الإصلاح، فكرة ومشروعاً

الإصلاح، فكرة ومشروعاً

أحمد الرحال

التعريف:

كثيرا ما يبدأ الكُتّاب بالتعريفات اللغوية لما يكتبون عنه، ومن هؤلاء من يفعل ذلك عادة ومنهم من يفعله عبادة، وقد يُكثِر بعضهم من الكلام في المقدمات فيحول بحثه أو مادته إلى خطبة أو موعظة.

وهنا أود أن أسجل بين يدي مادتي، هذه المقدمة لكي أبين أنني أبدأ بالتعريف اللغوي مختصرا لأن ما أكتبه في هذه المادة إنما يعبر عن فكرة لا يمكن ترجمتها إلا من خلال التقديم اللغوي، يليه نقل ما أورده أحد عمالقة التفسير في قول الله تعالى: ’......إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.....‘، وذلك أيضا للسبب نفسه، إذ أن مذهبي في هذه المادة هو مذهب فكري يستند إلى قوانين كونية تفتح الطريق لمن أراد أن يناقش أو ينتقد أو يشق طريق البحث الأوسع أو الممارسة في واقع الحياة.

ثم إن هذه الآية هي أفضل دليل وشعار وعلامة تدل على من آمن بالمبدأ الوارد فيها وهو مبدأ الاصلاح.

نظرت نظرة سريعة مركزة في لسان العرب لابن منظور والصحاح للجوهري وأيضا المفردات للراغب، وخلصت من هذه إلى ما يلي:-

الاصلاح لغة نقيض الافساد كما ورد في اللسان والصحاح، والصلاح ضد الفساد. يقال رجل صالح في نفسه من قوم صلحاء ومصلح في أعماله وأموره.

وفي اللسان: أصلح الشيء بعد فساده: أقامه، ويقول الراغب في المفردات: الصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، وإصلاح الله تعالى الانسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده وتارة يكون بالحكم له بالصلاح.

وقد وردت كلمة الاصلاح في القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى: ’...ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها...‘، وقال أيضا: ’...وإن تصلحوا وتتقوا...‘، وقال سبحانه: ’...فأصلحوا بين أخويكم...‘، وفي الآية من سورة هود على لسان نبي الله شعيب عليه السلام: ’....إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب‘.

يقول الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره (الكبير): (والمعنى: ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وقوله ما (استطعت) فيه وجوه: الأول أنه ظرف والتقدير مدة استطاعتي للاصلاح وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهدا. والثاني أنه بدل من الاصلاح، أي المقدار الذي استطعت منه. والثالث أن يكون مفعولا له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه.

’ ثم يقول‘: واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم أقروا بأنه حليم رشيد، وإنما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الخلق بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا للإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة. ’ثم يقول‘: وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه).

وفي الحقيقة فإن ما ورد على لسان شعيب عليه السلام إنما هو الكلام نفسه الذي ورد ويرد على لسان كل نبي ومصلح في هذه الدنيا.
وقالت العرب: بضدها تتميز الأشياء. فعلى قدر سهولة الإفساد تكون صعوبة الإصلاح، والإفساد لا يحتاج إلى كثرة تفكير بينما الإصلاح ينبني على تفكير عميق وصعب وعلى إعداد كبير يكبر بحسب كبر المراد إصلاحه.

أهمية الاصلاح في الحياة

إن الحياة لا يمكن أن تستمر من دون الاصلاح، ويمكن القول بأن الاصلاح هو سنة من سنن الله في الكون، فإذا تأمل الإنسان في الطبيعة التي خلقها الله لرأى المعنى الدال على الإصلاح، والأمثلة واضحة ولا تحتاج إلى زيادة في الإيضاح، فقد أورد العلماء كلاما يتعلق بارتباط النبات بالشمس، وكلاما آخر يبين العلاقة بين طهارة الماء وحركته، ذلك أن الشمس تنشر النور فتحدث بذلك عملية البناء الضوئي ليعيش النبات، وهذا نوع من الاصلاح، كذلك الماء إذا ركد فسد والماء يتعرض للشوائب وما يفسده، فإذا تحرك طهر، والحركة تعمل عمل المصلح، ومن أراد الاستزادة فليعد إلى ما كتب أو نشر في هذا المجال العلمي البحت.

أما في حياة الناس، فالاصلاح أمر يفرض نفسه على الفرد بينه وبين نفسه، إذ لابد للمرء من أن يتعهد نفسه بالاصلاح في جوانب مختلفة، عقلية ونفسية وجسمية وغيرها، والاصلاح أيضا يفرض نفسه على العلاقات البشرية بدءا من الأسرة والعائلة ومرورا بالقبيلة والمجتمع وانتهاء بالعلاقات الدولية.

الاصلاح على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمر لا يمكن الاستغناء عنه وإلا لما استمرت الحياة على وجه الأرض، والجانب الفكري الذي تدور عملية الاصلاح كلها عليه هو أهم الجوانب في عجلة الحياة ، وبالتالي لابد من ما يسمى بقانون التدافع في الحياة لكي لا تستبد فكرة بالعمل والرأي ولكي تجري الحياة كما يجري النهر يدفع بعضه بعضا وينظف نفسه بمائه ويمنع الشوائب من الاستقرار عليه.

الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو الذي يقوي الدول ويطور الشعوب، وكلمة الاصلاح في القاموس السياسي لها أهمية كبرى، ومن هنا لابد من إيراد المصطلح ونقل معناه من القاموس السياسي الحديث، وتوجد تعريفات عدة للاصلاح يمكن إجمالها في التعريف التالي:

الاصلاح هو الوصول إلى أفضل صورة في الدولة والمجتمع وذلك بالقضاء على الأخطاء والانتهاكات والعيوب والتقصير في الواجبات، وكذلك هو الوصول بالانسان إلى مرحلة حسن السيرة وأداء الأمانة وبالتالي هو العمل على تصحيح الأخطاء وحل المشاكل ومحاربة الانتهاكات في الحكومات سياسيا واجتماعيا وأيضا الوصول إلى أحسن المستويات في التفاوض والحوار ووضع المواثيق.

ولمن أراد أن يدرس حركة التاريخ في مجال الاصلاح سيرى أن الآيديولوجيات كلها التي وجدت في التاريخ البشري إنما هي تصور الاصلاح وتعمل على تطبيق ذلك التصور إن تسنى لها ذلك، بما في ذلك الفكر الشيوعي الماركسي والأفكار الأخرى التي اتصفت بالدكتاتورية والاستبداد.

غير أن آخر ما وصلت إليه البشرية من استنتاجات وأفكار هو أن الاصلاح في المجتمعات إنما يكون بتأكيده جانب حقوق الإنسان والحريات العامة وتطبيق الديمقراطية وإطلاق ملكات الإبداع والفكر والعقل، هذا في الجانب السياسي.

أما في الجانب الاقتصادي، فإن الرأسمالية هي التي سيطرت على تعريفه بعد سقوط الكتلة الشرقية، وبذلك فالاصلاح الاقتصادي هو التحول إلى ما يسمى بالسوق، بمعنى أن يُسيِّر السوقُ الاقتصادَ لا أن تقننه الدولة وتسيطر عليه، فهو يستند إلى حجم التبادل التجاري، ومن هنا نرى الدفع نحو ما يسمى بالخصخصة والتي تعني أن ترفع الدولة يدها عن النشاط الاقتصادي وأن تدفع نحو استقلالية السوق، غير أن الأفكار والآيديولوجيات بحسب اختلافها هي التي تحدث الاختلاف في التعريف.

أما الناحية الاجتماعية فإن الاستقرار فيها يعتبر من أهم عوامل الاستقرار السياسي.

إن الاصلاح من الناحية الاجتماعية إنما يهتم بالأسرة والمؤسسات الاجتماعية بما تقدمه من خدمات وإصلاحات تعالج الفقر والجهل والعزلة والأخلاق وغيرها، وبالتالي يمكن تسمية المجتمع ،الذي يتبنى الاصلاح بهذا الاهتمام، بالمجتمع المدني الذي يحمل في طياته وتكوينه مادة الاصلاح.
 

 

فكرة الاصلاح
 

إذا بحثنا في موضوع فكرة الاصلاح لابد أن نجدها مرتبطة بالدين في أغلب الأحيان أو ما يقدسه الناس، هذا هوالذي نقرأه في

حركة التاريخ الإنساني.

وقد بدأت مادتي هذه بالآية: ’...إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت....‘، وهذا كما أسلفنا هو شعار معمول به عند الأنبياء والرسل جميعهم، كما أنه معمول به عند الدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان.

ابن خلدون في مقدمته ينقل التقسيم الجغرافي للأقاليم السبعة فيبين أن الحكماء قسموا الأرض على سبعة أقاليم من الشمال إلى الجنوب، كل واحد منها آخذ من الشرق إلى الغرب، ويقسم كل إقليم أجزاءً، ويخلص إلى أن أكثر هذه الأقاليم اعتدالا هي الأقاليم الثلاثة المتوسطة لأن سكانها من البشر هم أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، وهم أكمل لوجود الاعتدال فيهم، وهم الذين يوجدون في العالم العربي وما حوله أو هم أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن حولهم، لأن هذه الأقاليم هي التي استقبلت الأديان والرسل وأثبت التاريخ خيريتها في وقت قوتها وهيمنتها على العالم.

لذلك فإن الاصلاح ينسجم مع أهل هذه الأقاليم، ذلك أنهم يأخذون الحسن فيطورونه إذا تسنى لهم ذلك، كما يردون القبيح ويستبدلونه بالحسن.

كذلك إذا نظرنا إلى تفاعل أي دين مع الحياة بجوانبها كلها فلن نجد غير الإسلام، لأن الكنيسة عزلت عن الحياة اليومية بعد أن سيطرت العلمانية، أما الإسلام فهو الدين الوحيد الذي توجد فيه إمكانية التعامل مع السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر وغيرها من المجالات، ذلك أن الإسلام تتسع فيه دائرة الاجتهاد وتضيق فيه دائرة الأمر والنهي كما هو معروف.

إن إطلاق فكرة الاصلاح في العموم والتخصيص ستنجح من دون أدنى شك لأنها تنطلق من العقل وتخاطبه أيضا.

ولكن لا يمكن البدء فورا بالتعامل مع الواقع وإصلاحه من منطلق الفكرالإسلامي من دون الوقوف عند بعض العوامل المهمة وتقويمها، ومن العوامل المهمة ما يلي:

* التربية والتعليم.
* قراءة التاريخ.
* الصحوة الإسلامية.
* الفكر الإسلامي.
ولابد لي من الوقوف عند كل عامل من هذه العوامل ولو بصورة مختصرة.

التربية والتعليم
منذ أواخر عام (2001) بدأت تتعالى الأصوات مطالبة بإعادة النظر في المناهج التعليمية في العالم الإسلامي، ويواجه هذه الأصوات الصادرة من الغرب وبالتحديد أمريكا نوع من التحدي في الأوساط الشعبية، وهناك إصرار على أن هذا النداء مرفوض شكلا ومضمونا لأنه صادر من عدو، وهذا صحيح في جانب مهم وهو أن هذه المطالبة الغربية هي نوع من محاربة الإسلام للقضاء عليه واستبداله بإسلام يرضي أمريكا.

ولكن ألا يمكن التوقف عند المناهج التعليمية فعلا، وبالتالي عند العملية التربوية المعمول بها في مؤسساتنا التعليمية في العالم العربي والإسلامي؟

قرأت كتابا فكريا للأستاذ أحمد علي الفنيش رحمه الله بعنوان (استراتيجية التربية الاستقصائية)، ينقد فيها المفاهيم التربوية الأساسية التي سادت في الماضي ومازالت تسيطر على العمل التربوي حاليا، وذلك فيما يتعلق بالممارسات التربوية التي يراها خاطئة ودور المدرس الذي يتسم بالتسلط ودور التلميذ الذي يتسم بالسلبية، ثم يتطرق إلى التصور البديل لهذه الأدوار وظاهرة التعلم والتعليم وعلاقتها بالمخ الإنساني، ويعتبر أن التربية الاستقصائية هي التصور المغاير للمنهج والأهداف التربوية الحديثة ويعتبرها البديل الذي يمثل نموذجا متكاملا.

وقرأت كتابا آخر للدكتور عبد الأمير شمس الدين بعنوان (الفكر التربوي عند ابن خلدون وابن زريق)، نقل فيه الفكر التربوي لابن خلدون، فذكر أن آراء هذا العلامة التربوية إنما تدور في فلك فلسفته العامة للتاريخ وللعمران فتتمحور حولها وتؤدي وظيفتها في إطار العمران البشري من ناحية وفي إطار الفكر الإنساني من ناحية أخرى.

يقول الدكتور عبد الأمير: ’...فإن العلوم التي هي آلات لغيرها(كالعربية والحساب والمنطق) التي لا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لغيرها، فإن كثرة الاشتغال بها يخرجها عن المقصود‘.

ويبين الكاتب أن ابن خلدون يكون بذلك قد أعطى للعلم والتعليم الدور الوظيفي الذي يؤديه في الحياة، وهذا الدور الوظيفي في الحياة يقوم بدور بنائي تكويني عن طريق اكتساب العقل الفريد وتكوين الملكة، وهو ربط بين التعليم والممارسة.
 

 

من ذلك يبدو أن إعادة النظر في المناهج والتعليم وكذلك التربية تعتبر من أسباب التطور الفكري عند الأجيال لأن هذه الأجيال هي التي تقوم بالعملية الاصلاحية وقبل ذلك هي التي تُـقعِّـد لها وتنظر.

ومن القضايا التربوية والتعليمية المطلوب التعمق فيها، وتعويد الناشئة عليها هي الجوانب المتعلقة بالنواحي الجمالية والفنية، لكي يتسنى للخيال والتصور أن يسبح في عالم الجمال وبساتين ورياض الفنون التي تسمو بالروح، فتعريف الأجيال بقيمة الكلمة من حيث جمالها وتأثيرها الموسيقي يفتح الأبواب على مصاريعها أمام الابداع وتذوقه نظما ونثرا وكتابة وحوارا.

الجاحظ وهو رأس من رؤوس المعتزلة، الذين يعتبِـرون العقل، يرى أن البيان هو فن لا يستطيعه كل إنسان، لأن البيان هو المجال الذي يترجم المعاني، وبالتالي فإن حسنه وجماله يعكس القدرة على التفكير والأداء.

ومن القضايا التي تنتج عن نبذ التسلط من قبل المربي تعليم وتربية الأجيال على نبذ التنطع والتخفف من قيود التشدد المنبوذ، ويكون ذلك باتخاذ التوسط والاعتدال منهجا للحياة العلمية والثقافية والعملية أيضا.

كما أن معرفة دور العقل واتخاذ الجدية التي تنافي التشدد، هي من الأمور المهمة في الجوانب التربوية، لأن العقلانية تجعل الإنسان يتروى ويصبر ولا يستعجل في اتخاذ القرار، وتجعله يوسع دائرة الشورى بقدر المستطاع، وبالتالي يتخذ التعاون سبيلا لحل المشكلات وتحقيق الأهداف، كما أن العقلانية بالتالي تقلص وتقلل من الاستهتار وتبعده عن حياة العمل والعطاء.

وهناك أمر يتطلب إعادة نظر ووقوف عليه بشكل عملي، ذلك هو موضوع تأهيل وتطوير المربين بما يتناسب مع الطرح المقدم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن هناك خللا في هذا الجانب، لذلك لابد من العمل على إقامة مؤسسات تأهيل تخرج أو تعيد تأهيل أو تطور المربين والمربيات والمعلمين والمعلمات الذين يقومون على العملية التربوية.

إعادة قراءة التاريخ

وهذا يعتبر من الأدوار المهمة التي ينبغي التصدي للقيام بها، وقد بدأت أصوات كثيرة من أهل المعرفة والثقافة تنادي بذلك، والمقصود بإعادة قراءة التاريخ، النظرة التحليلية في حركة التاريخ الإنساني، لأن التاريخ وأهمية دراسته من البديهيات التي لا يختلف فيها اثنان، غير أن الطريقةالتي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل هي التي ينبغي التعامل بها، وهي الطريقة التي تجعل التاريخ مادة للفكر والعمل في الوقت نفسه.

إن دراسة التاريخ تحتاج إلى الدارس المنصف الذي يتعامل من خلال التاريخ مع بشر يخطئون ويصيبون، والمنصف هو الذي يقدس ما يستحق التقديس، ويُـقـَـوِّم ما ينبغي تقويمه، فالأنبياء والرسل يجب تقديسهم من حيث أنهم أنبياء يبلغون عن الله سبحانه وتعالى، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي التعامل معه كمبلغ عن الله تعالى ويجب تقديس ذلك على أنه متعلق بجانب الرسالة، ونتعامل مع أصحابه رضي الله عنهم على أنهم بشر تشرفوا بصحبته وتعلموا منه بشكل مباشر، ولكنهم أصابوا وأخطأوا، وقد اختصر هذا الكلام الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله عندما وقف عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: ’كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر‘.

فإذا كان هذا التعامل يكون مع الرعيل الأول ممن عاشر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه من الأولى أن يكون مع من جاء من بعدهم، وبالتالي يمكن للباحث في التاريخ الإنساني أن يتعامل مع التاريخ تماما كما يتعامل مع الحياة اليومية، ففي الناحية السياسية يحلل كما يحلل واقعه المعيش سياسيا، وكذلك من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والمذهبية وغيرها.

الصحوة الإسلامية

الصحوة الإسلامية ينبغي التعامل معها بإنصاف واعتدال أيضا، لأن هذه الصحوة لها وعليها، فيها ميزات وحسنات وفيها عيوب ونقص وعثرات، ولست هنا بصدد عرضها للتحليل والمناقشة من خلال الوصف، ولكن لكي أبين أن هذه الصحوة الإسلامية تأثرت وتتأثر بالمناهج التعليمية والتربوية المعمول بها في عالمنا الإسلامي، كذلك بالمدارس الفكرية العاملة في الساحات العربية والإسلامية والدولية أيضا، وتتأثر كذلك بالمناهج الفكرية التي يضعها قادة الصحوة بمختلف اتجاهاتهم، على أن هذه المناهج قد تكون جيدة وفاعلة في جوانب منها وقد تكون مدمرة في جوانب أخرى وفي بعض منها أيضا، ولكن لا شك أن الوقوف عليها أمر مفروض على قادة هذه الصحوة، وتقويمها كذلك لا يجوز التأخر فيه.

وإن من أهم ما ينبغي التركيز عليه في هذا التقويم والوقوف هو دراسة فكرة الاصلاح والعمل على إقامة مراكز ومؤسسات البحوث التي تتعمق في هذا الموضوع الذي سيبعث الروح في جسم الأمة وكذلك الدنيا من جديد.

الفكر الإسلامي القديم والحديث

الفكر الإسلامي ليس مادة سهلة أو صغيرة يمكن جمعها بسهولة، بل إنه واسع وكبير ولا يمكن الإحاطة به من قبل أفراد، هو كذلك يحتاج إلى إقامة وبناء المراكز والمؤسسات البحثية التي تستنفر له أصحاب العقول والتخصصات ليخوضوا غمار البحث فيه.

إن الذين تعاملوا مع المدارس الفكرية المختلفة من منطلق العقيدة فقط ضيعوا على أنفسهم وعلى أمتهم وعلى العالم كله خيرات كثيرة، واختزلوا حركة الحياة في الجانب العقدي دون غيره.

هناك كثير من الناس يتعاملون مع مذاهب أهل السنة والجماعة بالتنزيه في كل كبيرة وصغيرة، وما يزيد الأمر تعقيدا هو التحيز لبعض من المذاهب داخل مذهب أهل السنة دون غيرها، ولا أعني هنا التحيز الفقهي أو ’التقليد‘.

على أن مدرسة أهل السنة هي مدرسة قدمت للدنيا خيرات كثيرة وأعطت ولكن من خلال السياسة، والناظر في التاريخ بهدوء وتمعن يرى ذلك واضحا وجليا، ولكن لا أظن أن ما تفضلت به هذه المدرسة الكبيرة يمنع من النظر في الفكر السلفي الذي يعتمد مناهج أخرى كمنهج فكر الاعتزال والفكر الشيعي وغيرهما، وهنا من المهم توضيح أنني لا أتكلم عن الجانب العقدي والعبادي، بل أتكلم عن الجوانب الأخرى، السياسية والاقتصادية والعقلية وغيرها، لأن الناحية العقدية هي أمر لا يجوز الدخول فيه أو مناقشته باختزال.

أما في ما يتعلق بالمدارس الفكرية والمذاهب الحديثة، فإن الأمر يزداد خطورة، لأن هذه المذاهب ما زالت تؤثر في حياة الناس اليوم، وهذا الأثر سيمتد إلى المستقبل القريب على الأقل، وبالتالي لابد من إخضاع كل من هذه المذاهب للدراسة والبحث بما يكفي من الإنصاف والاعتدال.

وإن ما يشجعني على ما أسلفت في هذا الموضوع هو أن الإسلام يتميز بكبر مساحة الاجتهاد والرأي فيه، وقد جاء في الأثر ’الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها‘.

إن التعامل مع المناهج التعليمية التربوية وكذلك إعادة قراءة ودراسة التاريخ الإنساني، وتقويم الواقع المعيش والفكر الإسلامي القديم والحديث، هو الذي يعالج بحيوية موضوع الحضارات وعلاقة بعضها ببعض، ومن ثم إبراز الحضارة الإسلامية والسماح لها أن تتلاقح مع الحضارات الأخرى تأثرا وتأثيرا، مع الحفاظ على ما له علاقة بالنص.

التفكير الحضاري هو الذي يعطي للاصلاح شكله الحسن وجوهره الجميل، وهو الذي يجعل الاصلاح شعارا في الحياة.

إن التفكير الحضاري هو الذي يدفع إلى الأمام ويشيع الأمن والسلام في العالم، ويتيح لكل ذي حق أن يدافع عن حقه في حدود المنطق والعقل والقانون.

إن المتأمل في الحضارة الإسلامية، والمتمعن في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده، يرى بوضوح الرقي في الأداء السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي.

فقد تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع النفوس البشرية معالجا ومشجعا، يبني ويوضح لكل دوره في الحياة، وهو الذي دعا في كل وقت إلى اللين والمرونة ونهى عن الشدة والتنطع، وميز بين ما يتعلق بالجانب العقدي والعبادي الذي يخضع للنص أمرا أو نهيا من جهة وبين الجانب العملي في واقع الحياة، فقال في الأولى: ’ خذوا عني مناسككم‘ وقال: ’صلوا كما رأيتموني أصلي‘، وقال في الثانية: ’أنتم أعلم بشؤون دنياكم‘.

وقد أكد صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى وجعله حقا لكل فرد في الأمة، ومن مرونته صلى الله عليه وسلم أنه لم يجعل صيغة معينة في التعامل بهذا المبدأ الحضاري العظيم، وهكذا كان الراشدون من بعده، ولذلك كانوا هم أعمدة البناء الحضاري على مر العصور، فقد كان عمر يتأمل في الثقافات الواردة على الأمة فيأخذ جيدها ويطوره ويحارب سيئها، وذلك كله من خلال مساحة الاجتهاد التي كما أسلفنا هي الأوسع والأرحب في الإسلام.

نقل الدكتور محمد البهي في كتابه ’الإسلام في الواقع الآيديولوجي المعاصر‘ قول المستشرق الإنجليزي جب عن الإسلام: قد انتشر _ أي الإسلام _ انتشارا سريعا في فترة لا تتجاوز قرنين ونصف قرن، وقد كان من أبرز آثار هذا الانتشار السريع الذي تكونت خلاله الحضارة الإسلامية الكاملة أنها نشأت حضارة موحدة، إذ لم تكن هناك فرصة لتأثير العناصر الإقليمية المختلفة والثقافية المتباينة، فلما انتشر الإسلام بعد ذلك لم يكن دينا ساذجا، ولكنه كان نظاما كاملا شاملا للحياة، ولذلك ترى أن اتساع رقعة العالم الإسلامي من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي لم تؤثر في وحدة الحضارة الإسلامية على غير ما تقضي به العادة‘.

الاصلاح في الواقع العربي والإسلامي

الواقع العربي والإسلامي واقع مصاب بالتخلف والعاهات الكثيرة التي تجعله مشلولا في حركته وتطوره ونموه وتأثره وتأثيره.

ومما لا شك فيه أن المشكلة ليست مشكلة عرق، لأن العرب، حتى في الجاهلية، كانوا يعرفون بالذوق الرفيع، وحسن التعامل مع المعاني وإخراج تلك المعاني في مباني هي عبارة عن كلام منثور أو منظوم.

كما أنه مما لاشك فيه أن المشكلة ليست مشكلة الدين أيضا، لأن الإسلام هو دين الحضارة والتقدم، والأمر لا يحتاج إلى إيضاح لأنه أوضح من الشمس في رابعة النهار.

والمشكلة أيضا ليست مشكلة جغرافيا أو تاريخ أو لغة، لأن هذه الأمة لديها من القوة في هذه المجالات ما يجعلها الوحيدة في الدنيا التي تجمع هذه المقومات كلها.

أين المشكلة إذًا؟

إذا تساءلنا عن أمريكا وكيف تكونت، وهي تفتقر إلى الثقافة الغنية والتاريخ الغني واللغة الغنية، لعلمنا أن الأمر يحتاج إلى تفكير، وهذا التفكير ربما قادنا إلى رأس الخيط.

كذلك لو تأملنا في الاتحاد الأوروبي، كيف بدأ وكيف تطور وكيف استمر، لربما وصلنا إلى السر، وفي ظني أن الاتحاد الأوروبي جدير بالوقوف عليه واتخاذه أنموذجا.

الاتحاد الأوروبي:

الاتحاد الأوروبي يضم تحت سقفه خمس عشرة دولة، ويعتمد خمس عشرة لغة، وثقافات مختلفة وتاريخا مليئا بالعداوات ومختلف الجذور.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى كتلتين (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي)، رأى أهل الرأي السديد أن أوروبا ستضيع في عالم يقسمها ويفتتها، فألمانيا وهي من أعظم دول أوروبا اقتصادا وسياسة قد انقسمت بعد سقوط النازية، وبريطانيا اتخذت طريقها وراء أمريكا كتابع ومعين بعد أن كانت بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، وفرنسا الديغولية وضعت في حسبانها أن أمريكا لن تسمح لها أن تكبر وتقوى، ورأت فرنسا أن ثورتها التي فتحت أبواب حضارة جديدة للعالم ستموت وستقضي عليها أمريكا، فانبرى أهل الرأي فيها وعلى رأسهم جان مونيت وروبير شومان يبحثون عن حل يحفظ الهيبة لفرنسا ويبقي لها مكان قدم في عالم السيادة، فرأوا أن سلامة عظمة فرنسا لا تكون إلا بالتعاون مع بقية دول أوروبا وعلى رأسها ألمانيا.

وبدأ التحرك في فرنسا من سؤال مفاده: ماذا عن ألمانيا؟

وكان جان مونيت، الذي اكتسب خبرة طويلة من خلال عمله في عصبة الأمم باعتباره نائب السكرتير العام، وصار رجلا صاحب نفوذ في أوروبا ومن أهل الرأي فيها، قدم خبرته بالتعاون مع فريق عمل، ووضع ورقة في أبريل 1950 وقدمها لوزير الخارجية الفرنسي روبير شومان، واقترح فيها الحل الراديكالي للخروج من الأزمة، نتج عنها الاقتراح الذي قدمه شومان في 9 مايو 1950 داعيا إلى وضع إنتاج فرنسا وألمانيا من الفحم والصلب تحت تصرف هيئة عليا في منظمة دولية تفتح عضويتها أمام الدول الأوروبية الراغبة في الانضمام، وفي 8 أبريل 1951 وقعت ست دول أوروبية على معاهدة إنشاء المجموعة، وهذه الدول هي، بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولوكسيمبورج و هولندا، وهذه المعاهدة أصبحت سارية المفعول في 25 يوليو1952.

وبالتالي كانت تلك هي النواة الأولى للاتحاد الاقتصادي الأوروبي، وقد تلاها من بعد في النشأة المجموعة الاقتصادية الأوروبية والمجموعة الأوروبية للطاقة الذرية، اللتان تم إنشاؤهما بمقتضى معاهدة روما 25 مارس 1957.

ومن خلال تدرج معين مدروس تـَكوّن في عام 1967 تنظيم للمجموعة الأوروبية يقوم على خمسة أجهزة مركزية مشتركة هي:

اللجنة Commission،

ومجلس الوزراء Council Of Ministers،

والبرلمان الأوروبي European Parliament،

ومحكمة العدل Court Of Justice،

وبنك الاستثمار الأوروبي European Investment Bank.

كما يجتمع رؤساء الحكومات الأعضاء بغرض إجراء مناقشات غير رسمية في اجتماعات قمة يطلق عليها المجلس الأوروبي European Council، إلى جانب هذه الأجهزة عدد من الأجهزة الاستشارية منها اللجنة الاستشارية لمجموعة الفحم والصلب ECSC Consultative Committee، واللجنة الاقتصادية الاجتماعية Economic And Social Committee، وهي جهاز استشاري مشترك للسوق واليوراتوم، كما أن هناك عددا ضخما من المجموعات الفنية الاستشارية يصل إلى بضع مئات، ولكن التفصيل في الهيكليات يطول.

والخلاصة أن التدرج بدأ في تطور مستمر ولم يتوقف حتى وصل إلى ما أسموه بالاتحاد الأوروبي European Union ، ويتكون الآن من خمس عشرة دولة تنتظر انضمام عشر دول أخرى، وهناك تطلعات منذ البدايات، وهذه التطلعات تكبر شيئا فشيئا، وإن الهدف الأسمى الآن هو الوصول إلى الوحدة السياسية وإقامة الولايات المتحدة الأوروبية The United States Of Europe، خصوصا من بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة أمريكا واختراعها ما يسمى بالنظام العالمي الجديد.

إن الميزة عند هؤلاء هو أنهم تعمدوا نسيان ماضيهم وتجاوز مشكلاتهم كلها بما فيها مشكلة اللغة والثقافة، وانتهجوا منهج الاصلاح ورضخوا لمتطلبات الواقع، وهو ما جعل هؤلاء جميعا يتصافحون ويضعون المواثيق والنظم لينطلقوا في هذه الحياة المليئة بالتحدي والمنافسة.

أما مشكلتنا نحن فإنها مشكلة الثقة والفكر والبعد عن منابع القوة، وأننا نساعد عدونا على تفريقنا وضربنا، لكي يبقى قويا في وسطنا ويذيقنا مرارة الهزيمة في الصباح وفي المساء.

مشكلة الصفوة:

إن أكبر مشكلة تقتلنا هي مشكلة الصفوة التي يسميها الأستاذ محمود الناكوع في أحدة كتبه بـ (أزمة النخبة في الوطن العربي)، يقول الأستاذ الناكوع: (الصفوة في هذه الجغرافيا العربية هي الصفوة العربية بكل أنواعها، وهي بالتأكيد تشمل السياسيين والعسكريين والمثقفين وتضعهم في رأس الهرم الاجتماعي.

هذه الصفوة هي المسؤولة بصورة أساسية ومباشرة عن كل الفشل والاخفاق الذي أصاب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية في الساحة العربية، وهي كذلك صاحبة الفضل في أي نجاح أو تقدم حدث على هذه الساحة).

إن الضعف الذي تعانيه أمتنا هو الذي شجع الأعداء على أن يمعنوا في ضربنا وتفريقنا وإخضاعنا لرغباتهم، ولكي يجدوا محلا للاعراب لما يسمى بإسرائيل من خلال اختراع اسم للمنطقة هو اسم (الشرق الأوسط).

غير أن المشكلة هي مشكلة السياسيين بالدرجة الأولى، فالسياسيون هم الذين تعاملوا مع شعوبهم ببطش وضربوا النخب المثقفة، وهم الذين نشروا الجهل في شعوبهم ووضعوا أنفسهم في مواضع الشبهات فاتهموا من قبل الشعوب بالخيانة والعمالة، وأكدوا في أذهان من اتهموهم نظرية المؤامرة، هذه النظرية التي زاد رسوخها في الأذهان الأمر تعقيدا ونشرت اليأس والقنوط في أوساط الناس.

وقد سبب هؤلاء الحكام في هجرة العقول إلى الغرب سعيا وراء الاحترام والتقدير والرزق وأجواء الحرية التي تساعد على الإبداع، وهو الأمر الذي فصل أصحاب العقول عن شعوبهم فحدثت الفجوة الكبيرة بين الشعوب والمثقفين، وهو بالضبط ما أراده الحكام ليتسنى لهم ممارسة الاستبداد والقهر من دون أية مواجهة أو رفض، فضلا عن القهر الذي مارسته الحكومات على المثقفين الذين لم يهاجروا بل قتلوا وسجنوا وحُجِـر عليهم، مما زاد الرهبة في قلوب الناس، وزاد من الخضوع للحكام.

في مقابل ذلك، فإن الفئات المثقفة تتحمل هي الأخرى مسؤولية ما يحدث، لأن هذه الفئة تعاملت مع الناس بتعبير الدهماء والعوام، فأبعدت نفسها عن الناس، وربما نسيت أو تناست أن الله تعالى خلق العقل للإنسان، وأطلق له العنان في التفكير والابداع.

إن المناهج المعتدلة بدءا من منهج الشورى في الإسلام والمدارس التي تدعو إلى ممارسة الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان، تعطي للإنسان كإنسان حقه في التفكير والاصلاح.

إن النخب المثقفة قد تمارس في بعض الأحيان من خلال بعض المدارس أنواعا من القهر والاستبداد الفكري على الشعوب

وما يزيد الأمر تعقيدا وسوء هو غياب الدور الحقيقي الذي كان ينبغي أن تقوم به فئة مهمة جدا من الفئات المثقفة، هي فئة المشائخ أو الدعاة إلى الله، إن هذه الفئة جانبها في كثير من الأحيان التوفيق، لأن فلسفتها قامت على تهميش الآخر، واعتبرت هذه الفئةُ أن الناس كلهم جهلاء ونادتهم بذلك، واجتهدت كثيرا في التضييق وإطلاق الفتاوى المتشددة فأرهبت الناس وأقفلت أبواب الاجتهاد من حيث لا تشعر، واعتبرت أن الاجتهاد هو التمسك بالتقليد دون غيره.

على أن هناك مجموعات من هذه الفئة اتصفت بالتوسط والاعتدال، والتيسير على الناس بقدر المستطاع، بسبب الفقه والفهم المتزن لفلسفة الاصلاح.

إن الفئات التي ضيقت قد منعت من حيث لا تدري تمتع العقل والروح بعالم الفن وعالم الذوق وعالم الابداع، ووجهت الأنظار إلى مدارس محددة في الفقه الإسلامي والعلم الشرعي، وهمشت مدارس عظيمة كان لها دور كبير في النهضة الإسلامية على مر العصور.

كيف يكون الاصلاح؟

مما سبق يمكن القول بأن الاصلاح ينبغي أن يكون بين ثلاثة أبعاد رئيسة، هي النخب السياسية والنخب المثقفة والشعوب، لأن واقعنا العربي والإسلامي يتطلب ذلك، ولأنه هناك عدو مشترك يجب الاتحاد من أجل التخلص منه وطرده ومحاربته، وهون العدو الصهيوني والمخططات الأمريكية الداعمة له.

لابد من المصالحة والتنازل، لأن الاصلاح والمصالحة، تعني تنازل كل طرف من الأطراف في سبيل الالتقاء مع الآخرين، وفي سبيل الاتحاد الذي يجعل القوة الضاربة تتجه نحو العدو المشترك.

وهذه المصالحة لابد لها من مؤسسات فاعلة تكون هي المناخ الملائم لالتقاء النخب السياسية بالنخب المثقفة وتفتح الباب أمام الشعوب لتتفاعل معها حتى لا يظلم أي فرد، ولكي تنتصر المعركة ضد التهميش والانتقاء الظالم الذي لا يستند إلا للأهواء الشخصية.

إن المؤسسات التي تقوم بهذا الدور لا يمكن أن تنزل من السماء أو أن تصنع بعيدا عن بيئة الناس، وبالتالي لابد من مراجعة أداء المؤسسات القائمة أصلا وبمختلف تخصصاتها، الاعلامية والبحثية والدبلوماسية والعلمية وغيرها.

كما أن الأمر يحتاج إلى بذل الجهود لاستعادة أو بناء عنصر الثقة الذي يعتبر من أهم العناصر الفاعلة في عمليات الاصلاح البيني.

وهناك أيضا المؤسسات الطبيعية التي تُـكـَوِّن المجتمعات في عالمنا والتي من أهمها الأسرة التي تعتبر النواة الأولى والتي تعتبر المؤسسة الأساس، ومطلوب منها القيام بالدور الصحيح في هذا الاتجاه (اتجاه الاصلاح)، وكذلك مؤسسة العائلة والقبيلة، التي لا يمكن إهمالها أو المطالبة بنحر دورها الطبيعي في المعايشة والاصلاح، وكذلك القرية الواحدة والريف والشارع والمدينة، إلى جانب كل ما في هذه المؤسسات من هيئات عاملة كالمدارس والمستشفيات ودور الرعاية وأماكن الترفيه وغيرها.

إن هذه المؤسسات والهيئات كلها لابد من إعادة النظر في دور كل منها وإصلاحها والعمل على الدفع في اتجاه تعاونها وتفاعلها ليكون بالتالي المجتمع صالحا مصلحا يجمع داخل أسواره الأنواع والفئات المختلفة من قطاعات الناس.

إن المجتمعات العربية والإسلامية إذا تلاحمت داخليا وفيما بينها ستلفظ تلقائيا كل جسم غريب وستتخلص بسهولة من الخنجر المسموم الذي يطعن الأمة في قلبها، ستتخلص من الكيان الصهيوني ومخططاته والمشاريع الداعمة له.

* أحمد الرحال : باحث ليبي في الشؤون الأروبية

 

* المصدر: مجلة أقلام أون لاين - العدد العاشر - فبراير 2004

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك