التَّوَاصُلُ الفِكْرِيُّ القَوِيمُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
التَّوَاصُلُ الفِكْرِيُّ القَوِيمُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ كثيرًا من مواقف الحياة تتشابه في مضمونها وتصرُّف دروبها، غير متأثّرة بتغيُّر زمان أو تبدُّل مكان، ما دام الإنسان هو الإنسان بصفاته التي خلقها الله فيه، فالطُّغاة والمجرمون على مرِّ الزمان يتخذُون نفس الحيل والأساليب التي سبقهم إليها أقرانهم الذين رحلوا إلى مزبلة التاريخ، حتَّى إنَّ القرآن ليقف متعجبًا من تشابه أقوالهم وأفعالهم قائلاً: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة118] وقوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات52-53] فهؤلاء وأولئك تشابهت قلوبهم وألسنتهم ومواقفهم مع الأنبياء والصالحين في العناد والكفر، كأنهم يوصون بعضهم بعضًا.
وعلى الطّرف المقابل في الخير ونشر دين الله نجد الأنبياء والصالحين تصرفوا في مواقف مغايرة بطريقة واحدة يكاد يجزم العقل أنها هِيَ هِيَ، ولكنَّ المتأمّل يعلم أنها من صفاء القلوب العامرة بالإيمان، والعقول المتزنة بميزان الإسلام، فهذا إبراهيم -عليه السّلام- يضع خطّة لقومه عُبَّاد الأصنام؛ ليقيم عليهم الحجّة فيذكر آلهتهم بسُوء في أحد المواقف، ثمَّ يكسرهم جميعًا إلا كبير أصنامهم في موقف آخر، فيسأل القوم عن ذلك قائلين: {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء59-60] أي: يذكرها بالعيب والتنقص لها والازدراء بها فهو المقيم عليها والكاسر لها.
فأرادوا أن يلقِّنُوه درسًا أمام النّاس ليكون لهم عبرة، وكان هذا هو عين مطلوب إبراهيم عليه السلام، قال تعالى حاكيًا عنهم: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء61] أي: في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه، فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء62-63] وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء64] أي: فعادوا على أنفسهم بالملامَة فقالوا: إنّكم أنتم الظالمون، أي: في عبادتها {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء65] قال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء، أي: فأطرقوا ثم قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} [الأنبياء65] أي: لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء66-67].
والمقصود هنا هو اجتماع الناس كلّهم؛ ليكون أجدَى في الموعظة وإقامة الحجَّة، وهي ما يسمّيها علماء الإعلام اليوم الاتّصال الجمعي أو الجماهيري.
وعلى دربه وطريقته سار موسى -عليه السَّلام- متَّصلاً معه في محاولة جمع الناس والفرعون في وقت معلوم ومكان معلوم؛ ليقيم عليهم الحجَّة والبرهان فقال لفرعون وملئه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه59] وكان هذا يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم.
فكان من أمر موسى مع السحرة ما كان، ثم إيمانهم به والاستماتة في سبيل الدّين الحقّ، والإعراض عن فرعون وجنده، والاستهانة بعذابه، فكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام: أن يُظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس.
وعلى أثرهما سار الغلام صاحب الراهب والسَّاحر والتي روى قصتها علينا التاريخ الإسلامي، فقد جاء في زمان بعد موسى هذا الغلام الصَّغير الذي أراد ملك بلاده أن يتخذه ساحرًا بعد ساحره الذي أوشك على الموت، فكان يذهب الغلام إلى السَّاحر؛ ليعلمه، وكان يمرُّ براهب وهو في طريقه فيتعلَّم منه الدّين الحقّ الذي يدعو إلى توحيد الله، فآثر الغلام دين الراهب على تمويهات السَّاحر، وأصبح الغلام يشفي المرضى بإذن الله، فكان فتنة في هذا البلد فأراد الملك أن يتخلَّص منه بكل السُبل فلم يستطع، وفي الأخير قال له الغلام: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم تقول: بسم الله رَبِّ الغلام؛ فإنَّك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السَّهم في كبد القوس، ثم رماه وقال: بسم الله رَبِّ الغلام فوقع السهم في صدغه فمات. فقال الناس: آمنَّا بربِّ الغلام آمنَّا بربِّ الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد وأضرمت فيها النّيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها.
وهي قصة أصحاب الأخدود التي قصَّها علينا القرآن الكريم.
والمقصود فيها أن الغلام هُدِيَ -بإذن الله- إلى طريقة إبراهيم وموسى -عليهما السَّلام- في جمع النَّاس في صعيد واحد؛ ليقيم عليهم جميعًا الحجَّة ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحي من حيَّ عن بيّنة.
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يتعايش مع الأنبياء، ويتواصل معهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ([1]).
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ كَانَ صَبَرَ لَقَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِ وَلَكِنْ قَالَ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}([2]).
فكان صلى الله عليه وسلم يعلّق على مواقف الأنبياء ويقصّها على الصّحابة ويتفاعل مع أقوالهم وأفعالهم، ويتأثّر بهم، بل يتّخذ من بعض مواقفهم منهاجًا له في الحياة ومن بعض أقوالهم مُعينًا له على ذكر الله؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ بنْ مِسْعُودِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ([3])
فاتخذ صلى الله عليه وسلم من صبر موسى -عليه السَّلام- على إيذاء قومه له قدوةً ومثالاً يُحتَذَى.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ([4])
ففي هذا الدُّعاء يتمثّل بقول أبيه إبراهيم -عليه السَّلام- حين قلَّ الناصر، وتوارى عن الأعين المعين، فقال صلى الله عليه وسلم حين اجتمعت عليه العرب: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ كَعْبًا حَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى إِنَّا لَنَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ دَاوُدَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي جَعَلْتَهُ لِي عِصْمَةً وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي جَعَلْتَ فِيهَا مَعَاشِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ نِقْمَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ قَالَ وَحَدَّثَنِي كَعْبٌ أَنَّ صُهَيْبًا حَدَّثَهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صَلاتِهِ([5])
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي (ص) وَقَالَ سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا([6])
وفي بيعة العقبة، بايعه صلى الله عليه وسلم سبعُون رجلاً وامرأتان. فاختار صلى الله عليه وسلم من السّبعين اثنَي عشَرَ رجلاً، وسمَّاهم النّقباء اقتداء بموسى عليه السلام ([7])حين اختار من قومه اثنتي عشرة سبطًا، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف160] لتستقي منها كل قبيلة من القبائل الإثني عشر.
وفي اليوم الأغرِّ المشهود من فتحه أم القرى مكَّة أخذ صلى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة، وقد لاذ النّاس بالبيت فقال: (الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم قال: (ماذا تظنُّون يا معشر قريش) قالوا: خيرًا، أخ كريم، ابن أخ كريم وقد قدرت؛ قال: (وأنا أقول كما قال أخي يوسف: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف92]. فعَفَا عنهم كما عَفَا يوسف الصديق عن إخوته وقد آذوه ورموه في الجب، وكذا أوذي صلى الله عليه وسلم من قومه أشد الإيذاء بل حاربوه ووقفوا في طريق دعوته.
وهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يتواصل مع النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته، فعن أَبُي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ قال: جَلِسَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فِي الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ. ([8])
فهذه استجابة حسيّة يجدها الصّديق من نفسه في التّواصُل مع النبي صلى الله عليه وسلم فيفعل كما يفعل!. فأدَّى به هذا التّواصل الحسّي إلى تواصل معنويّ فتكلم -رضي الله عنه- كما تكلّم صلى الله عليه وسلم. ففي صلح الحديبية، يصالح النّبِي صلى الله عليه وسلم قريشًا على أن يعود هذا العام إلى المدينة على أن يرجع العام المقبل معتمرًا مع أصحابه، ثم من جاءه من قريش مسلمًا ردَّه إليهم فقال الصحابة: سبحان الله كيف يُردّ إلى المشركين وقد جاءنا مسلمًا، ويأتي عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ: بَلَى. قال: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ: بَلَى. قال: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي. قال: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ. قَالَ: بَلَى. فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا. قَالَ: بَلَى قال: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ: بَلَى قال: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا. قَالَ أبو بكر -ولم يسمع كلمة قالها صلى الله عليه وسلم لعمر-: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قال: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ. قَالَ: بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ. قال: لَا قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ".
فهذا حبل التوصل بين الصديق والنبي صلى الله عليه وسلم في الأفكار والمشاعر والمواقف يظهر جليًّا في وقت الملمَّات.
تعلم عمر -رضي الله عنه- من مثل هذه المواقف فانطلق في الحياة الإسلامية عبقريًا ألمعيًّا يفكّر ويقترح ويناقش بمنهج الإسلام وروح الإسلام ويتواصل مع الصّحابة ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وتواصل مع ربِّه تباك وتعالى، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. ([9])
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. فقال عُمَرُ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. ثم جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
فعُمَرُ لم يكن يعرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن حسّه وروحه في اتّصال دائم من الأنبياء والصَّالحين فيتخذ الأجْدَى والأنفع للمسلمين بقدر الله الموافق لحكم الأنبياء والصالحين.
وكان التّابعون يتواصلون فكريًّا وروحيًّا مع من قبلهم من الصحابة وكبار التابعين، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ يَا أَنَسُ كَيْفَ طَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ وَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهْ مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهْ وَا أَبَتَاهْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ وَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ وَا أَبَتَاهْ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهْ.
قَالَ حَمَّادٌ: حِينَ حَدَّثَ ثَابِتٌ بَكَى. وقَالَ ثَابِتٌ: حِينَ حَدَّثَ أَنَسٌ بَكَى([10])
فهؤلاء التّابعون يَرْوُون الحديث، ويبكُون واحدًا تِلْوَ الآخر، ونحن نرويه ودموعنا تفيض -وَاللهِ- على الخُدُود.
فنسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يجعلنا ممن تتشابه قلوبهم مع قلوب أنبيائهم وسلفهم، وأن يفهمنا عنهم إنَّه على كلِّ شيء قدير.
-------------------
([1]) رواه البخاري 3372، مسلم 151، ابن ماجة 4026.
([2]) رواه أحمد 20615، مسلم 2380، أبو داود 3984.
([3]) رواه البخاري 3150، مسلم 1062.
([4]) رواه البخاري 4563.
([5]) رواه النسائي 1346.
([6]) رواه البخاري 1069، أبو داود 1409، النسائي 957.
([7]) تفسير القرطبي على آية المائدة 12.
([8]) رواه البخاري 3674، مسلم 2403، الترمذي 3710.
([9]) رواه البخاري 402، مسلم 2399، الترمذي 2959.، ابن ماجة 1009.
([10]) رواه البخاري 4462، النسائي 1844، ابن ماجة 1629، الدارمي 87.
المصدر: http://saaid.net/arabic/495.htm