الإدارة في العمل الإسلامي

الإدارة في العمل الإسلامي

 

طريف السيد عيسى

 

تاريخ طويل وواقع فقير

الإدارة في الإسلام هي التي توجّه الجهد البشري، وتُنظّمه ليؤدّي أعلى إنتاج في سبيل الله، في أقصر وقت، وعلى أعلى درجة من الإتقان، وهي التي تُحدّد المسؤوليات والصلاحيات؛ ليعرف المسلم حدوده فيقف عندها (رحم الله امرأ عرف قدره فوقف عنده)، ويعرف مسؤوليّاته فيبادر إليها بحوافزه الإيمانية.

وأخطر عيوب المسلمين اليوم تكمن في الواقع الإداري، حيث اختلطت الإدارة بالأهواء الفردية المتصارعة، والمصالح المتضاربة والعصبيات الجاهلية، حتى لم يعد هناك رقيب ذاتي، ولا حوافز إيمانية تدفع المسلم إلى الوفاء بعهده مع الله؛ فالمسلم حين يعمل مع شركة أجنبية لها نظامها وإدارتها الحازمة، نجده ينضبط كلَّ الانضباط، بينما لو كُلّف بأي عمل في ميدان العمل الإسلامي، في ظل إدارة غير حازمة، فإنك تجده يتأخر ساعة أو ساعتين، ولو سألته عن سبب التأخر لساق لك ألف عذر وعذر ليبرر إهماله وتقصيره. إنه الواقع المتكرر في حياة المسلمين، حتى بدا أن حوافز الدنيا هي التي تُحرّك معظم المسلمين اليوم، بمعزل عن الحوافز الإيمانية، إلاّ من رحم ربّك.

الدعوة والإدارة :

ولا يدرك البعض أن الإدارة هي ميدان أساسي من ميادين الدعوة الإسلامية، حيث تدخل الإدارة في كلّ نشاط أو عمل, سواءً في الدعوة إلى الله ورسوله، أو في التربية والبناء، وفي سائر الميادين، وفي جميع حياة المسلمين، وخير مثال على ذلك ماليزيا وتجربتها الرائدة, تلك الدولة التي كانت تشكو من الفقر والتخلف, فقيّض الله لها شخصيتين أحسنتا الإدارة والتفكير والتطبيق والتنفيذ, هما: رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد وإبراهيم أنور؛ فقد أمسكا زمام الأمور، وصنعا بلداً صناعياً وشعباً جاداً يصنع كل شيء، وتمكنا بذكائهما وحنكتهما من نقل التقنية المتقدمة في اليابان وأوروبا وأمريكا إلى بلادهما، وإعادة بيعها في كل مكان بجودة وأسعار منافسة.

وعندما نتحدث عن الإدارة فلابد من ضرورة التنويه لقضية مهمة، وهي أنه لا يمكن التسليم المطلق لعلم الإدارة وما يتضمنه من نظريات وقواعد؛ فنحن كمسلمين لنا قيمنا التي يفتقدها الغرب, وهذه القيم تلعب دوراً مهماً في عملية الإدارة, وتُعدّ مرتكز التقدم والإنجاز في مجالات العمل المختلفة؛ فالعمل لابد أن تسود فيه قيم الإتقان والالتزام والانضباط والأمانة والصدق ومراقبة الله, وقبل ذلك تقدير قيمة العمل ذاته، واحترام العاملين، وتقدير قيمة الوقت، وتقدير المبدعين والمتميزين، وحب الطموح والتعاون والمبادرة والتحدي.

فليست المعارف أو المهارات وحدها هي الموجه الأول في الإدارة والعمل، على الرغم من إنها مطلب، ولكن القيم تأتي في الدرجة الأولى من الموجهات؛ لأنها تؤثر على المعارف والمهارات وعلى مدى فاعليتها، ذلك أنه عندما تسود القيم الإسلامية في الإدارة والعمل فإنها تنظم سلوكيات الأفراد، وتشعر كل فرد منهم بأهمية عمله، مما ينعكس على سلوكه وتصرفاته، كما أن ذلك يساعد العاملين على تكوين وفهم وتطبيق ثقافتهم الإسلامية الشاملة، والنجاح في حياتهم العملية، والسعادة في الدنيا والآخرة.

العمل المؤسسي :

ويفقد العمل الإداري جدواه إذا انعدمت فيه روح العمل المؤسسي الجماعي, وعليه فلا بد من مراجعة أساليب العمل الإداري الدعوي المستخدمة اليوم, كما أنه من الضروري العناية بأسلوب العمل المؤسسي المحكم، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير الأفراد.

والعمل المؤسسي هو: كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل، لبلوغ أهداف محددة؛ إذ يتم توزيع العمل على فرق عمل وإدارات متخصصة حسب حاجة العمل, بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرار في دائرة اختصاصها.

وليس المراد بالعمل المؤسسي هو العمل الجماعي المقابل للعمل الفردي؛ إذ إن مجرد التجمع على العمل، وممارسته من خلال مجلس إدارة، أو جمعية أو مؤسسة لا يجعله مؤسسياً؛ فكثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي لها لوائح ومجالس وجمعيات عمومية تمارس العمل الفردي؛ لأنها مرهونة بشخص ما؛ فهو صاحب القرار، وهذا ينقض مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي.

ولابد أن تتميز الإدارة في العمل الإسلامي عن الإدارة لدى الآخرين, فالفكر الغربي يعالج المشكلة الإدارية في إطار نظريات تعتمد على المنافع الشخصية أو الجماعية دون أدنى نظرة للدين أو العقائد، بينما تتميز الإدارة في ساحة العمل الإسلامي بأربع خصال هي:

أ- السعي لخدمة الأهداف المشروعة من خلال أنشطتها الخدمية والسلعية المباحة، ويحكمها في ذلك الإيمان والعقيدة الربانية.

ب- يؤدي المكلف بالعمل واجبه على أساس أنه قيمة إيمانية يؤديها كعبادة.

ت- التعامل على أساس الأخوة الإسلامية، والمساواة، واحترام إنسانية العامل، ونوع العمل الذي يؤديه.

ث- قد يحتاج العمل أحياناً لأفراد متفرغين يأخذون أجراً على عملهم؛ لأنه ليس لهم أي دخل آخر , ولكن هذا لا يمنع الفرد أن يبذل جهداً إضافياً تطوعياً بدون أجر؛ لأن الحافز إيماني بحت.

تجربة عريقة:

ومع أننا لا ننكر ما حققه الإنسان الغربي من تطور وتقدم في مجال الإدارة, ولا يوجد في شرعنا ما يمنع من الأخذ والاستفادة مما لدى الآخرين (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها) لكن من الظلم تجاهل التجربة الإسلامية في مجال الإدارة عبر التاريخ. يقول (برينولت) في كتابه "تكوين الإنسانية": العلم هو أعظم ما قدمته الحضارة العربية إلى العالم الحديث عامة، ولا توجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلاّ ويظهر للإنسان أثر الحضارة والثقافة العربية، وأن أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي الذي كان المحرك للتطبيق العملي على الحياة، وأن الادعاء بأن أوروبا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادعاء باطل وخالٍ من الصحة جملة وتفصيلاً؛ فالفكر الإسلامي هو الذي قال: انظرْ وفكرْ، واعملْ، وجرِّبْ حتى تصل إلى اليقين العلمي).

ويعتقد الدكتور (سارتون): "أن المسلمين كانوا أعظم معلمين في العالم، وأنهم زادوا على العلوم التي أخذوها، و لم يكتفوا بذلك، بل أوصلوها إلى درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء".

 كما يقول (نيكلسون):  المكتشفات اليوم لا تُعدّ شيئاً مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضّاءً في القرون الوسطى، ولا سيما في أوروبا.

ويقول (دي فو): "إن الميراث الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد أتقنوه، وعملوا على تحسينه وإنمائه حتى سلموه إلى العصور الحديثة".

أما (سيديو) فيقول: كان المسلمون في القرون الوسطى منفردين في العلم والفلسفة والفنون، وقد نشروهما أينما حلَّت أقدامهم، وتسربت منهم إلى أوروبا، فكانوا هم سبباً في نهضتها وارتقائها".

دروس نبوية

ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو قدوتنا وأسوتنا ومعلمنا؛ " فلقد نظَّم شئون حكومته الإدارية والديوانية تنظيماً كاملاً بعد أن استقر أمره بالمدينة، وقد اتخذ من المسجد مقراً لحكومته، ففيه كان يجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم- للناس، ويستقبل الوفود ويحكم بينهم، ويفقههم في أمور دينهم، وفيه كان مسكنه في حجرات خاصة.

ابتدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- التنظيم الإداري من خلال تعيين العمال في الولايات والمدن والقبائل المختلفة لتعليم الناس أحكام القرآن, والتفقه في الدين, وإقامة الصلاة, وجباية أموال الزكاة لإنفاقها على مستحقيها, والقضاء بين الناس, فعين عتَّاب بن أسيد والياً على مكة بعد فتحها سنة ثمانٍ للهجرة، وهو دون العشرين من العمر، وفرض له راتباً شهرياً قدره ثلاثون درهم، فكان ذلك أول راتب خُصّص للعمال والولاة, كما ولَّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحارث بن نوفل الهاشمي بعض أعمال مكة، وعيّن أبا بكر الصديق بعد غزوة حنين.

وكان للنبي أمراء ولّاهم المدينة عند خروجه منها، ومنهم السائب بن عثمان الذي أمره عليها عند خروجه إلى غزوة (بواط) في السنة الثانية للهجرة، كما أناب سعد بن عبادة عندما غزا (ودان)، وأناب الإمام علي بن أبي طالب عندما غزا "تبوك".

كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين بمجلس للشورى، ويتخذ كُتَّاباً للمراسلات بينه وبين الملوك والحكام المجاورين؛ فقد كان عبد الله بن الأرقم يجيب على الملوك والرسل، وكان له كاتب للعهود هو علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، كما كان له صاحب سر هو حذيفة بن اليمان، واتخذ قائماً على خاتمه وتسمي المصادر الحارث بن عوف المري، كما يذكر أيضاً أن الرسول  -صلى الله عليه وسلم-  كان يضع على خاتمه الربيع بن صيفي ابن أخي أكثم. وكان له ترجمان بالفارسية والقبطية والرومية هو زيد بن ثابت، وقيل: إنه كان يترجم أيضاً من الحبشية والعبرية.

كما استعمل رسول -الله صلى الله عليه وسلم- ولاة في شبه الجزيرة العربية؛ فقد أرسل معاذ بن جبل قاضياً على اليمن. وعلى الرغم من البساطة التي تتسم بها الإدارة الإسلامية في عهد النبي، إلاّ أنها وضعت للمجتمع الإسلامي نواة التنظيم الإداري الذي سار عليه الخلفاء الراشدون الذين أضافوا إلى هذا التنظيم ما وجدوه ضرورياً، وما أملته ظروف حياتهم، وما اجتهدوا فيه من أجل خدمة مصالح الأمة.....

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=2315&lasttype=3

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك