مريم ابنة عمران بين اليهودية والمسيحية والإسلام

مريم ابنة عمران
بين اليهودية والمسيحية والإسلام
دراسة إسلامية مقارنة

كتبه
أبو عبد الرحمن غنيم غنيم عبد العظيم
منهج البحث
هذا البحث عبارة عن جزء من موسوعة قيد الإعداد التزمت فيها المنهج الآتي :
1- عرض السير من خلال الكتب المعتبرة ، خاصة ما لدى القوم ، وبيان أوجه التناقض بين الروايات متى أمكن.
2- عرض التاريخ الذى مرت به هذه المسائل بين العهد القديم والجديد والإسلام ما أمكن.
3- العرض للمسائل من خلال استقراء نصوص الكتاب المقدس والكتب المعتمدة لديهم.
4- بيان أصل هذه المسائل فى الديانات السابقة ما أمكن.
5- بيان تضارب المسألة في كتبهم وأقوال أئمتهم المعتبرين.
6- بيان ما ينقضها من كتبهم.
7- بيان الموقف الإسلام من النصوص والقضايا المختلفة.
8- بيان الخطر الكامن في هذه المسائل.
9- بيان منافاة هذه المسائل للفطرة والعلم ما أمكن.
10- تخريج النصوص والأقوال من مصادرها.
11- عند الاستدلال بنصوص السنة النبوية ، إن كان الحديث في الصحيحين أو احدهما اكتفيت بذلك ، وإن كان في غيرهما ذكرت قول الأئمة فيه.
أولا : المولد والنشأة
هي مريم ابنة عمران الطاهرة النقية التي أحصنت فرجها ، وطهرها الله عز وجل وجعلها آية للعالمين ، وهي خير امرأة من نساء اليهود ، فحينما حملت أمها نذرت ما في بطنها خالصا لله لخدمة المعبد اليهودي ، وقد كان النذر لخدمة الدين من فعل صالحي اليهود.
فلما كان المولود أنثى-مريم عليها السلام- ، اعتذرت امرأة عمران لربها ، ودعته أن يجعلها فتاة طاهرة نقية لا نصيب للشيطان فيها هي وذريتها ، وقد قص الله عز وجل قصتها في القرآن الكريم قائلا : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
ووردت قصة مريم عليها السلام كاملة في كتاب الله عز وجل ، وذلك ابتداءا من الاصطفاء والتطهير ، ثم الحمل الطاهر بنبي الله عيسى عليه السلام ، وافتراء اليهود عليها ورميها بالزنا ، وتبرءة الله عز وجل لها ، وذلك من خلال سورة كاملة حملت اسمها ، هي سورة مريم.
وقد نسبت مريم في القرآن الكريم نسبين :
الأول : مريم ابنة عمران ، وذلك لأنها تنتسب إليه ، وعمران هذا من علماء بنى إسرائيل.
الثاني : أخت هارون ، وذلك لأن كل أفرد السبط أخوة ، فمريم عليها السلام أخت هارون في السبط ، والخصوصية بهارون لأنه نبي ذو مكانة رفيعة ، والإنسان حينما ينتسب ينتسب للأعلام وليس للأقزام.

ثانيا : كرامات مريم عليها السلام قبل البشارة
حصل النقاش بين بني إسرائيل في كفالة مريم عليها السلام ، كل يريد أن تكون له الكفالة لما لها من كرامات ، ولما لها من مكانة في قومها ، إذ أنها خرجت من بيت صالح ، قال تعالى : (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، فحينما رأوا ذلك هرع الجميع يريد كفالتها ، لكن الكفالة كانت من نصيب زكريا عليه السلام ، وذلك في قوله تبارك وتعالى : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أن اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
فكما نرى من الآية وقوع كرامات مريم عليها السلام قبل الاصطفاء للحمل بالمسيح أن الملائكة كانت تأتيها بالطعام في بيت زكريا عليه السلام ، فقد رأى بعينيه كيف أن ملائكة الله كانت تأتيها بالطعام في محرابها الذي تتعبد فيه لربها ، ولم تكن هذه الكرامة مرة واحدة ، بل كانت على الدوام ، فكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد هذا الطعام ، مما يدل على صلاحها وتقواها وورعها ، وحينما سألها عن مصدر هذا الطعام لم يكن شأنها أن تثبت الكرامات لنفسها ، بل قالت أنه من رزق الله عز وجل الذي يهبه لمن يشاء من عباده.
ثالثا : نبوة مريم عليها السلام بين أهل الإسلام وأهل الكتاب
لقد استدل بعض أئمة أهل السنة كأبي الحسن الأشعري وابن حزم رحمهما الله على نبوة مريم عليها السلام ، وذلك بما لها من كرامات وبإرسال جبريل عليه السلام لها وكلامه معها ، وهي مخالفة جلية لعقيدة أهل السنة والجماعة تردها الأدلة الشرعية من أوجه :
الأول : أن النبوة خاصة بالرجال دون النساء ، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ، ولقول النبي : (ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته الدجال أنذره نوح و النبيون من بعده) .
الثاني : أنه ليس كل وحي خاص بالأنبياء ، كما أوحى الله عز وجل لأم موسى بإرضاعه ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أن أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .
وأوحى الله للنحل باتخاذ البيوت كما في قوله تعالى : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)
كما أبان النبي أن الأمم السابقة كان فيها من تكلمهم الملائكة ، وهم المحدثون ، فقد روى الإمام البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال : (إنه كان قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب ) .
الثالث : نفي الله عز وجل نبوتها في القرآن (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، ففي هذه الآية إثبات أنها صديقة وليست نبية.
ورغم أن أهل الكتاب يجيزون نبوة النساء كما ورد في العهد القديم : (و دبورة امراة نبية زوجة لفيدوت هي قاضية اسرائيل في ذلك الوقت * وهي جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت ايل في جبل افرايم وكان بنو اسرائيل يصعدون اليها للقضاء ) ، إلا أني لم أجد لهم قولا في إثبات النبوة لمريم عليها السلام.

رابعا : الاصطفاء الإلهي لمريم عليها السلام
والمراد هنا نوعين من الاصطفاء إحداهما مقدمة للآخر :
الأول : اصطفاء تطهير من الرجس والتأييد بالكرامات :
ومن أجل هذا الاصطفاء تنازع بنو إسرائيل من أجل كفالتها تبركا بها كصالحة من صالحي بني إسرائيل ، قال تعالى : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ أن اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ *) .
والثاني : الاصطفاء باختيارها لتكون مستقرا لأحد معجزات الله عز وجل ، وهي الحمل دون زواج بأحد أنبياء الله ، وخاتمهم لبني إسرائيل قبل بعثة النبي ، ألا وهو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
وقد بشرت الملائكة مريم عليها السلام بهذا الحدث وبصفات المولود منها كما في قوله تعالى : (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ أن اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، ولا ريب أن المراد واضح ، فالمراد هنا تسديد الله لهذه المخلوقات بما يعطيها من آراء صائبة عن طريق الإلهام والمكاشفة.
فما كان منها إلا التعجب من هذه الكرامة التي منحها الله عز وجل لها ، فدار بينها وبين جبريل عليه السلام الحوار الذي قصه الله عز وجل بقوله : (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
أما في السنة فقد ورد فضل مريم عليها السلام من أوجه :
1- إخبار النبي عنها أنها من خير نساء العالمين حيث قال : (خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون ) .
2- إخبار النبي أنها أنها ممن كمل من النساء ، فقد روى الإمام البخاري من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال (كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا: مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) .
3- إخبار النبي أنها من أهل الجنة بقوله : (سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم وفاطمة وخديجة وآسية) . ‌
4- إخبار النبي أن مريم عليها السلام والمسيح ولدها الوحيدان اللذان نجيا من نخس الشيطان ، فقد قال النبي : (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ) . ‌
خامسا : الملاك يأتى للبشارة والنفخ بالروح
1-البشارة في الإسلام
بعدما تم الاصطفاء ، أرسل الله عز وجل لمريم الملك يبشرها بعيسى عليه السلام ، غلاما زكيا من عند الله ، وليس ربا أو إلها ، فأوجست خيفة من هذا الملاك ، فقال لها : لا تخافي ، واستنكرت مريم هذه البشارة لأنها عذراء ، فأخبرها أنه الأمر من الله تبارك وتعالى الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ أن كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) .
2-البشارة في الكتاب المقدس
وتتوافق البشارة في الكتاب المقدس مع البشارة في القرآن الكريم ، أن هذا المولود مخلوق من مخلوقات الله عز وجل ، وليس ربا للأرباب ، ولو كانت البشارة به كانت بربوبيته لتعجبت مريم ولاستنكرت هذا الأمر ، لأنها من أتقياء بني إسرائيل ونشأت في بيت نبوة ، ولا تعلم لهذا التجسد أثرا في العهد القديم وأن الله يكون حملا في البطن ويولد من فرج امرأة ، تعالى الله عما يصفون ، فكانت بشارة جبريل عليه السلام أنها تلد ابنا لا ربا : (وها انت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع) .
سادسا : أحداث الحمل إلى الميلاد
يقص الله عز وجل علينا الفترة من الحمل للولادة في سورة مريم بقوله تعالى : (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) .
فحينما أحست مريم عليها السلام بأمر الولادة ، فرت بحملها هذا إلى مكان بعيد حتى لا يعلم أحدا بأمرها ، وهنا أرسل الله لها جبريل عليه السلام ليطئنها ويرشدها ماذا تصنع في مثل هذه الحال ، فأمرها أن تهز النخلة وتأكل من رطبها ، وكأنه يمثابة العلاج لها في مثل هذه الحالة ، حالة آلام الولادة ، ولا تحدث أحدا من البشر أن رماها بسوء حينما تأتي بالولد.
فكما نرى : إن أول ما تكلم فى المهد أنه عبد لله منذ فجر ولادته مثبتا أنه ليس بإله أو ابن إله أو أقنوم من الأقانيم ، وأنه مبارك من رب العالمين ، وبرا بأمه ، والذي بدله النصارى بعد وفاته ، فتحولوا من التوحيد للشرك والتنديد ، وبدلا من أن يصفوا المسيح بالبر لأمه وصوفوه بالعقوق.
فلما أتت به وهو صغير شكوا فيها ورماها اليهود بالزنا ، وكان الملك قد وجهها ألا تتكلم إن رأت من البشر أحدا ، فلم تتكلم ، وحين إذ تكلم المسيح في مهده فقال : أني عبد الله ونبي من الأنبياء ، جعلني مباركا وأوصاني بالصلاة والزكاة والبر بوالدتي وليس العقوق-الذي وصفه النصارى به في الكتاب المقدس-، وقد وردت القصة كاملة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) .
لقد كان كلام المسيح في المهد معجزة له ، وكرامة لأمه ، ودليلا عمليا على براءة مريم العذراء مما رماها به اليهود وكشفا لكذبهم وبهتانهم ، وردا إلهيا على غلوهم في الماديات وربط الأسباب بالمسببات.
وقد برأ القرآن مريم عليها السلام من فرية الزنا التي رماها بها اليهود رغم علمهم أنها من صالحيهم لما حدث لها من كرامات ، وأنها كانت في بيت زكريا نبي الله عليه السلام ، قال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) .
وبعد الميلاد كانت فترة النفاس لمريم العذراء ، حتى أتمت أيامها ، ولما طهرت أخذوه للمعبد لتقديمه للرب حسب رواية لوقا للكتاب المقدس حيث قال : (و لما تمت ايام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به الى اورشليم ليقدموه للرب) .
إن هذا النص يحتوي على عدة دلالات لنقض العقيدة المسيحية ، منها :
1- بشرية المسيح ، فإن افترضنا جدلا أن يتجسد الإله ويخرج من فرج امرأة فهل يتسبب الرب في النجاسة أم التطهير؟! لا ريب أن الرب قدوس في كل الأديان ، ففي اليهودية والمسيحية والإسلام هو القدوس المطهر عن كل عيب ونقص.
وقولنا بالنجاسة للحائض والنفساء فهو حسب شريعتهم-اليهود والنصارى- ، وليس حسب شريعة الإسلام التي تذهب أن المؤمن لا ينجس ، أما في اليهودية والنصرانية فالمرأة في حيضها ونفاسها نجسة يجب اعتزالها ، ففي سفر اللاويين نجد النص التالي : (كلم بني اسرائيل قائلا اذا حبلت امراة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة ايام كما في ايام طمث علتها تكون نجسة ) .
2- أن الراوي لهذا الكتاب-لوقا- ذكر أنهم فرقوا بين المسيح العبد ، والإله الرب ، ولو كانوا يعتقدون ربوبيته ، فأين ذهبوا به؟! هل ذهبوا به لأورشليم ليقدموه للرب والرب معهم؟! لا ريب أن فكرة الربوبية لم تكن مطروحة حينئذ ، وإنما المطروح عبودية المسيح فحسب.

سابعا : الخطبة والزواج من يوسف النجار
لم يرد ذكر يوسف النجار فضلا عن هذه الخطبة في نصوص الكتاب والسنة حسب ما توصلت إليه ، أما حسب رواية الأناجيل فإن يوسف النجار كان من صالحي بني إسرائيل ، وكان خطيبا لمريم عليها السلام ، ولم يدخل عليها حتى وضعت المسيح عليه السلام.
ففي إنجيل لوقا نجد التصريح بالخطبة في قوله : (الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم) .
وكان يوسف النجار يصطحب مريم عليها السلام وولدها لأورشليم في أعياد الفصح ، والتي كان ال هاب إليها بمثابة الحج في الشريعة اليهودية ، ومن بعدها في المسيحية ، يقول لوقا : (وبعدما اكملوا الايام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في اورشليم ويوسف وامه لم يعلما ) .
وكان اليهود ينسبونه ليوسف النجار لأنه من رباه وكان تحته في صغره ، وقد ذكر لوقا ذلك فقال (و كان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ويقولون اليس هذا ابن يوسف ) ، وذكر يوحنا أيضا نسبة عيسى عليه السلام ليوسف قائلا : (فيلبس وجد نثنائيل وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والانبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة ) ، وقال أيضا (وقالوا اليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بابيه وامه فكيف يقول هذا اني نزلت من السماء ) .
وقد ذهب بعض الباحثين أنه تعريض بنسبه أنه من ولد زنا ، وله وجه ، إلا أنه لم يرد في النصوص الشرعية الإسلامية رمي المسيح بأنه ولد زنا بعدما شب في بني إسرائيل ، كذلك لم يرد في النصوص المسيحية ذكر لرميه بأنه ولد زنا تعريضا بأمه ، لكن ما ورد في ذلك انتسابه لسلالة من الزناة ، وليس تعريضا بأمه.
وإن صحت هذه الخطبة فمن المنطقي أن يكون الحمل بالمسيح قبل إتمام الزواج وإلا لنسب الولد لأبيه ، ولم يوجد داع للطعن في مريم ورميها بالزنا ، ومن ثم يكون من هذه اللوازم الطعن في هذه المعجزة –الولادة من أنثى فقط- وعدم إنكار اليهود لحمل مريم عليها السلام.
وقد ذكر متى أن المعجزة كانت قبل نكاح مريم عليها السلام من يوسف النجار قائلا : (اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس) .
كما ذكر أن يوسف حينما علم بالأمرلم يرد التشهير بها وحينما جاءه ملاك الرب تيقن من المعجزة ، وقد روى متى هذا الحدث أيضا قائلا : (فيوسف رجلها اذ كان بارا ولم يشا أن يشهرها اراد تخليتها سرا * ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف أن تاخذ مريم امراتك لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس * فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلص شعبه من خطاياهم * وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل * هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا * فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب واخذ امراته * ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع ) .
وهذا النص دلالة على ما يلي :
أولا : في قوله (قبل أن يجتمعا) دليل على أن النكاح لم يتم بعد.
ثانيا : في قوله "ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر" أنه عرفها بعد ذلك ، والمراد بالمعرفة المعاشرة ، ويفسره قول مريم في إنجيل لوقا (فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وانا لست اعرف رجلا) .
ثالثا : أن قوله البكر دال على أن هناك آخر أو آخرون قد تم ولادتهم من مريم عليها السلام ، وهم إخوة للمسيح عليه السلام ، كما ذكر مرقس : (اليس هذا هو النجار ابن مريم واخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان اوليست اخواته ههنا عندنا فكانوا يعثرون به ) .
رابعا : أن هذه البشارة من الأمور الملفقة في الكتاب المقدس ، وذلك في محاولة لتأكيد بشارة أشعياء النبي ، إلا أن المسيح لم يدع مطلقا ب "عمانوئيل" مما يدل على أنه ليس المقصود بالبشارة ، والمستقر أن الملك حينما جاء لمريم للبشارة إنما بشرها بيسوع وليس بعمانوئيل ، يقول لوقا : (و ها انت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع) ، فهي أمور ملفقة في العقيدة ، فهم ألفوا العقيدة ثم صنفوا لها المصنفات ليؤيدوها ، ورحم الله الشيخ ابن عثيمين إذ يقول : "لا تعتقد قبل أن تستدل ، بل استدل أولا ثم اعتقد" ، فالله عز وجل هكذا أمرنا في كتابه الكريم بقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) ، فأمر بالعلم قبل القول والعمل ، وهذا هو منهج أهل الحق ، أهل السنة والجماعة ، السلفيون ، الذين لا يحكون رأسهم إلا بأثر ، يقتفون أثر الدليل الشرعي ، فمتى وجدوه أخذوا به ، وإلا فلا يسلكون منهج أهل الأهواء والبدع.
وحينما رأى يوسف النجار هذا الحلم ، قام فاصطحب مريم وولدها عليهما السلام إلى مصر خشية أن يقتل هيرودس الطفل كما قال متى : (و بعدما انصرفوا اذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وامه واهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك لان هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه * فقام واخذ الصبي وامه ليلا وانصرف الى مصر) ، وظلوا هناك حتى علموا بموت هيرودس ، فقاموا ورجعوا به إلى الناصرة ، يقول متى : (فلما مات هيرودس اذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر * قائلا قم وخذ الصبي وامه واذهب الى ارض اسرائيل لانه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي * فقام واخذ الصبي وامه وجاء الى ارض اسرائيل * ولكن لما سمع أن ارخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيرودس ابيه خاف أن يذهب الى هناك واذ اوحي اليه في حلم انصرف الى نواحي الجليل * واتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالانبياء انه سيدعى ناصريا) .
أما الزواج فقد حدث بعد ذلك وكان يوسف في حوالي التسعين من عمره ومريم في الثانية عشرة من عمرها ، وعاشوا سويا وأنجبوا أولادا بعد ذلك كما يذكر الإنجيل ذلك ، وفي ذلك أكبر دليل على من أنكر نكاح الصغيرة ، فالزواج بين مريم ويوسف النجار كان مشابها لنكاح النبي من عائشة رضي الله عنها ، لكن القوم زاغوا ولم يلتفتوا إلا إلى ما لا يدركون أنه يعود عليهم ، ولو كان مباحا حلالا ، فلا يسعنا إلا أن نقول كما قال الله عز وجل : (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .

ثامنا : مريم الطاهرة تيسر السكر والعربدة لليهود في العرس
لقد ذكر يوحنا في روايته لحياة المسيح قصة مشتهرة جدا في المسيحية ، هي عرس قانا ، أحد الأعراس التي دعي فيها المسيح وأصحابه ، وكانت أمه موجودة فيه ، ففي هذا العرس ذكر يوحنا-كاتب الإنجيل- تفاصيل يتعجب أصحاب العقول وذوي الفطر السليمة منها ، يقول يوحنا : (وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت ام يسوع هناك * ودعي ايضا يسوع وتلاميذه الى العرس * ولما فرغت الخمر قالت ام يسوع له ليس لهم خمر * قال لها يسوع ما لي ولك يا امراة لم تات ساعتي بعد * قالت امه للخدام مهما قال لكم فافعلوه ) ، ففي هذا النص عدة مسائل :
1- كرم مريم عليه العذراء مع المدعويين ، وتلبية احتياجاتهم.
2- أن هذه المرأة التي اصطفاها الله عز وجل من بين اليهود هي من تأتي المحرمات كالخمر ، ليس ذلك فحسب ، بل وتيسره لباقي اليهود في هذه العرس.
وهنا نسأل : أليست هذه دعوة لاستباحة المنكرات التي حرمتها اليهودية ، والتي تنتمي لها مريم عليها السلام؟!
أهذه المرأة التي تدعون عليها خدمة أهل العرس بتقديم الخمر لها ، وأمر ابنها بمعاونتها في تجهيز الخمر ليست هي من اصطفاها الله على العالمين في العقيدتين الإسلامية والمسيحية؟!
إن هذا الكلام لا يخرج من مشكاة التكريم والتعظيم لهذه المرأة ، وإنما يخرج من مشكاة الطعن فيها ، والطعن فيها لا يخرج إلا من جاهل معتوه لا يعي ما يكتب ، أو من يهودي ينطلق من الطعن فيها ويرغب في دس هذه الأفكار في الكتاب المقدس من أجل التحريف.
3- عيسى وعقوق الوالدين بين القرآن والكتاب المقدس
فأي عقوق بعد قول ولد لأمه في حضور أصحابه الذين يمثل هو لهم القدوة ، وهم ينتظرون الأقوال والأفعال الصادرة منه ليقتفوا أثرها ، فيقول المسيح لأمه : "ما لي ولك يا امراة لم تات ساعتي بعد"؟!
إننا كمسلمين نبرأ من هذا الكلام ، ونبرئ عيسى عليه السلام من هذا الأسلوب الذي يمثل قمة العقوق في حوار المرء لأمه ، فقد برأه الله عز وجل من العقوق ، وكان أول ما تكلم عيسى به في المهد ما ذكره الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) ، والبر حسن الخلق مع كافة الخلق ، فكيف بمن حمل المرء في بطنها أياما وليال وعانت بسببه ، وأرضعته من ثديها ، وتعبت معه حتى شب كبيرا ، أيكون هذا جزاؤها في المسيحية ، أليس الكتاب المقدس يقول : (اكرم اباك وامك واحب قريبك كنفسك) ، فهل خالف المسيح ما كان يستشهد به من العهد القديم من بر الوالدين؟!
هذا ما ننفيه عنه ونقول أنه كان بارا ولم يكن جبارا شقيا بأمه ، بل كان متبعا للمنهج الإلهي في معاملة الوالدين ، من إكرامهما وحسن صحبتهما ، هذا المنهج الذي بينه النبي في سنته ، فقد روى الإمام البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال : (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ( أمك ) . قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) . قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) . قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أبوك )) .
فهذا هو المنهج الأخلاقي للأنبياء ، منهج يحث على حسن الخلق ، وهذا ما يوافق النقل والعقل والفطرة ، بخلاف أهل الجهل والهوى الذين طمست فطرهم ، وضلوا في هذه الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

تاسعا : كرامات مريم عليها السلام بعد موتها (الظهورات المريمية)
1-المراد بالظهورات وعلتها
الظهورات جمع ظهور ، من الفعل ظهر أي بان ووضح ، والمريمية نسبة لمريم عليها السلام ، ويقصد بالظهورات المريمية ظهور مريم عليها السلام بعد موتها للبشر في صورة روح ، فلا تكاد ترى نصرانيا إلا ويعتقد أن مريم العذراء ، أم الإله في اعتقادهم ، تظهر للمؤمنين يقظة ومناما ، وفوق الكنائس ، فتشفي المرضى ، وتداوي الجرحى ، وتنصح المؤمنين ، وتصنع المعجزات المختلفة.
وهذه الظهورات ليست محصورة في مريم وحدها ، وإنما هي ظاهرة موجودة في كل الأمم والأديان ، فهي موجودة عند الهندوس واليهود والنصارى والصوفية والشيعة ، وهو أمر ليس بالغريب حينما نجد أن الخط المشترك لهذه الأديان والفرق هو عدم وجود حجة أو برهان على صحة المذهب ، من هنا يظهر الخرافة والدجل في إثبات الحجة ، فكلما قل العلم ظهرت الخراف.
والسؤال الآن : هل يستدل بها على صحة هذه المذاهب والأديان أم أن الاستدلال يكون بالحجة والبرهان؟!
لا ريب أن الله عز وجل قد أقام الحجة على عباده من خلال أنبيائه الذين أيدهم بالمعجزات الدالة على صدق دعواهم ، فأقاموا الحجج الشرعية والعقلية على العباد ، فكان ذلك هو العلم الذي تعبد الله به العباد وألزمهم به ، فأمر الله عز وجل أنبياءه بالعلم والاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى.
ويذهب النصارى إلى أن العلة في في هذه الظهورات إنما هي للهداية والإرشاد وبيان المعجزات وتثبيت المؤمنين على إيمانهم المسيحي ورفع الآلام عنهم ، ويستدلون بها على صحة ما هم عليه من اعتقاد ويقولون : ليس من المعقول أن الظهورات المريمية تقوم بها شياطين وليست مريم العذراء ، فهي قديسة لا يتمثل الشيطان بها.
2-التفسير العلمي للظهورات التي تم رؤيتها
ليس من المنطقي تكذيب هذه الظهورات التي نراها بين حين وآخر فوق الكنائس في مصر وغيرها من الدول التي تتواجد بها النصرانية ، وعدم التكذيب ليس بمسوغ لتصديق دعاوي النصارى في لزوم ما لا يلزم ، بل هو مسوغ للبحث من أوجه عدة تستلزم المضي فيها :
والعجيب أن من رأى العذراء لم يرها حقيقة وإنما رأى أضواء ، هذه الأضواء تعكس الصورة التي يتداولها النصارى ، امرأة ترتدي الزي اليهودي ، الزنار والحجاب اليهودي ، وتارة يكون على رأسها تاج كأنها ملكة ، وتارة تكتفي بالحجاب اليهودي.
فلا بد من البحث عن حقيقة هذه الأضواء علميا من حيث :
أولا : المصدر والتكوين : فما هو مصدر هذه الأضواء ؟ أهي السماء أم أنها نتاج بشري يقوم بالخداع البصري؟ كما ينبغي أن نعلم عن تكوين هذه الأنوار إن كانت ذات تكوين مختلف عن سائر الأشعة أم أنها مجرد أشعة عادية لخداع الناس؟!
ثانيا : المطابقة بين الشكل والحقيقة : فينبغي أن نعلم إن كانت هذه الأشكال هي الشكل الحقيقي المعلوم عن مريم عليها السلام؟.
فلا يوجد رسم لمريم عليها السلام ، وإن وجد رسم ، فينبغي أن تخضع هذه الرسمة للبحث العلمي بتقدير عمرها الزمني ، ومعرفة شخصية الرسام ، أكان من المعاصرين لها أم لا ؟ وإن كان من المعاصرين أهو من المهارة بمكان بحيث يتمكن من رسم صورة مطابقة لمريم العذراء؟!.
فقد تخيل كل رسام شكل العذراء وشكل المسيح فرسمه بما يدور بذهنه ، وبما يقربه من البيئة التي نشأ بها.
كذلك ينبغي علينا ألا ننفي وجود الإشكالية إن ادعى أحد أهل الأديان التي تعتمد هذه الظهورات في صحة المذهب أن هذه الأشكال لأولياء وقديسين لديهم في عقيدتهم ، فإن قال البوذيون هذه الأنوار لبوذا فما الرد عليه ؟! ولماذا ليس المسيح؟! وألف اعتراض واعتراض ، لأن باب الخرافة قد فتح ، ولا يسده إلا قمعه بالأدلة الشرعية التي تستخدم العقل كوزير في الفهم.
كما ينبغي ألا نطرح احتمال الكذب في مثل هذه الدعاوي طالما أنن لم نتحقق علميا منها ، فلماذا لا تكون هذه الأضواء خدعة باستخدام المؤثرات البصرية كما يستخدمه السحرة من أجل خداع البسطاء من أبناء هذه العقيدة ، وذلك للمأكلة والتربح من بقاء هؤلاء الناس على عقيدتهم ، فالعقيدة النصرانية تبيح الكذب من أجل تدعيم الحجة وإثبات المعتقد ، يقول بولس : (فانه أن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا ادان انا بعد كخاطئ) .
وبفرض أن ثبت بعد التحقيق أنها أنوار سماوية على شكل العذراء ، فماذا سيفيد إن أثبتت الأدلة الشرعية عدم صلاحية هذه الأفعال للاستدلال على صحة العقيدة والمذهب ، وهذا ما سنبينه في التفسير الشرعي لهذه الظهورات.
3-التفسير الشرعي للظهورات التي تم رؤيتها
لا ريب أن الشيطان إن أراد أن يضل الخلق فإنه في الغالب يتمثل في أشكال الصالحين ليلبس الحق بالباطل على أهل الحق ، فلو أنه تمثل في شكل العصاة أو المجرمين فإن مخالفتهم معلومة للجميع بما لا يدع مجالا للريبة ، ولو تمثل الشيطان بهم لانصرف عنه المؤمنين ، فهذا هو هدفه : إضلال المؤمنين بهؤلاء الصالحين الذين يعتقدون صلاحهم وتقواهم.
كذلك فإن الكتاب المقدس يذكر أن الأموات لا يملكون لأنفسهم شيئاً في قوله : (لان الاحياء يعلمون انهم سيموتون اما الموتى فلا يعلمون شيئا وليس لهم اجر بعد لان ذكرهم نسي) .
كما يذكر أن الأموات قد انقطع عملهم بحسب الكتاب المقدس (ليس الاموات يسبحون الرب ولا من ينحدر الى ارض السكوت) .
فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أنهم يعلمون كل شيء ويسمعون الناس ويغيثون المستغيثين ، ويشفون المرضى ، ويداوون الجرحى ، ويصنعون ما لم يستطيعوا صنعه حال حياتهم كالطير في الهواء والمشي على الماء ، فهل كانت مريم تصنع المعجزات كالطير في السماء وشفاء المرضى في حال حياتها؟! لا ريب لا ، وما ذكرناه من الأدلة كاف لنقض كل هذه الدعاوي.
وبالفرض الجدلي الذي يطرح نفسه قائلا : ماذا إن كانت هذه الظهورات هي أنوار سماوية على شكل العذراء مع ثبوت الدليل على ذلك ، هل يدلنا ذلك على صحة العقيدة النصرانية وفق ما يطرحه الكتاب المقدس من أدلة؟
الجواب الذي لا مرية فيه : لا.
فقد ورد في الإنجيل التحذير من الاعتماد على هذه الآيات والعجائب على صحة الاعتقاد من وجهين :
الأول : نهي العهد القديم عن اتباع هذه الآيات ومخالفة الدليل الشرعي
فقد ورد في الكتاب المقدس أيضا أنه من الممكن أن تكون هذه الظهورات ظهورات حقيقية ، لكنها شيطانية ، وعلتها امتحان المؤمنين في الثبوت على الحق وتوحيد الله عز وجل وعدم اتباع آلهة أخرى : (و لو حدثت الاية او الاعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء الهة اخرى لم تعرفها ونعبدها * فلا تسمع لكلام ذلك النبي او الحالم ذلك الحلم لان الرب الهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب الهكم من كل قلوبكم ومن كل انفسكم *وراء الرب الهكم تسيرون واياه تتقون ووصاياه تحفظون وصوته تسمعون واياه تعبدون وبه تلتصقون) .
الثاني : نهي المسيح عن الاعتماد عليها
ويقول المسيح في إمكانية أن يكون للمضلين آيات : (لانه سيقوم مسحاء كذبة وانبياء كذبة ويعطون ايات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو امكن المختارين ايضا) ، فماذا سيفعل هؤلاء مع المسحاء الكذبة ، كالمسيخ الدجال مثلا ، لا ريب أنهم سيعتقدون ألوهيته وربوبيته.
الثالث : نهي بولس-المؤسس الحقيقي للمسيحية-عن الاعتماد عليها
فبولس يؤكد أن الشيطان قد يغير شكله إلى شكل الملائكة ، وبالتالي قدرته على التشكل في صور الأولياء والصالحين ، ففي رسالة كورنثوس الثانية يقول بولس : (و لا عجب لان الشيطان نفسه يغير شكله الى شبه ملاك نور ) .
فلماذا يمكن الجزم بأمثال هذه العجائب كآية للرحمن ، ولا يمكن إثباتها كخدعة من الشيطان رغم اعتراف الإنجيل بإمكان ذلك؟! لا ريب أن المنهج المتبع في الاستدلال منهج زيغ وهوى يسعى لإثبات العقيدة دون دليل.
إن أهل العقل السليم لا بد لهم من التفكر في أمثال هذه العقائد المحدثة ، ولا بد من عدة تساؤلات تنقض هذه الظهورات من أساسها ، ولو كان لهذه الظهورات حقيقة للزم ما يلي :
1- إن كان ظهورها للهداية والإرشاد فلماذا لا تظهر للمسلمين لهدايتهم للدين الحق وإقامة الحجة عليهم حسب عقيدتكم؟!
2- لماذا لم تظهر للنصارى في المجامع التي قد فرقت النصارى من أجل جمع كلمتهم وتجنيبهم للفرقة والشتات والانحراف؟!
3- لماذا لا تظهر لجمع كلمة طوائف النصرانية وردهم للصواب في خلافاتهم العقدية ، خاصة البروتستانت الذين ينكرون ظهورها ، فلا يمكن لها-مريم- أن تكتفي بمجرد الظهور فوق أسطح الكنائس التي تعتقد بظهورها ، فذلك لا ثمرة له ، بل لا بد أن تظهر لمن لا يعتقد بها لتبين لهم الحق وتدحض الباطل.
4- لماذا لا تظهر فوق المساجد ليهتدي المسلمين كما ظهرت للنصارى فوق الكنائس؟! ألا تحب مريم العذراء هداية المسلمين الذين أحبوها في دينهم ، وبرأها الله من فرية اليهود فحملوا هم لواء الذب عنها؟! ألا تعلم العذراء أن المسلمون جميعا يتقربون بحبها لله؟! ألا تعلم أن الله قد خلد ذكرها في كتابه بوضع سورة تحمل اسمها وقصتها هي وولدها كاملة؟!
5- ولماذا بدأ ظهور العذراء ومعجزاتها بعد مماتها فقط وهى التى لم يكن لها أى معجزه أو أى شيئ خارق للعاده طوال حياتها غير إنها حبلت دون رجل فهى لم تشف مريض ولم تحيى ميت ولم تبرء أكمه ؟!
6- وهل من اللائق أن يرسل الإله أمه ولا يأتى هو كما جاء في حادثة التجسد لفداء بشريته؟!.
فالحق الذي لا مرية فيه أنه كلما ضعفت الحجج والبراهين ، وقل العلم واليقين ، ظهرت الخرافات والبدع ، فلم يرد عن حياة مريم أنها كانت تظهر للناس وتشفى مرضهم وتداوى جراحهم وتبرئ الأكمه والأبرص ، فكيف يحدث ذلك بعد مماتها؟!
فمن مصلحة الشيطان في سعيه لتضليل العالم أجمع أن يجذب الأنظار إلى شخصية مريم ابنة عمران رضي الله عنها ، وذلك لأنها شخصية مُكرّمة لدى النصارى جميعا بكل طوائفهم ، والمسلمين أيضا ، وللأسف فقد نجح الشيطان في هذه المهمة بجعله مريم عليها السلام وسيطة أخرى بالإضافة إلى الوسيط المزعوم يسوع المسيح بين الله والناس ، فأصبح يطلق عليها لقب "الشريكة في الشفاعة" ، وصار ذلك بمثابة العبادة التي نهى الله عنها ، ويسأل فيها عيسى في الآخرة ، قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)
4-تكذيب الكنيسة للظهورات
ورغم أن الأنبا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية قد كذب بعض هذه الظهورات ، وكذلك الأنبا بيشوي الرجل الثاني في الكنيسة المصرية ، إلا أن العوام منهم مصرون على إثباتها لأنهم لا يملكون الحجة والبرهان ، وهذا ما يفعله عندنا غلاة المتصوفة في الدين الإسلامي ، فإنه كلما قل العلم والبيان ، وضعفت الحجة والبرهان ، ظهرت الخرافات والبدع وسعى كل فريق لتأييد قوله بشتى الوسائل الخرافية ، وهذا في كل ملة ودين على غير طريق الجادة.

عاشرا : السيدة مريم بين فرق النصارى
بدأ الخلاف في شخص مريم عليها السلام على يد النسطورية في مجمع أفسس الأول 431 م ، فكان النسطوريون هم الذين قالوا أنها أم يسوع الإنسان فحسب ، ولا نصيب لها في الشفاعة أو العبادة ، وهنا اختلفت نظرة الطوائف المختلفة لمريم العذراء حسب ما يلي :
1-هى أم الإله فى العقيدة الأرثوذكسية.
تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بشفاعة مريم البتول وأنها مقدمة على الملائكة ورؤساء الملائكة ، فهى أم الإله وهي الملكة القائمة عن يمين الملك ، وتؤمن الكنيسة بصعود جسد العذراء إلى السماء.
وهم يصومون لها صوم السيدة العذراء ، فإنهم يزعمون أنه لما رجع توما الرسول من التبشير فى الهند، سألهم عن السيدة العذراء ، فقالوا له إنها قد ماتت ، فقال لهم "أريد أن أرى أين دفنتموها!" وعندما ذهبوا إلى القبر لم يجدوا الجسد المبارك ، فإبتدأ يحكى لهم أنه رأى الجسد صاعدا... فصاموا 15 يوماً من أول مسرى حتى 15 مسري، فأصبح عيد للعذراء يوم 16 مسرى من التقويم القبطي.
ويقولون أن من لا يصوم لها هو الخاسر لأنهم يطلبون الشفاعة وقت الصيام ، فهم يتعبدون لها لتشفع لهم ، لكن هل ترضى هي بذلك؟! لا ريب لا لأنها من اصطفاها لتوحيدها وقنوتها لرب العالمين.
2-هي شريكة فى الفداء عند الكاثوليك مستحقة للعبادة وليست شريكة فى الثالوث.
فهي في اعتقادهم أم الإله المطهرة التي أتت بالإله المتجسد الذي جاء بالفداء ، لذلك فهي شريكة في فداء البشر من الخطيئة الأصلية المزعومة ، وسوف نذكرها في مكانها إن شاء الله.
ونظرا لأنها شريكة في الشفاعة ، فقد صرف الكاثوليك والأرثوذكس لها العبادة ، فتمثلت عبادة الكاثوليك لمريم في عدد من الصلوات التي تؤدى لها، ومنها "صلاة مريم" وفيها يقولون: "يا خطيبة مختارة من الله، يا أيتها المستحقة الاحترام من الجميع … يا باب السماء … يا ملكة السماء التي جميع الملائكة يسجدون لها، وكل شيء يسبحها ويكرمها … فاستمعينا يا أم الله، يا ابنة، يا خطيبة الله، يا سيدتنا ارحمينا وأعطينا السلام الدائم … لك نسجد ولك نرتل".
ومثال هذه الصلوات نجدها عند الأرثوذكس بأسلوب آخر ، رغم أنهم ينكرون هذه الصلوات على الكاثوليك ، فأنكروا عليهم ما وقعوا فيه.
ويقدسونها فى الأيام المريمية ويلقبونها بسيدة السماء ، وهو نفس ما كان يعتقده المصريون القدماء أن إيزيس أم الإله حورس المخلص وزوجه أوزوريس ، فقد كان المصريون يلقبونها بالعذراء وأم الإله والسيدة وملكة السما ونجمة البحر والشفيعة.
وهنا نقول :
لقد صدق الله عز وجل حينما قال : (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فما فعله النصارى بمريم عليها السلام هو نفس فعل الأمم السابقة كالفراعنة واليونان واليهود.
ولنأخذ المتابعة لليهود نموذجا : فقد أدى الأمر لعبادتها كما عبد اليهود ملكة السماء ، فاليهود قد عبدوا من قبل ملكة السماوات وقربوا لها القربان كما في سفر أرميا : (الابناء يلتقطون حطبا والاباء يوقدون النار والنساء يعجن العجين ليصنعن كعكا لملكة السماوات ولسكب سكائب لالهة اخرى لكي يغيظوني ) ، وكانوا يبخرون لها البخور ، ويقربون لها القرابين ، فينالون الخير بهذه الأمور ، لذلك استدلوا على أرميا بحصول الخير مع وقوع الشرك على صحة المذهب فقالوا : (اننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا بها باسم الرب * بل سنعمل كل امر خرج من فمنا فنبخر لملكة السماوات ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن واباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في ارض يهوذا وفي شوارع اورشليم فشبعنا خبزا وكنا بخير ولم نر شرا * ولكن من حين كففنا عن التبخير لملكة السماوات وسكب سكائب لها احتجنا الى كل وفنينا بالسيف والجوع ) .
وهذا خلاف ما نفاه القرآن الكريم من عدم الاستدلال بحصول الخير للمشركين على صحة المذهب ، فهذا هو الشرك المجرب ، فالله عز وجل يقول : (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) ، فقد يحصل للمشرك خير ، لكن هذا من باب الإخلاص في بعض الأوقات ، الأوقات التي تتجه فيها فطرة المرء لله عز وجل ، وهي أوقات الشدة ، ثم يتركون هذا التوحيد في أوقات الرخاء.
3-عقيدة الحبل بلا دنس عند الكاثوليك
يراد بهذه العقيدة أن الله عز وجل قد قام بتطهير مريم عليها السلام من الخطيئة الأصلية قبل الحمل بعيسى عليه السلام ، وذلك رغم ولادتها من أبوين يحملان هذه الخطيئة الأصلية، فهو تناقض ، ويرون أن السبب في ذلك هو تكريمها ، وحتى يكون المولود منها بلا دنس ، لذلك فهم يحتفلون يوم 8 أيلول/سبتمبر من كل عام بعيد ميلاد العذراء بلا دنس الخطية الأصلية.
ويعتمد الكاثوليك في تقديسها على ما جاء في النص الكاثوليكي لإنجيل لوقا، وفيه: (فلما دخل إليها الملاك قال: السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء) .
4-رد الأرثوذكس على عقيدة الحبل بلا دنس
لكن الأرثوذكس ردوا على الكاثوليك في هذه العقيدة ، فقالوا أنها تحتاج للخلاص مثل باقي البشر ، لقولها : (تعظم نفسى الرب وتبتهج روحى بالله مخلصى) ، فقولها "مخلصي" هو اعتراف منها باحتياجها للخلاص كسائر البشر ، مما يدل على حملها الخطيئة الأصلية.
ولو قلنا بلزوم خلوها من الخطيئة الأصلية للزم خلو أبويها منها ، ويلزم من ذلك أمران:
الأول : أن آدم وحواء لم يخطئا لأن التسلسل يصل لهما
الثاني : أن أبوي مريم ليسوا من البشر.
ولا يمكن القول بأحدهما حسب المعتقد الأرثوذكسي.
أما في المفهوم الإسلامي فلا مكان لمثل هذه العقائد ، فلا مكان لتوارث الخطيئة ، وهذه نذكره في مبحث الصلب الفداء والخطيئة الأصلية في هذه الموسوعة بإذن الله ، فالله المستعان وعليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
4-عصمة السيدة مريم عند النصارى
ولما كانت شريكة في الفداء سموها "سيدة المطهر" ، وهي قدرتها على انتشال المؤمنين وعونهم في المطهر ، وقالوا بعصمتها اعتمادا على عقيدة الحبل بلا دنس التي قرروها من قبل.
وقد رد الأرثوذكس عليهم أن القداسة لا تعني العصمة ، وإنما قداستها من حلول روح القدس عليها ، ولو كانت القداسة عن عصمة لشاركها في هذا الأمر قديسات ممن سبقها أو جاء بعدها.
ورغم أن الإنجيل لا يثبت عصمتها حينما أرادت تيسير الخمور لأهل العرس ، بل وأمرت ابنها بذلك ، ولا ريب أن الكتاب المقدس يحرم الخمر ، فكان قيام مريم عليها السلام بخدمة الموجودين بالعرس بمثابة خروج على الشريعة ، وهذا ينقض دعوى العصمة من أصلها ، وبالتالي لوازمها.
5-قيامتها عند الكاثوليك
أعلنت عقيدة صعود جسد ونفس العذراء إلى ملكوت السموات وجلوسها عن يمين السيد المسيح ، ولذلك دائما يرسمها الأرثوذكس والكاثوليك في الأيقونات عن يمين الابن ، بصفة رسمية لأول مرة بواسطة البابا بيوس الثانى عشر بابا روما عام 1950، وصارت منذ ذلك الحين من العقائد الرسمية فى الكنيسة الكاثوليكية.
لقد أعلن البابا بيوس أن العذراء "بعدما أكملت مدة حياتها على الأرض، صعدت بجسدها وروحها إلى المجد السماوى، ورفعها الرب لتكون ملكة على كل شئ، حتى تصير الأكثر مطابقة لابنها، رب الأرباب وقاهر الخطية والموت"... "إن عقيدة صعود مريم للمساء تنبع من وتكمل مفهوم الحبل بها بلا دنس".
6-بتولية العذراء بين الطوائف المسيحية
قالت الأرثوذكس والكاثوليك بدوام عذريتها ، بمعنى أنها لم تتزوج بعد إنجابها للمسيح ، وهذا ما يرده الدليل النقلي والعقلي كما يلي:
1- في انجيل متى نقرأ عن يوسف النجار أنه لم يجامعها إلا بعد ميلاد يسوع ، يقول متى : (ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع ) ، أي انه عرفها بعد أن انجبت يسوع البكر ، ومعنى كلمة يعرفها : أي يجامعها جماع الأزواج ، ودليل ذلك أن كلمة يعرفها معناها النكاح والوطء ، ففي سفر التكوين نجد هذا ما يؤيد ذلك في العلاقة بين آدم عليه السلام وزوجته حواء : (وعرف آدم حواء امرأته فأنجبت) .
2- أن الإعجاز في عذريتها وقت ميلاد المسيح وليس بعده ، ودوام العذرية من عدمه لا يزيد الأمر شيئا ، فالمعجزة تمت في الميلاد ، ولا حاجة لدوامها.
3- أنه ورد ذكر إخوة للمسيح في إنجيل متى حيث قال : (وفيما هو يكلم الجموع اذا امه واخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه * فقال له واحد هوذا امك واخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك ) ، كما وردت أسماؤهم عند متى أيضا وهم : (اليس هذا ابن النجار اليست امه تدعى مريم واخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا ) ، وأيضا قول بولس في رسالته لأهل غلاطية (ولكنني لم ار غيره من الرسل الا يعقوب اخا الرب ) .

حادي عشر : خاتمة في بيان أن عقيدة مريم عليها السلام ليست هي عقيدة النصارى اليوم
كانت العقيدة الأولى لمريم هي عقيدة اليهود ، ولا ريب أنها لمكانتها التي ذكرت في القرآن أنها من أهل التوحيد الخالص ، فالله اصطفاها وطهرها على نساء العالمين ، وكفلها زكريا ، وكانت المختارة لحمل آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى عليه السلام.
فلم تسجد للروح القدس عندما جاءها ، بينما يعتقد النصارى أنه أقنوم من الأقانيم ، فلم تقل له أنت الأقنوم الثاني ، أو أنت روح الله ، جزء من الإله ، ولم تتعبد له ، ولم تقل تشكره على هذه الكرامة ، فهو ملك مكلف بمهمة من رب العالمين ليس أكثر من ذلك.
وبحملها بعيسى عليه السلام لم يخطر ببالها مطلقا أنها تحمل من رب العالمين ، أو أنها تحمل بابن الرب ، لذلك حينما جاءها الملك لم تستنكر فكرة الحمل بالإله لأنها لم تكن مطروحة ، وإنما استغربت فكرة حملها دون أن يمسسها بشر ، ولو كان حملها من الرب مطروحا لما أثير السؤال الثاني ، لأنه لا محالة أن الاستغراب يذهب للسؤال الأول.
ويؤكد ذلك مجيء المجوس حين ولادة المسيح وسؤالهم حول ملك اليهود ليسجدوا له إجلالا وتعظيما ، وهذا دليل على تفنيد ادعاء النصارى بألوهية المسيح ، يقول متى : (و لما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم * قائلين اين هو المولود ملك اليهود فاننا راينا نجمه في المشرق واتينا لنسجد له) .
فلو فرضنا أن الملاك جاءها فقال : تحملين من الآب بالابن ، أيكون الرد كيف ولم يمسسني بشر أم تخر مصعقة من حلول الروح القدس بها استغرابا وخوفا ورهبة مما سيلحقها من حلول الروح القدس بها؟!
لا ريب أنه كما ذكرنا الأول ، وهو ما لم يحدث فدل على نفي الاحتمال ، وأن عقيدتها التي كانت عليها أنها تحمل بإنسان وليس إله.
وحينما ظهر ملاك الرب ليوسف النجار في حلمه ماذا قال له؟ هل قال له قم وخذ الرب؟ لا ، بل قال له قم وخذ الصبي لأن فكرة التجسد الإلهي أو الحمل بإله لم تكن متصورة ، ولا يمكن تصورها ، يقول متى : (و بعدما انصرفوا اذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وامه واهرب الى مصر وكن هناك حتى اقول لك لان هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه * فقام واخذ الصبي وامه ليلا وانصرف الى مصر) .
ولم تستغرب يوسف النجار ومريم هذا الأمر ، حينما جاء الأمر بالهرب إلى مصر بالغلام لم تقل مريم : أيهرب الرب خوفا من بطش الجبارين في الأرض؟! ، وذلك لأن احتمال الحمل بإله لم يكن مطروحا في فكرها ولا في فكر يوسف النجار خطيبها ، وإنما غاية ما توصلوا له كون هذا الغلام له شأن ، وغاية هذا الشأن هو مقام النبوة وليس التأليه.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك