تصحّر الربيع المتأسْلم
تصحّر الربيع المتأسْلم
بقلم د. عبد الرزاق المؤنس
إذا صلحت القلوب وطابت صلحت النفوس، وتهذبت الطبائع، واستقامت الأعضاء والجوارح، واعتدلت الفعائل وحسنت التصرفات، وشاعت الرحمة والتراحم، وعظمت الكرامة الإنسانية، وحفظت الأرواح، ونشطت مناهج الجهاد في سبيل روعة الحياة الطيبة الكريمة، ومن ثم انتفى تهريج الجهاد في سبيل القتل والموت، وتورّع هؤلاء المهرجون عندئذ عن تلبيس هذا الجهاد بما لا يصح له عندما يزعمون أنه في سبيل الله! ظلماً وزوراً من عند أنفسهم أو من عند الذين استعبدوهم من حيث يعلمون أو من حيث لا يعلمون!..؟ فإن الله تعالى قد قال: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وكذلك يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..)؛ مساكين كثير من المسلمين اليوم وقد انقلبوا بغفلتهم عن ثقافة قرآنهم وبتقاعسهم عن فقه تشريع الله تعالى لهم إلى متأسلمين لا يوثق بمواقفهم ولا بالتدين الجاف الذين يلبسونه في مظاهرهم أو في بعض مؤشرات وعظياتهم مع أن دعوة القرآن لهم ودعوة صاحب الخلق العظيم المرسل رحمة للعالمين رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم إنما هي دعوة إلى إحكام نظام الحياة وإلى تحريض روحها في كل شيء من شؤون الكون والإنسانية والمجتمعات والعلوم والأخلاق وفي الانتهاض في مشاريع الحضارة العظمى التي تتقن بدقة كل جزئية من جزئيات العلوم كافة في الأرض وفي السماء، ومن ثم تؤكد على تصبّغها بصبغة الرحمة الإنسانية العامة لتحقيق حسنة الحياة الدنيا، وأنه لن يكون لأي إنسان في الآخرة حسنة إذا لم يقم بواجب تحقيق حسنة الحياة الدنيا في نفسه وأهله ومجتمعه وفي الناس أجمعين، ثم لن تتوثق عرى الوفاء للوطنية في أي مجتمع إقليمي على نطاق الوطن إذا لم يكن المواطن الإنسان وفياً للوطن الذي ينتسب إليه لا يؤذيه ولا يستبدل به وطناً آخر هروباً من المسؤولية، أو شهوة في جشع مالي أو في ظهور أرعن يدل على خزي في الحكمة وعلى سُكر في التعقل، ولو فتشنا في مفردات كل ما سبق من تلك السقطات ولو اصطبغت بتديّن أو بزعم غيرة وطنية أو بنصرة جهادية عمياء لوجدنا أنها معطيات طبيعية ونتائج حقيقية لقلوب فسدت ولنفوس خبثت ولغفلة خطيرة قاسية عن ذكر الله تعالى وما ينهضه هذا الذكر وينشطه من الطمأنينة التي تبعث الأمان في صاحبها وفي الحياة والمجتمعات حوله، وهذا هو لب المشكلة وعُمدتها وواسطة عقدها، إذ إنه كما تعلمون: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، فهل كان ذلك إذن نافعاً في الحياة الدنيا ثم أصبح غير نافع في يوم القيامة؟ أم إن هناك معادلات ذات مفاهيم أخرى؟!
إن من ألطف ما يفهم في ذلك هو أن معادلات هذه القضية لم تقيد تناول شؤون المال والبنين في حدود وتضييقات، فهذا ليس شأناً كغيره من ظواهر إباحات الحياة الدنيا يتدخل المنهج التشريعي الإسلامي في شؤون تناوله أو التصرف بأرقامه وتفاصيله ما دام يصب في مصلحة قوة المجتمع، الإيماني ويعزز كرامة الاستقلال الاقتصادي والحضاري على مستوى الأفراد ومستوى المجتمع والوطن، ولكن الشأن في هذه المعادلات أن لا تتدخل فيها النوايا المنبعثة من قلوب متصحرة قاسية فاسدة ونفاقية أو كافرة، فعندئذ تتحول كل هذه النعم والخيرات إلى وسائل حربية ليست من نوع المفجرات والدمار على الناس والمرافق ولكن ستكون أخطر وستجلب معها من منطلق تلك القلوب الخبيثة غير السليمة خراباً وفساداً ودماراً ومنه الدمار الحربي المعروف على كل قدرات المجتمع والوطن، وسيعم الجشع والانتهازيات وستزول الرحمة والتراحم، وسيتصدر على جاهات المسؤوليات في الوطن والحياة والمجتمعات أشخاص سيتاجرون وهم ينافقون إما باسم الدين أو باسم المصلحة الوطنية أو لإرضاء فرد أو فئة ما، ومن هذه الاستكباريات والمفردات الشاذة تصبح الفرص متاحة بوضوح للفساد ولإضعاف الوطن والمجتمع، ونتيجة طبيعية لتلك المعادلات الكفرية في قلبها وضميرها، وهذا بطبيعته ينشر الخراب والفساد ويغلق مسالك الإصلاح والنصيحة، ويُفقد الوطن والمجتمع مناعته ورشده بفعائل أولئك المتأسلمين أو المتملّقين المتمسّحين بالغيرة عليه ثرثرة ولعباً بالكلمات وهم يحق أن يحيق بمكاسبهم ومساعيهم الآثمة ذلك المقت والبؤس: (.. لمَ تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، وإن التضحية الصحيحة المخلصة لمصالح الناس والوطن إنما تبدأ- كما هو المعقول وكما هي الواجبات- من الذين يحملون أمانات الوطن والناس، فيعطون ويصلحون ويعملون ويتحملون ويتأرّقون هموماً وغيرة قبل المؤتمنين عليهم، ولكن هذا لمن؟ وعند من؟! إنه كما نزل: (ذلك لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد)، إنه القلب السليم الطاهر الذي يصدق مع إمامه ورئيسه ونظامه الوطني، ويزهد في الدنيا ليحبه الله، ويزهد فيما في أيدي الناس ليحبه الناس، لأن من كان له هذا القلب السليم الرباني الطاهر يفهم يقيناً أن عزته بالله وأن غناه بالله وأن أمنه وأمانته ورضاه لا يحقق ذلك إلا قوة ثقته بالله، فإذا اطمأن إلى الكرائم العظيمة وهبه الله تعالى ووهب الوطن والمجتمع تلك الطمأنينة العزيزة: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) أي ويطمئن الوطن والمجتمع بمختلف أطيافه ومذاهبه ومراتبه، ومن ثم تحفظ قدراته في المال والاقتصاد والصناعة والعلوم والاجتماعيات وفي شعائر الإيمانيات وفي سياساته وفي أمنه، ويجعل الله تعالى له مهابة تقهر قلوب أعدائه والمتآمرين عليه، فإن من صدق مع ربه حقاً وأعطى ذلك حقوقه فقد صدق مع وطنه وأهله ووظيفته وتجاراته و..، كما قال الصادق المصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) وإن الوطن هو جسد أبنائه، أما قلبه فهم المؤتمنون على مفاصله ومفاتيحه، ولا والله ليس الخطر في تصحر الأرض والتربة ولكن أعظم الخطر في تصحر القلوب والنفوس كما جاء فيمن أعرض عن ربه وعن الهدى والرحمة: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا ... تعملون)، بل إن مفاهيم تلك المعادلات لتختصرها تلك الآية البصيرة الواضحة: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا..) نسأل الله تعالى السلامة لنا وللوطن وللحاضر والمستقبل..
المصدر: http://www.alazmenah.com/?page=show_det&category_id=9&id=42657&lang=ar