التوازن المؤسسي.. ومنع الاستبداد السلطوي

التوازن المؤسسي.. ومنع الاستبداد السلطوي

 

رفيق حبيب

 

كل نظام سياسي يقوم على عدة محاور رئيسية تمثل جوانب القوة فيه، وهي التي تبني حالة الاستقرار السياسي، عندما تتحقق على أرض الواقع، وبالطبع يوجد في كل نظام سياسي نقاط ضعف، وهي تبرز في لحظات ضعف النظام أو أفوله، ومعرفة جوانب القوة في أي منظومة سياسية، يمكن من بناء تلك المنظومة بالصورة المحققة للاستقرار، حيث إن الاستقرار يعني قدرة النظام السياسي على تحقيق الرضاء لدى الناس، وقدرته في التعبير عنهم وتحقيق التقدم والنمو الذي ينشده الناس.

 

وبنية الحضارة الإسلامية، لها خصوصية مثل غيرها من الحضارات، وتلك الخصوصية هي التي ترسم ملامح القوة فيها، ومن تلك الملامح يمكن تصور النظام السياسي الإسلامي، الذي يعظم من دور نقاط القوة في البنية الحضارية الإسلامية.

التعددية

 

نبعت قوة الحضارة الإسلامية في تاريخ تطورها وازدهارها، على التنوع الداخلي الواسع الذي حظيت به، فأصبحت حضارة شعوب وقبائل ومجتمعات وأعراق وقوميات، أي أصبحت الإطار الحضاري الذي انتظم بداخله عدد من الشعوب، بكل ما لهم من خلفيات تاريخية وتجارب حضارية، وتلك الخاصية كانت سببا في بعض جوانب القصور في البداية، حتى استقرت ملامح الحضارة الإسلامية، واستقرت ملامح المجتمع الإسلامي، فأصبح التنوع مصدرا للتنوع والثراء داخل منظومة الحضارة الإسلامية.

 

تحقق التنوع في إطار الوحدة، من خلال ما حدث من توافق وإجماع على قواعد الشريعة الإسلامية، وبقدر ما تم التمييز بين الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية، بقدر ما نجحت تجربة التنوع في إطار الوحدة، كتجربة حضارية فريدة، ميزت تاريخ الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات؛ فأصبحت ثوابت الشريعة الإسلامية، هي الممثلة للوحدة، أما الفروع والمتغيرات، فكانت مجال التنوع، فأصبح التنوع مصدرا من مصادر قوة الحضارة الإسلامية.

 

يظهر هذا التنوع في المجال الاجتماعي والثقافي، وفي تعدد الأعراق القوميات والمذاهب والأديان، والدولة الإسلامية لم تحاول منع التنوع في معظم فتراتها، بل حافظت على هذا التنوع؛ لأنه لم يمثل مصدرا يهدد وجودها، فقد كان تنوعا في إطار الوحدة الجامعة للأمة.

 

وتلك التكوينات المتنوعة عبرت عن نفسها تاريخيا في شكل تنظيمات اجتماعية، تمثل المجموعات المختلفة، وترعى شئونها الاجتماعية الخاصة، فشكلت تلك التنظيمات، بنية صالحة للتطوير المستقبلي، وفي الواقع الحالي، سنجد أن الدولة القومية المستوردة من الغرب تقهر كل شكل للتنوع الداخلي، ولكن التصور السياسي الإسلامي، يقوم أساسا على تنشيط تلك المكونات المتنوعة داخل إطار وحدة القيم الحاكمة.

 

وهنا يمكن تطوير البنية المجتمعية للأمة، في صورة مؤسسات اجتماعية وثقافية وأهلية متعددة، تنظم الأمة، وتجعل مكوناتها حية ونشطة، وبهذا تعبر تلك المؤسسات عن الاتجاهات المختلفة والتنوعات الموجودة، وتصبح بذلك أساسا للتعددية داخل إطار الوحدة.

 

وتلك المؤسسات الاجتماعية المعبرة عن مكونات الأمة، سوف تكون قادرة على إدارة الشئون الخاصة بالجماعة، والتعبير عنها، وبهذا تصبح كيانات اجتماعية فاعلة ومؤثرة، وهنا تبرز أهمية تنشيط مكونات الأمة داخل إطار الوحدة؛ لأن المشكلات التي تحدث بين الطوائف والأعراق، لن يكون لها مكانة، ما دامت كل مجموعة لها مؤسسات تعبر عنها، وتدير شأنها الخاص، سواء إذا كانت تلك المجموعة توجد في موقع جغرافي محدد أم لا.

 

وتقوية البنية المؤسسية للجماعات، يؤدي إلى وجود تنظيم يحمي مصالح كل فئة، ويمنع السلطة المركزية من الجور في حق أي طرف، كما أن تلك المؤسسات الاجتماعية معا، سوف تقييم علاقات تربط بين تلك المكونات، بصورة تمنع الصراع، أو توقفه إذا حدث.

 

وبهذا يكون تأسيس التعددية الاجتماعية، مانعا لما يسمى بمشكلات الأقليات، والصراعات الطائفية والمذهبية والدينية؛ لأنه يحقق توازنًا داخليًّا للمجتمع، يحقق الإشباع الداخلي لكل جماعة، مع الحفاظ على الإطار الموحد لكل الأمة، مما يحقق التوازن بين الجماعات والأمة، ويتم الحفاظ على مصلحة الأمة، ولكن دون التعدي على مصالح الجماعات الفرعية.

توازن المؤسسات

 

 

يمكننا نقل تلك الصورة التي تقوم على التوازن بين المؤسسات الاجتماعية داخل بنية الأمة، لنتصور النظام السياسي بنفس الصورة، حيث يقوم على تعدد مؤسسي، يحقق التوازن بين المؤسسات، وهذا التعدد يسمح بفصل السلطات بصورة واضحة، حتى يصبح النظام السياسي نظاما متعدد المؤسسات، ويحقق التوازن والتكامل بين هذه المؤسسات، دون أي غلبة لمؤسسة على المؤسسات الأخرى.

 

وفي غالب النظم السياسية، يوجد قدر من الغلبة لمؤسسة السلطة التنفيذية، وهو القدر الذي يتزايد أحيانا فينتج دولة الاستبداد، ومنع تلك الظاهرة يحتاج لبناء مؤسسي سياسي يقوم على الندية والفصل بين المؤسسات، بصورة تجعل من كل مؤسسة، كابحًا للمؤسسة الأخرى إذا خرجت عن دورها.

 

وهنا تبرز أهمية مؤسسة القضاء، كمؤسسة مستقلة تقيم العدل وتطبق القانون على الجميع، كما تظهر أهمية مؤسسة المحكمة الدستورية، كمؤسسة مستقلة تماما، وتراجع دستورية كل القوانين والتصرفات السياسية، بجانب السلطة التشريعية، والتي يجب أن يكون لها استقلالها وقوتها في مواجهة السلطة التنفيذية.

 

فالسلطة التشريعية هي التي تمثل الوكالة الأساسية الممنوحة من الأمة، وهي بهذا الوكيل الأول عن الأمة في الشأن السياسي، ويضاف لهذا، أهمية وجود أجهزة رقابية تعمل لصالح الأمة، وليست جزءا من أي سلطة، ويكون الحكم النهائي للسلطة القضائية المستقلة.

 

فإذا أضفنا لذلك تحرير الإعلام ومؤسسات الرأي العام، وأيضا استقلال المؤسسة الدينية عن أي سلطة، يتحقق لنا استقلال الرأي العام، والمؤسسة الدينية، تمثل مؤسسة الرأي والعلم الديني، وهي مؤسسة رأي عام، أي صانعة للرأي العام. واستقلالها يعني أن هناك مؤسسة، تمثل العلماء تستقل عن أي مؤسسة أخرى، وتعلن رأيها في القضايا التي تمس مرجعية النظام السياسي بحيدة كاملة، مما يقوي الرأي العام وقدرته على فرض رأيه على المؤسسات الحاكمة.

 

ومن توازن المؤسسات وفصل أدوارها وسلطاتها، يتحقق التوازن السياسي، والذي يمنع من انحراف السلطة عن مسارها، ويجعل كل سلطة مقيدة برقابة، وكل سلطة قابلة للمحاسبة والعزل، مما يحقق التوازن بين السلطة والرقابة.

 

بين الحكم والمعارضة

 

العلاقة بين النخبة الحاكمة والنخب المعارضة، تتحدد أساسا على قاعدة التنافس، وليس على قاعدة التوازن أو التكامل، وتلك النظرة التنافسية، تسيطر على الرؤية الغربية للديمقراطية، ولكن يمكن النظر للحركات السياسية بصورة أخرى، فهي تمثل توجهات فكرية سياسية، وتمثل رؤى متنوعة في معالجة القضايا السياسية والحياتية، وبهذا، تشكل التيارات السياسية، أو الحركات السياسية، التنوع في المجال السياسي.

 

وهذه الحركات تمثل كتلا اجتماعية تؤمن برؤيتها، وبهذا تعكس الحركة السياسية، بنية مجتمعية تساند رؤيتها، وتصبح الحركة معبرة عنها، وقد تكون الحركة السياسية، معبرة عن حركة اجتماعية معينة، وبهذا تصبح التعبير السياسي، عن مكون من مكونات المجتمع أو الأمة. فالمكونات الاجتماعية للأمة، بمختلف أشكالها وتنويعاتها تنعكس في المجال السياسي، في صورة حركات سياسية.

 

تلك الحركات السياسية، إذا توجهت لتحقيق التوازن في المجال السياسي، فسوف تعمل من خلال إطار يبنى على أساس قيام تلك الحركات بدور مؤثر على القرار السياسي، وعلى الرأي العام، إذا كانت في الحكم أو في المعارضة، فتصبح الحركة السياسية، هي مؤسسة تنشط الدور السياسي لمؤيديها في المجال العام،، وتعمل على تحقيق تأثير للكتلة المؤيدة لها في مختلف القرارات، كما تعمل على تعميق تأثير كتلة المؤيدين لها على السلطة الحاكمة، وتطرح رؤيتهم على صانعي القرار، وبذلك تحقق لتلك الكتلة حضورا سياسيا مؤثرا في كل الأحوال.

 

فتنشيط دور الحركات السياسية في العملية السياسية، يجعلها فاعلة وقادرة على القيام بدور في كل الأوقات، سواء كانت تمثل الأغلبية وتحكم، أو كانت تمثل أقلية ولا تحكم، فمجمل الحركات السياسية، يمثل مجمل التوجهات السياسية لعامة الناس، أي للمجتمع وبالتالي للأمة، وبهذا تكون الحركات السياسية هي المعبرة عن الرأي العام، ولهذا يجب أن تكون طرفا فاعلا ومؤثرا في القرار السياسي، ولكن درجة تأثير تلك الحركات يرتبط بحجم حضورها الاجتماعي ووزنها النسبي، وأي حركة تمثل نسبة ضئيلة، ولكن تجد الفرصة لطرح رؤيتها، ومناقشة الرؤى الأخرى، سوف يكون لها تأثير، حتى وإن لم يكن رأيها يحظى بالأغلبية.

 

والغرض من ذلك، حدوث توازن بين التوجهات السياسية المختلفة، وهو أيضا توازن يعبر عن التنوع في إطار الوحدة، وبهذا يمكن تنشيط هذا التوازن، ليكون مصدرا لقوة القرار السياسي، فالقضية ليست من يحكم ومن يعارض، بل من يؤثر على الرأي العام ويستطيع فرضه على مؤسسات الحكم، ومن لا يستطيع التأثير على الرأي العام، فيمكن أن تكون الحركة السياسية ليست في مقاعد الحكم، ومع هذا تقوم بدور في تغيير مسار الحكم، من خلال تنشيط دور مؤسسات الرأي العام، وأيضا تنشيط دور المؤسسات الاجتماعية.

 

فمن خلال التعدد المؤسسي، يمكن التأثير على القرار السياسي، بقوة الرأي العام، وبهذا يمكن أن يكون دور حركة سياسية وهي خارج الحكم، أقوى أو أفضل من دورها وهي في مقاعد الحكم.

 

ومن خلال التعددية السياسية، يمكن جعل السلطة تعبيرا عن الإرادة الجماعية والرأي الجماعي، بحيث يكون الرأي الغالب حاضرا في العملية السياسية وفاعلا فيها.

التكاملية

 

فكرة التعددية والتوازن المؤسسي، تصل بنا إلى التكاملية وهي المنتج النهائي للرؤية الحضارية القائمة على التنوع في إطار الوحدة، والتكاملية تبدأ من تكامل الأدوار بين الرجل والمرأة، وتمتد إلى تكامل الأدوار بين مؤسسات المجتمع، ثم بينها وبين المؤسسات السياسية، ثم بين المؤسسات السياسية وبعضها البعض.

 

والتكامل لا يحدث إلا من خلال تحقيق التوازن، أي التوازن في السلطة والنفوذ والحضور والتأثير، فالتوازن يمثل الحالة الأفضل بين عدة أطراف، حيث لا يجور طرف على آخر، طبقا لقاعدة لا غالب ولا مغلوب، فلا الأقلية مغلوبة، ولا الأغلبية غالبة؛ لأن ما بينهم لم يكن محاولة من طرف لنفي طرف آخر، بل هي حالة تفاعل وحوار، يسود فيها الرأي الغالب في النهاية، ولكن هذا الرأي ينتج في الواقع من التفاعل بين كل الأطراف، بما يجعل كل طرف يسهم فيه.

 

وبهذا يتحقق التكامل بين أدوار القوى والحركات الاجتماعية والسياسية؛ لأن كلا منها يقوم بدوره، وكلا منها يحافظ على الأطراف الأخرى. وبقدر ما يتحقق التوازن، بقدر ما يتعمق التكامل.

 

والبنية السياسية القائمة على التكاملية، هي تلك البنية التي تعترف بتعددية مصادر الرأي والسلطة، وتتيح مجال الحركة لكل الأطراف، حتى يكون القرار السياسي نتاجا لحالة التفاعل بين المكونات المتكاملة، وليس نتاجا لحالة انفراد لمكون على حساب المكونات الأخرى، وكلما تحقق التكامل نتاجا للتوازن، كلما اقتربنا نسبيا من مشكلة السلطة.

 

فكل سلطة تنطوي على احتمال التعدي على الآخرين، أو على احتمال الانفراد بالسلطة، ولكن حالة التوازن المؤسسي تنتج حالة من التكامل بين المؤسسات، أي حالة من التكامل على المستوى الاجتماعي تؤدي إلى حالة تكامل على المستوى السياسي، فنصل إلى وضع مؤسسي، يربط القرار السياسي والسلطة، بالإرادة الجماعية والرأي الجماعي.

 

المصدر : موقع حركة التوحيد والإصلاح.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك