ميثاق شرف للحوار عند الاختلاف

ميثاق شرف للحوار عند الاختلاف

 

أ.د/ عبد الرحمن البر

قال الإمام شمس الدين الذهبي في (سير أعلام النبلاء): قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي! ناظرتُه يوماً في مسألةٍ ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة. ثم علق الذهبي على ذلك بقوله: «هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام (الشافعي) وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون».

هذه القصة هي إحدى روائع تاريخنا الفكري المضيء، وهي تكشف أن اختلاف السلف في الرأي لم يكن داعيا إلى الفرقة، ولا باعثا على القطيعة، ولا دافعا إلى السب أو الشتم أو التجهيل والتسفيه والتحقير، فضلا عن التفسيق والتبديع والتضليل، بل غاية ما كان يدور في صدر الواحد منهم أن مخالفه أخطأ في تلك المسألة؛ لا في كل المسائل، بل كان الواحد منهم يشكر من دلَّه على خطئه، أو أبان له عن فساد ما مال إليه من الرأي، ما دام أمر القلوب مجتمعا وطريقة التعبير عن الرأي راقية خالية من الألفاظ النابية والتعبيرات المُسِفَّة، وما دام لدى كل طرف حسن ظن بالآخر، واقرأ إن شئت مقدمات الحوار الرائع والرسائل المتبادلة التي تبادلها الفقيهان الكوفي أبو حنيفة والبصري عثمان البَتِّيُّ، حيث كتب البَتِّيُّ إلى أبي حنيفة يذكر له بعض ما عدَّه أخطاءً وقع فيها أبو حنيفة، فكتب إليه يقول بعد السلام والدعاء وما يراه من أخطاء: «فافهم كتابي إليك، واعلم أنه لولا رجاءُ أن ينفعك الله به لم أتكلف الكتاب إليك، فاحذرْ رأيَك على نفسِك، وتخوَّفْ أن يدخل الشيطانُ عليك» فكتب إليه أبو حنيفة: «بلغني كتابُك، وفهمتُ الذي فيه من نصيحتك وحفظك لنا، وقد كتبتَ أنه دعاك إلى الكتاب حرصُك على الخير والنصيحة، وعلى ذلك كان موضعُه عندنا» ثم بدأ يرد عن نفسه،ثم ختم الرسالة بقوله: «ثم إن أشكل عليك شيءٌ أو أدخل عليك أهلُ البدع شيئاً فأعلِمْني أُجِبْك فيه إن شاء الله تعالى، ثم لا آلوك ونفسي خيرا، والله المستعان. لا تَدَعْ الكتاب إليّ بسلامك وحاجتك».  

ومثل هذا حصل بين الإمامين مالك بن أنس فقيه المدينة والليث بن سعد فقيه مصر في مسائل اختلفا فيها، فكتب كل منهما إلى الآخر رائعة من روائع الحوار لا تزال مثالا للخلاف الراقي.

أذكر هذا وغيره ثم أقارنه بما نراه ونلمسه ونسمعه على شاشات الفضائيات ونقرؤه على صفحات الصحف وعلى صفحات الشبكة العنكبوتية من حوارات زاعقة، تطفح بعبارات غير لائقة، وتكون أقرب إلى التراشق منها إلى الحوار، وأدخل في باب الترامي بالتهم وسوء الظن والتخوين الوطني والتفسيق الشرعي منها بالجدال المشروع بالتي هي أحسن، وليس لكل ذلك من نتيجة عملية في الواقع إلا إنتاج المزيد من التوتر والتشقق والتخاصم والتقاطع بين أهل الرأي والفكر والفقه، وإدخال العامة في حيرة وبلبلة وحشدها في اصطفافات دينية أو فكرية وجبهات حزبية ذات طبيعة إقصائية، ويصبح هدف كل فئة إقصاء الفئة الأخرى وتشويهها، وتضيق الصدور بسماع الآراء والأفكار المتنوعة، والخاسر الأكبر من كل ذلك هو الوطن الذي ينبغي أن يستفيد من الثراء والتنوع الفكري لكل أبنائه.

في ضوء هذا فإنني أتقدم إلى إخواني من العلماء والباحثين والكُتَّاب بميثاق شرفٍ أخلاقي يلتزمه الباحث الجاد والمنصف في تعامله مع مخالفيه وحواره مع معارضيه، سواء التزم به المخالفون أو لم يلتزموا، وهو يتكون من عشرة بنود على النحو التالي:

1–إخلاص النية لله في طلب الحق ومعرفة الصواب، وترك الرياء والمماراة والتعالي على الناس والتعالم على الخلق، واتباع الدليلَ والدوران معه حيث كان، من غير تعصب لشيخٍ ولا لمذهبٍ، والقبول بالرجوع عن الخطأ متى استبان، وفي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلاَ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلاَ تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ».

2–العدل مع المخالف وإحسان الظن به ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة/8]

3–انتقاء الألفاظ اللائقة واختيار الألقاب المناسبة عند مخاطبة أهل العلم أو الباحثين والكُتَّاب وعند الحديث عنهم﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء/53].

4–عدم المبالغة في تعظيم الشيوخ أو الكُتَّاب الأقرب إلى القلب أو المذهب أو الجماعة الفكرية أو الحزب السياسي، وعدم المبالغة في تضخيم أخطاء المخالفين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء/135].

5–البعد عن تصيد الأخطاء والزلات العارضة للمخالفين، وعدم العمل على نشرها أو إذاعتها، والتثبت الكامل قبل اتخاذ المواقف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾  [الحجرات/6]

6-التركيز في الحوار على موضوع الخلاف؛ لا على مثالب وخصوصيات المخالف، وعدم الخوض في عرض المخالف أو حياته الشخصية التي لا علاقة لها بالموضوع المختلف فيه، وعدم الخلط بين الخصومات الشخصية والاختلافات الفكرية والمذهبية، وقد كان المحدثون يمتنعون أن يعبروا عن حال الراوي الضعيف بكلمتين إذا أمكنهم أن يعبروا بكلمة واحدة.

7–التماس العذر للمخالف المجتهد العالم بالأدلة الشرعية إن غابت عنه بعض تلك الأدلة أو ذهب في تأويلها مذهبا مخالفا، وكذلك التماس العذر لكل باحث أو كاتب غابت عنه بعض الحقائق، أو قرأ الوقائع قراءة خاصة وفهمها على وجه مختلف.

8–مراعاة أن المسائل الفقهية الخلافية ليست مجالا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ليست محلا للإنكار الشديد فيما بين العلماء المختلفين في الرأي، بل هي محل للمناقشة وإيراد الحجج والأدلة للترجيح والتضعي.

9–الاختلاف في الاجتهاد الفقهي والفكري ليس مدعاة للتأثيم والطعن في دين المخالف أو وطنيته، وغاية ما يمكن أن يقال فيه: إنه اجتهاد إن أصاب صاحبه فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.

10–أن يكون شعار المتحاورين دائما: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، ويبقى هذا المختلف فيه محل حوار ونقاش مصحوب بالرغبة الصادقة في الوصول إلى الصواب.

تلك عشرة كاملة أزعم أنها تصلح للبناء عليها، وتقبل الإضافة والحذف بحسب ما يحقق إدارة جيدة للاختلاف في واقعنا الفقهي والفكري والإعلامي، وأنا في انتظار تعليقات وآراء القراء الكرام والباحثين الجادين.

مفاجأة!: فاجأنا الأستاذ الدكتور على السلمي بالدعوة لما أسماه وثيقة المبادئ الأساسية للدولة المصرية، ومعايير تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، في انقلاب واضح على نتيجة استفتاء 19 مارس وتجاوز عجيب للإعلان الدستوري الذي تلاه، وتصرف قد يؤدي إلى إرباك المشهد السياسي قبيل الانتخابات المنتظرة، فهل أصبح المعارض السابق والوفدي الليبرالي فاقدا للأمل في هذا الشعب ومسيئا للظن بشعب لطالما تغنى بضرورة احترام رأيه والرضوخ لاختياراته! صباح الحرية يا دكتور على، وحمدا لله على سلامتك.

تهنئة: أقدمها للشعب المصري وللأمة العربية والإسلامية بالعيد السعيد، أعاده الله على الأمة بالعز والرخاء، وعلى الثوار في اليمن وسوريا بالنصر والتوفيق.

___________________________

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك