الحوار مع الآخر كضرورةٍ إنسانيَّةٍ وضوابطه في الإسلام

الحوار مع الآخر كضرورةٍ إنسانيَّةٍ وضوابطه في الإسلام

مدخلٌ:

بدايةً نقول إنَّ الحوار مع الآخر في الإسلام، ليس ممنوعًا، بل هو واجبٌ شرعيٌّ، ما دام يحقِّق مجموعةٍ مِن الاشتراطات، من بينها الحفاظ على الهُويَّة الحضاريَّة للمجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة، وأنْ يكونَ على قدرٍٍ من النِّدِّيَّة، بالشَّكل الذي يُحافِظُ على الأُمَّة وعلى كرامتها ومصالحها، ويضمن تحقيق مصالح الأُمَّة المُرْسَلة، والنَّقل عنه بالشَّكل الذي يضيف إلى عناصر قوَّة ونهضة الأُمَّة، على مختلف المستويات، العلميَّة والفكريَّة والحضاريَّة.

وقد كان من أبرز الإشكاليَّات التي ظهرتْ في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م على مستوى الإعلام الغربيِّ، وحتى على مستوى فهم الغربيِّين للإسلام، هي الإشكاليَّة الخاصَّة بموقف الإسلام من الآخر، وكيفيَّة تعامُل الإسلام والمُسلم مع العقائد والدِّيانات الأخرى، ومع الآخر غير المُسلم، وكيف يتم التَّفاعُل بين الجانبَيْن، على مختلف المُستويات، بما في ذلك الإطار الحضاريِّ العام للتَّفاعُل.

وحتى بعيدًا عن الجانب السِّياسيِّ الذي تُمثِّله هذه الإشكاليَّة، تُعتَبر قضيَّة العلاقات الإنسانيَّة والاتِّصال بين الجماعات البشريَّة المختلفة، بمثابة إحدى أهمِّ النَّواميس أو القوانين التي وضعها الله سبحانه وتعالى في كَوْنِهِ؛ حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].

وفي هذه الآية، حدَّد ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى الإطار العام الذي يجب أنْ يحكُمَ العلاقات فيما بين الجماعات البشريَّة المختلفة، على تباين واختلاف ألوانها وألسنتها، وأيضًا دينها، وأوضح في هذه الآية الكريمة أنَّ التعارف والتَّكامُل والتَّعاوُن هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الإنسانيَّة بمختلف أشكالها؛ علاقة الفرد بالفرد وعلاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الجماعة بالفرد، وكذلك العلاقة بين الجماعات البشريَّة والأمم المختلفة.

وكمبدأٍ عامٍ، فإنَّه يمكن القول إنَّ الحوار الإيجابيِّ القائم على أساس ِالاحترام المُتبادَلِ، هو أحد أُسُسِ الإيمان وشُعَبِه، التي قال عنها الرَّسول الكريم مُحمَّدٌ "صلَّى الله عليه وسلَّم" إنَّها بضعٌ وسبعون شعبةٌ، باعتبار أنَّ الاحترام وأخلاقيَّات الحوار، جزءٌ من مكارم الأخلاق التي بعث النبيُّ "صلَّى الله عليه وسلَّم" لإتمامها.. يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: "إنَّما بعثتُ لأتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق" [رواه مالك].

ويُعْتَبَرُ الحوار هو أعلى مظاهر العلاقة ما بين طرفَيْن، وأكثر وسائل التَّفاعُل ما بينهما فاعليَّةٍ؛ حيث هو الوسيلة الأكثر فاعليَّةٍ لكي يؤثِّر أحد الطرفَيْن في الآخر، ولذلك جاءت الكثير من الآيات القرآنيَّة الكريمة، سواءٌ تلك التي تحمل أحكامًا أو تروي واقعةً ما في التاريخ الإنسانيِّ وتاريخ الأنبياء والمُرسلين؛ لأخد العبرة والعظة منها، في صورة حوارٍ.

في التَّعريف بالمصطلح:

يقول الباحث المغربيُّ الدُّكتور محمد السِّلوانيُّ في كتابه "فقه الحوار الإسلاميِّ والواقع المعاصر"، إنَّ الحوار كان مركزَ كل الموضوعات والقضايا في الإسلام، وتطرَّق لجميع القضايا بتنوُّعها، وإنَّه دار بين الله عز وجلَّ وخيار الخلق مثل الملائكة والأنبياء والمُرسلين، وبين الخالق سبحانه وأسوأ الخلق، وهو إبليس الرجيم؛ ليُظْهِرَ أنَّه لا حاجز ولا عائق في الحوار يحول دون وقوعه.

والحوار في الاصطلاح هو عمليَّةُ اتصالٍ لفظيٍّ أو تفاعلٌ عن طريق الكلام ما بين طرفَيْن في أسلوبٍ لا يقصدُ به الخصومة؛ لتحقيق عددٍ من الأهداف، من بينها النِّقاش حول فكرةٍ بعينها، أو إدارة خلافٍ في وجهات النَّظر، أو التَّكامُل وتبادُل الخبرات.

وهذا التَّعريف مستخلصٌ من تعريفاتٍ وضعها عددٌ من علماء الدِّين والُّلغة والأكاديميين العرب، ومن بينهم العلامة الدُّكتور عبد العزيز الخيَّاط، والعلامةُ الشِّيعيُّ الدُّكتور محمد حسين فضل الله، وكليهما من دُعاة التقريب ما بين المذاهب الإسلاميَّة؛ حيث قالا إنَّ الحوار هو عبارة عن عمليَّة إدارة الفكرة بين طرفَيْن مختلفَيْن أو أطرافٍ مُتنازعةٍ عن طريق الأخذ والرَّدِّ في الكلام وطرح الحُجَّة والرَّدِّ عليها وبيان الرَّأي والرَّأي الآخر في هذا المقام، بعيدًا عن فكرة الخصومة.

وفي السِّياق، فإنَّ للحوار فوائدَ عدَّةٌ، فهو يؤدِّي إلى تحسين مستوى العلاقات الإنسانيَّة، وتفريغ الخلافات في أطرٍ لا تعرف العنف، وتُساعد على تحسين مستوى أفكار الإنسان وتنويعها، عن طريق رفدها بالعديد من الرَّوافد الأخرى الجديدة الوافدة من الطَّرف الآخر الذي يُحاوره، بل إنَّ الكثيرين من علماء الاجتماع يعتبرون أنَّ الحوار هو الأداة الرَّئيسيَّة التي تُدارُ من خلالها العلاقات الإنسانيَّة والتَّفاعُلات البشريَّة، من أبسط مستوىً ما بين شخصَيْن في حياتهما اليوميَّة، وحتى أعقد المستويات في العلاقات ما بين الأمم.

والحوار في الإسلام، كما سبق القول، لا يشترط أنْ يكون ما بين اثنَيْن أو أكثر من المسلمين أو المؤمنين، بل يتعدَّاه إلى أن يكون الحوار ما بين مسلمين وغير مسلمين، فالقرآن الكريم يقول لنا إنَّ الله تعالى حاجج إبليس عليه لعنة الله تعالى والملائكة والنَّاس أجمعين، وتناقَشُ معه، كما أنَّ كلَّ الأنبياء أبلغوا دعوة الله تعالى إلى أقوامهم وكُبراءهم عن طريق الحوار.

الحوار ومجالاته:

لعلَّ أبرز المحاورات التي أنبأنا بها القرآن الكريم بين نبيٍّ وبين رموز وأئمة الكُفرِ في قومه، هي محاورة نبي الله موسى (عليه السَّلام) مع فرعون، والتي حاول فيها موسى أنْ يُقنع فرعون بالإيمان بالله تعالى، وشرح له فيها نبيُّ الله (عليه السَّلام) صفات الخالق عزَّ وجلَّ وقدراته وغير ذلك من التفاصيل التي ذكرها لنا القرآن الكريم كاملةً.

كما أنَّ مجالات الحوار عديدةٌ ولا تقتصر على جانبٍ دون آخرَ في حياة الإنسان، فالحوار قائمٌ وواجبٌ في كل مجالات الحياة الإنسانيَّة، فهو واردٌ في الدَّعوة إلى الله، كما فعل كلُّ أنبياء الله تعالى ورسله الكرام، وفي السِّياسة بين الدِّول وبين الحاكم والرَّعيَّة.

كما أنَّه واردٌ في الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، وفي هذا نموذجٌ مهمٌّ ذكره القرآن الكريم في سورة المجادلة.. قال تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)﴾؛ حيث جاءت خويلةُ بنت ثعلبةٍ "رضي الله عنها" إلى الرَّسول الكريم مُحمَّدٍ "صلَّى الله عليه وسلَّم" لتشتكي إليه زوجها أوس ابن الصَّامت، الذي كان قد ألقى عليها يمين الظِّهار، وهو حُكْمٌ كان في الجاهليَّة أنْ يقول الرَّجل لامرأته "أنت عليَّ كظهرِ أمِّي"، فلا تكون له زوجةٌ ولا هي بالمطلَّقة تذهب إلى حال سبيلها، فأنزل الله تعالى هذه الآية تمهيدًا لإنزال الحكم الشَّرعيِّ بتحريم الظِّهار في الإسلام.

كما أنَّ الحوار ليس أمرًا أو فعلاً أحاديَّ الاتجاه، من طرفٍ لآخرَ، بل هو عمليَّةٌ تفاعليَّةٌ تعتمد على تبادُل الكلمات والسَّماع المتبادَل، بل إنَّ ذلك هو شرط اعتبار الحديثِ ما بين طرفَيْن أو أكثر بمثابة حوارٍ؛ حيث إذا ما اقتصر التَّفاعُل والكلمات على طرفٍ دون إمكان الرَّد من جانب الطَّرف المُخاطَبِ، كان أقرب إلى صيغة الأمر أو الإعلام والإنباء فحسب.

الإسلام وإشكاليَّة الآخر:

ترتبط قضيَّة الحوار مع الآخر بإشكاليَّةٍ أخرى، وهي إشكاليَّة العلاقة مع الآخر في الإسلام، وفي هذا الإطار فقد حَفِلَ القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة بالعديد من النّصوص التي لا تحتمل التَّأويل أو سوء الفهم، والتي توضِّح أنَّ أساس العلاقات ما بين المسلم وغير المسلم، وبين دولة الإسلام والأمم غير المسلمة هي الحوار والسِّلم، وأنَّ الخلاف والحرب هو الاستثناء، ويكون ذلك ردًّا لعدوانٍ ودرءًا لتهديدٍ عظيمٍ على الأُمَّة، وليس لأمرٍ آخر، وهو أمرٌ موجودٌ في كلِّ الأديان والعقائد الأخرى، ولم يختصُّ به الإسلام نفسه فحسب؛ حيث يكون استخدام القوَّة في مواجهة البغي والعدوان.

فالحرب في الإسلام ليست هي القاعدة، وإنما هي الاستثناء، فهي، أي الحرب لا تكون سوى إذا بدأ العدو أو عُلِمَ أنَّه ينوي بلا أيَّ مجالٍ للشَّك أنه سوف يعتدي على المسلمين، هنا يجب على المسلمين الجهاد لرد عدوانه، وتزول الحرب بزوال أسبابها، أي ليست أمرًا لا نهاية له متى بدأت، بل تنتهي متى تمَّ ردع العدو أو ردِّ عدوانه.

وفي القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ [سُورة المُمْتَحَنَةُ: الآيتان 8- 9].

ففي هاتَيْن الآيتَيْن الكريمتَيْن وضع الشَّارع الأعظم جلَّ وعلا دستور العلاقات ما بين المسلمين وغير المسلمين بشكلٍ دقيقٍ، فشرط لمحاربة غير المسلم أنْ يكون هذا الأخير قد قاتل المسلمين في دينهم، وسعى لإخراجهم من ديارهم، ولكن في غير هذه الحالات، فإنَّ العلاقات ما بين المسلمين وغير المسلمين يجب أنْ تقوم على برِّ هؤلاء غير المسلمين، ومعاملتهم بقواعد العدل الكاملة التي حدَّدها الله تعالى في شريعته.

ويقول الله تعالى في كتابه العزيز أيضًا آمرًا رسوله الكريم مُحمَّدٍ "صلَّى الله عليه وسلَّم": ﴿قُل تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: الآية 64].

وفي هذه الآيات الكريمة يأمر الله عزَّ وجلَّ المسلمين بأنْ يدعوا أهل الكتاب إلى حوارٍ، واضعًا أُسسه التي تقوم على أساس التَّوصُّل إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينهم، وعلى رأس قواعدها عبادة الله تعالى لا شريك له، كما أنَّه ثمَّة أمرٌ شديد الأهمِّيَّة في الآية الكريمة، وهو ختامها؛ حيث إنَّ المسلم أُمِرَ في حالة رفض الطَّرف الآخر للحوار معه وفق هذه القواعد المتينة التي حدَّدها الله عزَّ وجلَّ، بألا يخرج في ردِّ فعله عن تأكيد إيمانه بالإسلام فحسب، وليس الخروج وراء من رفض المحاوَرة بالسِّلاح.

بل إنَّ الله تعالى يُحرِّم الخروج بالسِّلاح وراء من لم يعادي المسلمين، ففي سورة النِّساء، في الآية "90" يقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾.

وفي أهل الكتاب أيضًا قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [سورة العنكبوت: الآية 46].<

بل إنَّه حتى عندما وضع الله تعالى أسس ووسائل الدَّعوة إلى دينه، الإسلام، جعل الحوار والإقناع هو الأساس في دعوة غير المسلمين لدخول الإسلام، وليس بأيَّة وسيلةٍ أخرى.. قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾ [سورة البقرة: الآية 255]، وقال أيضًا في هذا المعنى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس: الآية 99].

كما أمر الله موسى وهارون، عليهما السَّلام، حين بعثهما إلى فرعون بمخاطبته ودعوته إلى الدُّخول في دين الله بالقول الصَّالح، وبطريقةٍ سهلةٍ طيبةٍ فقال عزَّ وجلَّ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [سورة طه: الآية 44].

وتنطلق كلُّ هذه القواعد والأُسس من قاعدةٍ أو أساسٍ أعمُّ وأشمل، وهو أنَّ الإسلام هو دينٌ شاملٌ سواءٌ في أحكامه أو فيمن يخاطبه، وكذلك أنَّ الإسلام دينُ الإنسانيَّة، ويتعامَل مع البشر كما خلقهم الله تعالى، مُتعدِّدون ومختلفون ومتابينون في طبيعتهم وفكرهم وانتماءاتهم في مختلف المجالات، العقائديَّة والسِّياسيَّة والثَّقافيَّة وغيرها.

التَّعدُّديَّة في الإسلام:

وترتبط بالقضيَّة التي نحن بصددها هنا، بقضيَّةٍ أخرى أيضًا، وهي قضيَّة التَّعدديَّة في الإسلام وموقف دين الله تعالى منها؛ حيث إنَّه من أبسط شروط وقواعد قيام حوارٍ ناجحٍ هو أنْ يكون طرفا أو أطراف الحوار تعترف ببعضها البعض، أو على الأقل هناك الحدِّ الأدنى من قبول الآخر، وهو ما يدخل في إطاره إيمان الإنسان بالتَّعدُّديَّة التي خلقها الله تعالى في كونه.

وفي هذا الإطار، وعن موقف الإسلام من فكرة تعدُّديَّة الأديان، يقول العلامة الدُّكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتِّحاد العالميِّ لعلماء المسلمين، في إحدى حلقات برنامج "الشَّريعة والحياة" على قناة "الجزيرة" بتاريخ 17 فبراير 2008م، وكانت بعنوان "التَّعدُّديَّة الدِّينيَّة وقيم التَّسامح الإسلاميِّ"، يقول العلامة القرضاوي: "لقد أقرَّ القرآن الكريم فكرةَ التَّعدُّديَّة الدِّينيَّة، واعتبرها بمشيئة الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي شاء أنْ يكون البشر على هذه الوتيرة، ومشيئة الله عز وجل لا تنفصل عن حكمته سبحانه وتعالى؛ لأنَّ المشيئة هي مقتضى الحكمة الإلهيَّة".

واستدل بقول الله تعالى في سورة هود: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (119)﴾.

وفي تفسير هذه الآية قال كثيرٌ من المفسرين إنَّها تعني أنَّ البشر مُتغايرون ومتعددون في الفكر والإرادة، وبالتَّالي فلا بد أنْ تتباين أديانهم وعقائدهم، وهذا من نواميس الخلق الإلهيِّ كما قالت الآيتان الكريمتان، وهو ما يعني أنَّها حقيقةٌ يجب على الإنسان المسلم التَّعايُش معها.

وأكد القرضاوي على "أنَّه ليس معنى التَّعدُّديَّة أنْ أعتقد أنَّ جميع الأديان على حقٍّ، ولكن معنى التَّعدُّديَّة هي الإقرار بحقِّ الآخرين في العيش معي، وأنْ يُجاوروني وأجاورهم والعمل معًا في خدمة البشر، مثل الوقوف ضد تيَّار الإلحاد وتيَّار الإباحيَّة؛ وضد المظالم الاجتماعيَّة؛ وضد العدوان على حقوق الإنسان؛ والوقوف مع الشُّعوب المستضعفة مثل الشعب الفلسطينيِّ"، مشيرًا إلى أنَّه من حقِّ أتباع كل دينٍ أنْ يعتقدوا أنَّ دينهم هو الأفضل، وإلا لماذا بقي الناس على هذا الدِّين إذا لم يعتقدوا أنَّه هو الأفضل.

وبطبيعة الحال من يقبل بفكرة التَّعدُّديَّة في الأديان، يقبلها في أيِّ أمرٍ آخرَ، باعتبار أنَّ أيِّ أمرٍ آخر هو ما دون العقيدة والدِّين، وبالتَّالي فقد دعا الإسلام صراحةً وبكلِّ وضوحٍ إلى قبول الآخر، أيًّا كان اختلافه عنه، في الدِّين، أو في المذهب، أو في الَّلون والِّلسان، وكذلك في الثَّقافة، أو حتى في المبدأ السياسيِّ.

وفي هذا الإطار أيضًا يقول الباحث المغربيِّ محمد السِّلوانيُّ: "إنَّ التَّسليم بأنَّ التَّعدُّديَّة الثَّقافيَّة جزءٌ من نظام الكون، وسُنَّةٌ من السُّنَنِ التي أودعها الله في مجتمعات البشر، والسَّعي للقفز عليها والابتعاد عنها عن طريق استبعاد الآخرين أو تهميش دورهم، إنَّما هو ضد حركة التَّاريخ، وضدَّ السُّنَنِ الثَّابتة في الكون وفي مجتمعات النَّاس".

وفي خواتيمِ سورة النَّحل حدَّد الله تعالى للمسلم الكيفيَّة التي تسير بها علاقاته وحركته في الحياة الدُّنيا، بما في ذلك الكيفيَّة التي يتعامل بها مع غير المسلم الذي يظلمه.. قال عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)﴾.

==========

* موقع هدي الإسلام

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?lasttype=1&pageid=4575

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك