الحوار والحوارية

 

الحوار والحوارية

 

yyy

 

"الاحتجاج بالمطلق يفسد العقد الحواري الذي تتأسس عليه الجماعة البشرية"
يختلف الحوار عن النقاش والمباحثة والمجادلة والمفاوضة والمقارعة والمناطحة والمبارزة والمطارحة وذلك لكون هذه التجارب تقوم على تبادل الآراء وتسعى الى السيطرة وفرض الموقف الشخصي على الآخرين وتفضي الى النزاع وتكون سبب الاقصاء والتهميش وتهدف الى الافحام والتبكيت والسفسطة والتكفير (الاخراج من الملة) والتسفيه (الاخراج من العقل) والتخوين (الاخراج من الوطن).
في حين أن الحوار يكون قريب من المناظرة وهو فعل عقلاني هادف يظهر في شكل تعاقب جملة من الرسائل وأفعال الكلام يتم مبادلتها وتداولها بين طرفين أو أكثر ويوجهها مقصد مشترك وتلتزم بجملة من القواعد والآداب وتظافر جهود جميع الفاعلين من أجل تحقيقه. ويمكن أن نميز بين الحوار السلبي غير العاقل والذي يؤدي الى النزاع ويخضع الى التمثلات الذهنية والأحكام المسبقة والغضب والعنف والأهواء والتحيز للذات والحوار الايجابي الذي يتحرر من الأسباب المؤدية الى النزاع ويعمل على تصحيح المسار وبلوغ القصد والارتقاء بالإنسان الى مرتبة الوجود الأصيل ويتجه نحو الحق والخير والجمال ويعمل على احترام الغير وتفهم خصوصيته.
تتميز المناظرة باحترامها لجملة من القيم الأخلاقية والآداب العملية وتتقيد بالشروط المنطقية لاستعمال العقل وتتوافق مع قوانين الفكر وتطابق قواعد اللغة والاعراب وتسمي الأشياء بمسمياتها
كما يمكن أن نميز بين محاورة نقدية تسعي الى امتحان البديهيات والتثبت من صدق المسلمات وتعالج الأزمات من جذورها وتتفقد الوسائل ومحاورة بحثية ترنو الى ترويض العقل والاقناع وتحصيل المعرفة ومقاومة الجهل والتعاون على انتاج الحقيقة واضفاء المعنى على العالم والارتقاء في درجات العلم وتتدرب على التعلم الذاتي والاستفادة من التدافع والتواصل بين المتخالفين والتعايش بين المتخاصمين.
غني عن البيان أن الحوار العقلاني على الاطلاق يخلو من كل أشكال السفسطة من تجريح للشخص والاعتماد على ما يراه الناس وما جرى به العمل وأثبتت التجربة صحته وما يهواه الجمهور، ويتفادى المناقضة الجزئية والخلف المنطقي والمعارضة التامة والمحاججة على غير دليل والبرهنة باستخدام مسلمات في حاجة الى برهنة والمصادرة على المطلوب وايقاعه في الدور والحلقة المفرغة.
كما يتجنب الحوار العقلاني أيضا التغرير بالآخر وتكذيبه بغير حق واتهامه بما لا يتصف به في الواقع والابتعاد عن استمالته بالعاطفة والتأثير عليه بالاسترحام أو بالتخويف، ويتفادى السخرية منه واغاظته واستغلال جهله وعدم مواكبته وقلة اطلاعه وعدم تقيده بالتقاليد وعدم احترامه للموروث وقلة حداثته وتخلفه عن الركب. يفيد الحوار العقلاني في التشارك على اظهار الصواب ومنع الناس من الوقوع في الغلط واكتساب المنافع بالتعاون وتوظيف الاتفاق في رفع أشكال الالتباس والتفاهم في المجتمع.
اذا كان افلاطون اتخذ من المحاورة فنا للكتابة الفلسفية وجعل اللوغوس هو المأدبة التي يجلس في رحابها الضيوف ويتبادلون الحديث واذا كان ديكارت قد أجرى الحوار بين الذات وموروثها ومعارفها عبر آلية الشك واذا كان كانط قد حدد مهمة العقل في تنظيم همل مختلف الملكات وأتاح الفرصة للذهن والخيال والحواس أن تتحاور بحرية من أجل بلوغ المعرفة واذا كان هيجل قد تصور تاريخا من المناظرات الجدلية التي تتحاور فيها الأنساق الفلسفية عبر آلية الاستيعاب والتجاوز وتصل فيها الى المعرفة المطلقة واذا كان كاسرر أقام الحوار المتكافئ بين مختلف الأنظمة الرمزية وهي الأسطورة والسحر والدين والفن واللغة والتاريخ والعلم والفلسفة والتقنية فإن بول ريكور حاول أن يجري الحوار بين الأديان والتفاهم بين الثقافات والمصالحة بين الهويات ضمن اعتراف متبادل بالمساهمة المتساوية في صناعة الكونية .
ان الحوارية هي لغة متداولة في شكل حوار وتعني اتحاد بين منطقين ومبدأين دون أن تكون الثنائية قد انصهرت وذابت في الوحدة، كما تفيد أيضا التفاعل الذي يحصل بين خطاب الذي ينتجه الباث والخطابات الموجودة في الخارج عند المتلقي ومختلف أشكال الخطاب التي ينتجها الغير، ولذلك يكون مفهوم الحوارية قريبا من مفهوم التناص عند باختين ولكن عند أدغار موران ليست الحوارية هي المفهوم الحل لمشكل العلاقة بين الأنا والآخر أو للصلة بين الذات والعالم فقط بل هو المنهج الذي يساعدنا على التفكير في الواقع لامتناهي التعقيد. زد على ذلك تستعمل الحوارية في فهم التجربة الدينية التي تقوم على تواصل حقيقي بين عنصرين متباعدين هما الأبدي والزمني حيث تجري مناظرة روحية بين المطلق والتاريخي.
ان الحوراية تكشف عن الوجه الحي للغة يعبر عنه الكلام الى جانب وجهها المادي الذي يتجسد في نسق العلامات والرموز ، وتبرهن أيضا على ضرورة مرور الكلام البشري بالمحيط الثقافي وأشياء الحياة اليومية وتأثره بكل ما قاله الناس قبله في نفس الموضوع. وتعبر الحوارية عن تعدد الصوات السردية في النص الواحد ويتحول الخطاب الى تجربة شعرية حية ويمكن للحوارية ان تقوم على العنصر الهزلي المضحك أو على الطريقة التهكمية الساخرة ويمكن ان تعتمد الأسلوب الرسمي للمحاضر أو أسلوب التحقيق والتدقيق الذي يعتمده المفتش في البحث، زيادة على أسلوب السيرة الذاتية والحكي عن الذات. أصبحت دراسة الحوار تجري عند تقاطع السيمياء السردية ولسانية القول وتجمع بين البحث في اللغة كفعل في الاستعمال الحقيقي والجدي والاشتغال عليها بوصفها لعب في الاستعمال الوهمي والهزلي.
عندئذ يقوم الحوار على تمثيل للتبادل الشفهي ويفترض عرض كلام الشخصيات ويستوجب عدة عناصر:
أولها الاتصال بين المرسل والمرسل اليه عن طريق رسالة يحملها وسيط أو قناة وتكون مشفرة وتتطلب القراءة والفهم، ثم يتميز الحوار بالمحادثة وهي تجربة تتميز بالارتجال والطابع المجاني وتغيب القواعد الرسمية ويحضر الترسل في الكلام ووفرة التعبير وفيض الخاطر وتدفق المشاعر في الكلمات، ثالثا هي المناظرة وتقوم بين طرفين يسلم وجود ندية بينهما ويشاركان وفق ضوابط ويحترمان جملة من الآداب ويسعيان الى ايجاد تفاهم متبادل وعبر التكافئ في الكلام والاستماع وتصحيح الأخطاء والبحث عن الجيد من الحكم والسديد من الرأي والحقيقي من الموقف. اذا كان الحوار المسرحي الذي يخضع لجملة من المشاهد المتتالية والمترابطة ويكون مباشرا ومسموعا ويعتمد على حركات الممثلين واشاراتهم بينما الحوار الروائي هو محصور في اللغة ويخضع للسرد ويتكيف لبناه ويتحول بالحبكة ويخضع للمحاكاة ويعتمد التلميح والتورية والاقتصاد والقراءة.
ان الأسلوب الذي يعتمده الحوار الروائي هو اعادة انتاج الكلام وذلك باعادة انتاج الوضع والاتجاه بالخطاب من المخاطب الى المخاطب والتركيز على نغمية التصوية وشدة النبرة واحداث انقطاعات في الصوت وتحسين هيئة المتكلم وتجويد تقنيات انتاج الكلام واخراجه والمراوحة بين الوصف والسرد وذلك بإنشاء أنواع سردية مبنية على هيمنة وجه من وجوه شخصيات القص.ان كلام السارد ومعارفه تتميز عن النص العادي، الذي ينتجه شخص واحد يتحدث فيه الى نفسه فقط، وذلك بتعدد المراجع والشخصيات وأشكال استعمال اللغة وفنون الخطاب وبكلام الآخرين أيضا.
ينبغي أن تكون أيضا لغة الحوار واضحة ومتزنة ومحترمة للهجتها وفصيحة والابتعاد على التصنع والتكلف والحرص على الانسجام مع لغة المستمعين والبيئة الاجتماعية والثقافية التي يتنزل فيها الخطاب.
ان الغاية من الحوار العقلاني هي انهاض الأنفس نحو العمل في المجتمع والفعل في التاريخ والممارسة في الواقع وليس ترشيد العقول نحو بلوغ الحقيقة وتحصيل المعرفة وادراك القيمة وامتلاك المعيار واقتفاء الدليل وامتلاك الحجة وقهر الخصم. يخلص الحوار الناس من التكرار والجمود ومن استعمال القوالب اللغوية الفارغة ويقوي اللحمة والانسجام والتعاطف بين المتحاورين ويخلق الاحتكاك بين الحضارات والتفاعل بين الثقافات والمثاقفة بين الذوات ويصقل الشخصية وينمي لديها المهارات ويفجر الطاقات الابداعية ويكتشف المواهب والامكانيات ويغذي روح البذل والمثابرة ويعيد الصلة بين الذات والماضي ويقوي درجة نقده والمامها بالحاضر ويساعدها على الاستشراف وافتراض ماهو قادم.
ان ماهو مدار نظر الحوار وما تراهن عليه الحوارية هو الاعتماد على النسبي والزمني والممكن في الحجاج حتى يتم التخلص من الدوغمائيات وتستقر العلاقة بين الناس ويسودها التسامح والتفاهم.
لكن أليس " كما تنظر بينك وبين نفسك، تنظر بينك وبين خصمك"؟ وهل يكفي الحوار والحوارية لكي يتمكن المتحاورين من تصحيح الأخطاء وبلوغ الحقيقة؟
كاتب فلسفي

المصدر: http://ebn-khaldoun.com/article_details.php?article=661

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك