حوار الطرشان ومناظرة الأشباح

حوار الطرشان ومناظرة الأشباح

  (أخي لو أعدت قراءة كلامي وقراءة كلامك ستجدنا متفقين تماما) جملة ختمت بها حوار طويل حول مبدأ فصل الدين عن السياسة ، وبكلمات مشابهة ختمت عدة حوارات حول الليبرالية وتطبيق الشريعة ، وأراها نهاية مناسبة لمعظم نقاشات المصريين ومناظراتهم حاليا ، إخوتي ، إننا لا نسمع ولا نقرأ ، إننا فقط نتحدث ، فقل لي بالله عليك ما الفرق بين من يقول أن علينا تطبيق الشريعة والتي تعني الالتزام بقوانين الإسلام وتشريعاته من تنفيذ للواجب وامتناع عن الحرام ، وأما ما سكت عنه الشرع فحكمه الإباحة ونحن أعلم فيه بشئون دنيانا ، وبين الذي يقول أن علينا تطبيق الليبرالية (أو غيرها) كمنظومة اجتماعية واقتصادية وسياسية بما لا يخالف الشريعة أي بما لا يؤدي إلى الإخلال بواجب شرعي أو ارتكاب محرم ؟ هل هناك فرق على الأرض؟ بل هل هناك فرق بينهما وبين المسيحي الذي يوافق على بقاء المادة الثانية من الدستور كما هي ؟ إذن فلماذا تتناحرون؟ ولماذا تضيعون نصف أوقاتهم في حوار محسوم من الوهلة الأولى لو كنتم تفقهون؟ ولماذا نضيع أوقاتنا في هذه النقاشات التي يطيب لي أن أسميها بـ (النقاشات الصفرية) لأن 1-1 = 0،،  إنني وبعد تأمل عميق أرى أن جانب كبير من هذا الصدام الفكري الرهيب الحاصل في المجتمع بين التيارات والأفراد هو محض أوهام وأن أسباب هذا الصدام الوهمي في وجهة نظري تتلخص فيما يلي.
 
أولا: التعصب للمصطلحات
      إنك إن بحثت في الشعب المصري بكافة أطيافه ، لن تجد منهم من يؤمن بالعلمانية بمعناها الذي وضعه مخترعوها في أوربا إلا قليلا ، ولن تجد منهم من يؤمن بالليبرالية بمعناها الغربي إلا قليلا ، وستجد أن حتى هؤلاء القلة معظمهم لا يملك الجرأة على أن يجهر برغبته في تطبيق المفهوم الغربي للعلمانية والليبرالية حتى لا يخسر الأغلبية المصرية التي سترفض دعمه وتأييده، إذن فكثير من الليبراليين - على سبيل المثال - عندما يطالبون بتطبيق الليبرالية هم في الحقيقة يطالبون بليبرالية مختلفة عن المفهوم الأصلي وقد ظهر ذلك في مقال للدكتور معتز بالله عبد الفتاح ( هل مصر بحاجة إلى العلمانية؟) عندما أكد في نهاية المقال أننا بحاجة إلى الليبرالية والديموقراطية (بالمعنى الوارد في هذا المقال) لأنه يدرك جيدا أن المعنى الذي يريده هو لا يتطابق مع المعنى الأصلي المعروف عن الليبرالية والديموقراطية ، إذن فلماذا يتمسك كثير من الليبراليين وغيرهم بالمصطلح طالما أنه يخالف كثير من معتقداتهم؟ ولماذا ينقمون على هذا الإسلامي الذي يهاجم الليبرالية بمفهومها الغربي طالما أن صديقنا الليبرالي نفسه يرفض هذا المفهوم ؟ إن الذي يأتي لمناظرة أو حوار لا يملك القدرة على البحث في نوايا محاوره ، إنما يسمع انتماءه ويناقشه على أساس "المصطلح المتعارف عليه" عن هذا الانتماء، فإذا تقدم شاب لخطبة فتاة مسلمة وأخبر لوالدها بأنه "مسيحي" وبالتالي رفض الأب لمخالفة ذلك للشرع فليس من المنطقي أن يتهم الشاب الأب بالغباء والجهل لأنه لم يفهم أنه يقصد بـ "مسيحي" أنه مسلم مؤمن بالمسيح ككافة المسلمين !!
ثانيا: مناظرة الأشباح
    ينتابني مزيج من مشاعر الحزن والغضب والرغبة في الضحك عندما أدخل في نقاش مع أي أحد – لاسيما إن كان صديقي ويعرفني جيدا – حول مسألة تطبيق الشريعة وأفاجأ في منتصف الحوار بعبارات من قبيل ( نحن لن نقبل الدولة الدينية )  (لا نريد حاكم يعاملنا على أنه ظل الله في الأرض) (لن نقبل بتعذيب واضطهاد الأقباط) ، أنظر حينها حولي وأتساءل ، مع من يتحدث هذا المسكين؟! ولماذا يهاجمنني كأنني أطالب بهذا الكلام الفارغ؟! إن هذا المحاور اختلق شبحا وحاربه ، وانهمك في قتاله فلم يسمع قولي ولم يفهم مطالبي ، فجاءت ردوده على هذا النحو العجيب ، فإذا كان البعض ينتقد الإسلاميين لأنهم يتعاملون ويناقشون الليبراليين وفق التعريف الأصلي الغربي لليبرالية دون أن يأخذوا في الاعتبار تعديلات الليبراليين المصريين ومراجعاتهم ، فياليت الليبراليون والعلمانيون يتعاملون مع المطالبين بتطبيق الشريعة وفق التعريف الأصلي للشريعة وأحكامها ، فليذكر لي أحد أين الآية أو الحديث الذي يجعل من الحاكم ظلا لله في الأرض؟ وأين أحكام الإسلام هذه التي تدعو للتعذيب والاضطهاد؟ والعجيب أن البعض ينادي لا نريد دولة كالتي عذب فيها الإمام أحمد بن حنبل والإمام مالك ، ويحتجون بذلك على رفض تطبيق الشريعة ، وكأن الذين عذبوا هؤلاء الأئمة عذبوهم وفقا للشريعة !! ويتناسى هؤلاء المنادون أن هذه القصص إنما هي دليل على أن الشريعة لا تكفل الحماية للحاكم من النقد والمعارضة ولا تمنحه قدسية ولا عصمة ، والدليل أن هؤلاء الأئمة – مع علمهم بالشريعة والفقه – رأوا أن الدين يلزمهم بالوقوف في وجه الظلم وخطأ السلطان جهارا نهارا وإن كلفهم ذلك حياتهم ، وبالتالي فالشريعة تقف في وجه الفرعون وتكبل يديه فكيف تتهم بأنها تصنعه؟، إنما يصنع الفرعون قومه ، وقد صنع المصريون أقوى الفراعين قبل الإسلام وبعد أن تخلوا عن تطبيق الإسلام وما مبارك عنا ببعيد ، ومن هنا أيضا أطالب الإسلاميين بأن يناظروا الرجل الذي يجلس أمامهم ، ولا يناظروا التصور الذهني والشبح المتكون من دخان أزمة التعريفات التي نعيشها.
 
التفصيل هو الحل
  من هنا نصل أننا نعاني من أزمة كبيرة في التعريفات أدت إلى حوار غير واقعي وبالتالي خلاف أغلبه وهمي ، لذا فأنا أرى أن ننحي كل المصطلحات جانبا تحت شعار (انسف تعريفك القديم ) ولنبدأ الحوار من جديد على بياض وصفاء ، وكما قيل انصف أذنيك من لسانك فأنت لك أذنين ولسان واحد لتسمع أكثر مما تتكلم ، فلنبدأ حوارا بلا مصطلحات أو أشباح ، ونجعل حديثـنا دوما عن المضمون والتفاصيل ، وهذه نصيحة أوجهها للأحزاب ولمرشحي الرئاسة ومرشحي مجلسي الشعب والشورى ، لا تقل أنا حزب أو مرشح ليبرالي سأطبق قواعد الدولة المدنية ، ولكن قل أنا أعتقد في كذا وكذا وسأطبق قواعد الدولة المدنية التي هي كذا وكذا بالتفصيل الممل ، ولا تقل أنني سأطبق الإسلام ، ولكن قل أنا سأطبق قواعد الإسلام التي هي في الاقتصاد كذا وفي السياسة كذا وفي الاجتماع كذا وكذا، التفصيل هو الحل وهو الطريق الذي يساعدنا على التمييز ، فلا نظلم شريفا بسبب مصطلح سيء السمعة ، ولا نرفع وضيعا بسبب مصطلح عظيم ، ولا نضيع وطنا بسبب خلاف عقيم.
للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
مدونة الكاتب
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك