العمل الجماعي ومسألة الخلاف في الرأي

العمل الجماعي ومسألة الخلاف في الرأي

أحمد صلاح /خاص ينابيع تربوية

 

ربما ينبغي بين الحين والآخر أن نتحدث عن طبيعة العمل الجماعي و فلسفته وخصائصه التي تدفع  جماعة العمل إلى الإنجاز و على تقبل الخلاف في الرأي ،  وأن  قوة العمل الجماعي تكمن في إيمان الجماعة به وبقواعده الثابتة ، حتى وإن بدا رأيها مخالفا لقناعة البعض و رأيه ، و مخالفاً لتحليله للموقف ورؤيته له .

ربما نحتاج من وقت لآخر أن نعيد ذكر موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في قرارهم في الخروج في غزوة أحد من المدينة من عدمه ، نقرأه  مراراً و تكراراً ،ثم نستخلص منه عبرة الالتزام بقرار الجماعة ، وهو الذي  يخالف رأى رسول يوحى إليه ،وبهر الجميع بحكمته وعلمه ورجاحة عقله .

تعالوا نسترجع المشهد الرائع و الملهم و المرشد و الفاصل و الواضح .

بعد هزيمة مذلة للمشركين في غزوة بدر ، تقرر قريش ألأخذ بالثأر والزحف على المدينة لمقاتلة المسلمين  ، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الملهم ،  عدم الخروج من المدينة  و أن جغرافية المدينة ستسمح بالتفوق على المشركين فيما لو كان القتال من داخلها ، بينما رأى معظم الصحابة أن تتم ملاقاة المشركين من خارج المدينة.

ينزل الرسول العظيم الكريم و هو النبي الموحى على قرار الشورى رغم عدم اقتناعه ، و لكن الرسول القائد كان من الشجاعة بحيث يقدم على قرار حرب غير مقتنع به شخصياً ، بل يمكن القول أنه كان صلى عليه و سلم متأكداً من صحة قراره ، ورغم ذلك يقدم الرسول الأمين على قرار هو الأخطر على الإطلاق بالنسبة لدولة ناشئة هو رئيسها ، ألا وهو قرار الحرب ، ليقر مبدءاً أساسياً في الدولة مهما كان حجم التضحية .

رغم عدم موافقة الرسول على قرار الحرب ، يضع الرسول الخطة بكل إخلاص وكأن القرار قراره ، حتى يقترب المسلمون من النصر، و لكن تحدث المفاجأة وينهزم المسلمون .

ربما يطل علينا الموقف العظيم الآن بدلالاته القوية و عبره البليغة ، ليجعلنا نرى مشهد تدعيم قرار جماعة الإخوان بنزول مرشح للرئاسة نقياً خالصاً إذا ما أرجعناه إلى قواعد العمل الجماعي الأصيلة ، والتي كانت مكنت المسلمين من بناء الدولة الإسلامية ، ثم ميزت الإسلاميين في عملهم الدعوى والسياسي حتى وصلوا إلى صدارة المشهد.

إنه موقف يوضح لنا الخصائص القوية للعمل الجماعي ،  وفلسفته الخاصة التي تؤول في النهاية إلى النجاح ، حتى وإن بدا الأمر على غير ذلك .

وهذه الخصائص هي :

أولاً : أن المبدأ دائماً يعلو فوق الشخص ، مهما كان حبنا لهذا الشخص و تقديرنا له و اعتزازنا بقدراته واقتناعاتنا بفكره ، فلم يكن أحب للمسلمين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن هناك من هو أعز منه لديهم ، وأفضل منه خلقاً و علماً وفكراً و مهارة وقدرات و كفاءة ، ورغم ذلك استجاب رسول الله لرأى الجماعة و احترم قرار الشورى ، رغبة منه في إقرار مبدأ تسير عليه الأمة من بعده .

وعندما تأصل هذا المبدأ في نفوس المسلمين ، استطاعوا أن يثبتوا أمام صدمة أخرى أقوى من الهزيمة في غزوة أحد ،  وفاة الرسول نفسه  ، ليذكرهم الله تعالى بقوله :

( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين )

ثانيا ً : إن احترام قواعد العمل الجماعي  والإيمان به ، لا يقاس في المواقف السهلة البسيطة  و القرارات اليومية العادية ، إنما الاختبار الحقيقي له يكون في المواقف الصعبة المؤثرة ، وليس هناك موقف أصعب من موقف حرب على المسلمين اتخذ فيه الرسول قراره المخالف لرأيه بكل شجاعة ، ليبعث رسالة للجميع عبر السنوات و القرون ، أنه يؤمن بقاعدة الشورى في العمل الجماعي ، و أنه ليس على استعداد لأن يتنازل عن المبدأ مهما تكن الظروف و المبررات ، ولقد  أقر الله بهذا المبدأ ، و شجع المسلمين على الاستمرار فيه رغم الهزيمة ، فأنزل ألآية العظيمة " و شاورهم في الأمر " .

إن العهد على السمع و الطاعة في المنشط و المكره هو أحد خصائص العمل الجماعي الأصيلة  ،ذلك بعد أن  نحرر مصطلح السمع و الطاعة ،ليفهم  على طبيعته لا على الطريقة التي يحب أن تروج لها وسائل الإعلام على أنه طاعة عمياء ، من أناس تجمدت عقولهم و سلموها لغيرهم ، بل هو نفس معنى الالتزام الحزبي في الأحزاب ، أو الالتزام بقرارات مجلس إدارة أي مؤسسة ، فهي تعنى الالتزام بقرار تم بناء على آليات شوروية متفق عليها داخل الجماعة ، دون  أن يحمل القرار معصية الله ، وبعدها يصبح الالتزام بها ضرورة منطقية  ،نجحت في تطبيقها بكفاءة عالية جماعة ألإخوان ، وفشل فيها الكثيرون ممن يرون أنها طاعة عمياء لا  أصول لها و لا قواعد .

عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ , قَالَ : " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ ، وَأَلا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ ، وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنَّا ، لا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ " .

ثالثاً : إن احترام قاعدة الشورى في العمل الجماعي ليست عملاً تنظيما فقط ، بل عملا إيمانيا مرتبط بالعبادة ، ويثاب عليه فاعله من الله ، كأي طاعة يتعبد المسلم بها لربه .

المؤسسات و العمل الجماعي وجماعة الإخوان

يعلمنا التاريخ أن المؤسسات الناجحة فقط هي المؤسسات القادرة على تأصيل فكرة العمل الجماعي عند أعضائها ، وقدرتها على تدريب أفرادها على ممارسة هذه القواعد بإيمان وحرفية ، ولذا فإن فكرة العمل الجماعي في  أوروبا و كل البلاد التي عرفت طريق النهضة ، كانت تؤمن بالعمل الجماعي كضرورة للإنجاز ، ثم استمرار هذا الإنجاز،  ثم تطوير هذا الانجاز.

لقد أدركت هذه البلاد أن الجماعة أقدر بكثير على مواجهة الصعوبات التي تواجه الفرد ، وأنها أكثر قدرة على حل المشكلة ،  في الوقت الذي يتراجع فيه إيمان الدول العربية وكل الدول التي تعانى من التراجع و التخلف الحضاري ، من فكرة العمل الجماعي و النزوع بقوة إلى فكرة الفردية .

وعلى مدار ثمانين عاماً ، أبهرت جماعة الأخوان المسلمين المعارضين قبل المؤيدين ، على قدرتها على الاستمرار كل هذا الوقت متماسكة متمسكة بأفكارها ومبادئها ، في الوقت الذي طورت فيه ذاتها لتفهم المجتمع و تتغلغل داخله ، حتى اختلط نسيجها بنسيج المجتمع بصورة لا يمكن فصلها عنه ابدأ ، كل ذلك رغم كل الأهوال التي تعرضت لها الجماعة ، وكل المؤامرات التي حيكت لها من أنظمة ذات إمكانات باطشة لتنهى هذا الكيان ، حتى أيقن هؤلاء أن ما يطمحون إليه هو أقرب إلى المستحيل  منه إلى الواقع .

في نفس الوقت الذي نجد فيه أحزاب كبيرة وصغيرة تتفتت  و تنقسم وتتصارع فيما بينها في صراعات تهدد وحدتها و تصرفها عن تنفيذ أهدافها .

يعلمنا التاريخ أيضاً  أن المشروعات التي تبنى المستقبل تكون أسرع و أقوى و أكثر سداداً و أصلب عوداً أمام أعدائها ، إذا ما تبنتها مؤسسة عتية فتية عرفت معنى التحدي واعتادت عليه منذ عقود .

إن العمل الجماعي في قوته مثل شعاع الليزر ، فهي عبارة عن حزمة مركزة من الأشعة ، هذا التركيز يعطيها قوة غير عادية تمكنها من قطع المعادن ، وهكذا المؤسسات ، تستطيع أن توجه أفرادها في اتجاه واحد ، لتنجز إنجازاً ضخماً في وقت قصير .

إن  قيمة العمل الجماعي  لجديرة بأن ندافع عنها ونقف ورائها في المنشط و المكره ، والتفريط في هذه القيمة أو اهتزاز الثقة فيها في لحظة ما ، لن يأتي بخير ، لأننا ساعتها سنكون قد فرطنا في قيمة إسلامية ، بغض النظر عن اقتناعنا بالقرار ، أو ما هي نتيجته .

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=5119&lasttype=2

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك