مسألة صلب عيسى بين الحقيقة و الوهم

مسألة صلب عيسى
بين الحقيقة و الوهم

تأليف الأستاذ الشريف بن حمزة الجزائري

:رقم الإيداع القانوني2005-36
9947-0-1140-2:الردمك

3
بسم الله الرحمن الرحيم
مــقد مـــــــــة
لا شكّ أنّ كلّ مسلمٍ يعلَمُ أنّ رسالة الإسلام عالمية و أنّ رسول الله  فُضّلَ على غيره من الأنبياء أنّهم بُعِثوا لأقوامهم خاصّة و بُعِثَ إلى النّاس كافّة. لكن لِنَتَصَارح هل المسلمون اليوم في مستوى عالمية هذه الرسالة روحياً و خلُقياً و ثقافياً؟. و ما يهمّنا في هذا البحث هو المستوى الثقافي. تقول القاعدة الفقهية ما لا يتِمّ الواجب إلا به فهو واجب. و لنأخذ مسألة صلب عيسى عليه السلام التي هي موضوع كتابنا كمثال. كيف تستطيع أن تقنعَ أخاك الكتابي أنّ عيسى عليه السلام لم يُقتل و لم يُصلب؟
هذه المسألة حيوية بالنسبة للمسيحي . فهي النبأ السّار الذي تنبّأ به أنبياء بني إسرائيل و هي خلاصة الإنجيل و ذِروة سَنَام عَمَل المسيح و معنى البشارة بملكوت الله و لأجلها تجسّد ابن الله و نزل من السماء في شبه جسدٍ بشري ليموت على صليب العار مكفّرا عن خطايا البشر. و نُظّمت أصحاحات الإنجيل حولها. و كلّ إنسان غير مؤمنٍ بموت المسيح ليس له خلاصٌ و هو مُدان تحت عبودية الخطية. و قبل كلّ شيء فهذا حدثٌ تاريخي وقع على عهد بيلاطس البنطي والي الرومان على اليهودية. و قد شَهِدَ التلاميذُ بوقوعه و تنبّأ الأنبياء به و اتّفق الخصوم عليه. و دوّنته الإدارة الرومانية في وثائقها و نقله التاريخ لنا و احتمل آباء الكنيسة القدامى الموت حرقاً من أجله. و أبرزته جميع أسفار الإنجيل. و عاش به و من أجله ملايير المسيحيين منذ أكثر من ألفي عام. هذا ما يعتقدُه المسيحي و يراه. فكيف يصدّق الكتابي رجلا أمّيا خرج من برّية العرب
4
ليقول للنّاس :" و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبّه لهم و إنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلا اتّباع الظنّ و ما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه". ثم بعد كلّ هذا ما العيب أو الغريب في صلب عيسى ؟ ألم يذكر القرآن الكريم في عشر آياتٍ على الأقل أنّ اليهود قتـلوا أنبياءهم قال تعالى:" لقد سَمِعَ الله قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ و نحن أغنياء سنكتب ما قالوا و قتلهم الأنبياء بغير حقّ و نقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدّمت أيديكم و أنّ الله ليس بظلاّم للعبيد.الذين قالوا إنّ الله عهِدَ إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النّار قل قد جاءكم رسلٌ من قبلي بالبيّنات و بالذي قلتــم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين "(آل عمران182-183).
أمام هذا البون الشاسع بين القرآن و الإنجيل بخصوص مسألة صلب يسوع، و في غياب الأبحاث من جانب المسلمين في هذا الشأن أو نُدرَتها وجد المسيحي الإجابة الشافية في الإنجيل: لم يكن المسلم أوّل من استعظمَ الصلبَ على المسيح المُخلِّص فلقد كبُرَ خبرُه أيضاً على تلميذه سمعان بطرس و قال له :" حاشا لك يا رب ! لن يكون لك هذا " . فأجابه يسوع حسب زعم الإنجيل: " و قال لبطرس اذهب خلفي يا شيطان! فقد صِرْتَ لي شكّاً لأنّك ترى كما يرى الناس،لا كما يرى الربّ"(متى 16/21 – 23 ؛ مر 8/31 – 9/1 ؛ لو9/22). نعمْ! لقد وسوسَ الشيطانُ، في رأي المسيحي، من قبل و أوحى إلى أمير الحواريين أنّ هذا الأمر مُمتنعُ الحدوث. هكذا يفسّرُ المسيحي موقفَ المسلم.
و مَنْ أراد مِنَ المسلمين أن يجد تفسيراً لماذا تستبيح القوى العظمى دماءنا و تنتهكُ
5
مقدّساتنا فليتأمّل جيّدا النص السالف الذكر. فتلاميذُ الشيطان لا حقّ لهم.
و إذا أردنا أن نستبِقَ مضمون هذا البحث لأجلِ أن نفسّرَ لماذا يرفضُ القرآنُ الكريم صلبَ عيسى عليه السلام فنقول يجب أن ننظرَ للمسألة في سياقها الدّيني الاجتماعي . فنبي النّاصرة عليه السلام إسرائيلي بعثه الله إلى شعبه إسرائيل. و الفكرة المحورية في هذه القضية هي أنّ شريعة التوراة التي هي ضمير الشعب لا تُعَلّقُ رجلا على خشبةٍ إلاّ إذا كان مُجرماً عاتياً أو كافراً بالله تعالى مُجدّفاً. فإذا نجحَ خصُومُه في صلبِه فقد مَسّوا بمصدَاقيته و أقنعوا النّاس من شعبِهم أنّ هذا الرجلَ ليسَ إلا تلميذا للشيطان ، لم يفعلْ عجيبةً من عجائبهِ إلا بقوة بعل زبول .و يعني هذا من بين ما يعنيه أنّ الله تعالى قد انهزمَ و رسولَه ( تعالى الله عن ذلك عُلُواً كبيراً ).
و إذا ثبتَ لنا يقيناً من التاريخ أنّ رسالة سيّدنا عيسى عليه السلام استمرّت و اشتدّ عودُها بعده فلا تفسير لها سوى أنّه لم يُصلبْ.ولتقريب الفكرة دعوني أضرِبُ هذا المثل. هبْ أنّ رجلا مسلماً ادّعى الصلاح و الكرامات بين المسلمين فتَبِعهُ البُسطاء و السذّجُ و استطاع أن يصنع لنفسه مكانة مقدّسةً بينهم. ثم بمرور الأيام بدأت تُرفعُ إلى النائب العام شكاوى مِن مريديه تتّهِمُه بالنصبِ و الاحتيال و خيانة الثقّة و الشعوذة و الأخلاق الفاحشة. و أُوكِلَ التحقيقُ للشرطة و القضاة و جُمِعت عناصرُ الجريمة و اعترفَ المتّهمُ بجرائمه و قضتِ المحكمة الشرعية برَجْمِه جزاء بما قدّمتِ يداه.
لا شكّ أنّ هذا الرجلَ سيسقطُ في عيني النّاس و لا ريبَ أنّ ادّعاءاته ستنفضح. و سيتّضحُ لأتباعه أنّه كان مُغرّراً بهم.و لنفرضْ أيضاً أنّ رجُلا قام بعدَه و قال
6
ماتَ هذا المرجومُ من أجلِ خطايانا . فهل تجدُ هذه الدعوى بين المسلمين آذانا مُصغيةً ؟ لا شكّ أنّ محاولةً مثلَ هذه ستفشلُ فشلا ذريعاً. إذ كيف يموت هذا الفاسقُ المجرِمُ من أجلِ خلاصنا؟؟ و إذا نجحت هذه الدعوة فإنّها ستنجحُ لا محالةً بين غيرِ المسلمين من وثنيين و غيرهم. و هذا ما حدثَ بالفعلِ ففكرةُ المسيح المصلوب نجحَت لا بين اليهود إنّما بين الوثنيين من الإغريق و الرومان لأنّها فكرةٌ قريبةٌ من عقائدهم لكنّها بين شعب يسوع عليه السلام فضيحةٌ و جهالةٌ .
و هكذا نستطيعَ تلخيص هذا البحث : يُسلِّمُ اليهودي المؤمنُ بمسيحٍ مصلوبٍ لمّـا يسلِّمُ المسلمُ بصلاح و تقوى رجلٍ مَرجُومٍ.هذا ملخّصُ البحث الذي أضعه أمامكم ، إخواني مسلمين و مسيحيين، ليحلّ الإشكالية في إطارها السيّاسي و الديني الاجتماعي الذي عاشت في ظلّه الأرض المقدّسة منذ أكثر من ألفي سنة.
ما أهمية الدراسات الكتابية للمسلمين؟
من الأسئلة الهّامة التي يطرحها عامّة النّاس ما ضرورة دراسة كتب محرّفة بإجماع المسلمين؟ ما مصلحة المسلم في ذلك ؟ ما هو هدي السلف الصالح بخصوص هذا الشأن؟
يجب ألا يغيب عن أذهاننا،نحن كمسلمين، أنّ القرآن الكريم يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، و أنّه كتابٌ مصدّقٌ لما بين يديه و مهيمنٌ عليه. و على ضوء الهدي القرآني اعتبر المسلمون أنفسهم مخوّلين شرعا أن يدرسوا الكتاب المقدّس و يبيّنوا فيما أصاب و فيما زلّ. فلا غرابة أن نرى عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقرأ من التوراة. و قد أورد إبن سعد في طبقاته أخبارا
7
مرفوعة إلى كعب الأحبار و عبد الله بن سلام و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم تنعت رسول الله  بنصوص صريحة من التوراة.فحسب كعب الأحبار جاءت صفة النبي: " محمد عبدي المختار لا فظ و لا غليظ و لا صخّاب في الأسواق و لا يجزي السيئة بالسيئة و لكن يعفو و يغفر، مولده مكّة و مهاجره المدينة و ملكه الشّام". و نعته عبد الله بن سلام بمثل ذلك . قال: " يأيّها النبي إنّا أرسلناك شاهدا و مبشّرا و نذيرا و حرزا للأمييّن . أنت عبدي و رسولي سمّيتك المتوكل ، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخّاب بالأسواق. و لا يجزي السيئة بالسيئة و لكن يعفو و يصفح. و لن أقبضه حتى أقيم الملّة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله. فيفتح أعينا عمياء و آذانا صمّاء و قلوبا غلفا".و قد أورد الإمام البخاري رضي الله عنه الحديثين في صحيحه. و هذا النص صريحٌ من نبوة أشعياء الأصحاح 42. و أقدم نصّ صريح ، مبشّر برسول الله  من الإنجيل، وصلنا عن طريق إبن هشام في سيرته الشهيرة1. و هو الأصحاحات 14؛ 16 ؛ 17 من إنجيل يوحنا الذي وعد بإرسال البارقليطس أو المنحمنّا، و لن يكون إلا النبي محمد  كما أجمع الباحثون.
و الضرورات التي تلزم الدّارسين من المسلمين للكتاب المقدّس تتلخص في النقاط التالية:
ـ ضرورة دينية: لمعرفة التفاصيل التاريخية و الجغرافية و البيوغرافية. فهذا ما
لا سبيل إليه إلا بالكتاب المقدّس. و قد أقرّ تعالى ذلك بقوله: "سل بني إسرائيل"
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- ( الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص 481)
8
( البقرة الإسراء110) و قد ورد في تفسير الفخر الدّين الرازي بشأن هذه الآية ما يلي: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايـات بينات } ـ إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم ـ وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد.. و قال رسول الله  في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: " حدّثوا عن بني إسرائيل و لا حرج". لكن حتّى لا نقع فيما وقع فيه سلف هذه الأمّة من أخذهم دون تمحيص الغثّ من السّمين، و لا فيما يحاول خَلفُها من تطهير التفاسير ممّا يُسمّى بالإسرائيليات و نخالف ما أمر به الله تعالى و رسوله فعلى المستأنس بروايات الإسرائيليات أن ينضبط بضابطي الشرع و العقل. فلا يمكن بحال أن تُقبلَ الإسرائيليات التي تنتقص من كمال الله تعالى و لا تلك التي تقدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام. كما لا ينجسم في عقل عاقل تلك الروايات الفاقدة للمنطق ، أضف إلى ذلك ما أثبت التاريخ بطلانه. و من الروايات التي أرى لا محيصا عنها كتلك الروايات التي تذكر أسماء ملوك إسرائيل و أسماء الأنبياء الذين أشار إليهم القرآن الكريم و التفاصيل التاريخية و الجغرافية و الاجتماعية و الأزمات التي أحاطت بحياتهم عليهم السلام.
ـ ضرورة دعوية: يمثل المسيحيون أكثر من 35% من مجموع سكان العالم. و لو لم يكن غير هذا السبب لكان هذا كافيا لدراسة أدابهم و دينهم و ثقافاتهم لدعوتهم إلى دينهم دين التوحيد. فكيف إذا كانوا إلى جانب هذا القوة السياسية الأولى و التكنولوجية و العسكرية و الاقتصادية. و الكلّ يعلم أنّ رسالته للعالمين كافّة قال تعالى:" و قل للذين أوتوا الكتاب و الأمّيين أأسلمتم" ( آل عمران 20)
9
ـ ضرورة سياسية:غموض بعض المسائل الخلافية لدى المسلمين يجعلهم محلّ ريبة و شكّ من طرف المسيحيين. كمثال على ذلك يرى المسيحي أنّ صلب عيسى عليه السلام تمّ بترتيب إلهي منذ الأزل لخلاص البشرية إضافة إلى كون الحادثة ، في نظره، حادثة تاريخية أجمعت عليها المصادر المسيحية و اليهودية و الرومانية. لهذا يرون أنّ المسلمين أسّسوا هرطقة عن سبق إصرار لا لشيء سوى لهدم المسيحية رسالة الخلاص. و هذا الموقف المسيحي من المسلم قد أضرّ كثيرا بالمسلمين سياسيا. ففي نزاع العرب مع الكيان الإسرائيلي لا حقّ لهم. و بحكم أن المسيحيين يقتسمون مع إسرائيل الإيمان بأسفار العهد القديم و بإعتبار أن المسيح المخلص ابن الله خرج من إسرائيل، فإسرائيل في نظر المسيحيين شعب الله و المسلمون هراطقة معادين لرسالة الخلاص التي جاء بها عيسى.
اعتراضات المسيحي على أهم مسألة خلافية بين الإسلام و المسيحية:
لدى المسيحي ثلاث أسئلة مشروعة . و المسلم ملزم أخلاقيا و دينيا بالإجابة عنها لأنّه هو من ينفى مسألة الصلب.
ــ السؤال الأول: هل يوجد مسلمٌ واحدٌ يعتقد أنّ الله تعالى علوا كبيرا ضحك على عباده: يهيأ لهم أنّهم صلبوا عيسى و هم لم يصلبوه؟ فما بالكم، يعترض المسيحي، لو قلنا لكم: لقد هيأ الله تعالى للمسلمين أنّهم سمعوا القرآن من محمد
و ما سمعوه إنّما شبّه لهم؟ قولك، يا مسلم، بإلقاء الشبه سيشكّل مطعنا فيما تواتر عن النّاس؛ فلا تصحّ نبوة و لا أنبياء و لا شرائع و لا قانون.
ــ السؤال الثاني:لقد قرّر القرآن الكريم أنّ اليهود قتلوا أنبياءهم في أكثر من عشر
10
آيات فلماذا يستثنى عيسى ؟
ــ السؤال الثالث: لنفرض أنّ ما جاء به القرآن هو الصحيح من أنّه شبّه لهم أنّهم صلبوا عيسى لكن ما هي الحكمة من ذلك؟ اليهود ابتهجوا بتعليقهم جسد عيسى على الخشبة و اعتقدوا أنّهم انتصروا عليه . تلاميذُه رأوا بأمّ أعينهم أنّ معلّمهم عُذّب شرّ عذاب و انتهت حياته على الأرض بمأساة. السلطة الرومانية أصدرت قرارها بصلب يسوع. قد يعترض مسلم و يقول قد حصلت معجزة بنجاة عيسى و يقول المسيحي ليس في هذا أيّ معجزة. المعجزة تصحّ لو رُفع يسوع أمام أعينهم إلى السماء و هم جادّون في طلبه لكانت نجاته منهم بهذه الوسيلة حقا معجزة.
ما مصلحة رسول الله  من رفضه للصلب:
رسول الله  أمّيٌ خرج من قرية أمّية و كانت المسيحية منتشرة في ثلاث قارات:شمال إفريقيا ، أوروبا و آسيا. وجدهم متّفقين جميعا على أنّ عيسى مات مصلوبا تكفيرا عن خطايا البشر. و كان  حريصا على أن يؤمن به النّاس فهل من الدبلوماسية المعهودة في الحسابات البشرية أن يواجه وحده جميع المسيحيين و يخسر تعاطفا ممكنا إن لم يكن من الكلّ فعلى الأقل من البعض .
المنطق يقول أنّ رسول الله  لم يكن لديه أيّة مصلحة في نكران صلب عيسى و لو لم يكن لديه اليقين العميق من أنّ مصدره متين، أقوى من اعتقاد جميع المسيحيين آنذاك، ما أقدم على قول شيء قد يظهر خطئه بعد حين. خصوصا أنّه

11
عليه الصلاة و السلام لم يكن لديه أيّ دليل تاريخي أو نصّي أو أيّ شيء آخر يدعم به موقفه سوى اعتقاده أنّه ينقل خبرا من لدن الحكيم الخبير. و لتوضيح الأمر على ما يمكن أن تكون عليه خيبة المسيحي من عقيدة المسلم نضرب هذا المثل:لنفرض أنّ سياسيا من الصومال أراد أن يكسب الشعب الجزائري صديقا لقضيته ، فهل يجرؤ على التشكيك في أعزّ ما يفخرُ به الجزائريون و هو الثورة التحريرية التي هزمت ثاني قوة في العالم آنذاك و يقول لهم: ما ثرتم و لا استعمرتم إنّما شبّه لكم؟ فتصوّر أخي القاريء كيف يستحيل في منطق البشر و يتعذّر أن تجمع بين إرادتك في كسب أصدقاء مع تكذيبك لأعزّ ما يتمسّكون به.
و الحقيقة الجلية أنّ تكذيب القرآن لصلب عيسى كان من شأنه أن يصنع أعداءً لرسولنا  و لا يمكن أن يصنع له أصدقاء. و هذا دليلٌ حاسم في أنّ محمد  كان مُبلّغا عن ربّه ليس إلا،لا يرجو مصلحة خاصّة من ذلك.
معالجة القرآن الكريم لمسألة الصلب
من الأشياء التي تشدّ انتباه المحقّقين في مثل هذه المسائل، نجد أنّ ما تعتبره الكنيسة جوهر العقيدة و الذي أطنب في تفسيره سبع و عشرون سفرا في الإنجيل لم يَرُدّه القرآن الكريم إلا بآية وحيدة في سورة النساء 157. ما هي الدروس المستخلصة؟
ــ أمّية رسول الله : و هذا هو الدرس الأوّل . ليس من منطق البشر إذا أرادوا تفنيد شيء أن يكتفوا بالقول :" هذه القضية لم تحدث"، بل عليهم أن
يأتوا بالبيّنات و الدلائل على صدق ما يدّعون. و لو سألنا رسول الله  ما
12
دليلك على أنّ عيسى لم يُقتل و لم يُصلب فسيقول أخبرني العليم الخبير. و نِعمَ بالله، فلا علم و لا تاريخ و لا منطق يعلو فوق كلام الله تعالى.
ــ عدالة القرآن: و هو الدرس الثاني. و المسلم لمّا يستند إلى القرآن الكريم في تفنيد صلب المسيح عيسى عليه السلام سيُواجه من قِبَلِ المسيحي بنصوص إنجيلية تثبت العكس. و أمام هذه المعضلة سيحاول المتجادلان البحث عن مصدر مستقلٍّ يحتكمان إليه. لكن لا توجد وثائق تاريخية ذكرت أو حتّى أشارت إلى اسم يسوع عليه السلام. و لمفاجئة الجميع سنرى أنّ الأناجيل التي بين يدينا هي التي تفنّد صلبه. و بهذا تتحقّق عدالة القرآن الكريم في إقامة الحجّة على المنكرين من كتُبهم التي يطمئنون إليها. و لن يجد المسيحي خيرا له من نصوصه المقدّسة في علاج هذه المسألة. و هذا أسلوبٌ ربّاني.فقد احتجّ الله تعالى على اليهود بتوراتهم. قال تعالى: "قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين". و قد قال تعالى:" و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". فلا شيء أحسن و لا أمضى حجّة من نصوص الكتاب المقدّس عند محاورة إخواننا أهل الكتاب.
ــ معجزة القرآن: من تصفّح ردود المسلمين في مسألة الصلب يتّضحُ جليا أنّ المسألة تتجاوزُهم. فلم يفهموا لماذا رفض القرآن الكريم صلب عيسى عليه السلام و لا أتوا بشيء جديدٍ يدعم إيمانهم . و إذا اتّضح من الأبحاث و الدراسات النقدية و التاريخ و الآثار التي اكتشفت في نهاية القرن التاسع عشر و القرن العشرين أنّ عيسى لم يصلب و لم يُقتل فهذه معجزة المعجزات.
أراء المسلمين في مسألة الصلب
اختلف المسلمون في هذه المسألة اختلافا كبيرا. و ليس في هذا عيبٌ ، بشرط ألا
13
يخرجوا عن مُحكَم النصوص . و لا يوجد فيما لم يرِدْ ذكرُه صراحة في نصوص الشرع رأيٌ مقدّسٌ. و إليك مذاهب المسلمين في هذا الخصوص.
ــ المذهب الأول: هو المذهب القائل بإلقاء الشبه. لكنّ اختلفوا في هوية من ألقي عليه الشّبه. فبعضهم يرى أنّه يهوذا الإسخريوطي ، و آخرون هو طيطانوس و بعضهم هو سرجس. و آخرون هو تلميذ غير معروف تطوّع ليموت مكان عيسى عليه السلام. و منهم من قال أنّه لمّا فشل اليهود في طلب عيسى عليه السلام ألقى اليهودُ القبضَ على رجلٍ و قتلوه و أوهموا الناس أنّهم قتلوا المسيح. و آخر هذه الآراء يتزعّمها السيّد رضوان السيّد: أنّ الظاهرة كلّها هُيّئت لهم. و لم يتمّ صلبٌ أو إلقاء شبهٍ على غيره. و نستطيع أن نقول ، بغض النظر عن هذه الاختلافات، أنّ هذا هو الرأي المعبّرُ عن المسلمين. لكنّ عيبَه أنّه لا يستطيع مواجهة رواية متّفقٍ عليها من النصارى. كما لم يبيّن ما الحكمة من إلقاء الشبه. و يبدو لأهل الكتاب أنّه طرح إشكالات أكثر ممّا حلّ ؛ فهل يجوز في حقّ الله تعالى أن يضلّ النّاس؟
ــ المذهب الثاني: يقول بصلب المسيح لكن بعدم موته. و هذا ما تقول به الطائفة القاديانية و هو ما حاول الشيخ أحمد ديدات رحمه الله إثباته . و يتخذ هذا المذهب من رأي الرازي و الزمخشري مُستندا له حيث قالا في سياق تفسير آية النساء157: "شُبّه" مُسندٌ إلى مَن؟ إن أسند إلى المسيح ، فالمسيح مُشبّهٌ به و إن أسنِدَ إلى المقتول فلم يجر له ذكرٌ."
و يعدّد هذا المذهب حججه في رفض إلقاء الشبه كما يلي: نظرية إلقاء الشبه على يهوذا وردت في انجيل بارنابا ، و لا يصحّ الاحتجاج به لأنه مـــن
14
أناجيل الأبوكريفا، التي لا يعترف بها المسيحيون. و لا دليل على نظرية إلقاء الشبه. و تنهض الأدلّة كلّها على عدم صحّتها. و إنكار وضع المسيح على الصليب يتعارض مع شهادة شهود العيان. أضف إلى ذلك عدم قدرة المفسرين على تحديد هوية الذي ألقي عليه الشبه. و هذا يشكّك، حسب هذا الرأي، في الفرضية إلى حدّ الانهيار. و ضمائر الغائب في الآية الكريمة، عند أصحاب هذا المذهب، يستحيل أن تُنسب كلّها للمسيح. فإذا وصلنا إلى قوله تعالى: و إن الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه" يستحيل أن تُنسب إلى المسيح. لأنهم لو شكّ اليهود فيه لتحرّوا الدقّة و الأمر سهلٌ ميسورٌ و يتحقّق بسؤاله فقط. لكن هذا لم يحدث. إذن ما معنى " شُبّه لهم": معناها أنه اختلط عليهم الأمر في شأن المسيح ؛ هل مات على الصليب أم لم يمت على الصليب. و يقول أيضا جدير بنا أن نُدقّق في معنى الصلب. لو وُضع شخصٌ على الصليب و لم يمت فلا يجوز أن نقول عنه أنّه صُلبَ.؟ و بهذا يعتقد هذا المذهب أنّه استطاع أن يوفّق بين تاريخية صلب المسيح و عدم إيمانه بالفداء.
و يُردّ على هذا الرأي إن كان التاريخ هو نصوص الإنجيل، فنصوص الإنجيل أكّدت موت يسوع على الصليب. فما مبرّر هذا الانتقاء؟. و إن كان يريد بالتاريخ مصادراً أخرى فلا نعلم أن هناك مصادرا مستقلة كتبت عن صلب المسيح. و كلّها متأثر بالنص الإنجيلي و منسوخ عنه.
و لو كان القرآن يدعم هذه النظرية لقال : و ما قتلوه و لكن شبّه لهم. لكن النصّ القرآني يميّز بين الصلب و الموت و يقول :" و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبّه لهم".و يعني أنّ عيسى عليه السلام لم يُسمّرُ أصلا على الصليب و لم يُقتل.
15
ــ المذهب الثالث:و هو القائل بصلب المسيح و موته مثل أراء د. عبد المجيد شرفي ، إخوان الصفا، و غيرهم كثير. و يرى أنّ مسألة الصلب مسألة تاريخية. و الآية " و ما قتلوه و ما صلبوه" قد تعني أنّ اليهود ما قتلوه و ما صلبوه لكن هذا لا يعني أنّه لم يصلب و لم يمت، بل صُلبَ و قُتِل على أيدي الرومان. و لا يستبعد د. عبد المجيد شرفي أن يكون نفي الصلب مقصود منه مجادلة اليهود لاستنقاص شأنهم لا غير1. كما يرى القائلون بهذا الرأي أنّ القصة القرآنية لم يُقصد بها التاريخ: و لا يلزم أن يكون هذا هو الحق و الواقع.و القرآن لا يطالب بالإيمان برأي معين في هذه المسائل. بل يمكن أن نخالفه إذا انتهى البحث و التاريخ إلى حقيقة تخالف ما جاء في القرآن. لأن القرآن يقصد العظات و العبر من هذا القصص لا غير. و دليله في هذا ما يلي:
ــ القصّة القرآنية تفتقد إلى مقومات التاريخ مثل المكان و الزمان.
ــ هناك أقوال لم ترد على لسان الأشخاص إنما أنطقهم بها القرآن. مثل: و بقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله" . فلا يصح في رأيه أن يكون اليهود قد قالوا هذا. و ينتهي إلى قوله: القرآن لم يطلب منا الإيمان بعدم صلب و
قتل المسيح. فإذا ثبت لنا من التاريخ و الكتاب المقدّس أنّ المسيح قُتل و صُلب وجب الإيمان بصلبه و قتله.
و الرأي هذا بعيدٌ جدّا عن الإسلام. و لا يجوز من مسلمٍ بأيّ حال أنّ يعتبر القصص القرآني غير تاريخي، و قد قال تعالى : " و إنّه لكتابٌ عزيزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد" (فصلت 42) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص 119
16
ماذا يستهدف القرآن الكريم بنكرانه صلب المسيح
اختلف المسلمون أيضا في هذا الشأن. و لهم رأيان بهذا الخصوص .الرأي الأوّل يرى أنّ القرآن الكريم رفض الصلب من باب التكذيب التاريخي. يعني أنّه نفى وقوع هذه الحادثة. و أصحاب هذا الرأي ملزمون بتفسير حكمة هذا التكذيب. و لا أعتقد أنّهم سيستطيعون. و أصحاب الرأي الثاني يقولون أنّه شاءت سُنّة الله تعالى أن ينجّي عباده المؤمنين و ينصرهم على أعدائهم. و يُردّ عليهم بأنّ نصوص القرآن المستفيضة تذكر صراحة أنّ أنبياء الله يُقتلون و قد قُتِلَ الكثير منهم. و رأينا،و الله أعلم،أنّ القرآن الكريم يستهدف التالي:
• عيسى عليه السلام ليس ملعونا بل نبيا مُباركا. و هذا ردّ على اليهود.
• نفي عقيدة الخلاص، و إقرار أنّ كلّ إمرىء بما كسب رهين. و هذا ردّ على النصّارى.
• نفي عقيدة التجسّد القائلة ببنوة عيسى لله تعالى .
• نفي نسخ عيسى عليه السلام لشريعة التوراة.
• نفي أنّ الإنجيل هو العهد الجديد. بل هو آخر أسفار العهد القديم.
• أنّ عيسى لم يؤسّس مملكة الله ، بل بشّر بها فقط.
• عيسى عليه السلام ليس هو خاتم الأنبياء.
• إثبات أنّ الإنجيل عبثت به أيدي الضّالين.
كلّ هذه الأفكار التي عدّدناها تفسّرها حادثة الصلب. فإذا انهارت عقيدة الصلب ستنهار كلّ هذه الأفكار تباعا لها.
السياق السياسي و الدّيني الاجتماعي زمن عيسى
17
لفهم المسألة فهما جيّدا فعلى القاريء أن يستحضر جملة من القضايا السيّاسية الإدارية و الدّينية و الحالة النفسية لشعب إسرائيل التي شكّلت مضمار المعترك الذي عاش فيه النبي عيسى عليه السلام مع شعبه.
1- كانت فلسطين آنذاك مستعمرة رومانية. مقسمة إلى ولايتين. ولاية الجليل في الشمال تحت حكم هيرودس أونتيباس و ولاية اليهودية في الجنوب و يحكمها بيلاطس البنطي و عاصمتها أورشليم. و قد كانت السلطة الرومانية قد اتّفقت مع اليهود إثر أزمة ثورة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد على أن تحترم معتقداتهم الدينية و أعيادهم و ختانهم و سبوتهم و أن يُنصّبوا كاهنا عليهم ممن يرضونه في مقابل ألا يطلبوا الإستقلال و ألا يُجنّدوا في الجيش الروماني و أن يدفعوا الضريبة لقيصر و ألا ينفذّوا وحدهم قرارات كبيرة من شأنها المساس بالأمن و الاستقرار كتنفيذ حكم الإعدام مثلا.
2- الحالة النفسية لشعب إسرائيل: كان شعب إسرائيل يعتقد أنّه شعب الله المختار. لكن الواقع يكذّب المعتقد، فقد كان يعيش تحت السلطات الوثنية منذ 600 سنة ، و كانوا يسمّون الأمم بالكلاب و الخنازير. فكان الشعب يغتلي شوقا لوعد الله بأن يرسل إليهم المسيح المخلّص الذي يبيد الظالمين و يردّ لهم سلطانهم و مجدهم المسلوب.
3- لقب المسيح و معناه في الثقافة الإسرائيلية: تنبّأ أنبياء إسرائيل منذ إبراهيم عليه السلام على أنّ الله تعالى وعد شعبه بأن يرسل إليه المسيح.و المسيح لشدّة قربه و مكانته عند الله تلقّبه الأسفار المقدّسة " ابن الله" مجازا. و من معانيه السياسية المَلِك. جاء عيسى عليه السلام و كان إسمه المسيح( و هذا مجرد إسم و
18
لم يكن عيسى عليه السلام لا أوّل و لا آخر من تسمّى به). و كان عليه السلام وُلد من غير أب وهذا من شأنه أن يترك التباسا يسهل استغلاله من طرف خصومه. فسهل جدّا أن يُلفق ضدّه أنّه يدّعي أنّه ابن الله بالمعنى الحقيقي.
4- الصدام بين تعاليم عيسى عليه السلام و كبرياء إسرائيل: أول شيء رفض عيسى عليه السلام هو الثورة ضد روما و قال قولته الشهيرة:" أعطوا و لقيصر ما لقيصر و لله ما لله " و يعنى أنّه على إسرائيل الصبر فوقت الخلاص لم يحن بعد. ثانيا: "قال سيؤخذ منكم ملكوت الله و يُعطى لشعب آخر" و يعني هذا أنّ الله قرّر ألا يكون إسرائيل شعبه بعد اليوم .ثالثا وصف السلطات الدينية بالمنافقين و المرائين و الجشعين و اليهود ككل بسلالة الأفاعي قتلة الأنبياء. لكن هذا العدّو الجديد لإسرائيل ما فتئت تزداد شعبيته يوما بعد يوم لأنّه يحيي الموتى و يبرأ الأكمه و الأبرص و يقيم المفلوجين و المقعدين و يطرد الأرواح الشريرة و يسكت الرياح و يٌكثّر الطعام. فما السبيل إلى التخلّص منه ومن بدعته ؟ كان أمام اليهود خياران. أوّلهما أسهل من شربة ماء، و هو اغتياله في شِعبِ أو واد أو في أحد طرق أسفاره الكثيرة. لكن الخطورة هي إن اغتالوه فسيعيش شهيدا في ذاكرة من آمن به. و هكذا لا يتمّ القضاء على بدعته، كما يراها اليهود. ثانيهما بالغ الصعوبة و هو تقديمه للعدالة أمام مجلس الشيوخ أولا ثم أمام بيلاطس البنطي ثانيا حتى يسمح لهم بقتله و تعليق جثّته على خشبة كما يُقتلُ المجرمون. و هذا هو الطريق الأمثل للتخلص منه و من دعوته.
إرهاصــات الأزمــة بين عيسى و شعبه
ما ميّز زمن عيسى عليه السلام هو الثورات و التمرّد و الفوضى في فلسطين.
19
و حادثة الصلب عنوان لذلك، فهي حادثة تاريخية أجمع عليها الإنجيل و القرآن1 وأيّدها التلمود البابلي 2 و لا خلاف فيها،إلاّ في هوية المصلوب. فهو يسوع الناصرى عند اليهود و كنيسة بولس3،و هو رجل ألقى الله عليه شبه يسوع4 عند المسلمين 5.و الشيء الذي يمكن أن نستخلصه بدون منازع هو:أنّ اليهود حرصوا على قتل يسوع صلباً.و لنبدأ مناقشة الفكرة من هنا .
ولفهم الحقيقة يجب علينا أن نحلّل الوضع السياسي و الدّيني الاجتماعي للأرض المقدّسة زمن صاحب البشارة عليه السلام. فلسطين في هذا الزمان كانت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-قال تعالى :" و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبّه لهم ً ( النساء 157 ) . فاليهود في نظرهم لم يصلبوا إلا يسوع ، رغم ما كان يعتري بعضهم الشك في أنّ هذا المقبوض عليه ليس يسوع. و قد إختلف الرعيل الأوّل من الكنيسة حول هوية المصلوب فالكنيسة الرسولية لم يكن لديها أدنى شك في أن المصلوب هو يهوذا الإسخريوطي الذي جازاه الربّ عز وجل بالعدل على خيانته كما تأثّرت بعض الكنائس بها ورفضت أن يكون المصلوب هو يسوع لكنها قالت أن المصلوب هو سمعان القيرواني حامل الصليب ومن أشهر القائلين بهذا القول هو بازليد صاحب الإنجيل الذي عرف بإسمه و الذي إكتشفه بعض علماء الأثار في نجع حمادي في صعيد مصر.
2- Le fondateur du christianisme. Avant p25
3-بولس هو الذي علّم أن يسوع صُلب لأجلنا كفارة عن الخطايا ، و كنيسته هي التي أدمجت تعاليمه في أسفار الإنجيل التي لم تعلّم أبداً أن يسوع صُلب و تم هذا الإدماج عند ترجمة الأسفار إلى اليونانية. وقد شهد مؤرخو النصارى أنّ نصوص آلام المسيح لم تكن موجودة أصلا في الأناجيل، إنما كانت في كتيبات مستقلة.
4- يتفق المسلمون على أن المصلوب هو رجل ألقى الله عليه شبه يسوع . و لم يختلفوا إلا في هويته . فعند بعضهم : هو تلميذ من تلاميذه إختار طواعية أن يلقى عليه شبه عيسى عليه السلام . و عند بعضهم لما رفع الله عيسى عليه السلام و لم يجدوه ، أخذوا رجلا من أصحابه فألبسوه ثيابه و ستروا وجهه ثم قتلوه و صلبوه و أو هموا الباقين أنهم قتلوا المسيح ( الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص 385 ) . و هذا الكلام غير مقنع من وجهة نظر قرآنية لان الله تعالى قال :" و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين "(آل عمران 54 ) فلا معنى للمكر الذي مكره الله إن كان مصلوب رجلا بريئاً صُلب طواعية أو كرها .
5-أقصد بالمسلمين الذين إتبعوا عيسى عليه السلام بإحسان و هذا النبي الأمي صلى الله عليه و سلم .
20.
مستعمرة رومانية يحكمها في نصفها الشمالي الجليل،الملك هيرودس أونتيباس؛وفي
النصف الجنوبي، اليهودية، الوالي الروماني بيلاطس البنطي بمرسوم قيصري صادر عن السلطة المركزية في روما.
وقبل هذا تعاقبت عليها الادارات الوثنية منذ حملة نبوخذ نصّــر البابلي على رأس القرن السادس قبل الميلاد،مرورا بالفرس، فالإغريق و أخيرا الرومان سنة 63 ق،م. وقد عزّ على شعب الله المختار أن يعيش عيشة المهانة و الذلّ، يدفــع الجزية للخنازير و الكلاب.فاشتدّ شوقه وطال انتظاره إلى المسيح المخلّص ابن داوود. فظهر في هذا الزمان رجلٌ في ناصرة الجليل اسمه يشوع )الاسم العبراني( يبشّر شعبه بقرب مملكة يَهْوَهْ اله إسرائيل،وبقرب الفرج وينادي بعِتقٍ للمسبيين وتخلية للمأسورين وبِسَنَةِ الربّ المقبولة، وبانتقام الله ويعزّي جميع النائحين.وقد علّق عليــــــه الشعب أملا عظيما وظنّوا أنّه المسيح المخلّص. فرفض ذلك وانتهر الشعب ودعاهم لِمُسَالمة روما ودَفْعِ الجزية لها و دعاهم للصبر لأنّ وقت الخلاص
لم يحِنْ بعد، وفضح جشع ونفاق السلطة الدينية بالخصوص و الفرّيسيين على العموم.إذن فلاشكّ أنّ رجلا مثل يشوع سيشكّل خطرا، في أعين مَنْ نَصّبُوا أنفسهم أمناء و أوصياء على عقيدة وتقاليد الآباء، و متقاعسا عن انتزاع الاستقلال السياسي ومُهَدّدا لمصالح السلطة الدينية. فلا مناص من التخلّص منه بطريقة تكفل لهم الحيلولَة بينه و بين أتباعه وتمسَخُ اسمَهُ في ذاكرة الشعب.
ففكّر اليهود في قتلِ يسوع مصلوبا !؟… لكن لقتل رعية من رعايا الامبراطورية الرومانية بهذه الطريقة، و إقحام الوالي الروماني في قضية لا تعنيه مبدئيا، يجب للقضية أن تستند لِتُهمَة يُجرّمُـها القانــون الرومــاني، ولقتــل
21
إسرائيلي أمام الشعب يجب للقضية أن تستند لفتوى شرعية من مجلس الشيوخ )السنهدرين( . ومن غرائب الصُدَفِ أنّ اسم "المسيح"تتقاطع فيه التُهمَتَان السيّاسية و الدينية.
و لقد كان عليه السلام و تلاميذه فريسة سهلة لليهود لو أرادوا نَصْبَ كَمِينٍ له في أي مكان. فلقد كان عليه السلام رسولا مُتجوّلا و هذا ما يميّزه عن كثير من الرُسُل و الأنبياء.فكان لا يكاد يستقرّ في مكان حتى يغادِرَه إلى مكان آخر1 ليبشّرَ بمملكة الله . وكان يُحَرّم على نفسه و أصحابه حَمْلَ الزاد و النقود و السيف و حتى العِصِيّ2. فكان و الذين آمنوا به بدون سلاح . و اليهود جوّزوا لأنفسهم اغتيال المضايقين ، في أسفارهم المقدسة،و اعتبروه خلاصاً من الله و تخليصاً ممن اصطفاهم الربّ لهذه المهمة الجليلة3.و لو فعلوا ذلك في شِعْبٍ أو جَبَلٍ أو في أحد طُرُق أسفاره الكثيرة لَتَخلّصوا منه و خلّصوا الدهماء و السذّج و عامة إسرائيل من فتنة هذا الرجل الذي لم يكن في نظرهم سوى مضلاًّ(لو 23/2). و مشعوذًا ساحرًا4. أكَانَ خوفاً من السلطة الرومانية؟ كلاّ! فقد ثبت في الأناجيل الأربعة و سفر الأعمال أنّ الوالي الروماني كان متعاوناً مع اليهود إلى أقصى حدّ في لعبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تذكر الأناجيل أن يسوع كان كثير التنقل ليكرز بالبشارة . فيوم في الناصرة و آخر في كفرناحوم و منه إلى بحيرة طبرية،بيت صيدا ، المدن العشر السامرة بيت عانيا ، أورشليم ثم صور و صيدا.
2- متى 10/5 – 10 ، لو 9/3
3- لما صرخ بنو إسرائيل إلى الرب بعث لهم القاضي إيهود ليغتال عجلون ملك مؤاب (قض 3/20 – 21 ، قض 14/19 ، 15/5 ، 18/27 ، ويحكى أن أبناء دان أتوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن و ضربوهم بحدّ السيف و أحرقوا المدينة بالنار .
4-Le fondateur du christianisme pp20 ;140 et voir encore Jésus en son temps pp 67;68.
22
دخلت فيها الحسابات السياسية،وغاب عنها الضمير و الأخلاق و المشاعر الإنسانية.و رحم الله القائل:"إنّ السياسة لعبة قذرة !" فلقد استيقن بيلاطس البنطي من براءة المقبوض عليه- الذي ظنّوه يسوع – لكنّه رضخ أخيرا لإرادة اليهود و أسلمه للصلب.
فلماذا الإصرار على قتل عيسى مصلوبا ؟
لقد خاض المسلمون في هذه المسألة خوضا كبيرا و أجاب قديما القاضي عبد الجبار المعتزلي :" إنّ الأنبياء يجوز أن يُقتَلوا و يُصلَبوا ، بل قد قُتل قومٌ منهم ، و أيضا فليس في قتل المسيح طعناً عليه و لا قَدْحاً في أمرِه " . و علّق على كلامه الدكتور عبد المجيد شرفي منتقدا :" هذا يتعارض مع الرأي الشائع الذي مَفادُه أنّ إنكار الصلب راجعٌ أساسا إلى القالب الذي صَبّتْ فيه أخبار الأنبياء المتعاقبين ، و يكون الله في كلّ مرّة منقذاً لنَبيِّه من أعدائه"1. لكن مضمون الآية الكريمة:"و بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما و قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شّبه لهم" (النساء 157) ،لا تتّفق مع هذه الآراء.و قد شدّت انتباهي منذ زمنٍ بعيد!
ما هو الغريب في صلب يسوع،و هو لم يُصلب و لم يمت كمّا أكّد القرآن الكريم، حتىّ يتوعد الله اليهود بالعذاب الشديد : بقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله"،في الوقت الذي يذكرُ القرآن الكريم أنّ كثيراً من الأنبياء قتلهم اليهود و كأنّ الأمر عادي . قال تعالى :" و كأيّن من نبي قُتِلَ معه ربيون
ــــــــــــــــــــــــ
1-الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ( ص 386 )
23.
كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب
الصابرين و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و
ثبت أقدامنا و أنصرنا على القوم الكافرين"(آل عمران 146 – 147).و قال تعالى:" إنّ الذين يكفرون بأيـات الله و يقتلـون النبئين بغير حقّ و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم"1 (آل عمران 22). فَقتلُ الأنبياء يجوز في حقّهم عليهم السلام والاستشهاد في سبيل الله أسمى أمانيهم .
إذن لا شكّ أنّ وراء صلب يسوع سرّاً!
وصل بنو إسرائيل،في تجربتهم الطويلة مع قتل الأنبياء،إلى القناعة أنّ قتلهم لا يزيد إلاّ في تأجيج مشاعر الاعتزاز و الفخر بهم،و بالتالي،في زيادة شعبيتهم.
فكثيرٌ من الأنبياء لم يُقِمْ لهم اليهود في حياتهم وزنا لكنهم لمّا صبروا على ما أوذوا به و قُتلوا،انتصروا و التفّ حول مآثرهم الشعب و اعترف أنّهم كانوا قدّيسين.أذكر على سبيل المثال ارميا،أشعيا و زكرياء . فرؤساء الشعب لم يكونوا أغبياء حتىّ يكرّروا تجربةً ثبت فشلها من قبل ، و يُهدوا يسوع نصراً بعد موته، قد لا يدرِكُه حتى في حياته.و كان حرص السلطة الدينية شديدا للقضاء على دعوته، و إطفاء حماس الجماهير التي آمنت به و اجتثات اسمه نهائيا من ذاكرة الشعب . فما السبيل إلى ذلك ؟ ألم يكن اسمه المسيح ؟و أخيراً اهتدوا إلى حيلة غاية في المكر و الدهاء . لقد وجدوا في كلمة المسيح مُبتَغَاهم ـ يجب ألاّ يخفى على القارىء الكريم أنّ في كلّ دينٍ مُحكَمٌ و مُتشَابِهٌ و أنّ تأويل الكلم تحكمه النيّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر أيضاً آل عمران 183 . و قد ورد في السنة : أن شرّ الناس من قتل نبيا أو قتله نبي " فقتل الأنبياء جائز .
24
الحسنة أو السيئة ــ فمن الناحية الدينية تلقّبُ الأسفارُ المقدّسةُ العبرانية المسيحَ بابن الله مجازا1. و يسوع وُلِدَ من غير آب، فسهلٌ جدّا أن ينصرف المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي. وهذا ما أشاعه خصومُه وعلى رأســـــــهـم رئيس الكهنة ليجد مبرّرا لتكفيره ومن ثمّ قتله معلّقا على خشبة كما تأمر التوراة بقتل
المجرمين الملاعين. قالت التوراة:"إذا وُجِدت على إنسان جريمَةٌ حَقّهَا القَتلُ فَقُتِلَ و عُلِّقَ على خشَبةٍ فلا تَبِتْ جُثّتُه على الخشبة، بل في ذلك اليوم تَدْفِنْه لأنّ المُعَلّقَ مَلعُونٌ من الله فلا تُنَجِّسْ الأرضَ التي يُعطيك الرَبّ إلَهُك نصيبًا")تث21/22( .ولقد أجمعت الأناجيل الأربعة و الإجماع الرباعي نادر جدّا في أنّ يوسف الذي من الرّامة و هو عضــو في مجلــس السنهدرين، طلب الجثّة من بيـلاطس في اليـوم الـذي تمّ فيــه صَلْبَه و دَفنَـه (أنظر يو19/38، لو23/51، مر15/43،متى27/57(. لكن ليس حبّا في المصلوب كما ذهب إليه يوحنا اللاهوتي ومترجم متى )يو19/38،متى27/57( ،لكن لأجل ألاّ تتنجّس الأرض من إثم هذا الملعون.ودُفِن المصلوب في قبرٍ منعزلٍ في الصخر ولم يُدفن في مقابر اليهود ، كما يُوصي التلمود2 ،حتّى لا يتأذّى الموتى من اثمه، وهذا دليل آخر على أنّ المصلوب ملعون )أنظر يو19/41،لو23/53،مر15/46،متى27/60(.و أمّا من الناحية السياسية
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1-أنظر II صم 7/14 ، أش 1 / 2 ، 43/6 ، 45/11 ، 63/16 ، 64/7 . إر 3 / 4 ، 3/19 ، 31/9 ، حز 16/20 ، 23/4 ، هو 2/1 ، 11/1 ، ملا 1/6 ، 2/10 ، 3/17 ، مز 89/27 ، 89/26 ؛أم 14/26 ، I أخ 17/13 ، 22/10 ، 28/6 ، 29/10 ، أس 8/16 ، يه 9/13 ، حك 2/13 ، 2/16 ، يش بن شيراخ 4/10 … و قد إختصرت الشهادات فهي أكبر من هذا بكثير .
Jesus en son temps(Daniel Rops) p 558 -2
25
فالمسيح معناه الملك1، وادّعاء الملك في القانون الروماني عقوبته الصلب معلّقا على خشبة.فإذا نجح اليهود في توريط السلطة الرومانية في قضية يسوع فإّنهم يضربون عصفورين بحجر : يتخلّصون منه من جهة ، و يصرفون الناس عن دعوته من جهة أخرى إذ بات في حكم اليقين أنّ هذا الملعون ، الذي ملأ الأرض من عجائبه ، لم يفعل واحدةً منها إلا بقوة بعل زبول2. فاللّعنةُ تُقصي يسوع حتىّ من أن يكون أبسط يهودي من عامة الشعب ، فكيف يدّعي أنّه نبّي مُرسلٌ3 ؟و يبدو أنّ اليهود استطاعوا لحدّ ما صرف فريق منهم عن بشارة ابن مريم عليه السلام.وتَجَرّأت ألسنَةُ الكُفرِ على لَعْنِ يسوع(أنظر I كو 12/3) . فلّم يغرّر – حسب اليهود – بنفسه فحسب بل حتىّ بتلاميذه و تناقل اليهود فيما بينهم أنّ الدعوة إلى مسيحٍ مصلوب جهالةٌ و فضيحةٌ( I كو 1/23 ). و لتلخيص اختيار اليهود الصعب و المكلف لصلب يسوع عليه السلام بدل من اغتياله بيُسرٍ في أيّ مكانٍ نقول أنّ اغتياله كان سيجعلُ منه شهيداً أمّا صلبه فيجعل منه ملعوناً.
بولس في مفترق الطرق.أيّ سبيل يسلُكُه ؟ ما هو الأيسر؟
أن يمشي باتجاه التّيار القائل أنّ يسوع الناصري صُلب،و هو ما شاع بين الوثنيين و اليهود بما فيهم يهودُ الشتات،أو أنّ المصلوب هو رجــل أُلـقي عـليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أتهم المقبوض عليه أمام السنهدرين بأنّه المسيح . و هي كلمة لا يعرف الوالي الروماني فحواها . أمّا في القصر فأتّهم بأنّه الملك . و هي تهمة سياسية ، لا تتسامح معها السلطات الرومانية .
2- هو اسم الشيطان . و اتّهم اليهود يسوع عليه السلام أنّه يعمل المعجزات بقوة الشيطان .
3-و هذا صدٌ عن سبيل الله :" فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلت لهم و بصدّهم عن سبيل الله كثيرا و أخذهم الربا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل و اعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " ( النساء 160– 161 )
26
شبه يسوع،وهو ما يعتقده الحواريون عليهم السلام.و لا نشكّ أبداً أنّ بولس كان يعلم هذا من الرسّل على الأقل . فلا خصومة في أنّ تبنيّ الفكرة الشعبية أسهل و الرجل الذي جعل من نفسه رسول المسيح إلى الأمم لا يغامر مطلقا بأن يسبح عكس التيار . فما كان منه ، و هو ابن الثقافة الهِلِنْستية1 ، إلاّ أن يُطَعّم فكرة الصلب بمعتقدات الخلاص التي سادت في معظم ديانات آسيا الصغرى في زمانه ، لِيُقدّمها للأمم على أنّها خلاصةُ رسالة يسوع .و يجب أن نتوقّف لحظة لِنُسجّل واحدةً من أخطر عقائد بولس : " أنّ المسيحَ مات مِن أجل خَطايانا".و هو أهمّ تعليم في الكنيسة الناشئة( أنظر I كو 15/3).
المسيح عيسى عليه السلام ملعون أم مبارك؟
لكن الإيمان بيسوع مصلوباً يعني الإيمان به ملعوناً ! و قد كان أتباع بولس في كورينْتُسْ يَلعَنُونَه ، بشكل عفوي ، و نهاهم بولس عن ذلك في رسالته إليهم و التي كتبها في ربيع 56 م:" فَلِذَلك أعْلِمُكم أنْ ليس أحَدٌ يَنطِقُ بِروح الله و يقول يسوع مَلعونٌ 2 و لا يستطيعُ أحدٌ أن يقول يسوع رَبٌّ إلاّ بالرّوح القُدس"( أنظر I كو 12/3). ثم بعد أقل من سنة يَنقلِبُ بولس رأساً على عقب ، و يكتب إلى أهلا غلاطية في شتاء 57 م لِيُعْلِنَ بوجهٍ لا يقبَلُ التأويل ، أنّ المسيحَ يسوع ملعونٌ :" فالذي افتَدَانا مـن لَعـنةِ النَّامــوس هـو المسيـحُ الـذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الثقافة الهلنستية هي ثقافة العالم المتحضر في زمن الإغريق و لا يشترط فيها أن يكون المرء يوناني العرق. و هي تمثّل ما تمثّله الثقافة الغربية اليوم.
2- الترجمات العربية تتحرج شديد الحرج من الكلمة و تضع مكانها " أناثيما " أو " مبسل " و الكلمة الأولى
لا يعرفها العرب و الثانية لطيفة . أما في الترجمات الفرنسية السبع التي أملكها فتضع " ملعون " .
27
صَارَ لَعنَةً لأجْلِنَا بِحَسَب مَا كُتِب مَلعونٌ كُلّ مَنْ عُلّقَ على خشبةٍ لِتكون على الأمَم بَركةُ ابراهيم في المسيحِ يسوع "( غلا 3/13). هذه فضيحة! و بالخصوص أنّ يسوع هو الله المتجسّد في دين بولس . لا يوجد في كلّ أديان الدنيا منذ أن ذرأ الله ذرية آدم على الأرض دينٌ يلعن رّبه و إلهه إلا بولس و أتباعه. حتّى عابد البقر لا يلعنُ بقرتَه.
أخي الكتابي ! هل تعلم أنّ علماءَك لا يَجرؤون أن يُصارِحوك أنّك تَلعَنُ المسيح ؟ ! هل تعلم أنّ لاعِنَ المسيح عيسى ملعونٌ ، و مُبارِكَه مُباركٌ ، قياساً على قول الله لعبده ابراهيم " و أبَارِكُ مُبارِكِيك و ألعَنُ لاَعِنِيكَ "( تك 12/3؛ 27/29). و أوحى الله لبلعام بن باعور :" لا تَلعَن الشّعبَ ( إسرائيل ) لأنّه مُبَارَكٌ " ( عد 22/12).
هل وعيت أخي الكتابي ! أنّ اللعنة و البركة لا تجتمعان إلاّ في فكر بولس السقيم . و قد علّم يسوع عليه السلام في إشارة لطيفة إلى أولي الألباب الذين تنَفعُهم الذكرى أنّ اللّعنةَ طردٌ من رحمة الله ، و ذهابٌ بالبركة و أنّ لاعنيه في ضلال مبين . يذكر إنجيلا متى و مرقس أنّ يسوع جاع فرأى شجرةَ تينٍ من بعيد عليها ورقٌ . و وصل إليها لعلّه يجد فيها شيئا . فلمّا وصلها لم يجد شيئا لأنّه لم يكن وقت التين . فقال لها :" لا يَأكُل أحدٌ مِنك ثمرا بعدُ إلى الأبد " . و في اليوم الآخر إذ كان يسوع و تلاميذه مجتازين رأوا التّينة قد يَبِست من الأصول. فقال الحواري بطرس"يا سيدي أنظر التينةَ التي لَعَنتَها قد يَبِسَتْ"1.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-مر 11/12 – 14 ، 11/20 – 21

.28
كنت أتصفّح الكتاب المقدس مرة ، فوقعتْ عيني على هذه القصّة . و قدّرتُها للأول وهلة أنّها قصّة " سخيفة".جاء يسوع إلي تينة،و الوقت ليس وقت تين ليأكل ؟ لا! جاء ليلعن ! و عرفت بعد تمهّلٍ ، أنّ هذه القصّة التي لا تزيد مثقال ذرة إلى العجائب التي صنعها يسوع بإذن الله – فأين مكانها من معجزة إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و العرج و العمي و تكثيره الطعام – أتت لتخبر أنّ لاعني المسيح ملعونون.و قد ذكرها متى و مرقس و تجنّبها لوقا تلميذ بولس لاعنُ المسيح . فمن هم أتباع المسيح أالذين يلعنونه أم الذين يباركونه !؟ قال تعالى في القرآن الكريم على لسان عيسى عليه السلام "قال إنّي عبد الله أتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أين ما كنت"( مريم 31 ).
و نعود إلى موضوعنا . ما هي دوافع بولس في تغيير موقفه من النهي عن لعن يسوع إلى الأمر به ؟ اقرأ، أخي، رسالة بولس إلى أهل غلاطية1 !.و تمعّن فيها جيدّاً تجد أنّ أول شيء استهلّ به رسالته هو توبيخ الغلاطيين الذين تحوّلوا إلى إنجيل آخر غير إنجيل النعمة2 الذي يعلّمُه بولس؛ ثانيا يُدافع عن رَسُولِيَته بأنّه ليس كاذبا، وثالثا يهاجم أمير الحواريين بطرس عليه السلام هجوما عنيفا.و أخيرا يؤكّد أنّ الشريعة نُسِخَت بنِعمة الصليب . و يحرّضهم للرجوع إلى إنجيله،بكلمات شديدة الوقع . فمن مضمونها نستطيع قراءة السّبب الذي كان من وراء كتابتها.إذ لكلّ ردّ فعلٍ فعلٌ سَبِقه ."و لا دخان بدون نار" كما يقول المثل
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أهل غلاطية هم أهل شمال تركيا الحالية
2- إنجيل النعمة يعني به بولس أنّ شريعة موسى نسخت بموت يسوع الكفاري فلا خطيئة تتبعنا . و لا محرّمات و لا قوانين و لا طقوس.و يذكره بولس في مقابل الإنجيل الذي يتمسك بشريعة موسى .
29
الفرنسي. لقد عرّج إمام الحواريين إلى غلاطية حاملا البشارة بملكوت الله، داعيا للإيمان بالله و رسوله و العمل الصالح الذي تأمر به شريعة موسى عليه السلام ، بما في ذلك الختان . مُكذِّبا صَلب يسوع، لأنّ صَلبه يعني لعنه . فلم يجد رسول الأمم مخرجاً من ورطته التي وقع فيها بتعليمه : " أنّ المسيحَ مات من أجل خطايانا " إلاّ أن يهرب إلى الأمام بقوله : "صَارَ لَعْنَةً لأجلِنَا بِحَسَبِ ما هو مَكتُوبٌ مَلعُونٌ كلُّ من عُلّقَ على خَشَبة لِتَكُونَ على الأمَمِ بَرَكَةُ إبرَاهيم في المَسيح يَسوع".و الكلام هذا فارغ المضمون .و لا يُقنع إلاّ من عَمِيَت بصيرتُه إذ كيف تتبارك الأمم في مَلعُونٍ مَمْحُوق البَركة ؟ !
الليـلة الحاســمة:
تروي الأناجيل الأربعة أنّه لمّا احتفل سيّدنا يسوع عليه الصلاة و السلام بعيد الفصح مع تلاميذه في بيت الحواري مرقس بأورشليم ،خرج إلى جبل الزيتون في العَتَمَة ليقضي ليله في بستان جتسيماني. وكان يأوي إلى هذا المكان حَذراً من غدر اليهود . و بطلبٍ من رئيس الكهنة أرسل بيلاطس جنده يصحبُهم يهوذا الإسخريوطي – و كان قد كفر برسول الله يسوع – لِيَدُلّهم عليه إذ لا أحدٌ يعرف أين اعتاد أنّ يبيت ليله و أصحابه غيره. ابتداء من اللحظة التي وصل فيها يهوذا بصحبة العسكر إلى بستان جتسيماني بجبل الزيتون في ظلمة الليل البهيم ، تحدث الحادثة العجيبة التي أشارت إليها الأناجيل! لقد أُلْقِي القبضُ على الرجل الذي ألقى الله عليه شَبَهَ يسوع! واقتيدَ إلى قصر الكاهن الأعظم .و تَبِعَهُم الحواري بطرس من بعيد و استطاع الدخول إلى فناء القصر و الحضور لجلسة المحاكمة . و كيفية دخول إمام الحواريين إلى القصر هي المفتاح الذي يحلّ اللغز
30
العجيب. لا تخبرنا الأناجيل المتشابهة كيف دخل بطرس .وتتّفق في أنّه لمّا قيل له أنّك أنت أيضا مع يسوع الناصري أنكر و لعن و حلف بالله أنّه لا يعرف هذا الرجل ( مر 14/71، متى 26/74). و تريد هذه الأسفار أنّ تقنعنا أنّ نكران بطرس كان بسبب الخوف على نفسه من أن يلقى نفس مصير مُعَلّمه .لكن القصّة ، في سفر يوحنا ، رغم ما تبديه من تشابه يكاد يكون مطابقا مع تلك التي ترويها الأناجيل الثلاثة الأولى فإنّها، في الحقيقة، بعيدةٌ عنها بعد المشرق عن المغرب. ففي هذا السفر ، يُفسّر دخول بطرس إلى فناء القصر بتدخلّ تلميذ آخر لدى رئيس الكهنة ، و الذي كان يعرفه جيدا ، ليسمح لأخيه – الذي كان واقفا لحدّ تلك الساعة عند الباب في الخارج – أن يدخل إلى القصر و يحضر للمحاكمة ( يو 18/15 – 17).
إذن لمّا أنكر بطرس معرفة هذا الرجل الذي يُحاكم أمام السنهدرين لم يكن بسبب الخوف على نفسه ، لإنّه كان سلفا معروفاً هو و التلميذ الآخر من قِبَلِ الكاهن الأعظم من أنّهما تلميذان ليسوع ! فبطرس الحواري لم يَكذِبْ و لم يَحْلِفْ باطلا ، فالرجل الذي أمامه ليس له من يسوع إلا الصورة ! و أدعوك أخي للتأمل في سؤال حاشية القصر لبطرس و جوابه : تقول له الجارية أنت كنت مع يسوع الناصري . و هو يجيب باليمين أنّه لا يعرف هذا الرجل.و لم يقل : لا أعرف يسوع الناصري. ( أنظر مر 14/67 ؛ متى 26/71-72) . و التاريخ يؤكد هذه الرواية . فلقد ظهر في الصدر الأول للمسيحية مذهبٌ عُرِف بالمذهب الدوكيتي. تشعّبت بأهله الأهواء لكنّها تجمع أنّه لم يُصلَب من يسوع إلاّ صورَتُه.و رفضت الكنيسة الاعتراف بالأناجيل المنسوبة للحواري بطرس لسبب
31
أنّ فيها مسحة دوكيتية 1.
و لقد تأثرت الكنائس القديمة بهذا الرأي القائل أنّ يسوع لم يُصلب حقيقة إنّما صُلبت صورته. و من بين القائلين بهذا القول كنيسة فالنتين و سيرانت و مرقيون و باسيليد2.و قد ظهر هذا المذهب قديما . و لقد ظهر يقينا قبل نهاية القرن الأول،و قبل كتابة الإنجيل الرابع . و تذرّع هذا المذهب، لدعم معتقده، بأنّ حامل الصليب هو سمعان القيرواني كما تروي الأناجيل المتشابهة( لو 23/26 ؛ مر 15/21 ؛ متى 27/32) . و المحكوم عليه بالموت صلبا ،في القانون الروماني، هو الذي يجب أن يحملَ صليبَه كما كان معروفا ( أنظر 2599 ؛2433 TOB pp). و لأجل تجريد خصُومه من السلاح الذي قد يدعمون به مُعتقدهم وجد يوحنا اللاهوتي كاتب الإنجيل الرابع نفسَه في مأزق و اضطرّ أن يُخَالف ما أجمع عليه الإنجيليون الثلاثة الذين سبقوه، و يكتب أنّ حامل الصليب هو يسوع نفسه ( يو 19/17). و كَشَفت الآثار في نجع حمادي بمصر سنة 1945 عن أناجيل من بينها إنجيل باسيليد التي تقول أنّ سمعان القيرواني هو الذي صُلِب مكان يسوع3 ، و تعترف الترجمة المسكونية قي هذا الصدد أنّ إنجيل يوحنا متأثرٌ بالمذاهب الدوكيتية حيث تكتب :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- و يعترف دانيال روبس في كتابه " كنيسة الرسل و الشهداء " أن إنجيل بطرس كان منتشرا بين مجموعات كثيرة نصرانية . و ينقل عن أوسابيوس أنّ سيرابيون أسقف أنطاكية عُرض عليه إنجيل بطرس و سمح بتلاوته و لمّا عرف أنّه مصبوغ بالصبغة الدوكيتية حرّم قراءته.أنظر كتاب دانيال روبس الموالي . L’Eglise des Apotres et des martyrs p 310.
2- ظهر مرقيون و باسيليد في منتصف القرن الثاني للميلاد. بعني أنّه كان قريبا من مصادر الخبر. و هو الذي الذي إضطر الكنيسة لتحديد موقفها من الأسفار المقدّسة.
3- مقدمة د/عمار الطالبي لكتاب محضرات نصرانية ص 59 .
32
" حسب القوانين المعمول بها أيّام الرومان فإنّ المحكوم عليه يُكلّفُ بحمل صليبه ، و في الأناجيل المتشابهة فإنّ سمعان القيرواني هو حامل الصليب بينما في إنجيل يوحنا هو يسوع نفسه". و تتسآءل :" هل يمكن أن نفهمَ من التجَاهلِ المتعمّد ليوحنا الإنجيلي لسمعان القيرواني محاولةً منه لقطع الطريق على المذاهب الدوكيتية التي ترى إمكانية صلب سمعان القيرواني مكان يسوع "1. و هذه المذاهب ظهرت يقينا قبل نهاية القرن الأول و هو أمرٌ معروفٌ في التاريخ الكنسي كما جاء في الصفحة رقم 72 من كتاب شَعْبُ القرآن 2 – و هو كتاب للكنيسة الإنجيلية تقترحه على أتباعها في نقاشهم مع المسلمين لأغراضٍ تبشيرية ـ فمِنْ أين أتت فكرةٌ مثل هذه عند قـوم لم يَفصِلهم عن رفع يسوع إلى السماء إلاّ خمسون سنة على أقصى تقدير إن كان المصلوب هو يسوع ؟
و يعترف التاريخ من جهة أخرى أنّ قصّة آلام المسيح وصلبه لم تكـن في بادئ الأمـر في إنجيـلي مـــتىّ و مرقس بل كانت في كتيبات مستقلّة أُدمِجت للسفرين عند ترجمتهما إلى اليونانية . يقول دانيال روبس في كتابه كنيسة الرسل و الشهداء ما يلي:" بطلبٍ من جماعة المؤمنين في روما دوّن مرقس انجيـله كـمـا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-"Selon la législation courante, le condamné devait porter lui même l'instrument de son supplice ; Jean omet intentionnellement la notice des synoptiques concernant l'intervention forcée, à un moment donné, de Simon de Cyrène ( Mt 27/32; Mc 15/21; Lc 23/26 ) ; jusqu'au bout, Jésus assume pleinement et seul sa Passion et sa mort. Faut-il voir ici une réaction contre une interprétation docète suivant laquelle Simon de Cyrène aurait été crucifié à la place de Jésus ? " voir Traduction oecumènique de la Bible p 2599 note t.
2-voir encore Le peuple du Coran p72.: "L'idée que Jésus aurait été remplacé sur la croix par un sosie a circulé bien avant l'Islam dans les cercles gnostiques.
33
سمعه من معلّمه الحواري بطرس. و أضاف إليه ما كان بحوزته من كتيبات مستقلّة تقصّ ألام المسيح"1. و من خلال هذه الشهادة من المؤرخين المسيحيين يتّضح أنّ بطرس الحواري لم يكن يعلم شيئا عن ألام المسيح و موته.
محـــــاكمة المقبوض عليه:
المقبوض عليه مثُلَ أمام محكمة جنائية حسب توصيف شريعة التوراة و القانون الروماني. و ككلّ قضية جنائية فإنّها تتركب من خمس عناصر، حتى و لو كانت السلط و الاختصاصات في ذلك الزمان غير مستقلّة بعضها عن بعض، هي الادّعاء العام و قاضي التحقيق و قاضي الحكم و المتّهم و التهمة. و لغرض التحقّق من سلامة الإجراءات علينا معرفة ما هي التُهمة و من هم قضاة المحكمة و المدّعي العام.
و نعود إلى سير المحاكمة لِنَثبُتَ أو نَنْفي أنّ الرجل هو يسوع أو غيره. تتّفق الأناجيل المتشابهة في أنّ اليهود لمّا لم يتّفِقوا على تُهمة معينة لإدانة الرجل الذي ألقي عليه القبض ، قام رئيس الكهنة ليسأل : " أأنت المسيح ابن الله الحي ؟ " ؛ لكنها تباينت جدًّا في الإجابة .و هذه إحدى الصعوبات الكبيرة التي تُقلِق علماء النصرانية ، كما يعترف بذلك شارل دود في كتابه مؤسس المسيحية 2 وقد أجمعت الأناجيل على أنّ المقبوض عليه أنكر أنّـه المسيـح،أمـام الكـاهن أوّلا إذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-Daniel Rops rapporte dans son livre "l'Eglise des Apôtres et des martyrs"p 296: Sur la demande de la communauté romaine, entre 55 et 62, Marc met par écrit ce qu'il a entendu de Pierre. Il dispose, en outre, de quelques livrets aide-mémoire, notamment d'un récit de la Passion du Christ".
2-Le fondateur du christianisme. Apres p160
34
أجاب :"أنت الذي تقول هذا"1.و في نص لوقا: " أنتم تقولون أنّني أنا هُوَ". فعلّق اليهود:" إذن أنت ابن الله!". فقام الكاهن و مزّق ثيابه و قال :لقد كفر! ... لقد كفر! و ما حاجتنا إلى شهود". و الترجمة المسكونية التي أعدّها 139 عالماً يمثّلون مختلف الكنائس الناطقة بالفرنسية تكتب في الصفحة 2526 المذكرة d ، معلّقة على نص لوقا السالف الذكر و هو اعترافٌ لا يُقدّرُ بثمن:" مقبولٌ أن نُترجم : أنتم الذين تقولون هذا. ممّا يعني أنّ يسوع قد رفض هذا اللّقب"2. و يعني هذا أنّ المقبوض عليه لم يعترف أنّه يسوع ." أنت الذي تقول هذا !" تعني هذا ما تقوله أنت ! أمّا أنا فأقولُ لسْتُ المسيح!". و لا يوجد اسثناء الا في نص مرقس 14/62 حيث أجاب:" نعم أنا هو!" و الشّاذ لا يُقاس عليه.و قد أنكر شارل جينيبر وجود هذا النصّ في البدء في السفر. يجب ألا نمرّ حتى نبيّن العيوب الجوهرية في المحاكمة أمام الكاهن و التي تمسّ بمصداقتها من الأساس. حسب نصوص التوراة يجب أن يكون الحُكم مؤسّسا على التحقيق و الفحص العميق، و كما هو واضحٌ من تصريحات المحبوس أنّه لم يعترف بالتّهَم المنسوبة إليه بل لم يعترف أصلا أنّه من يريدون. و لقد كان الأولى أن يتحقّقوا من هويته أولا و هذا لم يتمّ. كما يبدو واضحا أنّ الكاهن ، و الذي لم يسبق له أن التقى مع يسوع و لا سمع منه مباشرة من قبل ، كان يمثّل الإدّعاء العام و قاضي الحكم و الخصم في نفس الوقت. و إذا كان الحال هكذا فلا يمكن للحكم أبدا أن يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- متى 26/ 63-64 ،لو22/70من الترجمة المسكونية أنظر النص الأصلي.
2-TOB p 2526 note d :on pourrait traduire : "C'est vous qui le dites; et cela signifierait que jésus refuse ce titre."
.35
نزيها. و أخيرا التّهمة التي انبنى عليها الحُكم بكُفر المتّهم و من ثمّ الإعدام لم تثبت على السجين، إنّما استنتجها الكاهن و مجلس شيوخ اسرائيل، كما هو واضح جليٌ من نصّ لوقا. و لهذا فالمحاكمة كانت صورية لا حقيقية. و قد كان اليهود بيّتوا النيّة الأكيدة سلفا على قتل من ظنّوه أنّه يسوع. و رغم المحاولات اليائسة للسجين في الدفع بأنّه ليس المسيح و لا ابن الله لكن من يُصدّقه!
ثمّ أجمعت الأناجيل مرّة أخرى أنّه أنكر أنّه المسيح أمام بيلاطس البنطي. قال الوالي الروماني للرجل :" أأنت ملِكُ اليهود؟".فأجاب:"أنت الذي تقول هذا!"
(متى27/11؛مر15/2؛لو 23/3 ،يو18/37.)1.الإجابة نفسها أمام رئيس الكهنة . وقد فَهِم بيلاطس هكذا بدليل أنّه برّأه ممّا نسبه إليه اليهود،فخرج ليقول : "إنيّ لا أجد في هذا الإنسان علّة ممّا تشتكون به عليه.و لا شيء يستحقّ الموت من أجله" (لو 23/4 ؛ مر 15/14 ؛ متى27/23 – 24،يو18/38). و لا أحدٌ يستطيع أن يُشكّكَ في نزاهة حكم بيلاطس. فهو المسؤول الأول عن الأمن و الإستقرار في اليهودية، أضف إلى ذلك أنّه لم يكن طرفا من هذه الشيعة و لا من تلك. و قد عمِل، بدافع الخوف من اليهود ، كلّ ما من شأنه حتى يعدلَ اليهود عن مشروعهم. فلمّا وجد من إصرارهم على قتله ما وجد،لجأ إلى حيلة قانونية حتى لا يكون مسؤولا عن سفك دمٍ برئٍ . و قال لهم لست مختصًّا إقليما،فهذا الرجل جليلي و الجليل من اختصاص هيرودس(لو 23/7) . و أرسله إلى والي الجليل و كان يومئذ في أورشليم .و لسوء حظّ بيلاطس رُدّ إليه الرّجلُ بعدما أُلبس لباساً يلخّص معاني الاحتقار و السخرية منه
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1-(C’est toi qui dit que je suis roi) Voir TOB
36
لكنّ الحاكم أعاد الكرّة لعلّ اليهود يثوبون إلى رُشدهم قائلا – بمناسبة عيد الفصح ،و كان من عادته أن يطلق لهم سراح مسجون في هذه المناسبة – " أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود" (يو 18/39 – 40 ؛ لو 23/16 – 18 ؛ مر 15/9 – 11 ؛ متى 27/20 – 22 ). فصرخوا جميعهُم لا نريد هذا بل باراباس !و أشتدّ الخلاف بين الوالي و اليهود إلى درجة نفَذَ فيها صبُرُه ، و خاف على نفسه و منصبه لما هدّدوه برفع شكوى إلى قيصر إن هو أطلق من ظنّوه يسوع ، لأنّ كلّ من يتسامح مع رجل يدّعي أنّه ملك اليهود فهو متآمر على مُلك قيصر و على إستقرار الإمبراطورية ( أنظر يو 19/12) . و ما كان منه أخيراً إلاّ أن أذعن لإرادة اليهود،و غسل يديه أمام الملأ.لِيُعلِنَ براءته من دم المقبوض عليه،وأسْلَمَهُ للصلب .(متى 27/24 ). وإدّعاء المُلكِ تُهمَة سيّاسية خطيرة من شأنها أن تزعزع استقرار الإمبراطورية الرومانية وتدعو إلى العصيان المدني.و هو الأمر الذي لم تتسامح معه روما أبدا1.
ما مبرر نكران المقبوض عليه أنّه المسيح ؟
فَلِمَ يُنكر يسوع أنّه المسيح أمام السنهدرين و بيلاطس إن كان المقبوض عليه هو يسوع حقا ؟!…وللإجابة عن هذا السؤال نفترض ثلاثة فرضيات .و لا أعتقد أنّه يوجد أكثر .ثم نناقش كلّ واحدة لِنَرَ أيّها أصحّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- الصلب عقوبة السرقة والقتل والخيانة وزعزعة الإستقرار في القانون الروماني زمن المسيح عيسى عليه السلام .وفي فلسطين ,زمن الرومان ,أعدم ألفان من اليهود الثائرين من قبل القائد العسكري كوانتيليوس فاروس ¬¬¬¬¬¬(50ق م –9 م) بعد موت هيرودس الأكبر.وفي السنة 7م صلب يهوذا الجليلي الذي قاد حركة التمرد ضد الرومان.(أنظر2433TOBP ).
.37
ـ الفرضية الأولى: يسوع لم يدّع أبدا أنّه المسيح قبل موتـه كـما افترض لوقا في سِفْرَيه1 وهذه الفرضية باطلة من الأساس.لأنه لا نستطيع حينئذ أن نفسّر كيف أتت فكرة اتهام اليهود ليسوع بالمسيح،و لما تقاطعت التُهمَتان الدينية والسياسية في كلمة "المسيح". فمعناها الديني هو "إبن الله"ولقد جدّف بإدعائه أنّه "إبن الله "هو الذي وُلِدُ من غير أب –على كل حال هكذا أرادوا أن يفهموها -.ومعناها السياسي"الملك"وقد يثير الفوضى و اللاستقرار في الإمبراطورية .إذن خلاصة القول لو لم يقل عليه السلام أنّه المسيح بشكل أو بآخر) وهو اسمه الثاني( لما وجد اليهود مبرّرا لإتهامه بالتجديف على الله من جهة، ولما إستطاعوا إقحام الوالي الروماني في قضية لا تعنيه مبدئيا من جهة أخرى .
ـ الفرضية الثانية : أنّه تحت وطأة الخوف من السنهدرين وبيلاطس أنكر أنّه المسيـح أو اسمه المسيح .وهذه أيضا فرضية باطلة .ويستحيل حتى في حقّ رجل شهم كريم أن يتنكّر لمبادئه وتعاليمه التي من أجلها ناضل طول حياته ،‎ليتخلّى عنها في لحظة خوفه ،وبخاصة من رجل علّم الإتّكال على الله وحده والخوف منه وحده قال :"لاتخافوا ممن يَقتلُ الجسَدَ ولا يستطيعُ أن يفعلَ بعد ذلك شيئا ،بل خافوا مِمّن إذا قَتلَ عذّبَ في نار لا تنطفئ"(متى 10/28 ؛ لو 12/5).
وقال أيضا عليه السلام "أليسَ خمسَة عصافيرَ تُبَاع بِفَلْسَينِ.وواحدٌ منها ليس مَنسيا أمام الله.بل شعرَ رؤوسِكم أيَضا مُحصَى.فلا تخافوا! أنتم أفضل من عصَافيرَ كثيرَةٍ "( لو 12/6 – 7 ؛ متى 10/29 – 31 ).
ــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر لو 24/26؛ 46 و أيضا سفر الأعمال 2/36.
38.
ــ الفرضية الثالثة:إذا تبيّن بطلان الإحتمالين السابقين بقي الإحتمال الأخير وهو أنّ الرجل المقبوض عليه ليس له من يسوع الاّ الصورة. ويذكر إنجيلا متى ومرقس أنّ الرجل المقبوض عليه كان جباناً شارد الفكر مُشَتّت القُوى مُنهَارُ الأعصَاب ،لا يُجيب بأيّ كلمة كأنّه مجنون .وبيلاطس نفسُه جَزَم أنّ تَبَكّم الرجل لا يتّفق مع شخصية يسوع الجذّابة وخطاباته القوية التي كانت تؤذي الذين كفروا به ولهذا تَعَجّبَ عجبا شديدا !( أنظر متى 27/12-14؛ مر15/5) … كيف لا يتعجّب من رجل صنع به الله عجائب لم يصنعْها أحَدٌ قَبْلَهُ : أحيا الموتى ، أبرأ البرص و العمى و العرج… و ملأت تعاليمه الأرض المقدسة . و منذ يومين فقط دخل الهيكل في عيد الفصح و طَرَد البَاعَة و قَلَب موائد الصَيارِفَة و كراسي بَاعَة الحمَام و قال : "مكتوبٌ بيتي بيتُ الصلاة يُدعى و أنتم جعلتُموه مغارةً للّصوص ! " ( متى 21/13 ؛ مر 11/17 ؛ لو 19/46). منذ يومين فقط ، صَدَع بالحقّ و جَابَهَ الفرّيسيين و الكَتَبَة بأغلظ الكلمات : " و يلٌ لكم أيها الكتَبَة و الفِرّيسيون المُرآؤون و المنافقون لأنّكم تُغلقون مَلكوت السّماوات قُدّام النّاسِ فلا تَدخُلون أنتم و لا تَدَعُون الدّاخلين يَدخلون . ويل لكم أيّها الكتبة و الفريسيون المرآؤون لأنّكم تأكلون بيوت الأرامل و لِعِلّة تُطيلون صَلواتكم . لذلك تأخذون دَينونةً أعْظم . ويل لكم أيّها الكتبة و الفرّيسيون المراؤون لأنّكم تطوفون البحر و البرّ لِتَكسِبوا دَخيلا واحدًا و متى حصل تَصنعونه إبنًا لجهنّم أكثرَ مِنكم مُضَاعفا . ويل لكم أيّها القادة العميان القائلون من حَلف بالهيكل فليس بشىءٍ ، و لكن مَنْ حَلفَ بِذَهَب الهيكل يَلتزِمْ .
39.
أيّها الجُهّال و العُميان أيّهُما أعْظمُ الذّهَبُ أمِ الهيكَلُ الذي يُقدّس الذَهَب . و مَنْ حَلف بالمذبحِ فليس بشيء . و لكن مَن حلف بالقُربان الذي عليه يلتزم . أيها الجهّال العميان أيّها أعظم القربان أمِ المذبحُ الذي يُقدّس القُربانَ.فإنّ مَنْ حلَف بالمذبحِ فقد حَلَف بِهِ و بِكُلّ ما عليه.و مَنْ حَلَف بالهيكَلِ فَقد حَلَف بِه و بالسّاكِنِ فيه.و مَنْ حَلَف بالسماء فقد حَلف بعَرشِ الله و بالجَالِسِ عليه ويل لكم أيّها الكتبة الفرّيسيون المراؤون لأنّكم تُعَشّرون النَعنَع و الشِّبِثَّ و الكَموُّن و تَرَكْتُم أثقَلَ النّامُوس : الحّق والرحمة والإيمان .كان ينبغي أن تعمَلوا هذه و لا تَتْرُكوا تلك .أيها القادة العميان الذين يُصَفّون عن البعوضة ويَبْلَعون الجَمَل . ويل لكم أيّها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنّكم تُنَقّون خارج الكأس و الصَحْفَة وهما من داخل مملوآن إختطافا ودعارة .أيها الفريسي الأعمى نـَقّ أولا داخل الكأس والصَحْفَة لكي يكون خارجهما أيضا نقيّا.
ويل لكم أيّها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنّكم تُشبِهون قبورًا مُبيّضة تظهرُ من خارج جميلة وهي من الداخل مملوءة عظامُ أمواتٍ وكلّ نَجَاسةٍ .هكذا أنتـم أيضا من خارج تظهرون للناس أبرارًا ولكنّكم من داخل مشحونون رياء وإثما .ويل لكم أيّها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتُزيّنون مدافن الصدّيقين ,وتقولون لو كنّا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء فأنتم تشهدون على أنفسكم أنّكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملأوا أنتم مِكيال آبائكُم .أيّها الحيّاتُ أولادُ الأفاعي كيف تهربون من دَينونَة جهنم .لذلك ها أنا أرْسِلُ إليكم أنبياء وحُكماء وكَتَبة فَمِنهم تقتُلون وتَصلبون ومنهم تَجلِدون في مَجَامعكم وتطرُدون من مَدينة إلى مدينةٍ .لكي يأتي عليكم كلّ دم زكّي سُفِكَ على الأرض مِن دم هابيل
40
الصِّديق إلى دَم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح"( متى23/13-36؛ لو11/39-52؛ مر12/40 ). فرجلٌ هذه شيّمه و خصالُه لا يخاف من الموت و لا يجزع منها.
من هو الذي صُلب مكان عيسى عليه السلام ؟
ينقل علي بوعمامة و د.شرفي عبد المجيد في كتابيهما1 عن أصحاب الردود المسلمين قولهم :" ألقِيَ الشَبَهُ على تلميذ من تلاميذ عيسى عليه السلام فظنّه اليهود أنهّ صاحبهم الذي يريدونه ".والفكرة هذه لا تُقنع . إذ كيف يخّلص الله يسوع ويُطهّره من الصلب لِيصلِبَ صِدِّيقا آخر مكانه ؟ أ هكذا يكون مكر الله؟ و إلقاء الشَبَه على رجل بريء ظُلمٌ ويستحيل الظلم على ربّ العالمين .وهو تعالى حرّم الظلم على نفسه ،وجعله محرمّا فيما بيننا… إذن يجب أن نصل مبدئيا ،على أساس الايمان بعدالة الله ،أنّ الذي ألقي عليه شبه يسوع يستحقّ الصلب واللعن جزاء بما كسبت يداه :"وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون") النحل33(. تذكر الأناجيل وسفر الأعمال بالإجماع أنّ تلميذًا من تلاميذ سيّدنا عيسى عليه السلام كفر بعد إيمانه وازداد كفرا،اسمه يهوذا الإسخريوطي . وتذكر أيضا أنّه اختفى .واختفاؤه يبدو من الأناجيل،أنّه كان لغزاً محيّراً.ولهذا السبب اختلفت الروايات وتضاربت الأخبار في هذا الشأن .وكان المفروض أن لا يُذكر خبر موته وجريمته لأنه لم يفعل إلاّ ما أراد الله في مشروعه الأزلي الذي قررّ أن يُرسل ابنه،ولا يشفق عليه،ليموت على الصليب كفّارة عن خطايا البشر حسب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-La littérature polémique musulmane contre le christianisme depuis ses origine jusqu’aux XIII siécle. P189 .
وأنظر أيضا الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص385
41
معتقد بولس فلماذا يُجهد لوقا و مترجم متّى نفسيهما لِيقُصّا خبراً متنا قضا عن نهاية هذا الخائن الأثيم ؟! يورد مترجم متىّ خبر موت يهوذا قبل خبر محاكمة يسوع أمام بيلاطس. ممّا يدلّ على أنّ اختفاءه كان متزامنا مع اختفاء يسوع.أمّا لوقا فيورد خبره في سفر الأعمال و يتناقض مع مترجم متىّ في أنّ الذي اشترى الحقل بدارهم الجريمة هو يهوذا نفسه الذي سقط فيه على رأسه و اندلقت أمعاؤه،و لهذا سمُيّ الحقل بحقل الدّم.أمّا في مترجم متىّ فالكهنة هم الذين اشتروا الحقل بدراهم الجريمة التي رماها يهوذا بعد ندمه ثم شنق نفسه (متى 27/3-8؛ أعمال 1 /18-19).
و يذكر شارل دود أنه كانت للكنسية الأولى قصّة أخرى مختلفة تماما عن هذه التي تروي نهاية هذا الشقي1. كلّ هذه الراويات المتناقضة،و معتقدات المذهب الدوكيتي القديم،و الحجج الإنجيلية التي أوردناها،و على أساس إيماننا بعدالة الله تعالى و مكره الشديد،نرشّح يهوذا أن يكون هو المصلوب و بالتالي الملعون الذي يستحقّ ذلك بعدل الله تعالى لأنّه أراد أن يسلم بارّاً للأثمة ، تكذبيا له و صدّاً عن سبيل الله .
و خبرُ صلب يهوذا الإسخريوطي مَكَانَ يسوع معروفٌ لدى المسلمين من أهل الكتاب الذين أسلموا- و الذين كانوا يقينا على غير مذهب بولس- منذ القرن الثالث للهجرة و ليس كما يدّعي المسيحيون منذ اكتشاف إنجيل بارنابا فقط حيث أورده إبن جرير الطبري المتوفي سنة 310 هجرية في تفسيره باسم " يودس زكريوطا" (الجزء السادس ص ص 11- 12.في تفسير قوله تعالى و مــا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 -Le fondateur du christianisme. P160
42
قتلوه وما صلبوه و لكن شبه لهم.) و واضحٌ إنّ ابن جرير رحمه الله كان ينقل الاسم مباشرة عن اللّغة اليونانية . لكن المسلمين المعاصرين أُشكِلَ عليهم هذا الاسم كأنّه لا يعني يهوذا الإسخريوطي. و الأمر يسهل تفسيره ذلك لأنّه في زمن الطبري لم تكن الترجمات العربية للكتاب المقدس1 إلا في بدايتها و لم يكن إجماع على ترجمة الأسماء. و مثل هذا حدث كثيراً عند المسلمين كاسم " يوحنّس" بدل "يوحنا" في سيرة ابن هشام.
و لو كان السنهدرين مُنصفاً عادلا خائفا من الله ، لكان هو القاضي بين يسوع و تلميذه المرتدّ ليقضي لصالح البارّ و يفعلَ بِشاهدِ الزّور مثلما نوى أن يفعل بالبريء بحسب حكم الله في التوراة:" إذا قام شاهدُ زورٍ على إنسان لِيشهدَ عليه بِزيغٍ . يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومَة أمامَ الرَبّ أمَامَ الكَهنة و القُضاة الذين يكونون في تلك الأيام. فإنْ فَحَصَ القُضاة جيّداً و إذا الشّاهِدُ شاهدٌ كاذبٌ قد شَهِد بالكذبِ على أخيه. فافعلوا به كما نوى أن يفعلَ بأخيه فَتنزِعون الشَرّ مِن وَسَطِكم ".(تث19/16-20).
لكن لماّ يكون الحَكَمُ خصمًا فَمن يقضي بين الناس ؟ أليس هو الله العدل الذي يحبّ الاستقامة ويمقتُ الشرّ ؟ ! فالملعون وممحوق البركة و المطرود من رحمة الله هو يهوذا لا يسوع البارّ .
من أضلّ الله تعالى و ما الحكمة؟
ويتعجّب ويليام كامبل من هذا الإله الذي يضلّ! يهيئ للنّــاس أنهـم صَلـبوا يسوع وفي الحقيقة لم يصلبوه !… نعَمْ الله يَخدعُ ويُضلّ الظالمين لا المؤمنين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس قبل 737م أنظر Le peuple du Coran p 137
43
"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم "(النساء 142). .وقال تعالى:"ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء"( إبراهيم 27.) .وورد مثل هذا في الكتاب المقدس .تقول الرسالة الثانية لأهل تسالونيكي: "و لأجلِ هذا سَيُرسِلُ إليهم الله عَمَلَ الضَلاّل حَتى يُصَدّقوا الكَذِبَ لكي يُدان الجميع الذين لم يُصَدّقوا الحّق بل سُرّوا بالإثم "( II تسا 2/11-12) . فلم يُشبّه للذين آمنوا بعيسى،لأنهم كانـوا يعرفـون أن المصلـوب هو يهـوذا الاسخريوطي .إنّما شُبّه للذين كفروا به ليزدادوا ضلالا و إثما.وقد شاءت حكمة الله أن يكون عبده عيسى عليه السلام حَجَرَة المَعْثَرَة التي وُضِعت في صِهيون لِسُقوطِ وقِيّام كثيرين في إسرائيل (1بط 2/8 ؛ لو 2/34) .كما تنبأ بذلك أشعيا النبي . " هاأنذا أؤسّس في صِهيون حجرًا ، حَجَر امتحانٍ حَجَرَ زَاوِيَة كَرِيمًا مُؤسسا مُوَثّقا مَن آمن به لا يتزعزع " ( إش 28/14-16 ). لكنّ اليهود كفروا به فتحتّم عليهم تصديق الكاذبين بعدما كذّبوا الصادقين. فظهر فيهم دجّالون و مسحاء كذبة سني 66 م و 132 م لعلّ أشهرهم سمعان باركوكبا الذي إدّعى أنّه المسيح و لقي إعترافا من الكاهن عقيبة بن يوسف، فقاد الثورة اليهودية ضد روما، التي انتهت بخراب أورشليم و زوال إسرائيل كشعب من فلسطين1 . . و دفعوا ثمنا باهضا لضلالتهم.
هل بشّـر يسـوع بصلـبه وقيـامته مـن بـين الأمـوات ؟
حسب تعاليم بولس أنّ المسيح نزل من السمّاء في شِبهِ بَشَر، طاعة لأبيه، ليموت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-Encyclopedia Judaica. Keter Publishing House, Jerusalem.
A History of the Jewish People. H.H Ben Sasson, Editor Harvard University press, Cambridge, Massachusetts, 1969
.44
على الصليب،لأجل مغفرة الخطايا .ونُظّمت كلّ أسفار الإنجيل حول هذه العقيدة والأناجيل بالخصوص ترتّب أحداث حياة يسوع بالشكل الذي تُبرز فيه موته الخلاصي في أورشليم. تبدأ بخبر اعتماده من يوحنا ، ثم كِرَازَتٍه في الجليل وسفره المفصّل إلى أورشليم لتبدأ أخبار ألآمه من ليلة الفصح الأخير حيث يّرسم سرّ الافخارستيا، فالقبض عليه،ومحاكمته ونكران بطرس له,و صلبه و قيامته من بين الأموات . و الأّناجيل تؤكّد بشدّة على أنّ المسيح عيسى بشّر بصلبه و قيامته من بين الأموات.فإنجيل متىّ يورد خبر هذه البشارة ثلاث عشرة مرّة؛مرقس تسع مرات،لوقا ثماني مرات،يوحنا ثلاث مرات . و أوّل إعلان، لهذا الخبر العظيم في معتقدات بولس،ورد في مترجم متىّ . حيث طلب الفرّيسيون من يسوع عليه السلام آية ليجرّبوه . فتنهّد و قال :" لا يُعطى لهذا الجيل آية إلاّ آية يونان . مثلما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام و ثلاث ليال كذلك ابن البشر يكون في الأرض ثلاثة أيام و ثلاث ليال"( متى 12/40).
و يقصد مترجم متىّ أنّ يسوع سيموت و يبقى في بطن الأرض ثلاث أيام و ثلاث ليال ثم يقوم قاهراً لألام الموت . إلا أنّ أول إعلان واضح و صريح كان في قيسارية فيليبُسّ حيث بدأ يسوع يبيّن لتلاميذه أنّه ينبغي أنّ يمضي إلى أورشليم و يتألّم كثيراً من المشايخ و الرؤساء و الكهنة و الكتبة،و يُقتل و يقوم في اليوم الثالث . فأخذه بطرس نحوه و بدأ يزجره قائلا حشا لك يا رب! لا يكون لك هذا.فألتفت و قال لبطرس اذهب خلفي يا شيطان ! فقد صِرْتَ لي شكّاً لأنّك ترى كما يرى النّاس،لا كما يرى الربّ"( متى 16/21 – 23 ؛ مر 8/31 – 9/1 ؛ لو9/22).ثم بعد ستة أيام بالتمام من هذا الإعلان العظيم ، صعِد يسوع عليه
45
السلام وتلاميذه إلى جبل في الجليل و أضاء وجهُه كالشمس و صارت ثيابُه بيضاء كالثلج.و تراءى له موسى و إيليا عليهما السلام . فلمّا نزلوا من الجبل أوصاهم يسوع ألاّ يقولوا لأحد شيئا مّما حدث حتى يقوم ابن البشر من بين الأموات (متى 17/9 – 12 ؛ مر 9/8 – 9).. و يزيد إنجيل مرقس: فَكَتَمَ التلاميذ هذا الكلام في نفوسهم سائلين بعضهم البعض ما يعني إذا قام من بين الأموات!بعد ستّة أيام فقط ينسى الحواريون أعظم خبر أخبره يسوع! خبرٌ نزل على الحواريين ،في شدّته، كأنّه طوفان نوح، ينساه التلاميذ بعد أسبوع واحد!...صحيح قد لا يتنبّه كثير من الناس للخلل في هذا الخبر. لكن الذي يعرف من هو المسيح في الكتب، ورجاء إسرائيل الذي تعلّق به و الحماسة التي تتّقد في قلب الشعب شوقا إليه و انتظارا له، لا يصدّق خبراً مثل هذا.
كان شعب إسرائيل ، زمن يسوع ، قد انتظر المسيح منذ ألف و خمس مئة سنة . و المسيح أعظم شخصية في أسفار الكتاب المقدس ؛ تنبّأ به كل الأنبياء ابتداءً من موسى عليه السلام .و لا يوجد إسرائيلي واحد قديما أو حديثا لم تُحدّثه نفسُه عن هــذه الشخصية التي تتمّ فيها بركات الله.و هو الذي يخلّص إسرائيل من مضايقيه ، و يكسر نير العبودية التي خضع لها شعب الله المختار منذ حملة نبوخذ نصّر البابلي إلى زمان يسوع، و يَرُدّ لهم سلطانَهم المغتصب، ويحكم من النهر إلى النهر و ينتقم الله على يديه من الظالمين و يكونون أمامه كالعُصَافة ، و تلحَسُ الدنيا غبار نعليه و تعطي له الأمم الجزية ، و يُزهر العدلُ و يَكثرُ الرّخاء في زمانه،و يقضي بالحقّ و يرفع الظلم عن البائسين،و يستحيي الوثني بوثنيّته و لا يُقال في زمانه : خَفِ الربّ! لأنّ الكلّ يعرف الربّ و
46
تمتلئ الدنيا بالأتقياء.فلو قال عيسى عليه السلام أنّه سيتألم ابن البشر من المشايخ و الكهنة و الكتبة و يُصلب،لكان هذا الخبر صدمة رهيبة على عقول الحواريين أشدّ من وقع قنبلتي ناغازاكي و هيروشيما على أبناء القرن العشرين، يستحيل نسيانه مدى الدهر.فكيف ينُسى بعد ستة أيام ؟!و ذلك للبون الشاسع بين المسيح الجبّار كما تنبّأت به الكتب و يسوع الذي يعلن عن نهايته الحقيرة الملعونة و يموت و شعبه يئنّ تحت وطأة الوثنيين . ولقد شدّ انتباهي مرّة على شاشة التليفزيون دخول الرئيس بيل كلينتون إلى محلٍّ في شرم الشيخ – و كان هناك بمناسبة القمة لأجل مكافحة الإرهاب – ليشتري بعض الهدايا . .. فخبرٌ مثل هذا رغم أنّه مضت على الحادثة أكثر من إثنتي عشرة سنة و أنّه لا يعنيني لا من بعيد و لا من قريب ، فإنيّ لازلت أذكره . و إنّي أتوقّع أنّ صاحب المحلّ لا ينسَ هذا مادام حيّاً و سيحكيها لأولاده ، و أولادُه لأولادِهم فكيف ينسى الحواريون خيبة الأمل في ملك الملوك على الأرض ألا و هو المسيح ؟!
و يذكر مترجم متىّ أنّ يسوع أعلن لرابع مرّة هذه البشارة في الجليل و يبدو من حزن الحواريين أنّه فهموا قصده جيّداً(متىّ 17/22 – 23 ؛ مر 9/30 – 31 ؛ لو 9/44 – 45). و لمّا بدأ رحلته الخلاصية إلى أورشليم أعلن لخامس مرّة هذا الخبر و يبدو من طلب أم ابني زبدى ، أن يجعل أحد ابنيها عن يمينه و الآخر عن يساره و مساءلة يسوع لها هل يستطيعان أن يشربا من الكأس التي هو مُزمعٌ أن يشربها ، أنّ التلاميذ فهموا جيدا(متىّ 20/20 – 24 ؛ مر 10/33 – 40 ؛ لو 18/31 - 34) . و قبل عيد الفصح بيومين فقط أعلن لهم لسادس مرّة أنّه يُصلب، و لمّا زار امرأةً في بيت عانيا سكبت طيبا على رأسه
47
و تقول الأناجيل أنّه قال : " إنما صَنعَت هذا لدفني"و هو سابع إعلان (متىّ 26/12 ؛ مر 14/8 ؛ يو 12/7 ؛ لو 7/36 – 37) .و من مكانه هذا أرسل تلميذين له إلى أورشليم لتحضير عشاء الفصح الأخير و قال لهم – كما تقول الأناجيل – "قولوا لصاحب الدار أنّ زماني قد اقترب " (متىّ 26/18 ). و هو ثامن إعلان له . و لما احتفل بعــيد الفصح مع خاصته عليهم السلام – تقول الأناجيل – أنّه قال : " إنّ ابن البشر ماضٍ كما هو مكتوبٌ عنه و لكن الويل لذلك الذي يُسلم ابن البشر "( متىّ 26/24 ؛ مر 14/21 ؛ لو 22/21) . و هو تاسع إعلان له . و رسّم سرّ الافخارستيا و هو أعظم سرّ بعد التعميد و لا يوجد اختلاف بين مسيحيين في أنّهما الرُّكنان الأساسيان في المسيحية و هو السرّ الذي يُذكّر المؤمنين بموته الخلاصي الذي جاء من أجله و لما خرج عليه السلام إلى جبل الزيتون ، بعد تناول عشاء الفصح تقول الأناجيل أنّه قال :"ولكن متى قُمْتُ سَبِقتكم للجليل"( متىّ 26/32 ؛ مر 14/27 – 28 ). وهو عاشر إعلان له. و نام أصحابه عليهم السلام ، و كان الليل قد لفّهم بظلامه البهيم و رَغِبَ عليه السلام في الصلاة ،وكان يصلّي في مكان بعيد بعض الشيء عن تلاميذه ، فلما رجع تقول الأناجيل أنّه قال : " ناموا الآن و استريحوا فقد اقتربت الساعة و ابن البشر يُسْلَمُ إلى أيدي الخطأة قوموا لِنَنْطلق فهو ذا قد قَرُبَ الذي يُسلمني"( متىّ 26/45 ؛ مر 14/41 – 42 ). و هو الإعلان الحادي عشر له و لما حضر يهوذا التلميذ الخائن تقول الأناجيل عن يسوع أنّه قال : " افعَلْ فِعْلَتك! "( متىّ 26/50) . و هو الإعلان الثاني عشر له . و استلّ أحد التلاميذ سيفه و ضرب أذن خادم الكاهن و تقول الأناجيل أنه قال:" أردُدْ سيفَك إلى غِمده
48
لأنّ كلّ من يأخذ بالسيف ، بالسيف يَهلك أتظن أنّي لا أستطيع أن أسأل أبي فَيُقيم لي في الحال أكثر من اثنتي عشرة جَوْقَةً من الملائكة و لكن كيف تتِمّ الكتبُ فإن هذا ما ينبغي أن يكون"(متىّ 26/54 ؛ مر 14/48 – 49). و هو الإعلان الثالث عشر عن موته مصلوبا و قيامته.و رغم أنّ السلطات الدينية اليهودية كانـت تخشى الجماهير الواسعة التي أتت مع يسوع من الجليل أو حضرت من كلّ مكان (مر14/1-2؛ لو 19/47 – 48)، لتحتفل بعيد الفصح – هذه الجماهير التي استقبلت يسوع لما دخل أورشليم استقبالا حاراً حيث فرشوا ثيابهم و قطعَ بعضُهم أغصانا من الشجر و هم يصرخون قائلين :"أوصنّا لابن داوود .مُباركٌ القادِمُ باسم الربّ،أوصّنا في الأعالي" (متى21/9 ؛مر11/9-10 ؛لو 19/38). إلاّ أن الأناجيل تتّفق في أنّ إلقاء القبض على الرجل كان في عيد الفصح .و رغم أنّ شعبية يسوع كانت واسعة ، لكنّ الأناجيل لم تذكر أيّ اضطراب حدث في تلك الليلة،و مرّت هادئة كأنّ شيئا لم يحدث.و الأعجب من هذا أنّ محاكمة الرجل لم يحضرها إلاّ اثنان من التلاميذ(متىّ 26/58 ؛ مر 14/54 ؛ لو 22/55 ؛ يو 18/15). ومحاكمة يسوع حسب عقيدة بولس ، هي بداية مَجْدِه الذي يبلغ أوُجّه على الصليب فهل هذا الموقف يتّفق و يتناسب مع الخبر الذي ما انفكّ يسوع أن بشّر به و الذي من أجله نزل من السماء؟!لاشكّ أنّ هذا الهدوء له ما يبرّره.فالمؤمنون علموا يقينا أّن المقبوض عليه ليس يسوع ... فهل نُصدّق بعد هذا أنّ يسوع بشّر بآلامه على يد المشايخ و الكهنة و الكتبة و صلبه و قيامته ؟! و المسيح الذي جاء خصّيصا ليتألّم على الصليب طواعية لا مُكرهًا ارضاءً للآب، وخلاصـا للبشريـــــة الــتي ورثـــــت
49
الخطيئة جزِعَ من الموت وصرخ وهو يقول : "إلهي …إلهي لماذا تركتني" فهل يقول هذا ابن الله الذي وَطّنَ نفسَه منذُ الأزل لهذه المهمّة. وقد تفطّن لوقا لخطر هذا الجزَعِ على عقيدة الخلاص فبدّل مقولة الضَجَر بمقولة الرِّضا وجعل في فم المصلوب قوله : "يا أبتاه اغفر لهم فإنّهم لا يعلمون" و لم يحضر له أحدٌ من الحواريين في آلامه لِيُعَاينَ ذِروة سنام عمله الخلاصي! … و لم يخص متىّ بالذكر إلاّ مريم المجدلية و مريم أم يعقوب و يوسي و أم ابني زبدى ؛ أمّا في نص يوحنا فلم يزد عدد الواقفين على صليبه عن أربعة : ثلاث نساء ، أمه السيدة مريم عليها السلام ؛ و أخت أمه زوجة كيلوبا و السيدة مريم المجدلية و التلميذ الذي يحبّه . ففي كلّ نصوص الأناجيل المتشابهة لم يحضر تلميذ واحد إلى خشبة الصليب ، إذا استثنينا إنجيل يوحنا الذي يذكر أنّه حضر تلميذ واحد مع ثلاث نسوة (متىّ 27/55 – 56 ؛ مر 15/40 – 41 ؛ لو 23/27 – 30 ، يو 19/25 – 26) .فهل نصدّق أنّه بشّر بموته كفارة عن خطايا البشر ؟ هذا الموت الذي فيه مُجّدَ الابن وصار ربّا و مسيحا،و إيذاناً بمجيء ملكوت الله!(اع 2/36 ). و تقول الأناجيل أنّ المسيح صُلب يوم الجمعة في عيد الفصح بعد الظهيرة ، و قُبِر في اليوم نفسه ، و مضى عليه السبت ميّتا و لكن كما بشّر أربع عشرة مرّة يجب أن يقوم في اليوم الثالث كما في الكتب أي (بعد ستا وثلاثون ساعة فقط).و هذا اليوم هو يوم ميلاده من الله بقوة روح القدس (رو 1/4) . لكن لسوء حظ كنيسة بولس ،أنه لم يحضر أحد من تلاميذه لمعاينة قيامة المسيح المجيدة ، ولم يحضر إلى قبره غير ثلاث نسوة : مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة، لا لمعانية مجد يسوع لمّا يقوم من بين الأموات، لكن
50
لأجل تحنيطه . ولم يذكر متّى إلا امرأتين ؛ وأمّا لوقا فذكر عددًا من النساء اللاتي زرن القبر وخصّ بالذكر منهن.: مريم المجدلية و يوّنا ومريم أم يعقوب لكن ليـس لمشاهدة قيامة المسيح ، لكن لتحنيطه.أما يوحنا فلم يذكر إلا زيارة مريم المجدلية لغرض الزيارة،لأنّها اندهشت لما رأت القبر فارغا . وكانت تبكي لأنّهم أخذوا سيّدها و لم تعلمْ أين وضعوه! (مر16/1-2؛ متى28/1 ؛ لو24/1 ؛يو20/1).و هذا يبّين بشكل قاطع أنّ فكرة قيامته لم تَدُر أبداً في خلدها . كلّ هذه النصوص تكذّب تكذيباً قاطعا أنّه بشّر بموته. و لمّا قام من بين الأموات وترآءى لمريم المجدلية و أخبرت التلاميذ لم يصدّقها أحد.و ترآءى لأثنين من الحواريين و لم يصدّقهما أحد. و لم يصدّق الحواريون كلّهم خبر ظهور يسوع للنساء.و مريم المجدلية نفسها لمّا ترآءى لها يسوع لم تصدّق هي أيضا عينيها. و توما هو أيضا لم يصدّق خبر قيامة يسوع حتى يضع أصبعه في موضع المسامير وحتى يلمس أضلعه (مر16/11-13؛ لو24/11؛ يو20/14؛ يو20/25-26) . كلّ هذا التكذيب من الحواريين لخبر قيامة يسوع كان بعد يومين فقط من ترسيم يسوع الرسم الأعظم في الكنائس كلّها ألا وهو رسم الأفخاريستيا، و بعد ستٍ و ثلاثين ساعةٍ فقط من صلبه . تقول الأناجيل: " وفيما هم (الحواريون) يأكلون أخـذ يسـوع خـبزاً وبـارَكَ و كَسّرَ و أعْطــاهُم وقال خُــذوا كُــلوا هذا هو جَسَدي.ثم أخَذَ الكأسَ و شَكَرَ و أعطاهُم فَشَرِبُوا منها كُلّهم وقال لَهُم هذا هو دَمي للعَهدِ الجديد الذي يُسفَكُ من أجل كثيرين"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-النص لمرقس14/22-23؛ متى26/26-30؛ لو22/15-20؛ يو6/51-54؛ 1كو11/23-25.

51
ويجب أن نؤكّد أنّ يوحنا لم يذكر سرّ الأفخارستيا لكن ذكر ما يقابله في غير ليلة الفصح.حيث يضع في فم يسوع:" أنا هو خبز الحياة "…" هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان و لا يموت". فهل يُعقلُ أن ينسى جميع التلاميذ هذا الخبر بعد يوم و نصفٍ فقط؟ و هل تصمدُ هذه النصوص أمام النقد؟ .لا أشكّ من جانبي أنّ يسوع عليه السلام قد ترآءى للتلاميذ بعد حادثة الصلبِ و على رأسهم السيّدة مريم المجدلية و ذلك ليُكذبَ أنّه صُلبَ. و دلائلُ صدقِ الرواية قوية لأنّ الأتاجيل أجمعت على أنّ السيّدة مريم هي التي وقفت على الصليب ( يو 19/25 ؛ مر 15/40 ؛ متى 27/56) و هي التي زارت القبرَ في صبيحة يوم الأحد ( يو 20/1 ؛ لو 24/10؛ مر 16/1 ؛ متى 28/1) و هي التي ترآى لها يسوع ( يو 20/15-18 ؛ مر 16/9 ، متى 28/9). و يبدو أنّ القصّة منسجمة و متناسقة و تُفسّرُ بأنّ السيّدة كانت بالفعل تعتقدُ أنّ المصلوبَ هو يسوع ذلك أنّه لم يكن لديها علمٌ عن ملابسات القضية لأنّها قضت ليلتها في أورشليم و ليس مع يسوع و الإحدى عشر عليهم السلام في جبلِ الزيتون. لهذا كان واجبا على نبي الله أن يبيّن لتلاميذه أنّه لم يُصلب. إذ لو تُرِكَ الأمرُ كذلك لكفرَ التلاميذُ كلّهم بيسوع و وُئدَت دعوتهُ في المهدِ و هذا ما كان يريده خصومُه إذ يستحيلُ أن يؤمنَ يهوديٌ بصلاح و عدالة رجُلٍ مصلوبٍ مثلما يستحيلُ أن يؤمنَ مسلمٌ بصِدقية رجـــلٍ مرجومٍ.
هــل عـقيــدة الفــــداء كتــــابــــية؟
علّم بولس: "لأنّه بِمَا أنّ المَوتَ بإنسانٍ فَبإنسانٍ قِيامةُ الأمواتِ.فَكَمَا في آدم يَمُوت الجميعُ كذلك في المسيح يَحْيا الجميعُ".وهذه الفكرة الأساسية في معتقدات بولس
53
وقد وردت بوتيرة كبيرة في الإنجيل1.و يقصد بكلامه أنّ الجنس البشري وَرِثَ الخطيئة عن أبيه آدم.فالإنسان في المسيحية ليس مسؤولا عن خطيئته ولا عن تبريره…..فَخطىء لِخَطأ آدم و بُرّر بموت يسوع! و لو وَرِثَ البشَرُ خطيئةَ أبيهم آدم لكان أول من يَتَكَلّم عنها التوراة و الأنبياء و المزامير. فهل ورد شيء من هذا يؤكّد مقولة بولس؟ لا يوجد نبي واحد أو سفرٌ واحدٌ يقول أنّ الإنسانَ مَدينٌ منذ ولادته، بما فيهم يسوع عليه السلام. و تؤكّد التوراة على أنّ الإنسانَ مسؤولٌ عن خطيئتِه لوَحده؛ وأنّه لا يَحلّ أن يعاقب الأبناء بذنب أبائهم ؛أو الأباء بذنب أبنائهم:" لا يُقتَلُ الأباءُ بالبنين ولا يُقتَلُ البنون بالأباء بل كُلّ إمرِىء بَذنبه يُقتَل"( تث24/16). و يؤكّد النبي حزقيال هذه العقيدة العادلة بقوله: "مَا بَالُكُم تَتَمَثّلون بهذا المَثَلِ في أرض إسرائيل قائلين الأباءُ أكلوا الحِصْرِمّ و أسنانُ البَنينَ ضَرِسَتْ! حَيٌّ أنا يقول السيّد الربّ لا يكونُ لَكُم مِن بَعد أنْ تَتَمَثّلوا بهذا المَثَل في إسرائيل…..النفسُ التي تُخطِىء هي تَموت.الإبنُ لا يَحمِل إثمَ الأب و الأبُ لا يَحمِل إثْمَ الإبن .بِرّ البَارّ عليه يَعودُ، و نفِاقُ المنافِق عليه يَعود و المنافِق الذي تابَ مِن جميع خطاياه التي صَنَعَها وحَفِظَ جميع رسومي و أجْرَى الحُكمَ و العدلَ فإنّه يحيا حَيَاةً ولا يموت"(حز18/2-20) .و يُكذّب النبي داوود ادّعاء بولس الباطل، كأنّه عاَش في زمانه قال : "لا يَفْتَدي أحَدٌ أخاه أصلا ولا يُعطي كفّارةً عنه"(مز49/8 ) .
ــــــــــــــــــــــ
1- 1كو15/1-21؛ متى26/28؛ مر14/24؛ لو22/20؛أع13/27، أع13/38-39؛ رو3/25-26؛ 5/9؛ 15/12-13؛ 5/14؛ 5/19؛ 5/20؛ 6/6-7؛ 8/3؛ 8/32؛ 1كو10/16؛ 15/3-8؛ غلا1/4؛ 3/13؛ أف1/7؛ 5/2؛ يو1/29.
53
وهذا المزمور يدعّم ما جاء في التوراة و الإنجيل من أنّ الإنسان رهينٌ بما كسبَ، ولا يحمل خطيئة غيره.ففكرةُ الخطيئة و الفداء و الخلاص و المخلّص لا توجد رائحتها في الكتب المقدّسة مطلقا فمن أين أتت؟ يجب ألاّ ننسى أنّ مُعلّم النصرانية، التي تعيش اليوم، هو بولس الهِلِنِسْتي، لا يسوع الناصري عليه السلام. وقد استقى بولس من بيئته الوثنية في طرسوس و ما حولها من العالم الإغريقي الروماني المّادة الخام التي على ضوئها فسّر حياة يسوع حتى تلقى صدًا عند الوثنيين ويسهل عليه بالتالي تَلْمَذَتهم على يديه. و يعترف النصارى حتى الأقدمون منهم بوجود شَبَهٍ سَاطِعٍ بين عقيدتي التعميد و الإفخارستيا و شعائر الديانات التي عاشـت بين بلاد ما بين النهرين وآسيا الصغرى. وقد نقل جوستين الشهيد( 170م) أنّ أسرار ميثرا احتوت على نوع من الشعائر تفـرض
تقديم كأسٍ و قطعة خبزٍ إلى المؤمنين مع النُطق ببعض العبارات.و هو ما يفعله النصارى تماماً في تناول القربان. فالإله المنقذ في هذه الديانات يتعذّب و يموت لكنّه يقهر ألام الموت إذ يقوم من جديد. وحتى ينجو المؤمن يجب أن يشارك إلهه العذاب و الموت ثم القيامة ليجد معه الحياة الأبدية السعيدة1.
هــل بشّــر الأنــبيــاء بصــلــب المـسيــــح؟
قبل أن نبحث في هذا الباب، نقول أنّ القول بأنّ الكتب المقدّسة تنبّأت بصلب المسيح حماقةٌ و ليس خطأٌ. صلب يسوع عليه السلام مبادرة يهودية. فالحاكم الروماني لمّا اقترح لليهود بمناسبة عيد الفصح من يريدون أن يطلق سراحه يسوع أم بارباس، قالوا نريد باراباس . فسألهم و ماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-المسيحية نشأتها وتطوّرها ص ص74،77.
54
فأجابوه أصلبه!...أصلبه!( أنظرمتى 27/15-16؛ مر15/6-15؛ لو23/13-25؛ يو18/39-19/16 ). فكيف يُعقلُ أنّ مجلس علماء اسرائيل و على رأسهم الكاهن الأعظم يصلُبُ يسوع، و قد كفروا به و عملوا كلّ ما من شأنه التشكيك في دعوته ،إن كانوا موقنين من التوراة و الكتب المقدّسة أنّ المسيح يُصلب؟ هل تصل بهم الغباوة و الحماقة حتّى يؤكّدوا بجريمتهم هذه أنّ يسوع هو بالفعل المسيح المنتظر؟ .
في تعاليم بولس و كنيسته، بشّر الأنبياء بصلب المسيح وقيامته. وهذه سخافة، إذ كيف يبشّر الأنبياء بنبي ملعون؟!…فالملعون لن يكون إلاّ مجرماً مفتريا كذّاباً على الله و حاشا لسيّدنا عيسى عليه السلام أن افترى على الله كذباً.بل كان مَرجِع الطُهر و الإيمان و خشية الله و كان مَثَلا لبني إسرائيل. فأين النصوص من العهد القديم التي تتنبّأ أنّ المسيح يُصلب و يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث؟! قال لوقا: "أنّه يَمضي كما هو مكتوبٌ"(لو22/22). و تعلّق الترجمة المسكونية على هذا النصّ بقولها: " إنّ لوقا بهذه العبارة يفسّر فكرة اليهود عن الكتابات التي تتمّ"1. وبدل أن تذكر لنا الكتابات التي يمضي حسْبَها ابن الإنسان مصلوبا، آثرت أن تسلك هذا السبيل حتى تُغطّي على المشكلة القائمة. وإذا كان اليهود يعرفون من الكتابات أنّ المسيح سيموت مصلوبا،فلن يكونوا أبداً أغبياء لهذه الدرجة ليعطوا يسوع سلاحا يستعمله ضدّهم: وهو صلبه.و هم الذين كفروا به و عمِلوا المستحيل للصدّ عن سبيله.وتعترف الترجمة المسكونية أنّه لا يوجد نص في العهد القديم يمسّ خيانة ابن الإنسان من قِبَلِ تلميذه، ولكن –
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- TOB p2523
55
تقول – قد يشير المزمور41/10 إليها بشكل عام: "بل صاحِبَ سَلامي الذي اتّكَلْتُ عليه و أكَلَ خُبزِي هو رَفعَ عَليّ عَقِبَه " و لا أسهل من بتر النصوص مـن أيّ كتاب دون مراعاة لسياقها التاريخي و النصّي وتفسيرها كيف ما يروق لنا. و التفسير المعتسف للنصوص و التأويل الباطني لها حِرفةٌ يُتقنها بولس و أتباعه كما سنرى. و لكن إذا أكملنا النصّ نجد : " بهذا أعلم أنّ هواك فِيّ أن لا يُشمِتَ بي عدوّي". و النبي داوود يتكلّم عن تجربته التي خرج منها منتصراً بتأييد الله، لكن يسوع أُسْلِمَ و شمَتَ به أعداؤه حسب الأناجيل. و أشهر نص يستدلّ به النصارى على ألآم المسيح هو نص أشعيا53/1-13 : " منْ آمَنَ بما سُمِعَ مِنّا ولمن أُعلِنت ذراعُ الربّ. فإنّه ينبتُ كفرخٍ أمامه و كجَرثومة من أرضِ قاحلةٍ.لا صُورَة له و لا بَهَاء فنَنظرَ إليه و لا مَنظَرَ فَنَشْتهيه، مُزْدَرىً ومَخذولاً من النّاس رجلُ أوجاعٍ و مُتمرِّسٌ بالعاهاتِ و مَثلُ ساترٍ وجهَه عنّا.مزدرىً فلم نعبأْ به، إنّه لقد أخذَ عاهاتِنا و حمَِل أوجاعَنا فحَسِبْناه ذا بَرَصٍ مَضروبًا من الله و مُذلّلاً.جُرِح لأجل مَعَاصِينا و سُحق لأجلِ أثآمِنا، فَتأديبُ سَلامِنَا عليه و بشِدْخِه شُفينا.كُلّنا ضَللنا كالغنم كلّ واحدٍ مَالَ إلى طريقه. فألقى الربّ عليه إثمَ كلّنا.قُدِّم وهو خاضِعٌ ولم يفتَحْ فاه.كَشَاةٍ سِيقَ إلى الذَّبح و كَحَمَلٍ صامتٍ أمام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه .من الضيق و القضاء أُخِذَ ومن يَصف مولدَه.إنّه انقطع من أرض الأحياء ولأجلِ مَعصِية شعبي أصَابَتْه الضَربة فمُنِح المنافقون بقَبْرِه و الأغنياء بَمَوته لأنّه لم يصنعْ جَوْراً ولم يوجد في فمه مكرٌ. و الربّ رَضِي أن يسحقه بالعاهات.فإنّه إذا جعل نفسَه ذبيحةَ إثمٍ بَرَى ذُرّية و تطولُ أيّامُه و مرضاة الربّ تنجحُ على يده لأجل عَنَاء نفسِه يَرَى و يَشبَعُ و بعلمِه يبرّر الصدّيق عَبدِي كَثيرِين وهو يَحْمِل
56
آثامَهم. فلذلك أجعلُ الكثيرين نصيبا له و الأعزّاءَ غنيمتَه لأنّه أفاضَ للموتِ نفسَه و أُحصِي مع العُصاة وهو حَمِل خطايا كثيرين و شَفِع في العُصَاة" .و هذا النصّ ورد كثيراً أو أشارت إليه أسفار الأناجيل. تقول الترجمة اليسوعية :" هذا النصّ يتنبّأ بإهانات المسيح و ألآمه وما يتلوها من تمجيد وعَقدِ مُلكِه على جميع الشعوب1". أمّا الترجمة المسكونية فتقول: "عند البعض و خاصة في التقليد اليهودي النص52/13-53/12 يتكلّم عن شعب إسرائيل الوفيّ الـذي سُحق في الجلاء ببابل ثم افتقده الربّ برحمته و كرمه. أمّا يوحنا المعمدان و التقليـد الكنسي فيطبّق هذا النصّ على يسوع خادم الربّ البارّ القادر على حمَلِ و تحمّلِ و مَحوِ الخطايا لجميع الناس و أخيراً مُنتَصِرًا على الموت و جاذبا إليه ناسا كثيرين لأجـــل خلاصهم"2. و في رأينا لا هو شعب إسرائيل و لا يسوع المتنبّأ به في هذا النصّ. و النصّ يرسم صورة متكاملة للنبي إرميا عليه السلام، و كثير من نصوص هذه البشارة نسبها النبي إرميا لنفسه. و حجّتنا أقوى إن شاء الله.و لنحلل هذه النبوة إلى جزئياتها و سنرى إذا كانت تنطبق على شعب إسرائيل أو عيسى أو النبي إرميا عليهما السلام." لا صورة له ولا بهاء فننظر إليه و لامنظر فنشتهيه مزدرى مخذولا من الناس" نصّ مثل هذا لا ينطبق على يسوع عليه السلام لأنّه كان ذائع الصيت و قد ثبت أنّه وُلِد ميلاداً معجزاً، و بَكّتَ علماء الشريعة وهو في السنّ الثانية عشرة من عمره. و عمل المعجزات العجيبة. فقد أطعم من أربعة ألاف إلى خمسة ألاف من خبزتين و خمس سمــكات، و أحيــا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1-الترجمة اليسوعية ص537
2-الترجمة المسكونيةTOB p875
57
الموتى و أبرأ البُرص و العُمي و العُرج و مشى فوق الماء و أسكت الرياح. و من كلّ مكان أتت إليه الجموع لتطلب بركته و علمه. وكان الناس يسمّونه معلّما. فهل تصحّ هذه النبوة على عيسى عليه السلام؟بينما إرميا عليه السلام لم يفعل ولا معجزة واحدة. و كان يتنكّر له كلّ الشعب، وحتى خاصة أهل بيته( إر12/6)..ولمّا كتب نبوته إلى الملك مُنذرا له من العقاب المحُقّ على أورشليم مزّق كتابه و رماه في النار(إر36/23-26) . وكان الشعب كلّه يُهدّده بالموت، و أيضا سلطات الهيكل. وضُرب ضرباً مبرّحا1، وهُجّر بالقوة إلى مصر(إر43/6-7). " جُرِح لأجل معاصي شعبه وسُحق لأجل آثامهم". لأنّ الربّ قال لإرميا :"و ربّ الجنود الذي غرَسَكَ قد تكلّم عليك بِشَرّ لأجل شَرِّ آل إسرائيل و آل يهوذا الذي صنعوه لِيُسخِطُونَني بِتَقتيرِهِم للبَعل"( إر11/17) . وكان قد سمّاه الربّ عزّ و جلّ بالزيتونة الخضراء الجميلة ذات الثمر الأنيق. و يقول إرميا: "و لم أعلم أنّهم فكّروا عليّ أفكارًا أن لِنُتلِفِ الشجرة مع طعامها"( إر11/19) . ولهذا قال النبي أشعيا: " و كجرثومة أو جذرٍ في أرض قاحلَةٍ". جذرُ شجرة الزيتون في أرض قاحلة تمثّل جَفَاء إسرائيل الذي رفض الزيتونة الطيّبة المباركة التي يُستضاء بزيتها." كلّنا ضَلَلْنا كالغَنَم كلّ واحدٍ مَالَ إلى طريقه" لأنّ بني إسرائيل في زمانه انقسموا فئتين عظيمتين تجاه الخطر البابلي الذي يهدّد الأرض المقدّسة. فئة رأت من صالح إسرائيل أن تتحالف مع الفراعنة، و فئة أخرى تبنّت المقاومة الداخلية لإنتزاع الحرية و كان على رأسها إسماعيل بن نتانيا بن أليشاماع ، من عائلة ملكية. فإختلف بنو إسرائيل كالغنم التي ضلّت الطريق. و
ــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر على الترتيب إر12/1-6 ؛ إر26/6-12 ؛ إر37/15.
58
كان النبي إرميا وحده مع كاتبه باروك بن نيريا بن معسيا يريان في بابل عصا الربّ لتأديب شعبه، و لهذا فلا مناص من التسليم بها و قبولها. " لم يفتحْ فاهُ كَشَاةٍ سِيقَ للذَبحِ و كَحَمَلٍ صَامِتٍ أمَام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه". وقد قال النبي إرميا عن نفسه مطبّقا كلام أشعيا عليه السلام: " وكنتُ أنا كَحَمَلٍ أليفٍ سيق إلى الذبح ولم أعْلَم أنّهم فَكّروا عليّ أفكاراً"( إر11/19). " إنّه إنقطع من أرض الأحياء و لأجل مَعصِية شعبي أصَابته الضَربة" وقد قال إرميا عليه السلام عن نفسه مصوّراً الظّالمين الذين تآمروا على قتله:" لِنُتلِفْ الشجرة مع طعامها و لِنَقطَعه من أرض الأحياء ولا يُذكر اسمُه بعد"( ار11/19). و الكلام غني عن كلّ تعليق." رَجُل أوجاعٍ و مُتَمِرّسٍ بالعَاهَات" . و قال ارميا :" ويلٌ لي يا أمي لقد ولدتيني إنسانَ خصامٍ و نِزاعٍ للأرض كلّها. إنّي لَم أقرِضْ و لم يُقرِضْني أحدٌ و كلّ واحِدٍ يَلعَنُني"(إر15/10) . وهذا الكلام يفسره قول أشعيا أيضا :" لم يصنع جوراً ولم يوجد في فمه مكرٌ "." و مَثَلُ ساتِرٍ وجهَه عنّا، مُزدرى لم نَعبأ به، إنّه قد أخَذَ عَاهَاتِنا و حَمِلَ أوجَاعنا فحَسِبنَاه ذا بَرصٍ مَضروبا من الله و مُذلّلا" كأنّه عليه السلام صاحب عاهة،انعزل عن الشعب،وحمل في قلبه ألآم شعبه الذي أراد له الخير لكنّه كافأه بالشَرّ. ولشدّة عزلته عن الشعب حتى كان كأنّه أبرص ـ و الأبرص نجِسٌ في شريعة التوراة لا يقربه أحد حتى لا يتنجّس ـ وقد أمره الربّ عزّ و جلّ أن ينعزل عن الشعب :" لا تتّخذ لك امرأة و لا يكن لك بنونا و لا بناتٍ في هذا الموضع.فإنّه هكذا قال الربّ على البنين و البنات المولودين في هذا الموضع وعلى أمّهاتهم اللاتي ولدنهم وآبائهم الذين ولدوهم في هذه الأرض. إنّهم سيموتون بالأمراض ولا يُندَبون و لا يدفنون بل يكونون زِبلا
59
على وجه الأرض"(إر16/1) . و أمره الربّ عزّ و جلّ أيضاً : " ولا تدخلِ بيتَ وَليمَة لِتَجْلِسَ معهم وتأكل و تشرب"(إر16/8) .وقال له أيضاً: " لا تدخل بيت صُياح و لا تنطلِق إليه لِلْنَدْبِ ولا تعزّهم فإنّي قد أزَلْتُ سَلامِي عن هذا الشعب"(إر16/5) .وهذا هو معنى نبوة أشعيا: " حسبناه ذا بَرَصٍ مَضروباً من الله و مُذلّلا" و يصف النبي صبره على إيذاء الظّالمين، و احتساب أجره عند الله بقوله :" إنّي لم أجلِسْ في جماعة اللاعبين ممازحاً،بل من أجل يدِك جَلستُ مُنفرِداً لأنّك ملأتني غضباً.لماذا صارت كآبتي مستديمة و ضَرْبَتي مُعضلةً تأبى الشفاء"(إر15/17-18).و :" صِرْتُ ضِحكَةً كلّ النهار فكلّ واحدٍ يستهزىء بي"( إر20/7). و تجربة النبي تفسّر قول أشعيا : "لأجل معصية شعبي أصابته الضربة ……و الربّ رضي أن يسحقه بالعاهات"." أفاض للموت نفسَه و أُحصِي مع العصاة " لأنّه مات في ظروف غامضة في مصر أين هُجّر بالقوة. و تحقّقت نبوته عليه السلام في أورشليم و الممالك المجاورة لها على يد بابل و اعترف الشعب أنّه كان بارّاً صدّيقاً فجزاه الله تعالى خير الجزاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخــلاصــــة
و إليكم مُلخّصاً للحجج الداحضة لصلب عيسى عليه السلام:
1-نكران المقبوض عليه أمام الكاهن أنّه المسيح، ممّا يدلّ على أنّه ليس يسوع ( أنظر ص33).
2-تبرئة بيلاطس البنطي للمقبوض عليه من التُهمة أنّه الملك يعني المسيح. و هذا تأكيدٌ للحجة الأولى و هذه حجّة قويةٌ لأنّه من صالح بيلاطس ألا يدخل في مواجهةِ مفتوحة مع اليهود (أنظر ص35).
3-نكران الحواري بطرس عليه السلام أنّه تلميذٌ للمقبوض عليه و لا يوجد ما يبرّر هذا النكران سوى أنّ المقبوض عليه ليس يسوع عليه السلام ( أنظر ص 30).
4-شخصية المقبوض عليه جبانة منهارة خرساء لا تتّفق مع شخصية يسوع ( ص 38).
5-ليلة القبض على المتّهم مرّت هادئة دون شغبٍ أو أي اضطراب (ص 48).
6-لم يحضر لمحاكمة المتّهم غير إثنان و هذا لا يتّفق مع تأكيده لخبر موته و قيامته (ص48).
7-لم يقف على الصليب إلا ثلاث نسوة و يوحنا (ص 49).
8- لم يذهب تلميذٌ واحدٌ إلى القبر صبيحة الأحد لمعاينة قيامة يسوع المجيدة (ص 49).
9- ثلاث نسوة فقط ذهبن إلى القبر لا لمعيانة قيامته بل لتحنيطه.(ص 49).
10-تكذيبُ السيّدة مريم المجدلية لعينها لمّا ظهر لها يسوع و تكذيب جميع التلاميذ لهذا الخبر بعد ستٍ و ثلاثين ساعة من الصلب و بعد يومين فقط من رسم الإفخارستيا.(ص 50).
11-المعلّق على خشبة ملعونٌ في شريعة التوراة. ( ص 24).
12-ظهور و شيوع المذاهب الدوكيتية في الصدر الأول للمسيحية و التي لا تعترف أنّ يسوع صُلِبَ بالحقيقة ، إنّما صُلِبت صورتُه.( ص 30).
فهــرست المــصطلــحات
• سفر الأخبار الأول: I أخ سفر الأخبار الثاني: II أخ
• سفر إرميا: إر رسالة إرميا: رسالة إر
• سفر أشعيا: أش سفر الأعمال: أع
• الرسالة إلى أهل أفسس: أف سفر الأمثال: أم
• رسالة بطرس الأولى: I بط رسالة بطرس الثانية: II بط
• سفر التثنية: تث الرسالة الأولى لأهل تسالونيكي: I تسا
• الرسالة الثانية لأهل تسالونيكي: II تسا الرسالة إلى تيطس: تط
• سفر التكوين: تك الرسالة الأولى إلى ثيماثاوس:
• الرسالة الثانية إلى ثيماثوس: II ثيما سفر الجامعة: جا
• سفر حبقوق: حب سفر حجاي: حج
• سفر الحكمة: حك سفر حزقيال: حز
• سفر الخروج: خر سفر دانيال" دا
• الرسالة الأولى إلى أهل رومية: رو سفر الرؤيا: رؤ
• سفر زكرياء: زكا سفر عزرا: عز
• سفرعاموس: عا الرسالة إلى العبرانيين: عب
• سفر العدد: عد سفر عوبديا: عو
• الرسالة إلى أهل غلاطية: غلا الرسالة إلى أهل فليبي: فل
• سفر القضاة: قض الرسالة الأولى إلى أهل كورينتس:Iكو
• الرسالة الثانية إلى أهل كورينتس: IIكو الرسالة إلى أهل كولوسي: كول
• إنجيل لوقا: لو إنجيل متى: متى
• سفر المكابيين الأول: مك I سفر المكابيين الثاني: مك II
• سفر ميخا: مي إنجيل مرقس: مر
• سفر المزامير: مز سفر الملوك الأول: I مل
• سفر الملوك الثاني:II مل سفر ملاخي: ملا
• سفر اللاويين: "أح" أو " لاو سفر صفنيا: صف
• سفر صموئيل الأول: Iصم سفرصموئيل الثاني:IIصم
• سفر ناحوم: نا سفر نحميا: نح
• سفر هوشع: هو رسالة يعقوب: يع
• رسالة يهوذا: يه سفر يشوع بن نون: يش بن نون
• سفر يشوع بن شيراخ: يش بن شيراخ إنجيل يوحنا: يو
• الرسالة الأولى ليوحنا: I يو الرسالة الثانية ليوحنا: II يو
• الرسالة الثالثة ليوحنا: III يو سفر يوئيل: يؤ

فــهرســـــت
مقدمــــة................................................................3
ما أهمية الدراسات الكتابية للمسلمين...................................6
إعتراضات المسيحي على أهمّ مسألة خلافية بين الإسلام و المسيحية.....9
ما مصلحة رسول الله  من رفضه للصلب............................10
معالجة القرآن الكريم لمسألة الصلب.....................................11
أراء المسلمين في مسألة الصلب...........................................12
ماذا يستهدف القرآن الكريم بنكرانه صلب المسيح......................16
السياق السيّاسي و الدّيني الاجتماعي زمن عيسى عليه السلام..........17
إرهاصات الأزمة بين عيسى عليه السلام و شعبه.......................19
لماذا الإصرار على قتل عيسى عليه السلام مصلوبا......................22
بولس في مفترق الطرق؛ أي سبيل يسلكه؟ ما هو الأيسر؟...............25
المسيح عيسى عليه السلام ملعون أم مبارك؟.............................26
الليلة الحاسمة.........................................................29
محاكمة المقبوض عليه..................................................33
ما مبرّر نكران المقبوض عليه أنّه المسيح؟...............................36
من هو الذي صُلب مكان عيسى عليه السلام؟..........................40
من أضلّ الله تعالى و ما الحكمة؟.......................................42
هل بشّر عيسى عليه السلام بصلبه و قيّامته...........................43
هل عقيدة الفداء كتابية؟...............................................51
هل بشّر الأنبياء بصلب عيسى عليه السلام؟...........................53
مـراجـــع البـــحـــث
• الترجمة اليسوعية . مطبعة المرسلين اليسوعيين سنة 1897
• تفسير بن جرير الطبري
• محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة. شركة الشهاب الجزائر.
• المسيحية نشأتها و تطورها لشارل جنيبير ترجمة د عبد الحليم محمود. المكتبة العصرية- صيدا- بيروت
• الفكر الإسلامي في الرد على النصارى د. عبد المجيد شرفي

المراجع الأجنبية

1-Traduction oecuménique de la Bible. Editions du Cerf & société biblique française. 3eme édition ,1989
2-La Bible de jérusalem
3-La traduction du Nouveau Testament de l’Alliance universelle de la Bible( en français courant). Bodard et Taupin, 24.8.1989
4-Introduction à la Bible. Nouveau Testament. A.Robert & A. Feuillet. Desclée & Cie, Editeurs. 25 Janvier 1959.
5-L’Eglise des Apotres et des martyrs. Daniel Rops. Petrus Brost, v.g. Lutetiae Parisorioum die xxxi Martii 1948.
6-Jésus en son temps. Daniel Rops. A. Leclerc, vie. Gén. Lutetiae Parisorium die aprilis 1944.
7-Le fondateur du christianisme. Charle. Dodd
8-La bible,le Coran et la science .Dr Maurice Bucaille .Editions Seghers, Paris , 1976
9-Le Coran et la Bible à la lumière de l’histoire et de la science. Dr Williame Campbell. Editions Farel, 2 édition , janvier 1994.
10-Le peuple du Coran .Anne Cooper. Traduction en langue française par Renée Rey et Paul Gesche. Edition Sator & Mena, septembre 1989.
11-La littérature polémique musulmane contre le Christianisme depuis ses origines jusqu’aux XIII Siècle. Ali Bouamama. Entreprise nationale du livre. Alger, 1988

الغلاف الثاني

لعلّ التحدّي الأعظم الذي يواجه الإسلام هو التبشير. و خلال أكثر من قرن تلقّى المسلمون الضربات من أرمادة تبشيرية مدجّجة بالعُدّة و العتادَ، و بدل تبنّي استراتيجية هجومية لم يستطع المسلمون، في كثير من الأحيان، إلا الوقوف مدافعين . لكن خير وسيلة دفاعية هي الهجوم. و في ضوء هذه الإستراتيجية الجديدة يندرج هذا الكتيّب.

و أهمّ مسألة خلافية بين الإسلام و المسيحية هي الصلب. و الرهان بين الدّيانتين العالمتين المؤثرتين في حياة النّاس هو نفي أو إثبات صلب عيسى عليه السلام. و المحقّق في ما يسمّى بأسفار العهد الجديد يجد بخصوص هذا الشأن وقائعا تاريخية تُعتبر بحقّ حججا دامغة و حاسمة عن نهاية عيسى عليه السلام في هذه الأرض و التي تثبت عكس ما ذهبت إليه تعاليم بولس مؤسس هذه الكنائس التي تدّعي تبعيتها للمسيح عليه السلام.

و السؤال الوجيه لماذا أريد لعيسى عليه السلام أن يُحاكم أولا ثم يُقتل مصلوبا بدل من اغتياله بكل سهولة و يُسر في أحد طرق أسفاره الكثيرة. لكن لهذا المكر الخبيث عائقين كبيرين .عائق ديني:بأيّ حقّ يُهدَر دمُه حسب شريعة التوراة؟ .و عائق سياسي: بأيّ حقّ يُصلب حسب قانون الرومان؟ و من غرائب الصدف أنّ اسم " المسيح" تتقاطع فيه التهمتان السيّاسية و الدّينية. فهل سيسمح الله تعالى أن يكون عبده هدفا لمؤامرة دنيئة تنال من مصداقيته؟

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك