تديّن الربيع الجاف
تديّن الربيع الجاف
بقلم د. عبد الرزاق المؤنس
في العالم العربي وفي العالم الإسلامي من أدنى مشرقه إلى أقصى مغربه وخصوصاً الدول الناتئة بصورة أو بأخرى كما رأينا في دول عربية ظهرت موجة تديّن مبرمجة بانفعالات متسرعة التهبت فيها عواطف التديّن واستغلت بصورة مصلحية غير صالحة قداسة القرآن والسنة المطهرة، وقد طمأن الذين تستّروا وراء شاشات هذه الموجة وأسعدهم- وهم فيها المثيرون المؤثرون- أنها انفعلت واضطربت على بحر الشعوب العربية أو أكثرها من غير ميزان العقل، وأنها لم تتوافق مع ثقافات المرحليات النفسية والاجتماعية، ولم تعتَبِر بالأمثلة التاريخية الجلية في هذه الأمة، وأنها أضاعت أعظم معيار ووسطية تتزن بها عندما تغيّبت عن أخطر مقدمة تأتمّ بها ألا وهي الحكمة، فإن من أوتي الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً، وإنه في جهالة الحكمة سقطت دعوات قد خسرت ما لا يحصى من النفوس والأموال والجهود!!، ومما يلفت الاهتمام أن أكثر المشاركين في هذه الموجة التديّنية الربيعية الجافة هم من الشباب، وإن كانت معهم جموع ممّن تجاوزوا تلك المرحلة، وقد يلاحظ المتأمل أن هذا التديّن لم يتوقف عند حد الممارسة الشخصية- هذا إن وُجدت أو صحت!- لتعاليم الإسلام ومبادئه وشعائره وإنما تجاوز ذلك خارج إطار الممارسة الشخصية الذاتية إلى ميدان توهم الإصلاح العام، والتطوع تنطعاً نحو تسخين إثارة التأثير للأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر، وهو خروج ينقلهم من حالة الممارسة الفردية إلى حالة العمل الاجتماعي العام حيث تجاوز خروجهم هذا مجرد النصح والتصويب والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة إلى محاولة التدخل المباشر في سلوك الآخرين حتى وصل الأمر به إلى مظهر حاد لا رفق فيه، ووصل إلى حد محاولة الإكراه على السلوك الذي يؤمن به الدعاة في أشكالهم وفي غلظتهم وعنفهم كذلك التدخل المباشر لمنع السلوك الذي لا يرضون عنه، وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى الاصطدام مع حرية الآخرين، وهي في الحقيقة حرية يحفظها ويرعاها ويحترمها الدين الإسلامي لا ذلك التديّن الجاف المتغلّظ، مما أدى أمام هذه الطروحات والشطحات في أولئك الدعاة المزعومين إلى أن تكون الدولة مدعوة بأجهزتها المختلفة لفضِّ هذا الاشتباك الأهلي بين أصحاب الدعوة الدينية المصطبغة بهم وبين سائر أفراد المجتمع، ثم تطور انفعال تلك الموجة التدينية المتغلظة لتفصح عن مآرب أخرى، وأخطرها تلك التي تلعب أوراقها جهات خارجية استكبارية صهيونية أوروبية وأميركية وتحتضنها دول عربية معروفة أعرابية قد اتخذت من مسمّى الدين والغيرة على الإسلام شواهد في ألوانها وتماثيلها الشخصية تدغدغ بها الغالبية الشعبية لبسطاء المسلمين ولسطوح المتدينين التقليديين ساعدهم على ذلك الكسل والتكاسل لدى الكثير من المسلمين ومنهم دعاة أيضاً في فهم الإسلام وفقهيات الدين مع الخمول في المطالعات الثقافية الواعية، وغياب الإيقاظ العلمي الفطري المتأهل في صاحبه ثم انصرافهم إلى كثير من اللهو وتحريض الشهوات وإلى الاستعجال في تحصيل رغبات الثروات والنتائج في أي عمل أو إنجاز من غير أن يُحكموا الاضطلاع بالواجبات ولا أن يتخلصوا من حظوظ النفس والرعونات التي كثرت وانتشرت في أكثر قطاعات الأمة العربية والإسلامية الخاصة والعامة حتى أدى ذلك بأولئك الدعاة إلى التحولات الوهمية التي جعلتهم يتراؤون حلماً لا تتوفر حقائقه ولا شواهده اليوم أمام واقع المسلمين والعرب ولا تتوفر له في واقع المجتمعات العربية والإسلامية ولا في أيّ زاوية من زواياها روافد لما تتحمله القدرات والطاقات المطلوبة لتحقيق ذلك الحلم ألا وهو النظام الإسلامي الذي كانت تمثله من قبلُ الخلافات الراشدة وخلفاؤها الراشدون العظماء!.. بل قد سئل أحد السلاطين أو الملوك وقد كان له حزم وشدة في بعض أنظمة رعايته وحكمه وقد أزعج ذلك المعنيين فقيل له: لمَ لا تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب؟! فأجابهم: ولم لا تكونون مثل رعية الخليفة عمر بن الخطاب؟!، ومن هنا فقد قفز اليوم في سحابات الربيع العربي التديّني الجاف من تنطعوا عن سذاجة أو عن خبث أو عن استئجار خارجي للتصدي لنقد النظم السياسية والاجتماعية القائمة انطلاقاً من تصور إسلامي لما ينبغي أن تكون عليه تلك النظم، وهم بهذا النقد قد أفسحوا لدخول أو لتدخل روافد عدة من روافد التيار الإسلامي دائرة (المعارضة السياسية) وإن كانت معارضة غير منظمة، والحق إن هذا المسلك لا خطر فيه ولا ضرر منه ما دام النقد يتم في إطار النظام القانوني القائم ولا يتجاوز الاعتراض عن طريق البيان إلى الدعوة الصريحة لهدم النظام أو إلى إصدار أحكام إدانة دينية له تصل إلى حدِّ تكفيره أو الحكم بجاهليته ودعوة الناس إلى الخروج عليه، إذ إن الأمر هنا يتجاوز ما تأذنُ به الدساتير والنظم القانونية من ممارسة حرية التعبير وحق النقد السياسي ليصل ضرره من ثم إلى تهديد الأمن العام بخطر حقيقي، وإلى حال قد ترى الدولة ألّا تسكت عليه حتى لا يتحول إلى خروج كامل على القانون عبر حُجج جوفاء ومسوّغات تلامس انعطافات نفوس لأشياء من عامة الناس عن عاطفة لم تحكمها حقوق العقل ولم تضبط وعيها محكمات العلم والثقافة وذكاء التفكير هي في حقيقة الرأي الصائب ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب فضلاً عن رفض تشريع الفقه الإسلامي الحكيم وعلوم أصوله لها، ومسلك الدولة هنا مسلك مفهوم ومألوف، إذ قد استقر الرأي في كثير من النظم القانونية على أن حرية التعبير تجد حداً من حدودها فيما يتهدد الأمن العام بسببها من خطر واضح وقائم، وهذا المعيار معيار عام يتحدد به نطاق حرية التعبير في مواجهة التيارات الفكرية والسياسية المختلفة سواء كانت منابعها الفكرية والاعتقادية دينية أو غير دينية.
المصدر: http://www.alazmenah.com/?page=show_det&category_id=9&id=42345&lang=ar