أو وحياً في السنة يحتكم إليه الناس دون تعبد بتلاوته، ((ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه))، ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي))؛ لهذا لم يتوقف الناس كثيراً أمام المشكلات التي تعترضهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم. واختار الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جواره ولما يأذن الله لحياة الناس بانقضاء، وشاءت قدرته أن تستمر هذه الحياة فتفرز كل صباح جديد مشكلة تشبه أو تختلف عن مشكلة سابقة، والناس في مسيرهم لا بد لهم أن يقفوا على حل لهذه المشكلات، فكان أن قيّض الله لهذه الأمة علماء جعلهم ورثة لأنبيائه في علمهم، وكان أن خص الأمة الخاتمة بخصيصة لم يأذن بها لأمة سلفت، فجعلها جل في علاه لا تصدر عن رأى جماعي فيه ضلالة ولا شبهة ضلالة، ((لا تجتمع أمتي على خطأ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة))، بل وكان مما خصها به أن جعل الاختلاف في استنباط الأحكام ــ بلا تعصب قطعاً ــ مظهراً من مظاهر رحمته بالأمة.

 

لكن ظن البعض أن هذا الاختلاف يعبِّر عن فرقة في الأمة، وشتات في رأيها وانقسام لكلمتها، وودوا لو سار الناس على نهج واحد، وذهب بعضهم إلى تحريم مظاهر الاختلاف، ووجوب حمل الناس على رأى احد.

 

وهذه الدراسة تعنى ــ إن شاء الله قدر المستطاع ــ بإزاحة الغبار عن هذه المسألة، وفهم مضمون الاختلاف فهمه الصحيح، وبيان سبب الوقوع فيه، وهل بالإمكان تلافيه، ثم بيان لحال من ذهب في الاختلاف مذهباً غير حميد، وما أفضى إليه موقفهم ذاك.

 

 

 

الفصل الأول

 

عناصر الاتفاق حول الأحكام الشرعية ومصادرها

 

مدخل:

 

يعرِّف الأصوليون الحكم الشرعي بأنه "خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً".

 

أما الفقهاء فيعرفونه بأنه "الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل كالوجوب والحرمة والإباحة"([1">).

 

هذه الأحكام مصادرها الأساسية الكتاب والسنة وهي أعمال كلَّف الله بها العباد, هذه الأعمال تنقسم إلى قسمين:

 

الأول: معاملة بين الله والعبد:

 

وهي العبادات التي لا تصح إلا بالنية، وفيها عبادات محضة وهي الصلاة والصوم، وعبادة مالية واجتماعية وهي الزكاة، وعبادة بدنية اجتماعية وهي الحج، وقد اعتبرت هذه العبادات الأربع بعد الإيمان أساس الإسلام.

 

الثاني: معاملة العباد بعضهم مع بعض:

 

وهي أقسام:

 

(أ) مشروعات لتأمين الدعوة، وهي الجهاد.

 

(ب) مشروعات لتكوين البيوت، وهي ما يتعلق بالزواج والطلاق والأنساب والمواريث.

 

(ج) مشروعات لطريق المعاملة بين الناس، من بيع وإجارة وغير ذلك، وهي المعروفة بالمعاملات.

 

(د) مشروعات لبيان العقوبات على الجرائم وهي القصاص والحدود([2">).

 

أما هذه الأحكام من حيث الثبات والتغيُّر فإنها تنقسم إلى قسمين:

 

القسم الأول:

 

لا يتغير عن حالة واحدة عليها، لا بحسب الأمكنة، ولا الأزمنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقررة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

 

القسم الثاني:

 

ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له: زماناً، أو مكاناً، أو حالاً، كمقادير التقديرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوّع فيها بحسب المصلحة([3">).

 

هذه هي الأحكام المطلوب من الناس الالتزام بها، والوقوف عند حدودها، والمنع من تعدّيها, ولقد كان عدم الفهم وسوؤه هو السبب الأساس لاختلاط هذه الأحكام على كثير من الناس، واختلافهم عليها، ولقد كان ذلك بسبب فهم بعضهم لمراد هذه الأحكام بالإطلاق، وفهم بعضهم لها بالتخصيص، وتداخل الأمر على بعضهم في شأن الأحكام التي تحض على الفعل: هل هي للإيجاب؟ أم لمجرد الندب؟ والتي تنهى عن الفعل هل هي للتحريم؟ أم لمجرد الكراهة؟

 

وكان الخلط الذي وقع فيه البعض ــ كذلك ــ بشأن هذه الأحكام ناجماً عن تقبُّلهم للنص وتفسيره ودلالاته وما إليها.

 

وغني عن البيان أن نؤكد أن أحكام الدين إنما هي مستمدة من الكتاب والسنة؛ إذ إنهما وافيان بجميع أمور الدين، ولولا ذلك لما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) أي إلى الكتاب والسنة، ومن هنا نعلم أن مصادر الأحكام الشرعية الأساسية هي الكتاب والسنة.

 

(أ) المصدر الأول: الكتاب:

 

أما الكتاب فإنه قد اشتمل على أحكام اتصفت في مجملها بالعموم، وجاءت آياته في الأحكام محدِّدة للمدى الأوسع الذي يمكن أن ينطبق فيها الحكم، فآية كآية الزكاة (خذ من أموالهم) لم تبيِّن مثلاً أي الأموال، ولا مقدار المأخوذ، ولا ما يعتبر أموالاً مما لا يعتبر حسب التملك وغيره, ويمكن أن نقسِّم الأمور التي انتظمها القرآن الكريم إلى الآتي:

 

(1) أمور تتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه مباحث علم الكلام أو أصول الدين.

 

(2) أمور تتعلق بأفعال القلوب والملكات، من الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهذه مباحث الأخلاق.

 

(3) أمور تتعلق بأفعال الجوارح، من الأوامر والنواهي والتخييرات، وهذه مباحث علم الفقه([4">).

 

وبما أن القرآن الكريم قد نزل لإصلاح أحوال العباد؛ فإن الأوامر النواهي التي اشتمل عليها لا بد وأن تحقق سعادة البشرية، (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث)، وحتى يحقق القرآن هذه السعادة فإن أحكامه التشريعية قد روعي فيها:

 

(1) رفع الحرج.   (2) قلة التكاليف.    (3) التدرج في التشريع.

 

والجهل بهذه الأسس التشريعية يوقع الناس في خطل كثير وخطأ كبير، فلا بد للمحتكم للقرآن أن يراعي هذه الأسس كما أن عليه أن يلمَّ إلماما تاماً بما يلي:

 

(1) اللغة التي نزل بها القرآن، والأساليب اللغوية التي استخدمها القرآن، في الطلب، والتخيير، والكف.

 

(2) المكي والمدني من الآيات؛ لما لكل نوع منها من مميزات الإلمام بها يساعد على استنباط الحكم.

 

(3) الناسخ والمنسوخ.

 

(4) أسباب النزول.

 

(5) أنواع الأحكام "اعتقادية، خلقية، عمومية".

 

(6) دلالة آياته وهل هي قطعية أم ظنية؟

 

فمعرفة هذه الأمور والإلمام بها هي الأساس الذي يرتكز عليه الفرد في معرفة مراد الله تعالى من كلامه، حتى لا يقول فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

 

(ب) المصدر الثاني: السنة:

 

أما السنة فهي في الاصطلاح الشرعي فهي ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقريراً([5">)، وقد جاء في التنزيل الحكيم قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك)، وقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون)، وقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).

 

هذه الآيات وغيرها يمكن أن تساق كأدلة على حجية السنة واعتبارها مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، وهي في ذلك تلي القرآن الكريم في المرتبة. وموقف السنة من القرآن الكريم يمكن أن يتمثل في الآتي:

 

(1) تأكيدها لما ورد من أحكام القرآن الكريم، كتأكيدها للأوامر والنواهي والمعاملات.

 

(2) تفصيلها لمجمل ما ورد في القرآن الكريم من أحكام, كتفصيلها لأحكام الصلاة والصيام والمعاملات.

 

(3) إنشائها لأحكام سكت عنها القرآن الكريم, كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها... إلخ.

 

والساعي لمعرفة ما ورد عن أحكام في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, لا بد له من الإلمام التام ببعض جوانبها:

 

(1) كحاجته للإلمام بأسانيد السنة، ومعرفة المتواتر والمشهور منها، والفرق بينهما وسنة الآحاد، وما يعتبر قطعياً وما يعتبر ظنياً، والفرق بين قطعي الدلالة ظني الثبوت، وظني الدلالة قطعي الثبوت، وظني الثبوت ظني الدلالة، وقطعي الدلالة قطعي الثبوت.

 

(2) كما لا بد له من الإلمام بما يعتبر تشريعاً منها، وما يعتبر عملاً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بأحد الناس.

 

(3) كما لا بد له من معرفة المواقف والحالات التي قال فيها صلى الله عليه وسلم ذلك القول، أو قام بالفعل، أو أقر عليه؛ فإن بعض ما قام به في السفر مثلاً يمكن ألا يعتبر حكماً في الحضر وهكذا.

 

(4) وتكون معرفة الفقه عاملاً مشتركاً في فهم الكتاب والسنة على حد سواء, واللغة المقصودة هنا ــ بالقطع ــ ليست هي ما اصطلح عليه من لغة العصر الحالي، إنما هي لغة واصطلاح العصر الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والطريقة التي كان يعبر بها عن الأشياء والمفاهيم([6">).

 

(ج) المصادر الأخرى:

 

إن الحديث عن الكتاب والسنة كمصدرين من مصادر التشريع الإسلامي ذهب ببعضهم للفهم بأنه ليس ثمة مرجع أو مصدر يعوَّل عليه في أخذ الأحكام التشريعية, ولعل ظاهر كثير من النصوص القرآنية والنبوية يحمل على هذا الفهم؛ ولهذا قال قائلهم: "وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجد فيها كل ما يطلبه من أدلة الأحكام التي يريد الوقوف على دلالها كائناً من كان"([7">), والقول هنا للإمام الشوكاني رضي الله عنه في معرض رده على ما ذكره الماوردي من أن أصول الشريعة أربعة، والشوكاني يريد أن يصل بقوله هذا إلى إنكار حجية الإجماع والقياس, ويخالفه في هذا الرأي جمهور الأئمة, إذ لا خلاف بينهم في أن الإجماع والقياس تعتبر مصادر لأحكام الشريعة بعد الكتاب والسنة. وفي حجية الإجماع والقياس يسوق شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب معارج الوصول القول على هذا النحو:

 

"أما إجماع الأمة فهو في نفسه حق لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق, فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل, وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوِّي بين المتماثلين، ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح"([8">).

 

وقد استطرد كثيراً في بيان حجية القياس والإجماع، حتى إنه ليقيم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك، ومما ساقه كدليل عقلي قوله: "فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، والله يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً), والوسط العدول الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: ((وجبت، وجبت))، ثم مرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال: ((وجبت، وجبت))؛ قالوا: يا رسول الله، ما قولك وجبت؟ قال: ((هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت وجبت لها الجنة, وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت وجبت لها النـــار, أنتم شــهداء الله في الأرض))" ([9">).

 

وممن ذهب إلى القول بعدم حجية القياس ابن حزم الأندلسي أحد أئمة الظاهرية وفي ذلك يقول: "ثم حدث القياس في القرن الثاني؛ فقال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرؤوا منه، وهو الحكم فيما لا نص فيه بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع, فقال حُذّاقهم: لاتفاقهما في علة الحكم، وقال بعضهم: لاتفاقهما في وجه الشبه. قلنا هذه قضية باطلة لوجوه: أحدها قولهم: فيما لا نص فيه. وهذا معدوم لأن الدين كله منصوص عليه, وثانيها: أنه حتى لو وجد لما جاز أن يحكم بذلك لأنه دعوي بلا برهان, وثالثها قولهم: لاتفاقهما في علة الحكم, ولا علة لشيء من أحكام الله تعالى؛ إذ دعوى العلة في ذلك قول بلا حجة"([10">).

 

فالذي يريد أن يقول في الدين برأي لا بد له أن يعلم بكل ذلك والأسس التي بني عليها, هذا بالإضافة إلى حاجته للإلمام ببقية أصول الشرع ــ غير الأربعة المتقدمة ـــ, ولم نقف عندها كثيراً لكثرة ما دار حولها من خلاف بين الفقهاء. "أما الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، ونحو ذلك مما ذكروه في كتاب الاستدلال فليست من الأصول المتفق عليها، بل هي من فروع تلك الأصول عند من يرى الاستدلال بها"([11">).

 

وتأكيداً لهذا الفهم السابق يذهب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى القول بأنه: "ثبت بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس, وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها, واتفقوا أيضاً على أنها مرتَّبة في الاستدلال بها هذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس, أي أنه إذا عرضت واقعة ننظر أولاً في القرآن فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيه حكمها ننظر في السنة، فإن وجد فيها حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها ننظر: هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور على حكم فيها؟ فإن وجد أمضى, وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكم لها بقياسها على ما ورد النص بحكمه.

 

أما البرهان على الاستدلال بها فهو قوله تعالى في سورة النساء: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)، وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب, فهو ما رواه البغوي عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن فقال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟))؛ قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟))؛ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله؟))؛ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله)) ([12">).

 

هذا الحديث ضعفه ابن حزم حيث جاء في كتابه (ملخص إبطال القياس) ما نصه: "وأما حديث معاذ فغير صحيح لأنه عن الحارث بن عمرو الهزلي الثقفي ابن أخ المغيرة بن شعبة ولا يدري أحد: من هو؟ ولا نعرف له غير هذا الحديث عن رجال من أصحاب معاذ لا ندري من هم. وهوّه قوم فقالوا: هذا منقول نقل التواتر، وهذا كذب لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون وما احتج به أحد من المتقدمين رواه عن أبي عون أبو اسحق الشيباني وشعبة, ورويناه عن شعبة عن أبي عون عن ناس من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ... فذكره وحدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي: حدثني شارح ثنى إبراهيم بن أحمد بن فراس: نا محمد ابن علي الصائغ ثنى سعيد بن منصور ثنى أبو معاوية الضرير ثنى أبو إسحق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي هو أبو عون قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن... " فذكره. إلا أن هذا الحديث يعتبر من مشهور ما ذكره أبو داود في سننه, كما ورد في سنن الدارمي"([13">).

 

 

 

الفصل الثاني

 

أسباب الاختلاف ومتى يكون صحياً؟

 

مدخل:

 

إذا كان قد ثبت أن مصادر الأحكام الشرعية متفق عليها ــ على الأقل في الأربعة الأولى منها ــ وإذا كان الله تعالى هو الذي أنزل القرآن وجعله تكليفاً لعباده، والكتاب واحد، والنبي واحد، والرب واحد، والأمة واحدة، واللغة واحدة, فإذا كان ذلك كذلك فلماذا يأتي الخلاف؟ وهل هذا الخلاف يعتبر ظاهرة مرضية؟ وكيف يمكن الإفادة منه إذا تبين أنه لا محالة واقع؟ ثم ما هي الأسس التي يمكن الاحتكام إليها للتأكد من صحة الحكم المعين وسط مختلف الأحكام؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه هنا مستعيناً بالله تعالى.

 

(أ) أسباب الاختلاف:

 

لم يكن الاختلاف في الآراء شيئاً غريباً على حياة المسلمين، ولم يكن هذا الاختلاف مدعاة لشقاق بينهم, فقد كان طبعياً أن يحدث الاختلاف في الرأي, فقد ظهرت صور من الاختلاف في الرأي والأمة لا تزال قريبة عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان هذا الاختلاف مظهراً حيوياً في حياتهم, والاختلاف في الرأي حول المسائل الشرعية له ما يبرره، وهناك من الأسباب ما يجعله أمراً لا فكاك منه. وهذه الأسباب هي:

 

(1) اختلاف بسبب اعتماد المصادر:

 

بدا لنا جلياً أن جمهور العلماء ــ وإن كان قد اتفقوا على المصادر الأساسية الأربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس ــ قد اختلفوا في قبول المصادر الأخرى: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، وما إليها، بل أن بعضهم قد رأى رأياً في القياس ــ وقد عرضنا ذلك في موضع متقدم من هذا البحث ــ كرأي ابن حزم في إبطاله وعدم الأخذ به كمصدر للتشريع، واستدل على حجته هذه بثلاثة عشر أثراً ضمنها كتابه (ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل)، وختم كتابه هذا بقول جامع في هذه الأصول بقوله: "من المحال الباطل أن يكون الله يأمرنا بالقياس أو التعليل أو بالرأي أو التقليد ثم لا يبين لنا: ما القياس؟ وما التعليل؟ وما الرأي؟ وكيف يكون كل ذلك؟ وعلى أي شيء نقيس؟ وبأي شيء نعلل؟ وبرأي من نقبل؟ ومن نقلد؟ لأن هذا تكليف ما ليس في الوسع"([14">).

 

غير أنه تصدى عدد كبير من الفقهاء, وعلماء الأصول وردوا على مثل هذه الآراء إثباتاً للقياس ونفياً للشبه حوله. ولقد كان للإمام الشافعي رحمه الله (150هـ ــ 204هـ) في كتابه (الرسالة) ــ الذي يعتبر أول كتاب أصَّل الأصول وقعّد القواعد ــ أقوال في إثبات القياس يطمئن المرء إليها كثيراً, فقد جاء في هذه الرسالة قوله: "كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم, أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة, وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس"([15">).

 

إذاً فالاختلاف في اعتماد المصدر المعين ورفضه قد يفضي إلى اختلاف في الأحكام المستنبطة، فالذين يعتمدون القياس مثلاً جوّزوا المزارعة قياساً على ما كان في خيبر, والذين لا يعتمدون القياس لم يجوزوها وهكذا. ويقال مثل ذلك في بقية المصادر.

 

(2) الاختلاف حول الاستنباط من المصدر الواحد:

 

وحتى المصدر المعتمد عند كل الأطراف يحدث أن يختلف عليه لسبب أو لآخر:

 

(أ) القرآن:

 

مع اتفاق الناس على اعتماده مصدراً أساسياً يحتل المرتبة الأولى بين المصادر، يحدث أن يكون اختلاف حوله؛ وذلك لأسباب ثلاثة:

 

(1) قد يرد لفظ يحمل معنيين، كاختلافهم في فهم القرء من قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، ففهم عمر وابن مسعود أنه الحيضة، وفهم زيد بن ثابت أنه الطهر.

 

(2) قد يرد حكمان مختلفان لموضوعين يُظن أن يشمل أحدهما بعض ما يشمله الآخر فيتعارضان في ذلك الجزء، ومثل ذلك آية معتدة الوفاة، فقد أوجبت أن تتربص أربعة أشهر وعشراً ويظن شمولها للحامل, وآية الطلاق جعلت عدة الحامل وضع الحمل فمعتدة الوفاة الحامل مترددة بين أن تشملها الآية الأولى فيجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً، وإن وضعت حملها قبل ذلك وبين أن تكون عدتها وضع الحمل ولو لم تتربص تلك المدة عملاً بآية معتدة الطلاق, قال بكل من الرأيين بعض كبار الصحابة([16">).

 

(3) قد يكون الاختلاف بسبب فهم الحادثة التي كانت سبباً في النزول والموقف من قضية الناسخ والمنسوخ في النصوص وما يمكن أن يترتب عليها من حكم، كما أن معرفة سبب ومكان وزمان النزول تساعد في فهم الأحكام التي تنسخ بعضها البعض، "والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن. وقوله ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع فيه النسخ, فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك بقول مقبول, وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس لم يجب بشيء"([17">).

 

(ب) السنة:

 

أما السنة فإن الاختلاف فيها يقع للأسباب الآتية:

 

(1) اختلافهم في اعتماد المصدر المعين الذي ورد الحديث عن طريقه، فقد يصحح بعضهم الحديث ويضعفه البعض الآخر، وذلك لما توفر لكل طرف من معلومات عن متن الحديث وسنده.

 

(2) كما قد ينشأ الخلاف حول السنة في اعتماد أنواع معينة من الأحاديث كأحاديث الآحاد.

 

(3) كما قد يعرض الخلاف لتفسير النص وحمله على المعنى المعين.

 

ويرى ابن تيمية أنه قد يحدث أن يصدر قول عن صحابي أو عالم فقيه يخالف حديثاً صحيحاً، ويجد ابن تيمية عذراً لهذا النوع من الناس يلخصها في أعذار ثلاثة:

 

أولاً: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قاله (أي الحديث).

 

ثانياً: اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.

 

ثالثاً: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

 

وهذه الأصناف الثلاثة عنده تتفرع إلى أسباب عدة ملخصها:

 

السبب الأول:

 

أن لا يكون الحديث قد بلغه، وهذا السبب هو الغالب على الأكثر مما يوجد في أحوال السلف, وقد كان صلى الله عليه وسلم يحدّث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضراً، أو يبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلّغونه، فينتهي ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, فخفاء بعض السنة على البعض لا يحتاج لبيان, فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأً فاحشاً قبيحاً, ولا يقولن قائل إن الأحاديث دُوِّنت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنة إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز ادعاء انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار الحديث فيها فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علماً بما فيها, ولا يقولن قائل فمن لم يعرف الأحاديث لم يكن مجتهداً لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله مما يتعلق بالأحكام فليس في الأئمة مجتهد, وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك أو معظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل, ثم قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي لم يبلغه فيكون معذوراً.

 

السبب الثاني:

 

أن يكون قد بلغه الحديث لكن لم يثبت عنده, أو لم ينضبط له لفظ الحديث ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته، فيقول قولي في المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا فإن كان صحيحاً فهو قولي.

 

السبب الثالث:

 

اعتقاد ضعف الحديث وقد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب.

 

السبب الرابع:

 

اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه غيره, مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة, واشتراط بعضهم أن يكون المحدِّث فقيهاً إذا خالف قياس الأصول, واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك إلى مما هو معروف.

 

السبب الخامس:

 

أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه.

 

السبب السادس:

 

عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده كألفاظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة المنابذة والغرر.

 

السبب السابع:

 

اعتقاده أن لا دلالة في الحديث، والفرق بين هذا والذي قبله: أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة.

 

السبب الثامن:

 

اعتقاده أن تلك الدلالات قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، والمطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، والحقيقة بما يدل على المجاز.

 

السبب التاسع:

 

اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله([18">).

 

(3) الاختلاف حول اعتماد الرأي ورفضه:

 

وينشأ الخلاف حول الرأي نسبة لأن بعضهم لم يعتمده أساساً ولم يعتد به، وقد ذهب الظاهرية في ذلك المذهب أقصاه وقد ذكر ابن حزم في كتابه (ملخص إبطال القياس) ستة وأربعين أمراً في إبطال الرأي.

 

وقد ذهب نفس هذا المذهب الإمام أحمد حيث يقول فيما رواه عنه ابنه عبد الله: "لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل, والحديث الضعيف أحب إليّ من الرأي"([19">).

 

وقد أُثر عن الصحابة أنهم كانوا يفتون بالرأي، وتختلف الآراء عندهم نسبة لأن رأي الواحد منهم ينشأ أساساً اعتماداً على ما يراه من أن الحكم عنده أقرب إلى روح التشريع ويحقق المصلحة, وهذه مسألة يختلف التقدير فيها من فرد لآخر.

 

قد كان أبو حنيفة وأصحابه يأخذون بالرأي الذي لا بد منه، وفي هذا يقول محمد صاحب أبي حنيفة: "لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث"([20">).

 

 والرأي عند ابن قيم الجوزية ثلاثة أقسام:

 

(1) رأي باطل بلا ريب، وقد ذمه السلف، ومنعوا العمل به.

 

(2) رأي صحيح، استعمله السلف، وعملوا به، وسوغوا القول به.

 

(3) رأي هو موضع اشتباه، سوغوا العمل به عند الاضطرار حيث لا يوجد منه بدٌّ، ولم يلزموا به أحداً ولم يحرّموا مخالفته([21">).

 

وقد قسم ابن القيم كل نوع من هذه الأنواع إلى أقسام مختلفة:

 

فالرأي الباطل عنده ينقسم إلى:

 

(1) مخالف للنص:

 

(2) كلام بالخرص والظن والتعقيد في معرفة النصوص.

 

(3) متضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله.

 

(4) رأي أحدثت به البدع وغيّرت به السنن.

 

(5) القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، وغيرها.

 

أما الرأي المحمود فينقسم عنده إلى:

 

(1) رأي أفقه الأمة، وأبرهم قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلّفاً، وأصحهم مقصداً، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، وهم الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

(2) الرأي الذي يفسِّر النصوص، ويبيِّن وجه الدلالة فيها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها.

 

(3) الرأي الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خَلَفهم عن سلفهم؛ فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها.

 

(4) أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجده ففي السنة, فإن لم يجده فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان أو واحد منهم, فإن لم يجد فبما قاله واحد من الصحابة, فإن لم يجد يجتهد رأيه وينظر أقرب ذلك من الكتاب والسنة وأقضية الصحابة([22">).

 

(ب) متى يكون الخلاف صحياً؟

 

حثت كثير من آيات القرآن الكريم على الوحدة في الصف واتفاق الكلمة، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا)، وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة)، وحذر من الاختلاف فقال: (ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءههم البينات واولئك لهم عذاب عظيم), وهي ــ أي الوحدة ــ شيء طبيعي في أمة يفترض فيها قيادة البشرية. إذاً لا مكان للفرقة والشتات, فالاختلاف المفضي لهذه الفرقة والشتات يعتبر عملاً مخالفاً لروح الدين الإسلامي، وبالتالي فإن الله تعالى أوجب على ولي الأمر أن يوقفهم عند حدودهم، ويأخذ على أيديهم حفاظاً على وحدة الأمة, لهذا السبب فقد قاتل أبوبكر رضي الله عنه المرتدين وقاتل عليٌ رضي الله عنه الخوارج، وهكذا.

 

ذلك نوع من أنواع الاختلاف لا توافق عليه الشريعة، ولا تعتبره مظهراً صحياً، بل تعتبره مظهراً مرضياً، تضع في يد الحاكم أسباب علاجه ابتداءً من المعاملة بالحسنى الى البتر والإقصاء. ولكن هناك نوع من الاختلاف إذا انعدم من حياة الناس أصابها الشلل والتوقف, وعلى هذا فإن من صور الاختلاف ما يعتبر صحياً بل لازماً لإنعاش حياة الأمة، والفقه الذى خلّفه سلف هذه الأمة كان كله نتيجة تقابل في الآراء، اندثر منها ما لم يقوَ على الاستمرار، وبقى ما أشبعه أصحابه بالحجة والمنطق, ولعل حضارة لم تتوافر فيها من الألفاظ الدالة على اختلاف الرأى كما توافرت في الحضارة الإسلامية، فوجدنا ألفاظ المحاورة والمناظرة والحجة والبرهان والتعليل بقدر وافر ما يؤكد هذه الحقيقة، والاختلاف في الرأي هذا لم يفضِ إلى نزاع بين الجماعات ولا إلى فرقة في الكلمة، ولم تكن مذاهب الأئمة أدياناً بجانب الإسلام، كما هو الحال عند النصارى، فقد صارت الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية وكأنها ديانات توازن النصرانية، ولا تلاقى بين هذه المذاهب، ولقد كان أئمة المذاهب في الإسلام يجلس بعضهم إلى بعض يحاوره ويناظره، ويفترق الخصمان (تجوُّزاً) وكل منهما يحمل لأخيه من الحب أكثر مما لقي صاحبه عليه.

 

تأمل معي هذه المناظرة التي انعقدت بين أبى حنيفة النعمان ووفد من الخوارج:

 

"قدم وفد من الخوارج على أبى حنيفة في المسجد، وكان مذهبهم تكفير مرتكب الكبيرة, فسألوا أبا حنيفة:

 

هاتان جنازتان على باب المسجد, أما إحداهما فجنازة رجل شرب الخمر حتى كظته وحشرج بها فمات، والأخرى امرأة زنت حتى أيقنت بالحمل فقتلت نفسها؛ فما الرأى فيهما؟

 

أبو حنيفة: من أي الملل كانا.. أمن اليهود؟

 

ــ: لا.

 

ــ: أمن النصارى؟

 

ــ: لا.

 

ــ: فمن أي الملل كانوا؟

 

ــ: من الملة التي تشهد أن لا أله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

 

ــ: فأخبروني عن هذه الشهادة: أهي من الإيمان ثلث أم ربع أم خمس؟

 

ــ: أن الإيمان لا يكون ثلثاً ولا ربعاً ولا خمساً.

 

ــ: فكم هي من الإيمان؟

 

ــ: الإيمان كله.

 

ــ: فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين"([23">).

 

وقد اخترت هذه القصة لأدلِّل بها على أن الحوار المستند إلى الحجة والمنطق يمكن أن يكون صحياً ومثرياً للفقه الإسلامي، حتى ولو كان مع فرقة مارقة كالخوارج، ولو التزم الخوارج هذا المنهج في بذل الحجة وقبلوها لما خرجوا عن الصف، إلا أنهم أرادوا أن يخرسوا كل فم لايقول بقولهم، وكل عقل لا يفهم فهمهم ظناً منهم أن ذلك هو روح الدين وخلاصته، فحق عليهم قول القائل إنهم "قوم أرادوا الجنة فأخطأوا اليها السبيل".

 

والاختلاف في الرأى أمر طبيعي؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس مختلفين في قدراتهم وملكاتهم وطاقاتهم، وتمشياً مع هذا النسق في الاختلاف لم يشأ أن يلزمهم كلهم بأمر واحد، يدركه بعضهم ويجهله البعض الآخر، يطبقه بعضهم ويصعب على الباقين، فلو كان الأمر كذلك لأعنت الناس بعضهم بعضاً، فكان لا بد أن يختلف الرأي عند الناس حول المسألة الواحدة، وذلك مظهر من مظاهر رحمة الله بعباده.

 

ثم أن شريعة طُلب إليها أن تحكم حياة الناس من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، في عالم تختلف أمكنته وأزمنته وطبائع الناس فيه لا بد أن تتيح قدراً من الاختلاف في الفهم والتطبيق؛ حتى تكون مرونتها هذه مدعاة لاستمراريتها، وفق الإطار العام الذى حددته أحكام الشريعة، وتواطأت عليه الأمة، في غير جهالة ولا شبهة ضلال.

 

ولولا اختلاف الأراء لما حفل الفقه الإسلامي بهذا القدر الوافر من الحلول التي تتناسب مع كل الظروف، ولا يجد المرء نفسه قد خرج ببساطة من دائرة الدين لعدم التزامه في عمل من أعماله برأى منسوب للدين، والتاريخ الإسلامي حافل بالمواقف الدالة على أن اختلاف الرأي كان شيئاً مقبولاً، ويكفينا في هذا المجال أن نشير إلى حادثة واحدة كان الحكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي حادثة بني قريظة حينما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بقوله: ((لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة))، واختلفت آراؤهم حول هذا الأمر, هل هو للحث أم لا بد من الالتزام الحرفي به تحت كل الظروف، وقد أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم كلا الرأيين، وما يهمنا هنا إجازته لمبدأ الاختلاف في الفهم وترتيب العمل عليه.

 

فلو تعسفنا في الحكم على هذه الحادثة ووقف كل أهل رأي يلتزمونه ولا يحيدون عنه لكفَّر الناس بعضهم بعضاً، فاحتج فريق على الآخر بأنكم خالفتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعتم تحت طائلة الآية (ومن يشاقق الرسول...الآية)، ولاحتج الفريق الثاني على الأول بأنكم أخَّرتم صلاة مفروضة من عند الله تعالى عن وقتها (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا). يحدث هذا إذا ألزمت كل فرقة الأخرى بما ترى، فكم كان صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيها كان بإمكانه أن يقف مع رأي وتصبح القضية محسومة، وتخرج عن دائرة الرأى إلى دائرة الفصل، أقول: كم كان رحمة بالأمة أن مرَّت هذه الحادثة دون أن تحجر فرقة على أختها وتحملها على ما ترى.

 

إذاً إذا كان الاختلاف لتحقيق هذه الرحمة، ولرفع ذلك العنت؛ فإنه يصبح مظهراً صحياً، وواجباً حيوياً تلزم الأمة به؛ حتى تجدد للدين شبابه، وتعيد ثقة الناس فيه. على أن لا يكون الرأى في ذلك بالهوى واتباع الشيطان, وقد تقدم بيان ذلك.

 

 

 

الفصل الثالث

 

ضوابط الافتراق

 

مدخل:

 

رغم ما أشرنا إليه من أن الخلاف يمكن أن يكون مفيداً ومثرياً للفقه وللحياة العامة، إلا أن نفوس البشر تنزع إلى الافتراق والشتات، ويكون حينها الافتراق أمراً حتمياً، فإن هو وقع فلا يظن ظان أن الشريعة تنحت وتركت الأمر للأفراد يعملون لأنفسهم ما يشاءون ويشرعون لها ما يحكمها حال افتراقها، ولكن الشريعة التي عالجت كافة جوانب الحياة، لها قول ورأي حتى عند الافتراق، وقولها عند الافتراق ألزم، ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، لذلك لا بد من ضوابط ولا بد من اجتهاد لإحالة قدر الاختلاف إلى منفعة، ولا بد من معرفة الأسس التي يمكن أن نميز بها الحق من الباطل.

 

(أ) ما هي ضوابط الاختلاف حول المسائل الفقهية؟

 

يعتبر الخلاف في الرأى عملاً صحياً ومثرياً للفقه الإسلامي إذا التزم الضوابط الآتية:

 

أولاً: إذا بُني هذا الخلاف في الرأي على أسس الدين ومصادره، وعمل على استنباط الأحكام منها من غير إفراط في تتبع الحرج وفرضه على الناس، ومن غير تفريط في تتبع الرخص.

 

ثانياً: إذا التزم منهجاً علمياً في البحث يتحرى الدقة، ويقلب الأراء، وألا يكون إرضاءً لجماعة، أو اتباعاً لهوى، أو مسايرة لمزاج فردي.

 

ثالثاً: أن يعين الناس بعضهم البعض فيما اتفقوا فيه من الآراء، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه.

 

رابعاً: أن يلتزم كل فريق في طرح حجته وإبانة رأيه جانب الأدب الإسلامي في مخاطبة الأخرين، فلا يرميهم بالتهم، ولا يكيل لهم السباب، ولا يصفهم بالقصور، بل يلتمس لهم الأعذار.

 

خامساً: الأمانة في عرض الرأي والرأي المقابل، وأن لا يجتزأ كل فريق من النصوص ما يوافق رأيه ويعمل على تناسي وبتر الجزء الذى لا يدعم رأيه, وأن لا يتحامل كل فريق في صرف معنى النص المتفق عليه من الطرفين إلى المعنى الأقرب لرأيه، سيما إذا كان ذلك النص لا يحتمل هذا التحامل.

 

سادساً: أن يكون الدخول في الخلاف أساساً لمرضاة الله تعالى،لا رياء ولا تسمعاً، وأن يتحلى الجانبان بالورع والتقوى، وإلا فإن الخلاف سيكون جدلاً ((ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).

 

إذا التزم الناس هذا السلوك في خلافاتهم الفقهية فلا شك أن خلاصة الأمر ستكون آراءً ناصعة، وحججاً مبينة، وإرثاً فقهياً تفخر به الأجيال, وإلا فإن المسألة ستعمق من حجم الفرقة بين الأفراد والجماعات فيما لا طائل وراءه، وستكون فتنة ((القاعد فيها خير من القائم)).

 

(ب) كيف يمكن الإفادة من الافتراق إذا ثبت أنه لا محالة واقع؟

 

قلت: إن الاختلاف في الآراء شيء لازم لبيان حيوية الدين، واستجابته لمطالب الحياة والتفاعل معها, ولكن إذا أفضى هذا الاختلاف إلى فرقة وشقاق، وتبين أن هذا الأمر لا محالة واقع فإن الأمة الكيسة الفطنة يمكن أن تفيد من هذا الاختلاف أيضاً، وقد يبدو هذا القول غريباً ولكن على غرابته يمكن تصوره.

 

إن الله يعلم أن هذا الخلاف لا بد وأن يفضى في بعض صوره إلى شقاق، والآيات الدالة على ذلك من القرآن الكريم كثيرة (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) فهذا الاقتتال يمكن أن يكون مؤسساً على فهم معاكس لبعض حقائق الدين، بل أذهب إلى أن الخلاف حتى لو كان في أساس الدين لأمكن الإفادة منه، وهذا وارد مصداقاً لقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين).

 

وأقوى دليل أسوقه في بيان ما ذهبت إليه دليل مأخوذ من التارخ الإسلامي، فإن فقهاً نشأ أثناء حروب الردة وفقهاً نشأ في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي ما كان له أن يظهر وينشأ لولا هذه الخلافات، بل أن مفكرين وفقهاء إسلاميين ما كان يقدر لنا معرفتهم والإفادة من آرائهم لولا هذه الخلافات، فأسماء مشهورة كابن تيمية وابن القيم وغيرهم أكثر ما عرفناه عنهم أنهم تصدوا في العقيدة والشريعة لفرق ضلت وأضلت، فأنشأوا في الرد على هؤلاء فقهاً لا يستطيع واحد من الناس أن ينكر أثره في إثراء الفقه وبيان حقيقة الدين.

 

فإذا كان الفقه المتولد نتيجة الرد على فرقة ضالة قٌدِّر له أن يثرى الحياة العلمية الإسلامية، وهو فقه من جانب واحد، أي أن ما يمكننا الإفادة منه والاعتماد عليه هو الفقه الذى قدمه ويقدمه الجانب الملتزم الفكر الإسلامي دون تحريف أو تغيير، فكيف بنا والحوار بين جهتين ملتزمتين روح الدين ترتكزان على أرضية واحدة، لا شك أن ما سيتمخض عن هذا الاختلاف سيكون خيراً وبركة على الأمة، وهذا لا يتحقق إلا إذا التزمت الفرقتان بما أشرت إليه في الصفحات السابقة من ضوابط؛ لأن الخروج عنها ــ في يقيني ــ يجعل الخلاف مجرد مراء ((والمراء لا يأتي بخير)).

 

(ج) الأسس التي يمكن الرجوع إليها لتمييز الحق من الباطل:

 

عند تعرضنا للحديث عن المصادر التي تعتمد عليها الأحكام الشرعية استطردنا في الحديث عن الكتاب والسنة بحسبانهما المصدرين الأساسيين لاستنباط الأحكام، وهما بهذه الوضعية يعتبران الأساس الذي على المتخالفين في الرأى الرجوع إليهما والاحتكام إلى ما فيهما لتأييد حجة كل منهما.

 

والبراهين القطعية في ذلك لا تحصى:

 

يقول تعالى: (ياأيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول). ويقول تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولِي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، ويقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). ويقول: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). والأدلة أكثر من أن تحصى.

 

إذاً فالأساس الذى يُرجع إليه للتأكد من صحة الرأي أو الرأي المقابل هو القرآن والسنة، وإن لم يكن ذلك ممكناً فإن ميراثاً فقهياً ثراً ينتظرنا من سلف الأمة الصالح يمكن التعويل عليه للفصل في الاختلافات الناشئة بين وجهات النظر المختلفة, وأن لم يحتوِ ذلك الفقه على حل لتلك المسألة، وهذا قول في رأيي فيه كثير من التجاوز، فإن الاعتماد على قواعد عامة في الدين الإسلامي تكون هي الفيصل كقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)، وقاعدة: ((الأصل في الأشياء الإباحة))، وغيرها من القواعد المعتبرة التي عليها مدار التشريع الإسلامي كله.

 

 

 

الخاتمة

 

وتبقى كلمة أخيرة أشهد الله عليها:

 

أننى ما اخترت هذا الموضوع إلا لما يكتنف مجتمعاتنا اليوم من جدل يخفت أحياناً ويتعالى الصياح فيه أحياناً كثيرة، وهذا الجدل على الحادبين أن يوجهوه وجهته الصحيحة، لا سيما وأننا ننعم ببداية نهضة إسلامية في طريقها لأن تكون نهضة شاملة تعم جوانب الحياة المختلفة بإذن الله. وهذه النهضة مطلوب منها أن تعالج بالموضوعية كلها المشاكل التي نجمت عن غياب الشرع الإسلامي عن الساحة مدة ليست باليسيرة.

 

وإزاء هذه النهضة ترتفع أصوات حاقدة حيناً ومشفقة حيناً آخر، بعضها يعلم كل الحقيقة وبعضها يعلم جزءاً منها، والكثير لايعلم شيئاً, وبزعم كل فريق أن ما يذهب إليه من رأي حق لا يدانيه باطل، ولقد تابعت كثيراً من الجدل الدائر بشأن موضوعات مختلفة في العقيدة والفقه والأصول فوجدت سوقاً للحديث تقوم وتنفضُّ، ومدارس مختلفة تدخل الساحة وتنصرف بعضها راشد وبعضها غير بعيد عن الضلال, وأكثر ما أخافني أن كثيراً من الداخلين إلى هذه السوق والخارجين منها لا يعتمدون خلفيةً واحدة يستندون إليها، فمن منكر لبعض الأسس المعلومة من الدين بالضرورة، ومن جاهل بتاريخ الفقه الإسلامي وأبعاد الخلاف فيه، ومن مدعِّم لحجته بأسس كلامية، ومن زاعم بأنه لا خلاف فالقول ما تقول الفرقة الناجية ــ وهكذا ــ، فيصبح المتطلع إلى اكتمال هذه النهضة مشفقاً من أن تنمو أطرافها محتوية على هذا الخبث، فوجدت أن الوقفة عند الخلاف وأسبابه والإفادة مما تتيحه من فرص لعرض الإسلام ناصعاً ثغرة لا بد أن ينبرى لها بعض من كان همهم أن تكتمل النهضة، ولا أدعي براعة في ذلك، بل إنها هموم أحسب أن المساهمة في حلها ولو بكلمة فيه إبراء للذمة، فإن كنت قد أصبت فمن الله، وأن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان (وما أبرئ نفسي).

 

 

 

([1">) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم، الطبعة العاشرة، 1972م، ص 100.

 

([2">) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر، الطبعة الثامنة، 1967م، ص 29.

 

([3">) أحمد موافي، عقوبة الإعدام بين الشريعة والقانون، الناشر مكتبة المنار بالكويت، ص 19.

 

([4">) محمد الخضري، المرجع السابق، ص 15.

 

([5">) راجع ابن رشد، بداية المجتهد، ص 2، طبعة دار الفكر، وعبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، طبعة دار الحكم، ص 36، وتاريخ التشريع الإسلامي، لمحمد الخضري بك، ص 30.

 

([6">) من محاضرة للدكتور جعفر شيخ إدريس بكلية الطب جامعة الخرطوم عن (منهج البحث العلمي في معرفة حقيقة الدين).

 

([7">) محمد حسنين مخلوف، بلوغ السول في مدخل علم الأصول، طبعة البابي الحلبي، ص 94.

 

([8">) ابن تيمية، معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، المكتبة العلمية، ص 22.

 

([9">) ابن حزم الأندلسي، ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفكر، 1969م، ص 5.

 

([10">) محمد حسنين مخلوف، المرجع السابق، ص 88ــ89.

 

([11">) ابن تيمية، المرجع السابق، نفس الصفحة.

 

([12">) عبد الوهاب خلاف، المرجع السابق، ص 21.

 

([13">) راجع سعيد الأفغاني، ملخص إبطال القياس.

 

([14">) الإمام الشافعي، الرسالة، مطبعة البابي الحلبي، سنة 1969م، ص 206.

 

([15">) ابن حزم الأندلسي، المرجع السابق، ص 73.

 

([16">) انظر الشيخ الخضري، المرجع السابق.

 

([17">) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، سنة 1969م، ص 151، المجلد الأول.

 

([18">) ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، المكتبة العلمية، ص 4ــ17.

 

([19">) ابن حزم، ملخص إبطال القياس، ص 67.

 

([20">) محمد حسنين مخلوف، المرجع السابق، ص 60.

 

([21">) ابن تيمية، المرجع السابق، نفس الصفحة.

 

([22">) المرجع السابق، ص 62ــ63.

 

([23">) أحمد حسين، من قضايا الرأى في الإسلام، دار الكتاب العربي، ص 74.

 

 

 

المراجع

 

(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعارف.

 

(2) ابن كثير، الباعث الحثيث، شرح أحمد محمد شاكر، دار المكتبة العلمية.

 

(3) الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، الطبعة الثانية، سنة 1966م.

 

(4) الأمير، الإكليل شرح مختصر خليل، مكتبة القاهرة.

 

(5) ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، سنة 1973م، دار الجيل، بيروت.

 

(6) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر.

 

(7) النيسابوري، أسباب النزول، دار الكتب العلمية، سنة 1975م.

 

(8) ابن حزم، ملخص إبطال القياس والرأى والاستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفكر سنة 1969م.

 

(9) الشافعي، الرسالة، مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الأولى، سنة 1969م.

 

(10) القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية عشرة، سنة 1978م.

 

(11) صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين.

 

(12) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم الكويت.

 

(13) أحمد حسين، من قضايا الفكر في الإسلام، دار الكاتب العربي.

 

(14) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، دار الفكر بيروت.

 

(15) محمد حسنين مخلوف،بلوغ السول في مدخل علم الأصول، مطبعة البابي الحلبي.

 

(16) د. مصطفى حلمي، الخوارج، الأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم، دار الأنصار بالقاهرة.

 

(17) ابن تيمية، معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول، المكتبة العلمية.

 

(18) ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، المكتبة العلمية.

 

* مدير المركز الإسلامي الإفريقي

 

meshkat. net/new/contents.php?catid=5&artid=5058

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك