دعوتنا من الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد

دعوتنا من الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد

 

فضيلة الدكتور/ يوسف القرضاوي

 

 كانت الحياة الإسلامية إبَّان ازدهار حضارتنا الشمَّاء حياةً زاخرةً بالحيوية والتجديد في جميع جوانبها.. في الدين، في العلم، في الأدب، في العمران، في الصناعات والحرف المختلفة، أما نحن فحياتنا في العصور الأخيرة قد أصيبت بالعفَن، وأصبح ماؤها آسِنًا، وبحيرتها راكدة، ولا يتجدد هواؤها.

لقد أصيب الفقه بالجمود والتقليد، فغلبت العصبية المذهبية، واشتُهر بين طلبة العلم أن باب الاجتهاد قد سُدَّ منذ زمن بعيد، ولم يعُد في الناس مَن يقدر على الاجتهاد المطلق، بل ولا الاجتهاد الجزئي، والواجب على الجميع تقليد أحد المذاهب المعروفة، وأصبح المقلدون هم المهيمنين على جل مؤسسات التعليم الديني في البلاد الإسلامية، وغَدا دعاةُ الاجتهاد والتجديد يُنظر إليهم بعين الشك والريبة.

الحجر على أهل العلم أن يجتهدوا

ومن عيوب دعاة التقليد أنهم يحجرون على العقول أن تفكر، وعلى المواهب أن تبدع، ويفرضون على العلماء أن يفكروا برؤوس غيرهم، وبعبارة أخرى: برؤوس الموتى من اثني عشر قرنًا أو تزيد، وهم بذلك يحجرون ما وسع الله، ويتأوَّلون على الله ما ليس لهم، ويدَّعون أن فضل الله ضاق أو توقف قبل منتصف القرن الثالث الهجري، فلم يمنح أحدًا من عباده القدرة على الاجتهاد، وسيستمر الحجر في المستقبل!

دعوى العجز عن فهم النصوص بدون أئمة

ومن شبهات أنصار التقليد المتعصب قولهم إننا لا نستطيع أن نفهم النصوص من كتاب الله وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- وحدنا، دون واسطة من الأئمة السابقين؛ ولهذا فإننا نعتمد على من هو أقدر على هذه المهمة منَّا، أما نحن فعاجزون عنها.

ونقول لهؤلاء من أين جاءكم العجز عن فهم النصوص الشرعية وصعوبة الاستنباط منها؟! أهذا راجع إلى النصوص نفسها أم راجع إلى عقولكم أنتم؟!

أما النصوص فلا يقول عاقل إنها ألغاز عسيرة على الفهم، بعيدة عن إدراك العقول، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17)، ومثل ذلك السنة، فهي البيان والتفصيل للقرآن، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44).

أما عقولهم وعقول أهل العصر عامةً، فلا يقول عاقل مسلم أو كافر إن الله سلبَها القدرة على الفهم والاستنباط.. إن الله خلق العقول قادرةً على أن تفكر وتبحث وتستنتج وتصل إلى الحقائق، والمشركون هم الذين زعموا أنهم محجوبون عن فهم كلام الله لِمَا في آذانهم من وقْر، وما في قلوبهم من أكنة، وكذلك اليهود زعموا أن قلوبهم خُلِقت غلفًا مقفلةً، لا تقبل شيئًا من العلم والهدى، وردَّ القرآن عليهم بقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (النساء:155).

دعوى انقطاع الاجتهاد بعد الأئمة

ومن أسباب إشاعة التقليد، وترويج بضاعته في سوق الثقافة الدينية دعوى أن الاجتهاد المطلق قد انقطع بعد الأئمة الأربعة، وأن كل من جاء بعدهم لم يبلغ درجة الاجتهاد، وإنما مشى في دربهم وأمسى تابعًا لهم، ويؤكدون هذا الكلام بما رواه بعض الكبار من علماء الفقه والأصول، مثل "القفال" و"أبو حامد الغزالي" و"الرازي"، وقبلهم إمام الحرمين "الجويني" من انقطاع الاجتهاد وإغلاقه، وأنه لا مجتَهِد اليوم.

وحينما ادَّعى الإمام الحافظ العلاَّمة في الفقه والحديث والتفسير واللغة وعلومها "جلال الدين السيوطي" أنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق قامت القيامة في وجهه، وصوبت إليه السهام من كل جانب، واستكثر الناس عليه ذلك، فاضطُّر أن يرد عليهم بكتابه القيم الذي أسماه "الردُّ على من أخلد إلى الأرض.. وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".

وقد ردَّ الإمام الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" على دعاة التقليد والمدَّعين بإغلاق باب الاجتهاد، فقال: "وقد كان السلف الصالح- من قبل هؤلاء المنكرين- يرحل للحديث الواحد من قُطر إلى قُطر، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سليم، وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتَوا من قبل أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد، واشتغلوا بغير الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهله الله على من رزقه العلم والفهم".

وقال ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": "إن المقلدين حكموا قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا، ومخالفين لما أمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخلوا الأرض من القائمين لله بحجته، وقالوا لم يبقَ في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة"!!

التقليد والتمذهب عند ابن القيم

وعرض الإمام ابن القيم لقضية التمذهب في "الإعلام" فطرح هذا السؤال: هل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟! وقال ابن القيم: لا يلزمه، وهو الصواب المقطوع به؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلد دينه دون غيره، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ فالعاميُّ لا مذهبَ له؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوعُ نظرٍ واستدلالٍ، ويكون بصيرًا بالمذاهب على حسبه.

كل التقليد مذموم

وإذا كنا ننكر تقليد أسلافنا من فقهاء الأمة الكبار وأئمتها العظام؛ لأنهم فكروا واجتهدوا لزمانهم لا لزماننا، ولبيئاتهم لا لبيئاتنا، فنحن- ولا شك- أشدُّ إنكارًا لتقليد يشيع اليوم، ويُراد أن يهيمن على عقولنا، ويوجِّه حياتَنا، وأن نخضع له أفكارنا وسلوكنا، ذلكم هو تقليد الغرب، صاحب الحضارة المسيطرة على العالم اليوم، أقول إن هذا التقليد الذي يراد فرضه علينا اليوم، لتنحني رءوسنا لفكر الغرب وثقافته وفلسفته وحضارته.. هو اغتراب، فإذا كان تقليد الأسلاف يعتبر اغترابًا في الزمان، فإن تقليد الغرب يعتبر اغترابًا في المكان، والواجب أن نعيش في زماننا ومكاننا، لا نغترب عن العصر ولا نغترب عن الدار.

نريد أن نفكر لأنفسنا بعقولنا لا بعقول غيرنا، لا نريد لأحد أن يفكر لنا، سواء من الأموات الذين بيننا وبينهم قرون وقرون، أم من الأحياء الذين بيننا وبينهم بحار ووهاد.

شيوع الجمود في فصائل الصحوة الإسلامية

حين نتحدث عن الجمود والتتليد ينصرف الذهن غالبًا إلى الجمود الفقهي، وهو لا شك داخل في المفهوم الذي نقصده، ولكنه ليس كل المقصود.. إننا نريد من فصائل الصحوة الإسلامية أن تتحرر من الجمود على موروثاتها التقليدية، ولا تنظر إلى هذه المواريث كما ينظر مقلدو المذاهب إلى مذاهبهم، فيضفوا هالةً من التقديس بحيث لا يجوز نقدُها ولا تطويرُها ولا المساس بها.

وقد أصبح الزعماء والمؤسسون لكل فصيل من فصائل الصحوة أو لكل جماعة من جماعاتها (أئمة) يُقلدون، لا يجوز أن توضع مقولاتهم التي وضعوها للإصلاح والتجديد موضع البحث والمناقشة؛ لأنها فوق المناقشة وفوق المساءلة، وكأن هؤلاء المؤسسين معصومون من الخطأ، وكل هذه الجماعات متساويةٌ في التعصب لرؤسائها ومؤسسيها وموروثاتها الفكرية، وإن تفاوتت النسبة بينهم تفاوتًا غير قليل.

الجمود آفة خطيرة

إن الجمود آفةٌ خطيرة من آفات الفكر الحركي، وهو عائق من العوائق الداخلية في الحركة الإسلامية، كما بينت ذلك في كتابي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة).. الجمود على شكل معين في التنظيم، وعلى وسائل معينة في التربية، وعلى صور معينة في الدعوة، وعلى مراحل معينة في الوصول إلى الهدف، وعلى أفكار معينة في السياسة.. إلخ، ومن حاول أن يغير من هذا الشكل، أو تلك الوسيلة، أو هذه الأفكار، أو يعدل فيها بالزيادة أو النقصان قوبل بالرفض الشديد، أو الاتهام والتنديد.

وما زلت أؤكد أن التجديد الذي نريده لا يعني إلغاءَ القديم، بل تطويره وتحسينه وتحديثه والإضافة إليه، وخاصةً فيما يتعلق بالوسائل والأدوات والكيفيات؛ فهي أمور مرنةٌ قابلةٌ للتطور والتحول والاستفادة من إمكانات العصر ومما عند الآخرين، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

إن أخشى ما أخشاه على الحركة الإسلامية أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها، أو أن تغلق النوافذ في وجه التجديد والاجتهاد، وتقف عند لون واحد من التفكير، لا يقبل وجهة نظر أخرى تحمل رأيًا مخالفًا في ترتيب الأهداف، أو في تجديد الوسائل، أو في تعيين المراحل، أو في تقويم الأحداث والمواقف، أو في تقدير الرجال، أو غير ذلك مما يدخل في دائرة الاجتهاد البشري، الذي من شأنه أن يتطور ويتغير بتغير الأزمنة والأحوال والعوائد، وعندئذ تتسرب الكفايات العقلية القادرة على التجديد والابتكار من بين صفوف الحركة، كما يتسرب الماء من بين الأصابع، ولا يبقى في النهاية إلا المحافظون المقلدون، الذين يحبون أن يبقى كل قديم على قِدَمِه، وأن ما نعرفه خير مما لا نعرفه.

ونتيجة هذا أن تُحرم الحركة من ثمرات العقول الكبيرة من أبنائها، وأن تُصاب في النهاية بالجمود، أو العقم الذي أصاب الفقه والأدب في عصور التقليد، وأن يتقوقع هؤلاء على ذواتهم يأسًا من أي عمل مثمر للإسلام، أو أن يعملوا فرادى، نافضين أيديهم من جدوى أي عمل جماعي، أو يحاولون مع آخرين خوضَ تجربةٍ جماعيةٍ أخرى، لا تُدرَى عواقبُها.

إن من أهم ما أضرَّ العقلَ المسلمَ قديمًا وأضرَّ به حديثًا شيوع تلك المقولة التي تقول: ما ترك الأول للآخر شيئًا!! وليس في الإمكان أبدع مما كان!!

--------

* عن كتاب (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) للشيخ الجليل أ.د/ يوسف القرضاوي، باختصار وتصرف يسير

 

المصدر : اخوان أون لاين .

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك