الحوار منهجاً وثقافة

الحوار منهجاً وثقافة

المبحث الأول
مع الحوار القرآني :

* مدخل: - تعريف .
– مقدمات الحوار.
اولاً : مع الحوار القرآني.
ثانياً : مع بنى اسرائيل.
ثالثا : مع يوسف "عليه السلام" وإخوته.
رابعاً : مع إبليس – لعنه الله-
خامسا: فوائد متفرقة

المبحث الثاني
الحوار النبوي والتربوي
القسم الأول : الحوار النبوي :
أولاً : مقدمات الحوار النبوي
ثانياً : فنيات الحوار النبوي
ثالثاً : من السمات العامة للحوار النبوي
القسم الثاني: الحوار التربوي:
أولاً : الحوار التربوي التعليمي
ثانياً : التربية الدرامية
ثالثاً : الحوار في البيت والمدرسة والمجتمع.

الحوار منهجاً وثقافة

إبراهيم جبريل آدم ( أبو عداس الصوفي )
جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية

1427 هـ -2006م

الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين .

جاء في الذكر الحكيم:
( ... سبحانك اللهمّ لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)

ومن الدعاء المأثور :
( ... اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع...)

ومن دعاء الشعراء :
أعذني ربّ من حصر وعي ومن نفس أعالجها علاجا !

شكرٌ وإهداء

إلي من يقبل ظلف شاة محرق ؛ ويكافئ عليه : سيدي رسول الله "صلي الله عليه وسلّم" . حيث جاءنا بها بيضاء نقية .
وإلي التي لولاها ما تلوت كتاباً ، ولا خططت بيميني حرفاً : أمّي ؛ حيث عانت الحر ، والقر ، والريح ، وغبش الفجر ؛ لأجل اللقمة الحلال ، وحق القلم ، والكراسة ، والرسوم .
وإلي الذي بني بيتاً آواني ، بيّضت فيه هذه الوريقات ، كأنما رفع البناؤون أيديهم عنه الساعة ، وقد مضت عليه خمسون عاماً ، وترك الحكم فقيراً ، وكان شرطه الوحيد ألا يطرد ابنه الطالب من منزل السفير بـ"لندن"؛ الفريق عبود ، تغمده الله بواسع رحمته!
وإلي زوجي ، وبنتيّ : هاجر ، و مشكاة.
ولإخواني الشهداء.
وأُهدي بحثي هذا شاكراً لكل من ساعدني : الأخ الأستاذ/ محمد حمزة ، الذي طبع المسودة الإبتدائية ، وفني الكمبيوتر الأخ/ فخر الدين فريمو لاكو . والأخ/ عمر الهادي ، أمين مكتبة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بجوبا ، ولكل من ساعد في استدراك الأخطاء الطباعية.وشكر الله لهم.وآخرين لا تسعهم الصفحة
جوبا . في : 13 رجب 1427 هـ .
8 أغسطس 2006م .

المقدمة

الحوار وما يتصل به ، من الموضوعات المهمة في عالمنا اليوم ؛ إذ أنَّ كثيراً من النَّاس يهتمون به ؛ غير أن هذا الإهتمام غالباً ما يقتصر علي ناحية دون إخري :
الداعية يهتم بالحوار في إطاره الدعوي فحسب ، والمعلم يهتم بالحوار فيما يتصل بالعملية التعليمية ، والإعلامي فيما يباشر به مهنته ، والدبلوماسي يهتم بما يتصل بقواعد السلوك ، والمجاملة ، وإعطاء إجابات حمّالة أوجه ، وهكذا .
تنبع أهمية الدراسة من شمولها ، ونظرتها الجامعة ، ووضع إطار جديد كل الجدّة ، للشروط والآداب ، وأنواع الحوار في قالب جديد ، متتبعة فوائد الحوار القرآني ، ومراحل الحوار ، ومنهجيته ، محلِّلََّة لحوار الحضارات ، في دراسة وصفية.
وتمّ التمهيد لهذا بوصف المقدمات ، والتعريف الجامع ، مع التطرق لمنهج النبوّة ، وفنيّاته ، مع التزام الجدة – قدر الوسع ، والطاقة –
عالم اليوم يمور بتيارات عديدة ، وتوجهات خطرة ، وحوارات متنوعة في : السياسة ، والثقافة ، والإعتقاد ، مع رؤيً حضارية تحتاج للنظر والإعداد.
ومما حفزني للكتابة مشاركتي السابقة في الموضوع ، قبل سنوات ، حيث ألممت بجوانب الضعف والقوة ، مع كرّ الليالي والأيّام ! وممّا جرأني أيضاً لتقحُّم هذا الموضوع ، اتصالي بمجالاته ؛ حيث أتصل بالتربية بحكم المهنة ، ودرست الإعلام ومناهج الدعوة ،وأبلوهما عملياً منذ حين من الدهر.

وجاءت الدراسة علي هذا التبويب :

الفصل الأول :
الحوار : في الدّعوة والترّبية :
* مدخل: تعريف ومقدّمات.
المبحث الأول: مع الحوار القرآنى .
المبحث الثانى: الحوار النّبوى والتربوي .

الفصل الثاني:
منهجية الحوار
المبحث الأول : تاريخ الحوار ، ووسائله .
المبحث الثاني : أنواع ، وأهداف الحوار .
المبحث الثالث : شروط ، ومقومات ، وآداب ، وأخلاقيات الحوار.

الفصل الثالث
مستويات الحوار:
المبحث الأول : الحوار من الذاتي إلي الجماهيري ، ومعوّقاته.
المبحث الثاني : حوار الحضارات ( بين الصراع والتفاعل ) .
وأسال الله –تبارك وتعالي- أن يكون إضافة للجهود في هذا المجال ، وأن يحفِّز به المهتمون ، ويستفزز ملكاتهم للإستدرك والبحث النافع ، فربَّ حامل فقه ليس بقيه ، وربَّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه!

موجز البحث

للحوار مدلولات لغوية بعينها استقي منها اللغويون معان بديعة متعددة ، والجمع بين هذه المعاني ، يعطي مدلولات اصطلاحية رائعة.
لأي حوار مقدمات لا بد منها ان أردنا حوارا نافعا ، وقد لخص بعض المختصين ذلك في الإتجاهات الايجابية نحو الذات، والآخر ، والموضوع.
تعرض الفصل الأول للحوار الدعوي والتربوي. بداية بالحوار القرآني ؛ فالله يعلمنا إعلاء شأن المحاور ، والإيجاز البليغ وغير ذلك.
سمات حوار يهود في القرآن الكريم . تبين دواخلهم ؛ ليهتدي بها الناس . ومنها : الجرأة اللسانية ، والتعنت ، والدهاء ، والتلطف لبلوغ الغاية .
ونستخلص من سورة يوسف "عليه السلام" أن الأقارب –غالبا- ما تتوحد أراؤهم ، وأن الشهوة تفسد الحوار لدفعها نحو الكذب ، وأن العمل يقوي القول.
ومن جدل ابليس نستخلص : أن تعاظم الخلاف لا يمنع الحوار. والمداولة مرجوة حتي مع الميؤوس منه . وظهور الحق قد لا يرفع الحوار.
من الفوائد المتفرقة للحوار القرآني : إتيان المحاور بما لا يدفع من جهة اعتقاده ، وأن التذكير بالرحم يرقق المحاور ، وأن العالم يتأني في الجواب.
وللحوار النبوي مقدمات : المؤانسة والتلطف ، وإكرام المحاور ، والترفق دخولاً في الموضوع ، والمبادرة ، والخطبة بين يدي الكلام . إضافة للسمت الصالح.
ومن فنيات الحوار النبوي : التشويق ، والتمهيد بالسؤال ، واللجوء للمنهج العاطفي ، واستخدام الرسم للتوضيح. ومن السمات العامة للحوار النبوي : تلطيف الخلاف ، والمرونة ، والإستجابة ، قدر الوسع والطاقة ، والحكمة في توضيح الواضحات ، والصبر والتأدب.
أما الحوار التربوي التعليمي الذي شُهر بالسقراطي. فقد نهج فيه "سقراط " أربع مراحل ، وتحتاج هذه الطريقة للمعلم الماهر . وللمنهج فوائد وعيوب.
الدراما المبثوثة يومياً في شتي الوسائط الإعلامية تقوم علي الحوار ؛ فهو لحمتها ، وسداها. وللغرب الثأثير الأكبر في هذا المجال . وثمة أمثلة في الأدب العربي للتربية الحوارية.
من المؤثرات التربوية علي الناشئة الحوار اليومي في المدرسة والبيت والمجتمع ، هذه المؤثرات هي التي تصيغ شخصية الناشئ بحسب توجهاتها.
يتناول الفصل الثاني : منهجية الحوار متتبعاً تاريخه ، ووسائله ، ومعوقاته ، وأنواعه ، وأهدافه ، والشروط ، والآداب التي ينبغي أن يتحلي بها المحاور.
بدأ الحوار بلغة الأشارة والرموز ، واللغة غير اللفظية عموماً هي : لغة الإشارات ، ولغة الحركات ، والأفعال ، ولغة الأشياء ، ولها إيجابيات وسلبيات.
المرحلة الشفوية قفزت بالحوار ، وحفظت الخبرات ، وأثرت ثأثيراً كبيراً علي حياة الناس ، وهناك خصائص ينبغي توافرها في اللغة الحقيقية.
وكانت الكتابة قفزة الحوار التالية ، وأسهمت –أساساً- في تخطيط المدن ، وفرقت القبيلة ، وأكملت الطباعة -التي جاءت بالصحافة لاحقا- الطفرة الهائلة للحوار.

القفزة غير المسبوقة للحوار في المرحلة الإلكترونية الراهنة ، لم تعد بطفرة موازية للحوار الحضاري : إذ اتسمت بالتدفق ذي الإتجاه الواحد . وحدة التقاطع بين الشرق والغرب.
وتحتاج البشرية لجهود جبارة لتملأ مواعين الحوار المتاحة بما ينفع الناس .
وللحوار أنواع وأهداف متعددة : المحاورة اليومية العادية ، وتدور في شتي الأماكن ، وتتوقف جدواها : علي مهارات الإتصال لدي الأطراف. وتُزجي بها الأعمال وغير ذلك.
وتأتي المجادلة ثانيا من حيث جريانها بين الناس . ومن ألوان الحوار المناظرة ولها أهداف جمة ، أما الحوار الإداري فيستهدف الجمهور الداخلي ، والخارجي ، والخارجي . والمؤسسات الأخري.
وتأتي المؤانسة والإمتاع حوارا خاصا يحتاجه الناس. ومن ألوان الحوار الحديث الحوار الإعلامي وله منهجيته الخاصة.
وتستخدم المواجهة للنصح والتقويم ، أو لإثارة الفوضي و التشويش ، أما المهاترة فيتجاهلها المختصون ، كتجاهل علماء التجويد لـ"الهذرمة"! وتنهج رد الصحيح بالباطل ، أو الباطل بالباطل.
أما المفاوضة فهي مزيج من كل أنواع الحوار السابق ذكرها. للوصول للأهداف المرسومة.
وللحوار أداب وشروط ومقومات : وأول ذلك تعدد الأطراف ، فإلغاء الآخر يعطل الحوار ، واللغة أداة تحديد المعاني .ولا بد للحوار من وسيلة توصل المعاني ، ومن شروطه أن تكون هناك رسالة أو مضمون ، وكذلك الزمان والمكان . وشرطه الرئيس:الغاية.
أما آداب الحوار وأخلاقياته ، فمنها ما يتعلق بالذات من مظهر ، وحسن سمت ، واصغاء ، والتأدب مع الآخر وانصافه مطلوب ، وكذلك مراعاة الأدب ، والأخلاق في انتقاء اللغة والأسلوب.

والأدب مع الوسيلة أن تستخدم بعفة وتسمو بالحوار . ويحترم الحوار فلا يقصد كغاية يشتري بها الزمن ، بل وسيلة للتوافق.
أما الموضوع فيُحكم أدبه بالبيئة المحيطة : فللبيت موضوع ، وللمكتب آخر ، وللمركبة العامة موضوع ، ولغيرها موضوع .
والمكان والزمان خليقان أن تراعي فيهما أخلاقيات محددة ، ويختار للحوار -أي حوار- ما يناسبه منهما.
أما غاية الحوار فينبغي ان تكون أخلاقية ، فالحوار الإداري للأهداف الإدارية الخالصة ، والمناظرة للخلوص للصواب . وهكذا.
يتناول الفصل الأخير مستويات الحوار وأول هذه المستويات الإتصال الذاتي:
تبدأ عملية الحوار داخل كل انسان ، قبل أن تتوسع لتشمل غيره . في مستوي أعلي ، ولربما اقتصر علي الذات .
تحكم هذه العملية أساسا العوامل الثقافية والإجتماعية ، والبيئة المحيطة ، وللحوار الذاتي مظاهر يتجلي فيها . ويدور – في مستوي أعلي- داخل الكيانات السياسية ، والجغرافية.
والحوار الشخصي ما يدور بين شخصين ، ويسمي أيضا بالإتصال المواجهي . وهو بالغ التأثير لسهولة قراءة رجع الصدي ، ومدي الإستجابة ، وتعديل الرسالة تبعاً لذلك .
والحوار الجمعي يدور داخل مستوي الجماعة الأولية ؛ في المعابد وسوح العمل والتجمعات العشائرية .
لطبيعة هذا الحوار يجري داخل الجماعات والجمعيات المحدودة . التي لها أمور داخلية تحتاج لترتيب انطلاقها نحو مستوي الحوار الجماهيري.

الحوار الجماهيري من مستويات الحوار المتقدمة ، وقد برزت ملامحه في الفصل السابق من تاريخ الحوار ؛ في مراحل الكتابة والطباعة ، والمرحلة الإلكترونية الحديثة مما جعل العالم قرية .
من استعراض تطور الحوار نخلص إلي أن معوقات الحوار تتمثل في : الإستعلاء بنوعيه ، والقصور بنوعيه ، والتشويش بنوعيه.
الإتصال الحضاري أعلي مستويات الحوار . وتنطلق بعض تعريفات "الحضارة" من منطلقات مادية ، وحَدّها "سيد قطب" بحدود الإلتزام بالإسلام بقيمه الرفيعة.
نفي بعض المحدثين إمكانية تفاعل الحضارات ، ورأوا الصدام قاعدة ، حيث قدر الحضارات التصادم لا التفاعل ! مما ينفي الآخر تماما ، ويكرس لتدفق المعلومات باتجاه واحد. مثيرو نظريات الصراع يرتكزون علي الإختلافات الدينية ، والعرقية ، والتاريخية ، والطموحات العسكرية والسياسية.
تفاعل الحضارات –بحسب النموذج الإسلامي-أمر ممكن . والتاريخ خير الشاهدين. والنموذج الإسلامي حل مريح.
وحدة واتساق الحضارة الإسلامية يعود للتكيف المدهش لكل الحضارات التي استوعبها الإسلام ، دون أن يلغي الآخر ، إذ تنتخب الصالح وتمزجه. وقد تميزت حضارة الإسلام بثراء عرقي مدهش ، منذ فجر الإسلام . واستمر هذا الثراء الفريد الذي عجزت الحضارات عن إيجاد مثله ، وكذلك الثراء الإجتماعي لقيم المجتمع المسلم الذي جمع البخاري والأندلسي.
أبدع مظاهر التفاعل الفن الإسلامي الذي تجرد فيه الفنانون المشبعين بقيم الإسلام ؛فلم ينسب لأحد ، هذا الفن المدهش الذي دخل الكنيسة فلم تنكره ؛ يلخص فكرة الإسلام في قبول الآخر ، والتعايش معه: بالحوار المثمر الهادف .

الفصل الأول :

الحوار : في الدّعوة والترّبية :
 مدخل: تعريف ومقدّمات.
المبحث الأول: مع الحوار القرآنى .
المبحث الثانى: الحوار النّبوى والتربوي .

المبحث الأول:
مع الحوار القرآني :

* مدخل: - تعريف .
– مقدمات الحوار.
اولاً : مع الحوار القرآني.
ثانياً : مع بنى اسرائيل.
ثالثا : مع يوسف "عليه السلام" وإخوته.
رابعاً : مع إبليس – لعنه الله-
خامسا: فوائد متفرقة.

المبحث الأول:
مع الحوار القرآني
مدخل: - تعريف الحوار.
-مقدمات الحوار.
تعريف الحوار:
أولاً : الحوار في اللغة:
المحاورة : المجاوبة ، التحاور: التجاوب، ويقال: كلمته فما أحار إلى جواباً، وما رجع إلى حويراً،ولا حويرة، ولا محورة ولا حواراً،أى ما ردّ جواباً(1).
والمحاورة ، والمحورة : الجواب ...وتحاوروا : تراجعوا الكلام بينهم.(2)
ومنه قول عنترة بن شداد:
فازورّ من وقع القــــنا بلبانه وشكا إلى بعبرة وتحمـحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكي ولكان لو علم الكلام مكلمي
وفي حديث أبى الدراء " رضى الله عنه" (... كانت بين أبي بكر وعمر محاورة...)(3).
ويقول الأستاذ الفتياني معرفاً للحوار لغة:
من معاني الحوار اللغوية : النقصان؛ كما جاء في الحديث (نعوذ بالله من الحَور بعد الكَور) وكذلك العقل والتعمق: ما يعيش فلان بأحور أي ما يعيش بعقل يرجع إليه.
والحور: شدة البياض،والحوار ولد الناقة حين مولده، وحار حيرة فهو حيران، والمحور عند المهندسين الخط الواصل بين القطبين ، ومحور الأرض عند الجغرافيين: خط مستقيم مرسوم من الشمال للجنوب ...
والحوَّاري : القصار الذي يغسل الثياب .... خلاصة المعاني اللغوية هي : الرجوع ؛ لأن حال المتحاورين يرجع الكلام، والنقصان ؛ لأن كلاهما ينتقص صاحبه، والعقل والتعمق في موضوع الحوار، والبياض لأن : المحاور يحاول تبييض فكرته، والضعف واللين : لأن كلا المتحاورين يتحسس نقاط ضعف الآخر، والتحير ،والتردد لأن : المحاور قدر يحتار بين ما يسمع وموروثاثه ، والخط المستقيم لأن المحاور تجب عليه الاستقامة، ومن تبييض الثياب ؛ لأن المحاور يحاول أن يغسل قرينه من أفكاره وموروثاته أوّلاً )(1)
ثانياً : الحوار في الإصطلاح:
يقول المكحل : هو أن يتبادل الحديث طرفان أو أكثر، عن طريق السؤال والجواب وغيرهما، بشرط وحدة الموضوع ، أو الهدف ، فيتبادلان النقاش حول مسألة محددة .(2)
وترى "اللبودي" أن الحوار : محادثة بين طرفين أو أكثر تتضمن تبادلاً للآراء والأفكار والمشاعر، وتستهدف تحقيق قدر أكبر من الفهم والتفاهم بين الأطراف المشاركة فيه لتحقق أهدافا معينة يسعى المشاركون في الحوار لإنجازها.
ويرى "عبد الحليم حنفي" أن: المحاورة في دلالتها الواقعية، هي محاولة كل من طرفي الحديث أو أحدهما أن يقنع الآخر بمنطقه ووجهة رأيه.(4).
وأيضا مما ورد في تعريفه أنه: أسلوب يجري بين طرفين ؛ يسوق كلٌ منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به ويراجع الطرف الآخر في منطقه ، وفكره ، قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.
مما سبق من تعريف نرى أن المدلولات اللغوية والاصطلاحية شديدة التقارب أن لم تتطابق، ويمكننا أن نخرج بالحقائق الآتية:
أن الحوار يعني :
1. المجاوبة: فالحوار تفاعل، وقد يكون على سبيل المغالبة ، وغالباً ما لا يكون كذلك.
2. النقصان : إذ كل طرف يحاول تبيين مواضع النقص في الطرف الآخر.
3. العقل: (الأحور) لأن المتحاورين يجهدان عقليهما.
4. الحق : لشدة البياض التي هي من معانيه.
5. التزيين : كحال القصار الذي يبيض الثياب.
6. الحيرة والتردد: إذ قد يحتار طرف في أمره، ويراجع
أفكاره.
7. الضعف واللين : وهو ما قد يجد طرف نفسه فيه ؛ لهشاشة حجته.
8. الاستقامة كالخط الواصل بين القطبين ؛ إذ لابد من استقامته ليصل بين القطبين.
9. الثبات : إذ أن المحور نقطة ثابتة ، تدور حوله الكرة الأرضية ، وأي كرة أخرى كقطب الرحي.
وكل هذه المعاني تحيط بأي محاور قبل الحوار فيهيئ نفسه ويوطنها على طلب الحق، والاستقامة عليه ، لا لهوى نفسٍ.
ولا بد له من المجاوبة ، التي هي أساس الحوار بإعداد الردود اللائقة وأكمال ما ينقصه إبتداءً ، من أدلة بنقده لنفسه ؛ لإكمال نواقص أفكاره ، وتمتين جوانب الضعف واللين.
كل هذه العملية تجري لإحقاق الحق ، والثبات عليه ، وإلا صار الحوار معيباً.
وفي سياق هذه الملاحقة للتعريف والمعاني ينبغي تقرير أن معظم ألوان الحوار لا تكون على سبيل المغالبة ؛ وهي الدائرة في الحياة اليومية في مقار العمل , والأسواق ، وقاعات الدرس ، والبيئة المنزلية ، وحوارات الإمتاع والمؤانسة أنّي كانت.

ثانياً : مقدمات الحوار:
الغاية من الحوار تختلف باختلاف المتحاورين؛ فالداعية يروم به ما يخدم أهدافه الدعوية، الساسة يودون كسب ود المستهدفين لتحقيق مشروعاتهم السياسية، والإداريون غايتهم إنجاز الأعمال ، وغير ذلك مما سيبسط لاحقاً في مواضعه.
ومهما تكن الغاية من الحوار فأن هناك مقدمات تجب مراعاتها: علماء الإتصال حددوا أموراً تجب مراعاتها في هذا الإطار، ومن ذلك نظرية "ديفيد بيرلو" التي شرطت شروطا ثلاثة لنجاح الاتصال وهي : الإتجاه الإيجابي نحو الذات، والموضوع، والطرف الآخر(1). ونأخذ هذه الاتجاهات كمقدمات ضرورية لإنجاح الحوار.
1. الإتجاه الإيجابي نحو الذات:
الثقة بالنفس ضرورية لإنجاح الحوار إذ لا يكفي التأهيل العلمي الرفيع مالم يصاحبه تدريب ؛ ولا يصلح التدريب لمن يعجز عن تنمية الثقة بالنفس:
( إذا كان اتجاه الفرد نحو ذاته سلبياً ، يحتمل أن يؤثر هذا التقييم للذات على نوع الرسالة التي يصنعها، إذا افترضنا أن اتجاه الفرد ذاته إيجابياً وأنه يعتقد أنه محبوب فقد يجعله هذا الاعتقاد ناحجاً لثقته في نفسه).( )
توافر عناصر النجاح كلها أيضا لا تفي بالغرض مالم تقترن بالنظرة الإيجابية للذات مقترنة بالزمان والمكان المطلوبين، سواءً أكان المحاور في العلم، أو العمل، أو الحوار لأجل المؤانسة.
وتكبر الحاجة إلى النظرة الإيجابية للذات ، في الجدل والمناظرة وقاعات المحاكم، فإذا كان طرف (ألحن بحجته) قُضي له بالفوز في المجلس، أو القضية وأن كان مجانباً للصواب، أن أحكم حجته المنطقية ، وتحلي بالعزيمة النفسية.
ومما يعين على ذلك الإعتداد بالثقافة المحلية ، والحضارة الإسلامية ، وتجاوز من ذكره "ابن خلدون" من ولع المغلوب – عسكرياً - على الافتنان بالغالب والإعجاب بأمره كله ، والسير على خطاه.
( المغلوب مولع أبدأ بالإقتداء بالغالب في شعاره ، وزيه ، ونحلته ، وسائر أحواله ، والسبب في ذلك : أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها، وانقادت إليه ، أما لنظره بالكمال ، أو بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انتقادها ليس لغلب طبيعي، أنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها؛ صار اعتقاداً ؛ فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به).( )
وكشأن الثقة بالذات الثقة بالموروث الحضاري – بالنسبة للمسلم – واعتباره أسّ الحضارة الحديثة.
يقول "سيد قطب" رحمه الله : حين يقوم الإنسان بالخلافة عن الله في أرضه على وجهها الصحيح... يخلص عبوديته لله ... وأن يحقق منهج الله وحده ... أن يحكم شريعة الله وحدها ... وأن يعيش بالقيم والأخلاق التي قررها الله له.. ثم بأن يتعرف بعد ذلك كله على النواميس التي أبدعها الله فى هذا الكون .... ويستخدمها في ترقية الحياة ... ويصنع المادة الخامة ... ويقيم الصناعات المتنوعة ... يومئذ يكون هذا الإنسان كامل الحضارة.(1).
أدراك حقيقة النص السابق ، تبعث الثقة في الذات ؛ لمحاورة الآخر الذي تنطبق عليه ذات التعريفات والمعايير، إذ أن الثقة بالنفس لا تعني أبداً عاملاً سالباً عند أي طرف ما التُزمت منهجية الحوار ، بغرض الوصول للحقيقة ، دون الإصرار على الموروث أن جانب الصواب .
هنا من الضروري تقرير أن الإنبهار بالآخر من أسباب زوال الثقة بالنفس ، والاتجاهات الإيجابية تجاه الموروث الحضاري ، مما يؤدي إلى تقبل الآخر على علاته، وعند استبانة العلل بعد تجربتها ؛ تتفاقم الخسارة على الصعد المطبق عليها عملياً فالاتفتاح على الآخر لا يعني اتخاذه أنموذجاً يحتذي.
يقول "القرضاوي" في هذا الصدد: ومن ... المحظور الانفتاح المبهور بثقافة الآخر حين ينظر إليه مضخماً من شأنه، معظماً من فكره شاعر بالدونية تجاهه لسبب أو لآخر، فكل ما قاله هذا الآخر، فهو صدق، وكل ماراه فهو صواب، وكل ما فعله فهو جميل
خلاصة القول في هذا : أن من الأهمية بمكان لبدء وانجاح الحوار التمهيد له بالثقة بالذات وقدراتها وتنمية الأحساس الإيجابي بالمقدرة على الطرح المقبول في سائر أوجه الحوار.
2. الإتجاه الإيجابي تجاه الآخر:
وهذا الاتجاه لا يعني التسليم بالآخر، بل التسليم بقدرته على إدراك أهداف ومقاصد الحوار: إذ أن احتقار المحاور أو تسفيهه يعيق استمرارية المحاورة.
ثمة اتجاهات في جميع الثقافات تعمق السلبية والنمطية تجاه الآخر وإنجاح الحوار رهين بتجاوز السلبية إلى الإيجابية.
ومما نص عليه "ديفيد بيرلو" : حينما يدرك القراء أو المستمعون أن الكاتب أو المتحدث يحبهم فعلاً ... يزداد احتمال قبولهم لما سيقوله ... فاتجاهات المصدر نحو متلقي رسالته من العوامل التي تحدد مدى نجاح أو فشل الاتصال.(1)
ومن أمثلة الإتجاه الإيجابي نحو الخصم ما كان يوم بدر؛ فحينما خرج "عتبة بن ربيعة" بين أخيه "شيبة" وابنه "الوليد" للمبارزة ، فخرج إليهم فتية من الأنصار فسألهم المشركون من أنتم؟ قالوا: رهط من الانصار.
قالوا : ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادي مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا .
فقال رسول الله "صلي الله عليه وسلم" قم يا "عبيدة بن الحارث" ، وقم يا "حمزة" وقم يا "علي". فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال "عبيدة" : عبيدة، وقال "حمزة" : حمزة ، وقال "علي" : علي قالوا . نعم أكفاء كرام(2)
لقد توصل المشركون لغرضهم بالحوار الإيجابي وكان غاية ذلك وصفهم لمبارزيهم بأنهم أكفاء كرام: إذ غاية حوارهم : مبارزة المهاجرين من قومهم فتوسلوا لها بالإيجابية والحوار الهادف الرزين.
وهذه من مكارم الأخلاق التي بُعث النبي "صلي الله عليه وسلم" ليتمها ويقول "عبد الحليم حنفي" عن طبيعة الحوار في القران الكريم مايفيد في هذا السياق: أن في الحوار القرآني : إعلان المساواة للخصم ، وهي درجة أعلي من حماية الخصم أو عدم إيذائه، حيث نلمس في محاورات القرآن إشعار الخصم بوضوح أثناء المحاورة، بمساواته مع محاوره في ما يتعلق بهذا الحوار، وهذا أقصى ما يمكن من عدالة تمنح للخصوم، حين يشعر الخصم أنه مساو لخصمه، وأن خصمه هو الذي يشعره بذلك.
... (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وأنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين، قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون، قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بينا بالحق وهو الفتاح العليم) القصص 24 – 26 (1)
الإيجابية تجاه المحاور تجعله أقرب إلى روح المودة، ويدفع الحوار تجاه التقبل فيقبل على إدارة حوار نافع في المجال المعني .
في حياتنا اليومية العادية نلحظ أن كثيرا من الأشخاص يتقبلون النقاش في مسائل يهاب الناس طرحها، فإذا طرحت؛ يدهش المراقب لاستجابة الطرف الآخر، وتقبله للحوار: وذلك في شتي مناحي الحياة: الدعوة والفكر ،و الاجتماع عموماً، نفس الأمر ينسحب على الآخر، وثمة جماعة من المسيحيين يحرصون على الحوار مع المسلمين، ويعيبون على المسلمين عدم المبادرة في تنظيم حلقات الحوار في شتي القضايا الخلافية المتفق عليها، والغيبية المختلف فيها.
الإيجابية تجاه الآخر - مقرونة بطرح التهيب والتردد المعيقان - دافع جيد في هذا الصدد.
يقول "القرضاوي" : إن القرآن الكريم علمنا إلا نخاطب الناس – وأن كانوا كفاراً – باسم الكفر ، فخطاب الناس – غير المؤمنين – في القرآن ، أما أن يكون بهذا النداء (يا أيها النّاس) أو (يا بني أدم) أو (يا أهل الكتاب) ... وليس من التي هي أحسن أن نجابهه فنقول له: أيها الكافر! بل ينبغي أن نخاطب فيه إنسانيته وفطرته ولا نتبع نزغات الشيطان.(2)
ما أن يذكر (الآخر) إلا ويقفز الغرب إلى الأذهان ؛ لأن الحوار معه كثيراً ما يقترن بالصراع المستمر والنزاعات التاريخية لذا من الأهمية بمكان الإهتمام به، وفي الغرب فئات واعية لضرورة الحوار ولو في حده الأدني ؛ أقله للتعايش السلمي وتبادل الخبرات، وثمة فئات عالية الصوت تروج للسلبية، وتركز على صورة نمطية شائهة للمسلم عموماً والعربي خصوصاً ، فهناك دراسات تقوم على أحكام مسبقة لتثبيت صورة نمطية سالبة للحضارة الإسلامية تركز على:
1. التأكيد على البداوة واعتبار العرب بدواً متخلفين، ووصفهم بالعنف والقتل وسفك الدماء.
2. وصف المجتمعات العربية بالهمجية، والتخلف، والجهل، وعدم الرغبة في التغيير أو التقدم.
3. تقديم صورة سلبية للإسلام ركزت على أمية المرأة المسلمة، وتعدد الزوجات، ووصف المرأة بأنها ذات مكانه متدنية، ناهيك عما وصف به العرب والمسلمين، من الناحية الجنسية وسلوكياتهم(1).
ومن نافلة القول أن هذا الإتجاه يرسم صورة سلبية لا تدفع نحو حوار بناء، وله مجندون وظفوا طاقاتهم له.
بناء (الايجابية) تجاه الآخر جهد إنساني يحتاج إلى تضافر الجهود لإنجاح جميع مستويات الحوار: الشخصي، والذاتي ، والجمعي والحضاري.

3-الإتجاه الإيجابي نحو الموضوع:
من نافلة القول أن الشرط اللازم لنجاح أي متصل في نقل فكرته بصورة مقنعة ؛ الإيمان ، والقناعة بجدوى ما يقوم به ؛ لأن تحمس المصدر أو قناعته على الأقل، من المؤثرات الأولية في المتلقي أو المحاور في هذا السياق.
(حينما نقرأ مقالاً أو كتاباً، أو حينما نستمع إلى مدرس أو محاضر أو بائع أو ممثل يبقي لدينا انطباع عن اتجاه الكاتب ، أو المتحدث نحو الموضوع ، هذا الإنطباع هو: هل هو مقتنع ، أو غير مقتنع بالموضوع ؟ هل يتحدث عنه بإيمان وعقيدة حقيقية ، أم يتظاهر بالتحمس له ؟ كل هذه الاعتبارات تؤثر على فاعلية الاتصال، لهذا السبب : ترفض كثير من الشركات تعيين مرشح معين ، لشغل وظيفة بائع ، مالم تتأكد من أن ذلك الفرد يؤمن بالسلعة التي سيقوم ببيعها، أو أن اتجاهه نحوها إيجابي، أي بائع ماهر يقول لك أنه لا يستطيع أن يبيع سلعته إلا إذا آمن هو نفسه بها.
نواحي الضعف في اتجاه القائم بالاتصال نحو الموضوع تبدو واضحة في عمل كثير من الكتاب المهنيين فالمراسل أو الكاتب يكلف بالكتابة عن أشياء كثيرة مختلفة، وإذا لم يؤمن بصدق ما يقوله ويقتنع به، يصبح من الصعب عليه أن ينقل معلوماته بفاعلية(1).
الاتجاه الايجابي نحو الموضوع يحتاجه جيمع الناس لتسيير حياتهم اليومية في شتي مناحي الحياة.
- المدرس: محتاج بوضوح للقناعة بما يؤديه عن محبة ؛ وإلا أضر بالتلاميذ.
- التلميذ : محتاج للاتجاه الايجابي نحو ما يدرسه ؛ وإلا لن ينجح لذا من الأوفق للوالدين والأسرة : تركه مع ما يختار من دراسات.
- الإداري : محتاج للإيجابية تجاه جدوى العملية الإدارية ؛ وإلا لن ينجح في إدارة حوار نافع مع مرؤوسيه وإدارته العليا.
- الداعية : أحق الناس بالإيجابية تجاه الموضوع، وهي – غالبا – متوفرة لدي المتطوع أما صاحب الوظيفة فقد يكون إيجابيا، وقد يكون سلبياً ؛ إذا كان دافعه البحث عن أي وظيفة تدر دخلاً.
على الجملة أي نشاط اجتماعي في مجالات الاجتماع المتنوعة يقتضى الاتصال بالآخرين، وهذا يقتضي الإيجابية تجاه الموضوع بدءً من الأٍسرة : معاملة الوالدين، الحياة الزوجية ، تربية الأطفال ... الخ مروراً بالجيران والحي والمدينة والقطر والأقليم، وصولا إلى مستوي حوار الحضارات.
الإيجابية نحو الموضوع دافع مهم للمتابعة والاستزادة لإكتساب المهارات الفنية والمعرفية والمؤدية إلى أثراء الحوار، وإكسابه قيمة أعلي، وهذا بدوره يثري المردود والثمرة النهائية.
عموماً فإن التزام المقدمات ، والأمور الفنية ( مؤدٍّ إلى أن يعرض الموضوع عرضاً حيوياًَ جذاباً إذ يتناوله المتحاوران بالاستماع والرد، مما لا يدع مجالا لملل، بل يرغب السامع ، أو المشاهد ، أو القارئ، إلى مزيد من الإهتمام ، والتتبع لما ينتظره من رؤية ، أو سماع ، أو قراءة جديدة ، أو من فوز أحد الخصمين، المتحاورين ، على صاحبه).(1)

مع الحوار القرآني :

يعرض هذا الفصل نماذج جامعة لمعظم الحوار القرآني حيث يعرض للحوار الرباني، ومع يوسف وأخوته، ومع أبليس، وفوائد متفرقة استخلاصا لفوائدها الحوارية.

أولاً : مع الخطاب الإلهي:

الله عز وجل خلق الإنسان، وعلمه البيان، وهذا البيان أبدع ما يكون إذا أخذ بما في كتاب الله ، وعمل به ، واستنار بفصاحته ، وإعجازه البياني.
في هذا المبحث تحاول الدراسة استقراء الفوائد المرجوة من النصوص الحوارية التي وردت في كتاب الله.
المحاورة : وردت مادتها في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع... في قصة الأخوين صاحبي الجنة .... (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً) (الكهف :34) والثاني (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفه ثم سواك رجلاً) (الكهف: 37). والثالث (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما.) (المجادلة: 1) (1).
الخطاب الإلهي في القرآن الكريم الذي شرف الله به الملائكة وبعض المرسلين وما كان من إبليس له ثمرات واضحة منها:

أولاً : الشفافية والوضوح:
حين خلق الله عز وجل آدم أوضح للملائكة ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).وذلك لأن حياة الملائكة ستتصل بحياة البشر ؛ فبين لهم أن البشر سيفسدون في الأرض ، بدليل تساؤلهم عن ذلك.
من هنا نأخذ : توفير المعلومات لمن نعاشره ؛ حتي نستأنس برأيه في الأمر المعني علي بصيرة. تعمية المعلومات ، وإخفاء الحقائق ، عادة تفضي إلى حوار غير مجدّ ، لأن تكامل الرؤية لا يتم بمعلومات مبتورة.والخطر الأكبر أن يصبح تشويه المعلومات مخططاً له ؛ كما يفعل الغرب منذ حين من الدهر : ( يمكن القول بأن العالم الغربي وهو يدرس مجتمعات الآخرين في أفريقيا وآسيا، لم يكن بوسعه التخلص من إنحيازاته وما تعبر عنه تلك الانحيازات من أهداف سياسية نفعية لهذا لا غرابة أن تفتقر دراساته إلى الموضوعية ، وما تقتضيه من التزام بما تمليه معطيات الواقع ... أن الباحث الغربي يضمر القصدية المسبقة غير المحايدة ، ويستبطن الموقف الآيدولوجي، سواء في مسلماته ، أو موضوعاته ، أو مداخله ، أو مفاهيمه ، أو مناهجه ، أو تحليلاته : الأمر الذي يقوده في كثير من الأحيان إلى نتائج محسوبة.)(1) الداعية مطالب بالتدرج ، نعم ، لكن لا يعتمد أخفاء الحقائق منهجاً و أسلوباً لأن هذا الأمر لا يدوم.

ثانياً : إعلاء شأن المحاور:
الخطاب الرباني الذي كرم الله به الملائكة واختص به بعض الرسل ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) (البقرة: 253). ومجادلة إبليس فيه إعلاء لشأن المخاطب وهذا أدعي لانبساطه في الحديث، وبلغ الأمر بموسى أن قال: ( ربّ أرني أنظر إليك ) وبإبراهيم أن يقول : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) (البقرة: 260).
هذا الإنبساط : حقيق بإبلاغ الحوار غايته من الصراحة ، والوضوح مما ييسر بلوغ الهدف ، ويختصر الزمن ، ويكشف عما في النفوس : من أفكار ، وهواجس ، وخطرات.
( ومن السمات الواضحة في محاورة القرآن الكريم المحافظة علي حق الخصم وإنصافه من كل وجه ، وسواءً أكان المحاور الذي يمثله القرآن شخصاً مؤمناً عادياً ، إم كان نبياً من الأنبياء ، بل حتى وإن كانت ذات الله سبحانه ، فالأمر واحد في المحاورة ، وهو إبراز حق الخصم وإنصافه. (2)
ثالثاً : الإيجاز البليغ:
باستقراء الحوار الرباني نجده في غاية الإيجاز ، والوضوح ، مع إبلاغ المراد بطريقة لا لبس فيها ولا غموض.
كثير من الدعاة اليوم ، انتهجوا التطويل ، والتقعر في الكلام ، مع أن (كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا).
خطب النبي "صلي الله عليه وسلم" إذا تأملنا أطولها ؛ وهي خطبة حجة الوداع ، نجدها أقصر من خطبة أي خطيب في زماننا هذا ، مع ما حوته من درر المعاني ، وفنيات الأداء.
والنبي "صلي الله عليه وسلم" كان أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقاً، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، يسبي الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلم : تكلم بكلام مفصل ، مبين ، يعده العاد، ليس بهذٍّ مسرع ، لا يحفظ، ولا منقطع ، تتخلله السكتات بين إفراد الكلام ، بل هديه فيه أكمل الهدى(1) .

رابعاً : التحذير مما يوجب التحذير:
حذر الله عز وجل آدم وزوجه من الاقتراب من الشجرة : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35).
العبرة من هذا التحذير هي ألا نكتفي في حياتنا اليومية ، بالأمر أو النهي ، بل لابد من التحذير مما يوجب التحذير.
كثير من الناس يأمر ، أو ينهي ، دون أن يحذر ببيان العاقبة : لينتقم ممن يخالف قوله ؛ وليس هذا شأن المؤمن فنجد أن صاحب يس " حبيب النجار" الذي عذبه القوم حتى قتلوه لم تكن في قلبه إلا محبة الخير(2) لهم ، الذي قال (أني أمنت بربكم فاسمعون) فقتلوه بأن وطئوه بأرجلهم حتى مات (قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين). يس 25- 27. ومع أنهم عذبوه كان يقول : اللهم أهد قومي فأنهم لا يعلمون)
إذن نستخلص : أن إبراء الذمة بتحذير المحاور من مغبة أقواله أو أفعاله مهم وضروري، أن لم يكن واجباً.
يراعى في هذا تفادي الوعظ المباشر لأن النفوس لا تتحمله أن كثر ، وفي حديث "ابن مسعود" : (كان النبي "صلي الله عليه وسلم" يتخولنا بالموعظة في الأيام ؛ كراهة السامة علينا)(1).
خامساً : ترك التحرج من محاورة الأدني والمنّ عليه:
الله تبارك وتعالى أعلي وأجل و (ليس كمثله شيء)، ومع ذلك خاطب يحاور من ذكرنا، فان كان أحد يتنزه عن محاورة الأدني ؛ لكان هو - تعالى وتبارك اسمه-
وسائل الإعلام في شتي أنحاء العالم : لا تنفك تستخدم عبارات تفيد بتعطف ، وتكرم المسؤولين ؛ بموافتهم على لقاء زيد ، أو عمرو من الناس ، حيث يعتبر المسؤول ذلك تفضلاً منه ، وحينا يُسر القادم بمجرد تمكنه من الدخول على المسؤول ، وتبادل الحديث معه.
إن اعتبار المحاورة منّة : سد منيع للحديث النافع ، وأقبح ما يكون ذلك من أنفة عند العلماء والدعاة تمنعهم من الإنبساط للناس ، وهذا يجر مباشرة لحديث متحفظ بارد ، مما يبقي الداعية خارج إطار القضايا الحساسة التي تحتاج إلى مشاركة وجدانية، وتفاعل يشجع على طرحها.
سادساً : استعمال " لا أدري" في مواطنها:
المبالغة في التحرز من الظهور بمظهر النقص : يفضى بأهل العلم والدعوة إلى الفتوى في مسائل (لو سئل عنها عمر "رضى الله عنه" لجمع لها الصحابة) والملائكة لم تستح من آدم عندما سئلت عما لا تعلم من الجهر بذلك : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 31-32).
أبليس شذّ عن الملائكة ؛ فهلك ، وتكلم بغير الصواب ، ولم يقر بخطئه بتفضيل ذاته على آدم بقوله ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف: 12, وهذا من الكِبْر المنهي عنه في الحديث (الكِبْر من بَطَر الحقَّ وغَمَط النّاس)(1). ومن تكلم بما لا يدرى وقع فيهما.
فالداعية أو المعلم أو الإداري الذي يفتي في كل شيء وبلا تردد كراهة التجهيل لا محالة واقع فيما فر منه.

سابعاً : الاستئناس بالتسمية:
الله تبارك وتعالي سمي المخاطبين باسمائهم وناداهم بها ، وفي ذلك استئناس وتقريب ؛ فالمرء يعجبه أن يخاطب باسمه في الحوار خاصة مع حديثي المعرفة فيسرعون في تقديم الخدمة المطلوبة كما هو ملاحظ ؛ فنجد في القرآن على سبيل المثال:
- (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) (البقرة: 35).
- (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً) (ص:26).
- (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) (المائدة: 110).
- ( أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (القصص:30).
- (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً) (مريم:7).
نأخذ من هذا إن ورود هذا النداء - مع امكانية الاستغناء عنه - دلالة على فائدته في المحاورة بإزالة الوحشة من قلب الطرف الآخر: لأن المناداة بالاسم فيها نوع اعتراف ، وتقدير ، بعكس المخاطبة بـ: يا رجل! يا فتاة! يا ولد! أو استخدام (المدعو فلان). ففي كل ذلك تنكير لا يرضاه المخاطب، فتضرب مشاعره حاجزاً عن الاستجابة ، والانفعال الإيجابي مع المحاور، يقول "محمد رجب البيومي" - معلقاً علي الرفق في الخطاب -: هذا الرفق في الخطاب، وهذا الهدوء في الحوار يؤكد طبيعة المسالمة في الدعوة الإسلامية، وإذا وجد في بعض الآيات ما يعلن النكير الصارخ على القوم، فليس في ذلك عدول عن الحوار الهادئ ولكن : إعلان لحقيقة الجحود ، التي لا ينفع معها منطق سديد ، أو برهان رشيد. مع وضوح الغاية واهتداء الطريق. (1)
الخطاب الإلهي حافل بالكثير من ألوان وفنون الحوار، ولطالما لسنا بصدد الاستقراء الكامل لعلّ في هذا كفاية وبلاغ.

ثانياً: مع بني إسرائيل
المتعرض لدراسة بني اسرائيل في كتاب الله ، لا محيص له من النظر في الإسرائيليات ، التي أفاضت في تفصيل ما ورد مجملاً، وشرح ما ورد مفصلاً، وهذا أمرٌ يحتاج الي تمحيص ، وأفضل من صنع هذا حديثاً "آمال محمد ربيع" في دراستها للإسرائيليات بالطبرى. (2)
بنو إسرائيل أتوا بالعجب العجاب ، وباستقراء حوارهم في القرآن الكريم يخرج المتأمل بعدة نتائج ، تصلح للتعاطي معهم على اختلاف الزمان والمكان: وهذه النتائج كثيراً ما تتناقض ,لأنهم شعب ككل الشعوب، غير أنهم برعوا في كل شيء: الإيمان، والكفر، الصراحة والدس، الحب والبغض، الجبن والشجاعة مثلهم مثل أي شعب آخر، ويمتازون ببلوغ غاية كل شيء!

أولاً: الجرأة اللسانية:
نجد أن النبي "صلى الله عليه وسلم" أوذي في الله أذىً كثيراً وابتلى أصحابه وزلزلوا زلزالاً شديداً؛ فتحملوا ولم يبلغ تضجرهم ما بلغته يهود. إلا ما كان من المنافقين.
نجد بني إسرائيل لا يصبرون، ويعبرون فوراً عن دواخلهم، دون نظر إلى الأعراض عن الهواجس. ونزغات الشيطان، ومن ذلك قولهم لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24) .و( يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) (البقرة:61)
ومن الجرأة المحمودة ما كان من أخت موسى "عليه السلام" حين اجترأت على آل فرعون لاسترداد أخيها (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) ( القصص:12)
هذا القول حقيق أن يوردها موارد الهلكة: باتهامها بصلتها بالغلام ، ومعرفة أهله، وقد أمر فرعون بإهلاك مواليد بني إسرائيل. ولكنها غامرت حباً في أخيها ، ونجحت.

ثانياً: التعنت:
محاور يهود لا بد له من أن يدرك أنهم قوم مطل، ويحبون تفسير المفسر لأهوائهم النفسية: ولعل أوضح ذلك مراجعتهم لموسى "عليه السلام "في شأن البقرة المرة بعد المرة، ولو فعلوا ما أمروا به ابتداءً لكفاهم.
ومن تعنتهم ما روته السيدة صفية "رضي الله عنها" مساء الهجرة عن أبيها وعمها من محاوره عجيبة:
(فلم يرجعا حتي كانا مع غروب الشمس . قالت فأتيا كالّين ، كسلانين . يمشيان الهويني ؛ قالت : فهششت إليها كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلى واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي، أبا ياسر، وهو يقول لأبي "حيى بن أخطب": أهو هو؟ قال:نعم والله؛قال: أتعرفه ، وتثبته ؟ قال : نعم ؛ قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت)(1)
هذا أمر شاذ: أن تعرف الحق وتنكره، وهو ديدن سواد يهود اليوم. واستمر "حيى "على تعنته حتى عرض للسيف. وكان آخر كلامه أنه ما لام نفسه على عدواة النبي "صلى الله عليه وسلم" إصرار عجيب على الباطل - مع العلم - حتى النهاية!

ثالثاً: الدهاء:
من ذلك (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران:72) اليهود دوماً يجهدون ألبابهم لكسب ما يريدون: مما مكنهم من السيطرة النسبية على كثير من الدول الغربية، وشبه الكاملة على الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه السيطرة أكبر من إمكاناتهم المادية والبشرية بالقياس إلى غيرهم من الشعوب.ذات الذكاء اليهودي قوض الإمبراطورية العثمانية، وأودى بفلسطين، وحجم مناوئيهم في شتى أرجاء المعمورة. ولعله ليس من المصادفة أن تجد منهم رواداً في الفكر الاشتراكي ، والرأسمالي ، وصناعة الأفلام العالمية ، والإقليمية ، والإعلام في عمومه.

رابعاً: العيب بما ليس عيباً:
كره يهود دعوة لوط "عليه السلام" فجهدوا أن يجدوا عيبا فأعجزهم ( فقالوا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل: 56). فعابوه وقومه بغير عيب : كراهة للحق.
وفي هذا الزمن من هذا كثير: العيب بغير عيب! ومنه:
- إنكار المحرقة النازية ، أو التشكيك في ضحاياها.
- معاداة السامية.
- سعي المسلمين للتقانة النووية... الخ ذلك من قضايا سياسية.
-
خامساً: الإصرار على الباطل:
كقولهم لموسى "عليه السلام"نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24)
وكذلك: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:75) فمن بلغ به الإصرار أن يسمع كلام الله ثم يحرفه ، ويصر على باطله لن يصرفه بعد ذلك شيء.

سادساً: الافتراء على الله:
لبلوغ يهود مقاصدهم لا يتورعون في الإفتراء عل الله ناهيك عن غيره، ولا يتورعون عن أي لفظ كان يعبر عن خبث طويتهم.
- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64) (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء) (الأنعام: 91)
- (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص:78) فمن بلغ به الأمر الافتراء على الله، لا يتورع عن شيء بعدها، وما التقتيل والتشريد، والحبس، والتجريف، واغتصاب الأرض، والكذب إلا من المفردات المعبرة عن واقعهم اليوم.

- سابعاً: التلطف في المحاورة عند الحاجة:
ويبرز ذلك مع السيدة العذراء ؛ حين أقبلت تحمل المسيح "عليه السلام" تلطفوا معها ، لبلوغ هدفهم : بمعرفة أنّي لها به (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً) ( مريم:27)
وتبين ملامح الملاطفة في:
- المناداة بالاسم.
- تعديد الصالحين من أهلها في عتاب رقيق.
- استخدام الكناية.
في ختام هذه الجزئية لا بد أن نذكر أن من بني إسرائيل الأنبياء ، والعلماء ، والصالحين ، ممن أسلم وحسن إسلامه، ومنهم من يبقى على دينه ، وينكر على قومه ما يصنعون : من فساد في الأرض ، حتى يومنا هذا.
يقول الحق عز وجل: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:113-114)

ثالثاً: مع يوسف عليه السلام وإخوته:

(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) (يوسف:7) حفلت سورة يوسف "عليه السلام" بالعديد من الآيات والعبر، وقد أفاضت الإسرائيليات في التفاصيل.
تقول "آمال محمد ربيع": أنها من أكثر القصص التي تسربت إلى شروحها ، وتفاسيرها الروايات الإسرائيلية... ففي حين يتركز هدف القصة القرآنية في الاعتبار. نجد القصة الإسرائيلية تغوص في التفاصيل ؛ مما فتح الباب على مصراعيه أمام المبالغات والخرافات.(1) المتأمل في هذه السورة ما لم يحتط من المبالغات والخرافات المذكورة يأخذ بها فيضل سعيه. وبالسورة عبر ظاهرة ، وأخرى تحتاج إلى تأمل ، وثالثة تؤخذ من أقوال المفسرين.

أولاً: صلة القربى توحد الرأي غالباً:
مما يكثر في حياة البشر ؛ تبني ذوي القربى لآراء متطابقة ، حتى في القضايا التي هي بطبعها قضايا جدلية، ولعل ذلك مرده إلى حاجة الإنسان للإحساس بالانتماء ومن ذلك قول "دريد بن الصمة" حين تابع قومه بالسير على غير هدى في الصحراء.
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستجيبوا النصح إلا ضحى الغد
وهل أنا إلا امرؤٌ من غزية أن غوت
غويت. وأن ترشد غزية أرشد.
نجد أن أخوة يوسف "عليه السلام" يرتكبون الخطأ ولا يعترض بعضهم على بعض:
- التآمر على يوسف :
(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف:9)
- بيعه للسيارة : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) (يوسف: 20)
- إلقائه في الجب نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (يوسف:10)
في كل هذه الجرائم وصلوا لاتفاق بالإجماع بعد المشاورة. وتشيع هذه الروح في المجتمعات حيث نجد أن الأسرة ، والقبيلة ، تتوحد آراؤهم غالباً في معظم القضايا ، وهي ما يسمى بـ(روح القطيع) التي مردها إلى نفور الإنسان من العزل ، والشذوذ إن خالف الجماعة. وأكثر ذلك يكون في الحوار الثقافي. إذ يأخذ المرء بما عليه قومه في الغالب من نمط عيش وفكر.

ثانياً: التحرز في الأخذ بظاهر بالمحاور:
مظهر إخوة يوسف طابق الحقيقة حيناً، وخالفها آخر؛ فحين (َجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (يوسف:16) ، كانوا كاذبين: مظهرهم الحزن والعويل، وباطنهم الضحك والسرور!
والمظهر الثاني حين قدومهم مصر فقد كانوا بغاية البهاء والاحتراز عن أكل أموال الناس بالباطل ، بل كانوا يحجزون دوابهم ، ويحتاطون أن تنال ما ليس لها ، حتى أنهم حين قيل لهمنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف: 70)
قالوا: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) (يوسف:73)
ها هنا تطابقت وجوههم الحسنة ، التي خشي عليها يعقوب "عليه السلام" العين، مع صدق أقوالهم وحسن فعالهم.
إذن على المحاور ألا يعول يقيناً على الدلالات المظهرية ، فإنها تصدق أحياناً ، وتضلل أحياناً.
ثالثاً: الشهوة تدفع للجرأة والكذب:
حين عشقت امرأة العزيز يوسف لم تعد تبال ما تقول فعندما ألفيا سيدها لدى الباب ...(قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف: 25)
وعند اجتماع النسوة وأمرهن ليوسف بطاعتها في المعصية...(قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف:32) جرأة عجيبة في التصريح بالباطل.وشبيه به جرأة قوم لوط حين استبدت بهم الشهوة . لم يبالوا ما يقولون (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) (هود:79) الشهوة- أي شهوة- أن استبدت بالمحاور تجرأ وخالف الصواب وقد تكون في حب الغلبة، أو الشهرة، أو حب الثناء، والتقدم على الناس وفي الحديث (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الترمذي.ومن ذلك ما ورد في القصص الشعبية أن رجلين رأياً صقراً من بعيد فقال أحدهما للآخر:
-انظر, صقر!
-فأجابه الآخر: كلا، أنها معزي!
فقال له : انظر لقد طار !
فرد عليه: وإن طارت، معزي!!!
فالشهوات عموماً تفسد الحوار وتضيع مقاصده، ولربما عكستها بإحقاق الباطل، وإبطال الحق.
ورد في الأثر (المجالس بالأمانة) رواه أبو داوود وإذا حدث الرجل فالتفت فهي أمانة فليس أي حوار ينشر.
ما دار في بيت العزيز مماً رواه القرآن الكريم من قوله تعالى (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يوسف:30) إلى قولهن له كما جاء في التفسير (اطع مولاتك) لم يفشين سرها سنين عددا، وهي سني سجن يوسف، حتى باحت به امرأة العزيز نفسها حين ٍسألها الملك (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف: 51)
خلق النسوة جيد، ما لم يتعلق بحبس يوسف بلا جريرة، وليس من المروءة أن يفشي امرؤٌ سر مجلس اؤتمن عليه.
رابعاً: الفعل والدليل المادي أقوى سند للقول:
الداعية إلى مذهب في أي شيء كان ، أكبر ما يجد من سند : يجده في الأفعال الظاهرة، والدعوة بالأسوة الحسنة أقوى ما أخذ به الأنبياء والصالحون. حين ألقى يوسف في السجن يفهم من السياق أنه كان حسن المعاملة، نافعاً للناس، الفهم وألفوه، ويظهر ذلك في استفتاء الفتيين له: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:36)
السبب الذي ساقته الآية لتوجه الفتيين نحو يوسف هو قولهما: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فإحسان يوسف هو الذي جعل قوله مقبولاً.
خامساً: الحلم عند المواجهة بما يكره:
عندما كاد الله ليوسف ليأخذ أخاه، ثم أذن المؤذن: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف:70)
الاتهام بالسرقة مؤلم؛ نشرت الصحف قبل سنوات أن رجلاً في سوق إحدى المدن اتهم بدوياً بالسرقة، فاستل البدوي سيفه ، وأخذ برأس الرجل!
- أما أخوة يوسف فقد أظهروا حلماً عظيماً، صحيح أنهم في حضرة العزيز، ولكن هذا لا يمنعهم الاحتجاج القوي على التهمة الشنيعة؛ فسألوا برويّة ورباط جأش مقبلين على فتية يوسف:
- (مَاذَا تَفْقِدُونَ) (يوسف:71)
- (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير...) (يوسف :72)
- قالوا (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) (يوسف:73)
- قالوا: (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ) (يوسف:74)
- قالوا: (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (يوسف:75)
وا ضح أن قوة المواجهة ، ومرارة التهمة ، لم تفقدهم حلمهم أولاً، وثانياً لم تهتز ثقتهم بأنفسهم، وما أجمل ذلك في المحاور!
أمر آخر يؤكد تقديم الفعل على القول هو قميص يوسف:
- حين جيء به ملطخاً بدم كذب، دحض قول اخوته بأن الذئب أكل يوسف.
- حين قدّته امرأة العزيز : دحض قولها أن يوسف أراد بها سوءاً.
- حين جاء البشير فألقاه في وجه يعقوب "عليه السلام" برهن صدق قوله أنه يجد روح يوسف وأنه على قيد الحياة: يا للقميص!
(أن الحوار بحاجة قصوى إلى ضبط النفس ، والتحكم بالأعصاب ، والهيمنة على الانفعالات، وهذا لن يتحقق في حالة غضب المحاور أو انفعاله.. ومن هنا يتحتم أن يوقف حواره ، ويؤجله إلى وقت آخر ؛ حتي تبرد الأعصاب ، وتهدأ الخواطر ، وتزول الإنفعالات)(1)
سادساً: تجنب إحراج المحاور:
يظن بعض الناس أن إحراج المحاور، وتسفيهه أمام الحاضرين ، نصر وفلاح، والأمر على عكس ذلك ؛ فكلما أحرج المحاور ابتعد عن المنطق ، والتسليم بالحق ، إلى أساليب الانتصار للنفس ، عوضاً عن سلوك جادة الموضوعية. يوسف " عليه السلام" عندما جمع الله شمله خاطب أباه فقال: (... يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ...) يوسف : 100.
نجاة يوسف من الجب أعظم منّة من الله عليه، ولكن حرصاً على مشاعر أخوته لم يذكر ذلك أمامهم، شفقة عليهم. تجاوز يوسف "عليه السلام" استعمال التقريع ، أو التشفي ؛ لخلو نفسه منهما، ولغاية أبعد وهي الحرص على مرحلة جديدة نقية من مرارات الماضي ، طالما ندموا على مافات ، بقولهم يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا أنا كنا خاطئين .

رابعاً : مع إبليس "لعنه الله":
1- تعاظم الخلاف لا يمنع الحوار
أبليس خالف أمر الله وجهر بالمخالفة الصريحة، ولم يأخذه الله - عز وجل - في حينه، ومع هذه الجريرة التي فاقت كل جريرة ؛ حاروه الله -عز وجل- : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلآ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)(لأعراف:11-16).
هذا الخلاف الكبير ، والخطير ، الذي بادر به أبليس في جرأة، لم يورد أبليس العذاب فوراً، ولم ينصرف الجبار عن مخاطبته ، بل رد عليه ، واستمر الحوار.
في عالم اليوم خلافات كبيرة بين الملل الربانية ، والنحل الوضعية، وفي داخل كل... فتأسياً بالمنهج الرباني ؛ لا يُستنكف محاورة أي كان، ولو في حدها الأدني، ولو لترتيب الخلاف ، كما هو في الآيات السابقات.

2-المداولة مع الميؤوس منه:
من ذات الآيات السابقة نستفيد أجراء الحوار مع الميؤوس منه، بعض أهل العلم يرون النفع شرط، مستدلين بقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) (الأعلى:9). أي لا تذكر أن لم تنفع.
ويبدو أن المداولة مع الميؤوس منه مرغوبة ومثاب عليها بدليل قوله تعالى (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف:163)
ذكر الله عز وجل – نجاة الذين ينهون عن السوء ، ولم يذكر مصير الذين يئسوا من الفاسقين ، وتركوا التحاور معهم ، وتساءلوا عن جدواه. الآية دليل لاشك فيه ، على أن التحاور أجدى ، وأنفع ، في كل حال ، خاصة إذا ستصحبنا جدل المفسرين حول مصير الفرقة التي تركت العظة، واضربت عن الحوار.
3- ظهور الحق قد لا يرفع الخلاف:
أبليس أيقن بأمر الله بالسجود تكريماً لآدم، ومع أن أبليس كان عالماً بوجوب طاعة الله وأن أمره حق، إلا أنه أبي وتمرد على الله.
ومن شاكلة ذلك ما كان من قيصر ؛ حين أتاه رسول رسول الله "صلي الله عليه وسلم"داعياً أياه بدعاية الإسلام ، إلا أنه أبي ، مع إدراكه أن الأمر حق ؛ ضنًّا بملكه. في عصرنا الحديث ثمة مفاوضات كثيرة تدور حول أمور يعلم الجميع أنها حق وتجد طرفاً يكابر، وأمور باطلة بطال ناجليا بدفع بما للمغالطة.
- الوضع النهائي للقدس!
- أحقيه سوريا بهضبة الجولان!
- ديمقراطية حق الفيق!
- أحقية إسرائيل والغرب بالتكنولوجيا النووية والحرمان لغيرها!
- نهاية التاريخ بثبات النموذج الأمريكي!
- حتمية صراع الحضارات!
هذه نماذج من قضايا عدة يعلم (الآخر) أن حجته : لا شيء ، ولكن يدثرها بعباءة الحق في الوجود، وتخلف وانحطاط الشرق عموماً : وما يسمونه – تعمية – بالأوسط خصوصاً، والتذرج بنتائج البحث العلمي.
4- رأي الجماعة خير:
جماعة الملائكة سجدت لآدم وشذ أبليس فهلك فـ(يد الله على الجماعة فأن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض).أخرجه النسائي
خاض أبليس حواراً منفرداً ، مخالفاً لرأي الجماعة الملتزمة بطاعة الله، وكشأن أبليس تجد من يشذ عن الجماعة مصاباً بعقدة نفسية ، أو جنون العظمة ، أو اتباع الهوى.الأمثلة كثيرة في من شذ عن الجماعة بدعاوى الأدب الواقعي ، وحرية التعبير ، والثقافة والفنون، والبحث العلمي , وكل هذا مطلوب بإلحاح، فهي مجالات للإبداع الإنساني، لا ذرائع للخروج عن الجماعة وتسفيهها ، ونعتها بالانغلاق ، والتحجر، والرجعية ... الخ.
5- شقاء من خالف أمر الله:
أفضت معارضة إبليس لأمر الله ، أن صار في شقاء وأن صارت بدائله شراً مما أبي لنفسه، أبى أن يسجد لآدم فصار قواداً لذريته، واستبدل سكني السماوات بسكني الحمام واستبدل رفقه للملائكة برفقة الفساق من كل لون من بنيه وبني آدم.
وخسارة إبليس الكبرى : أن باع آخرته بدنياه. فخسر البيع، وأيقن بالهلاك، والمتتبع لقصص من أسلم ؛ يعلم أن كثيراً من الأحبار والرهبان يوقنون بالحق ، ويؤثرون الدنيا.
أصحاب النحل أبعد من أصحاب الملل ؛ في فهم وإدراك عالم الغيب، ويدخلون الإسلام من أبواب أخرى كحسن المعاملة، التأثر بمظهر عبادة المسلمين، الإعجاز العلمي القرآني...الخ.
من خالف أمر الله عاش في شقاء كـ"ابليس" ويكفي دليلاً : أن أعلي معدلات الانتحار في أكثر دول الغرب رفاهاً، واستقراراً مادياً ؛ ولكنه شقاء الروح!
6- مراودة الأشرار قد تغلب التحذير:
الله عز وجل حذر آدم وزوجه ، من الإقتراب من الشجرة ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 35) ولكن إبليس ما زال بهما. ويقول لهما ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف:20)
وأفلحت مساعي إبليس ، وأكل آدم وزوجه من الشجرة. فحاق بهما البلاء ، وطردا من الجنة.فمن جالس أهل الشر ، وخالطهم ، وخاض في أحاديثهم ، لم ينج سالماً إن نجا، فهذا آدم "عليه السلام" حذره رب العزة ، وأضرّ به سماع إبليس ، وفي هذا عظة أي عظة ، عن أبي موسى "رضي الله عنه" عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال مثل الجليس الصالح ، والجليس السوء كحامل المسك ، ونافخ الكير، فحامل المسك ؛ إما أن يحذيك ، وإما أن تجد ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة (1)
7- أهل الباطل يخططون لحوار بنهاية محسوبة:
أهل الباطل يخططون سلفاً لما يريدونه، وعندها لا يديرون حواراً ، فإنهم لا يهدفون به الوصول إلى الحق ، بل لتنفيذ ما خطط له من شر ، وقد باح بذلك إبليس بقوله:
( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16-17)
ونفذ إبليس مخططه ، ومع علمه بباطل ما يقول ، حاور آدم ، وحثه على أن يقربا الشجرة، ويتذوقاها: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف:20-21). لم يكتف إبليس بالكذب في حواره لآدم عليه السلام حتى أتمّه باليمين الغموس، إذن المجادل بالباطل يخطط لنهاية بعينها ، تجانب الحق- لا يبالي استخدام أي أسلوب ؛ لبلوغ هذه الغاية.

خامساً: فوائد متفرقة :

1- إتيان المحاور مما لا يدفع من جهة إعتقاده:
وذلك في دفع إبراهيم "عليه السلام" مع "النمروذ" الذي كان قومه يعتقدون في الشمس؛ فحارنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيأَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258) إن إبراهيم "عليه السلام" لما رأى من خصمه المعاندة واللجاج... عمد إلى الشمس من دون الآيات الكونية ، ليلزم خصمه بأحد أمرين..
- الأول: قطع لجاجة الخصم وإفحامه وإثبات عجزه.
- الثاني: إن إبراهيم قد خبأ للخصم إلزاماً آخر ، يفسد على الخصم جمهور اتباعه ، ومناصريه ، فيما لو استرسل في مغالطته ، إذ كانوا يعتقدون في الكواكب بأنها مؤثرة ، ويعتبرون الشمس الإله الأكبر. فلو قال الملك - من قبيل المكابرة والمعاندة -: أنا أتيت بالشمس من المشرق ، وأنا سخرتها تجري في مدارها . قال إبراهيم "عليه السلام" مادمت أنت المدبر لهذه الأفلاك ، والمسير لها فكيف يعتقد قومك بأنها آلهة يعبدونها من دونك.؟ وهذا يستلزم بطلان اعتقادهم (1)
2-التذكير بالرحم -حين وجودها- لترقيق المحاور:
ذوي القربى غالباً ما تتوحد آراؤهم. لذا نجد تذكيراً بها في مواقع كثيرة من الحوار القرآني تلييناً لعاطفة المحاور.
استخدم أبو الأنبياء ذلك في حواره مع ابنه وأبيهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيإِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً) (مريم: 42-45) ومخاطبته لـ"اسماعيل" عليه السلام في شأن الرؤيا.(يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) (الصافات: 102) وقول "هارون" عليه السلام: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (طـه:94) وقول لقمان لابنه : (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13) ومنه استهلال "عتبة بن ربيعة" حين أتى ليفاوض النبي "صلى الله عليه وسلم" ويعرض عليه أموراً : (يا بن أخي إنك...)ويلحظ ان هذا التذكير بصلة الرحم يختفي في حال عدم الرضى أو الحرص على المحاور.
ومنه قول آزر لإبراهيم "عليه السلام "حين لم يرض قوله: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) (مريم:46) وقول موسى حين سخط على أخيه : (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (طـه:92) ولم يقل يا أخي ، أو يا ابن أمّ : فيغلب على الحوار القرآني استخدام النداء بالقربي لتليين قلب المدعو ليقبل ما يدعى إليه.
3-تجاوز الحوار الفرعي:
من أمثلة ذلك في القرآن الكريم:في قصة أصحاب الكهف بعد أن فروا بدينهم ، وآووا إلى الكهف ، سنين عدداً فلما بعثهم الله تساءلوا: كم لبثوا ؟ (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف:19) : الجدل في تلك اللحظة حول كم لبثوا رأوه بحسب ظنهم ؛ قضية انصرافية ، فقضيتهم الأساسية : التدبير لحفظ النفس ، والدين.وكذلك هناك إشارة لذلك في قول الله عز وجل (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إلا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22) عمّي الله -عز وجل- عددهم لأن القضية الأساسية هنا هي البعث من بعد الموت: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فيها) (الكهف:21). فحينئذٍ يستوي العدد ؛ قل أو كثر ؛حينما يُتبين أن الله يبعث من في القبور ، وأن الساعة لآتية لا ريب فيها.وهناك في السنة مثل ذلك:
عندما سأل سائل النبي "صلى الله عليه وسلم": متى الساعة ؟ فقال ما أعددت لها؟ فقال: ما أعددت لها من كثير صلاة ، ولا صوم ، ولا صدقة ، إلا أنني أحب الله ورسوله. فقال: أنت مع من أحببت.
الأمر هاهنا ليس: توقيت الساعة ، بل الاستعداد لها ، لذا نبّه النبي "صلى الله عليه وسلم "السائل.وفي ذلك تعليم لسائر المجتمعات أنى كانت بألا تصرف جهدها في مالا يفيد، بل عليها الانصراف للقضايا الأساسية.
4-لا تنازل عن الثوابت:
التحاور أيّاً كان مجاله؛ لا ينبغي أبداً أن يُتنازل فيه عن أمر الله ، أو ارتكاب المعاصينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:138-139) توحيد الله عز وجل ليس محل تفاوض، وفي زماننا هذا تطرح جماعات من خارج بلاد الإسلام وداخله مسائل مثل: هل يتماشى الجلد ، والبتر كعقوبات ، مع المواثيق الدولية؟ ألا يهضم الإسلام ؛ حقوق المرأة في الشهادة والإرث والطلاق؟ ألا يمكن أن يعدل كل ذلك، وينظر في القرآن بالتعديل كما فعل "كمال أتاتورك" و"سياد بري" وغيرهما؟.
إنهم قوم يجهلون ، يتعمدون الجهالة، ليحاصروا الإسلام في زواية المدافع، ويُلاحَق كل من قال : أنّ الإسلام رائد، والحق ناصع، ولكن أصحاب الهوى ..
وفِدَ وَفْدُ "ثقيف" على النبي "صلي الله عليه وسلم" ومع رغبته في إسلامهم لم يساوم في شيء من أمر الله.
قال قائلهم: (أرأيت الزنى ، فإنّا قوم نغترب ، ولا بد لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام ، فإن الله عز وجل يقول: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الاسراء:32)، قالوا: أفرأيت الربا ، فإنّه أموالنا كلها؟ قال: لكم رؤوس أموالكم أن الله تعالى يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278)، قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: إن الله قد حرمها وقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90)، فارتفع القوم)(1)
الواقع : أن ما نسميه بالثوابت ؛ إنما هي كذلك على سبيل التنظير، عملياً هي مجال للأخذ ، والرد ، والانتقاء : فأسعار الفائدة، والبورصات العالمية، أسواقاً وهمية، موازية للسوق الحقيقي، وتتحكم فيها، وتتداول معدلات الفائدة (الربا) يومياً في أجهزة الإعلام كأمر (ثابت) من غير ما نكير.منظمات الأمم المتحدة سوّقت لتسمية الشذوذ الجنسي بالمثلية الجنسية، ولا تقبل تسمية السحاق واللواط. لأنها تمييز وتحقير، وتلقى الناس ذلك بالصمت والقبول في أجهزة الإعلام.
يمكن أن يقبل الناس باستبدال تسمية اللقيط بالطفل الطبيعي، أما تسمية المثلى فغريبة ؛ لأنها تمهيد لقتل الإحساس ببشاعة ما اقترفته قوم "لوط" عليه السلام لتشييع الفاحشة في الذين آمنوا.
5-الغني مدعاة لجرأة القول:
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للمرء الصالح)(2)
أما من لم يعصم بالصلاح فإن المال يجعله جريئاً لا يهاب، ولأن الناس –غالباً- ما يعظمون الغني ويمرون أقواله كما جاءت! فالله عز وجل يقول (كلا إِنَّ الاِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6-7) ومن تواضع لغني لغناه ؛ نقص دينه : لأن التواضع للغني يسهل عليه الجرأة فلا يبالي ما يفعل ويقول.
6- طالب العلم سريع التعب والتساؤل:
نجد أن موسى "عليه السلام" عانى بني إسرائيل في التيه أربعين سنة ، في صحراء سيناء؛ لكنه لم يورد عنه القرآن شكوى التعب.وعندما طلب موسى العلم، ما هو إلا يسير ، حتى اشتكى الرهق، (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً) (الكهف:62).
ومع أن العبد الصالح شرط على موسي " عليه السلام" ألا يسأله عن شيء ، حتى يحدث له منه ذكرا ، أرهقه بالسؤال حتى افترقا.
فطالب العلم دائم التساؤل عما غمض عليه ، وواجب المعلم تحمله ، وإعطائه الفرصة بعد الفرصة وأن خالف كشأن الخضر مع موسي " عليه السلام"
وقد أعتمد "أرسطو" الحوار كوسيلة أساسية للتعليم، وينهج بعض الأساتذة أعطاء أكبر فرصة ممكنة لمداولات الطلاب بعض تحديد معطيات بعينها ، وغالبا من يصل الطلاب إلى الحقيقة المطلوبة.
7- المال ليس وسيلة إقناع:
المال عرض زائل ؛ لا ينبغي أن يكون من الأساليب الأساسية في الإقناع بل هو مكمل، فذو القرنين رفض المال لبناء السد (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف: 94-95).
حقاً أن ذا القرنين كان غنياً، وعلي كل لم يكن المال ما جعله يبني السد بل لقناعته بالحق، وقد شق على موسي "عليه السلام" قول ابنة شعيب : "إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا..." (القصص: 25) لأنه فعل ما فعل ابتغاء وجه الله لا المال مع حاجته إليه(1).أما قول صفوان : (كان محمد أبغض الناس إلي فما زال يعطيني ويعطيني حتى صار أحب الناس إلى ) فليس حباً في المال ، ولكنه يرى أن هذه صفة إيمان عجيب عطاء بغير حدود ثقة بالله ، عطاء من لا يخشى الفقر، وقد جاء في الحديث (كن بما في يد الله أوثق منك بمما في يدك) ولا يكون هذا إلا للمؤمن :أن تؤمن بالغيب أكثر من الشهادة!
8- لا يتخطى الانكار اللساني للعمل إلا من يتحمل التبعات.
إبراهيم " عليه السلام" أيقن بتحمله تخطي الأنكار إلى الإزالة، وأنه لن يلين أمام العدو، فكسر الأصنام (فعل واثق بالله تعالى موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين).
وهذا التخطي لا ينبغي لأيٍّ كان. يقول النبي "صلي الله عليه وسلم" : ( لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق ) فمن غير بيده متعرضا للبلاء ثم لم يتحمل ، يقع في الذل والسخرية.
9- عدم استنكاف السلطان من تفقد ومحاورة الرعية:
سليمان "عليه السلام" تفقد جيشه ، وحاور الهدهد ، ولم ير بذلك بأساً ، وعندما جاء الهدهد بخبر بلقيس وقومها قال سليمان رداً عليه (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27).
وكانت الأمة من أماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله "صلي الله عليه وسلم" فتنطلق به حيث شاءت) فالراعي لا يترفع عن رعيته وسؤالها عن أحوالها ، والتبسط لها في المحادثة ؛ وإلا كان بعيداً عنها تتشكل صورتها عنده بحسب كتاب التقارير ، ولا يخلون من الهوى.
10- العالم لا يتسرع في الإجابة:
ونموذج ذلك أن العفريت سبق "آصف" في الرد على "سليمان" عندما (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 27- 40)
11- اللجوء للوسائل غير الموضوعية من أساليب الظالمين:
عندما يعجز الظالم عن الإجابة يلجأ لأساليب أخرى غير المحاججة بالحسنى منها السخرية كشأن مشركي مكة، وسخرية ابني "ياليل" ببساتين الطائف من النبي "صلي الله عليه وسلم" (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً) (الفرقان:41). وكذلك اللجوء للضرب ، والتهديد ، وقد ورد في القرآن الكريم في غير ما موضع.والمتتبع للقرآن الكريم يجد كثيراً من النكت اللطيفة في هذا الموضوع (فوائد الحوار القراني ) وما هذه إلا إشارات معممات ، والله أعلم .
على وجه العموم (فإن الدعوة الإسلامية ترحب بالحوار وتؤكد على أهميته، لأنه يفتح المجال لها، ويتيح أمامها أوسع الفرض لتصحيح المعلومات، وتقديم الحقائق لهؤلاء الذين أساءوا فهمها ، وناصبوها العداء وقد وضع الإسلام أساساً للعلاقة بين كل أفراد الجنس البشري يقوم على المودة والاحترام ومساعدة الضعيف وإنقاذ الملهوف، والرفق بالإنسان أيّاًكان دينه ، ومذهبه ، أو أصله، وكذلك الرفق بالحيوان ، والكائنات كلها)(1).

المبحث الثاني
الحوار النبوي والتربوي
القسم الأول : الحوار النبوي :
أولاً : مقدمات الحوار النبوي
ثانياً : فنيات الحوار النبوي
ثالثاً : من السمات العامة للحوار النبوي
القسم الثاني: الحوار التربوي:
أولاً : الحوار التربوي التعليمي
ثانياً : التربية الدرامية
ثالثاً : الحوار في البيت والمدرسة والمجتمع.

القسم الأول : الحوار النبوي:

أولاً : مقدمات الحوار النبوي:
النبي "صلي الله عليه وسلم" أُوتي القرآن ومثله معه، وهي السنة النبوية ، الحوار بمختلف أضربه؛ كان سلاح النبي "صلي الله عليه وسلم" صدعاً بأمر الله , وتبليغا لدعوته : يقول الأستاد "محمد رجب البيومي" (المعهود في الدعوات الجديدة أن ينفعل أصحابها، ويقابلوا المعارضين بثورات صاخبة. بل أنهم يستأصلون شأفتهم . إذا نجحت ثوراتهم ، وملكوا زمام الأمور، ولكن دعوة الإسلام بدأت بالحوار السلمي في هدوء مثابر ، ووضعت منهجًا للدعوة واضحاً يتجلى في قول الله عز وجل (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)(1) .

المؤانسة والتلطف:
من مداخل النبي "صلي الله عليه وسلم" المؤانسة والتلطف بين يدي غرضه ،حين تلطف بـ"جابر بن عبد الله"، وقد أعيا جمله قافلاً من أحدى الغزوات، وهو الفتي ابن الشهيد المثقل بأخواته، وقد أراد النبي "صلي الله عليه وسلم" أن يكرمه بهبة فما باشر ذلك إلا بعد تقديم لطيف ؛ ليدخل في بيع الجمل.
عن جابر بن عبد الله "رضي الله عنهما" قال (كنت مع النبي "صلي الله عليه وسلم" في غزاة فأبطأ بي جملي وأعيا ، فأتي على النبي "صلي الله عليه وسلم" فقال : جابر ؟ فقلت : نعم ، قال : ما شأنك ؟ قلت : قد أبطأ علي جملي وأعيا فتخلفت، فنزل يحجنه بمحجنه ثم قال : اركب . فركبته ، فلقد رأيته أكفه عن رسول الله "صلي الله عليه وسلم" . ثم قال : تزوجت ؟ قلت : نعم، قال : بكراً أم ثيباً؟ قلت بل ثيبا، قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت : أن لي أخوات فأحببت أن أتزوج أمراة تجمعهن ،وتمشطهن ،وتقوم عليهن . قال : أما إنك قادم فإذا قدمت الكيس الكيس ، ثم قال: أتبيع جملك؟ قلت نعم : فاشتراه مني باوقية . ثم قدم رسول الله "صلي الله عليه وسلم" قبلي ؛ وقدمت الغداة ، فجئنا إلى المسجد فوجدته على باب المسجد، قال : الآن قدمت ؟ قلت نعم . قال : فدع جملك . فادخل فصل ركعتين فدخلت فصليت ، فأمر بلالاً أن يزن لي أوقية، فوزن لي بلال فأرجح في الميزان ، فانطلقت حتى وليت فقال : أدعوا لى جابراً . قلت : الآن يرد على الجمل . ولم يكن شيء أبغض إلى منه ، قال : خذ جملك ولك ثمنه) ! فعل النبي "صلي الله عليه وسلم" ما فعل تعليماً وتشريعاً (1). وقد علمنا النبي "صلي الله عليه وسلم" التلطف في الحوار، والتقديم له، فقد هدف النبي "صلي الله عليه وسلم" إلى أن يهب عبد الله جابر " رضي الله عنهما" هبة ؛ فتوسل لذلك ، للوصول لبيع الجمل ، وقد دارت فيه مساومة بديعة بسطت في غير "البخاري"، وعملية البيع نفسها مدخل للهبة!.
وهناك فوائد عديدة أخرى مستخلصة من هذا الحديث.وأنّ الراعي يستفيد من هذا الحوار : التبسط مع الرعية . حتى فى حال الهبة ، واختيار المدخل المناسب لتقديمها.

اكرام المحاور:
أكرم النبى (صلى الله عليه وسلم) "عدي بن حاتم" وكان على مذهب فى النصرانية ولم يهنه كمايفعل بعضنا اليوم . مع أن العالم صار قرية، وكل خطبة تبلغ الآفاق للمسلم ولغير المسلم.
بعد أن وفد "عدى بن حاتم ” على النبي "صلي الله عليه وسلم" يقول "عدى" : ثم مضي بي "صلي الله عليه وسلم" حتى دخل بي بيته تناول وسادة من أدم ، محشوة ليفاً ، فقذفها إلىّ ، فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فأجلس عليها، فقال : بل أنت فجلست عليها، وجلس رسول الله "صلي الله عليه وسلم" ؟ بالأرض( ).
أين مخاشنات بعض المعاصرين من هذا: أكرام حاتم ، ومناقشته نقاشاً هادفاً قاده للإسلام ؟ (بعض الوعاظ والخطباء يدعون الله تعالى : أن يهلك اليهود والنصاري جميعاً . وأن ييتم أطفالهم، ويرمل نساءهم، ويجعلهم وأولادهم غنيمة للمسلمين !... ... ...
نحن – المسلمون – مأمورون من ربنا : أن نقول الكلمة التي هي أحسن لمن نخاطبه، أو ندعوه، أو نحاوره ، وليس من التي هي أحسن أن نجابهه فنقول له: أيها الكافر! بل ينبغي أن نخاطب فيه إنسانيته وفطرته ، ولا نتبع نزغات الشيطان – عدو بني الإنسان المبين –الذي يريد أن ينزغ بينهم ، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء) ( ) ويتأكد أكرام المحاور إذا كان وافداً من بلد لبلد . ويقول النبي"صلي الله عليه وسلم" (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

الدخول برفق في الموضوع:
كانت أسئلة النبي "صلي الله عليه وسلم" لجابر لمؤانسته ، وشرح صدره ولإكرامه بالعطية آخر الأمر.ها هنا مثال لسؤال من نوع مختلف . مع شخص غير مسلم في أول لقيا له مع النبي "صلّي الله عليه وسلم" ذلكم هو "عدّاس" حين حمل – بأمر سيديه - قطفاً من عنب للنبي "صلّي الله عليه وسلم".
ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله "صلي الله عليه وسلم" قال له: كل ، فلما وضع رسول الله "صلي الله عليه وسلم" يده فيه قال : بسم الله ، ثم أكل، فنظر "عداس" في وجهه ، ثم قال : والله إن هذا الكلام مايقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله "صلي الله عليه وسلم" : ومن أي البلاد أنت يا "عدّاس"، وما دينك؟ قال : أنا رجل نصراني ، وأنا رجل من أهل "نينوي".فقال له رسول الله "صلي الله عليه وسلم" : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له "عداس" : وما يدريك ما "يونس بن متى" ؟ فقال رسول الله "صلي الله عليه وسلم" : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي، فأكب "عدّاس" علي رسول الله " صلّي الله عليه وسلم" يقبل رأسه ويديه وقدميه.( )
خرج النبي "صلّي الله عليه وسلّم" للطائف داعياً إلى الله بإذنه، وحين صُدّ من الطائف ، وألقي القدر بـ"عدّاس" بين يديه ؛ لم يدخل معه مباشرة في الموضوع ؛ طالباً منه الإيمان ، بل تلّطف لذلك بمدخل رقيق، وحين بلغ "الموضوع" لم يحتج أن يكرّ القول فيه لأن "عداس" قد آمن.
المبادرة :
لم يكن النبيّ (صلّي الله عليه وسلم ) يتردد في أمر الحوار، بل كان يبادر داعياً إلى صراط مستقيم . دخل رسول الله "صلي الله عليه وسلم "المدراس على جماعة من يهود ؛ فدعاهم إلى الله ، فقال له "النعمان بن عمرو" ، و"الحارث بن يزيد" : على أي دين أنت يامحمد؟ فقال "صلي الله عليه وسلم" : على ملة ابراهيم ودينه ، قالا : فإن ابراهيم كان يهودياً ، فقال لهما رسول الله "صلي الله عليه وسلم" : فهلمّ إلى التوارة فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، والأمثلة كثيرة لاتحصي في مبادراته "صلي الله عليه وسلم".
غالب حوار النبي" صلي الله عليه وسلم " كان بمبادرة منه؛ فكان يطوف الأسواق ، ويغشي المجالس ، ويتجشم الصعاب ، ويتفقد أصحابه "صلّي الله عليه وسلّم".
(من أهم وظائف العقل البشري الناضج... المبادرة ، والإبداع ، والإجتهاد في فهم حقائق الأمور .. والمبادرة في إبداء الآراء الوجيهة المبنية على حسن التقدير والتدبر والتفكر) .
الخطبة بين يدي الكلام :
من مقدمات النبي "صلي الله عليه وسلم" الخطبة بين يدي الكلام ومن ذلك قصة إسلام " ضماد" : قدم "ضماد" مكة . وكان يرقي، فسمع سفهاء من سفهاء الناس يقولون: أن محمداً مجنون! فقال: آتي هذا الرجل لعلّ الله أن يشفيه علي يدي ! قال : فلقيت محمداً فقلت : إني أرقي من هذه الرياح ، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلمّ! فقال محمد "صلي الله عليه وسلم" إن الحمد لله، نحمده ، ونستعينه ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له . (ثلاث مرات) وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، أمّا بعد...؛ فقال : والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، فما سمعت مثل هذه الكلمات فلهم يد أُبايعك على الإسلام ( ).
خطبة النبي "صلي الله عليه وسلم " بين يدي رده لـ"ضماد" ، أغنت عن الرد ! وواضح من السياق أنّ "ضماداً" قاطع النبي "صلّي الله عليه وسلّم" عند (أما بعد) لقوة وقع الخطبة .
أىِّ محاور يعرض فكرته ؛ محتاج إلى تقديم يسير بين يدي حديثه ، أو استهلال كهذا ، يثني فيه على الله -عزوجل -ويصلّي على نبيه ؛ لأنّ هذا الاستهلال ، أو التقديم ، يمكن المتحدث من قياس مدي صوته ، وإقبال السامعين ، وغير ذلك.

السمت الصالح :
أن الهيئة الحسنة مطلوبة للمحاور أيّاً كان، والذي يحمل رسالة . فكلمّا كان مجوِّداً كان أفضل.
وللزي دلالة رمزية علي الثقافة التي ينتمي إليها المحاور، في الحوار الحضاري ، والثقافي ، جرت أعراف الناس بالتمسك بالأزياء القومية ؛ لدلالات واضحة.
لعلّ ابرز مثال من السنة ؛ حديث جبريل الطويل برواية "مسلم" عن "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه :
بينما نحن ذات يوم عند رسول الله "صلّي الله عليه وسلم" إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منّا أحد...الخ .
الحديث المذكور به فوائد جمة ، ويعنينا هنا مظهر جبريل الذي جاء به النبيّ "صلي الله عليه وسلم" سائلاً معلمّاً ، فأول مايُتعلم منه : هذا المظهر الجيِّد في الزي والنظافة . لمن يَفِد على الناس.
وبلغ من حرص النبي "صلي الله عليه وسلم" أنه كان إذا أبرد بريداً اختاره حسن الوجه ، حسن الاسم . لتكوين انطباع جيّد لدي المتلقي .

ثانياً: فنيات الحوار النبوي
التشويق:
استخدم النبي "صلي الله عليه وسلم" أساليب مشوقة في دعوته ، وحواره مع كافة أصناف المدعوين ، فمثلا عن "عمران بن الحصين" قال : ( إنِّي عند النبي " صلي الله عليه وسلم" إذ جاءه قوم من بني تميم ، فقال : اقبلوا البشري يا بني تميم ، قالوا : بشرتنا فاعطنا ! فدخل ناس من أهل اليمن ، فقال اقبلوا البشري يا أهل اليمن ؛ إذ لم يقبلها بنو تميم . قالوا : قبلنا؛ جئناك لنفقه في الدين .ولنسألك أول هذا الأمر ما كان ؟ قال : كان الله ولم يكن شئ قبله ، وكان عرشه علي الماء ، ثم خلق السماوات والأرض ، وكتب في الذكر كل شئ ، ثم أتاني رجل فقال : يا عمران ! أدرك ناقتك فقد ذهبت . فانطلقت أطلبها فإذا السحاب ينقطع دونها . وأيم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم )!
شوق النبي " صلي الله عليه وسلم سامعيه بتبشيرهم ، وفي ذلك دلالة علي أن ما سيقوله له قيمة كبري ، مما جذب انتباه الراوي حتي أنه تمني الفقد الكلي لناقته ؛ ليستتم حديث النبي " صلي الله عليه وسلم " وهذا غاية التشويق .
ومن أساليب التشويق النبوية : ما حدث منه " صلّي الله عليه وسلم " حين أُِِنزل عليه: ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) حيث أتي النبي " صلّي الله عليه وسلّم" الصفا ، فصعد عليه ، ثم نادي : يا صباحاه ! فاجتمع الناس إليه ؛ رجلٌ يجئ إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال " صلي الله عليه وسلم" : يا بني عبد المطلب ! يا بني فهر ! يا بني كعب !أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ قالوا : نعم ...رواه البخاري.
في هذا الأثر شوَّق النبي " صلي الله عليه وسلم " أهل مكة بعدة مشوِّقات :
1- صعوده الصفا.
2- صياحه : يا صباحاه – وهي صيحة الملمات المهمات-
3- تعديده بطون قريش ...
4- ابتدارهم بالسؤال .
وفي هذا الحوار تدرج بالغ الدلالة ، وكل درجة في محل بعينه : بدءً بصعوده " صلي الله عليه وسلم " الصفا ، نهاية بسؤال الحاضرين ، ولا شك أن السؤال يعقبه صمت المشوق ؛ مترقباً الإجابة.

التمهيد بالسؤال :
السؤال من مثيرات الإنتباه : في حديث "عبد الرحمن بن أبي بكرة" عن أبيه : ذكر أن النبي " صلي الله عليه وسلم" قال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض : السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر ، الذي بين جمادي وشعبان . أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلي . قال : أيّ بلد هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت ؛ حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال : أليست البلدة ؟ قلنا : بلي. قال : فأنّي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتي ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلي . قال : فإن دماءكم ، واموالكم ، عليكم حرام : كحرمة يومكم هذا . في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا : يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلّغه أن يكون أوعي له من بعض من سمعه . رواه البخاري.
وهنا نلاحظ الإنتقال بالجمهور من خلال السؤال عن حرمة الأشياء . التي سؤلوا عنها ويعرفونها إلي بيان حرمة الدماء ، والأموال ، والأعراض.. ليكون ذلك أدعي لسهولة استيعاب الرسالة الإعلامية ، وتذكرها ، والعمل بمقتضاها.
ويُلاحظ هنا المزاوجة بين اسلوب التساؤل ، وأسلوب الوقفة ، أو الصمت ، فعقب كل سؤال وقفة طويلة تستدعي انتباه المستمع ، وتدفعه للتفكير ، والتأمل ، واستشعار عظمة ما سيخبرهم به الرسول " عليه الصلاة والسلام" ( )

ثالثا: اللجؤ للمنهج العاطفي:
من أساليب الحوار النبوي تحريك الناحية العاطفية ، حيث يُرجي نفعها . ( من جميل صفاته ، وقدراته " صلي الله عليه وسلم" إنًّه كان أقدر الناس علي صقل وتربية النفوس ، والعواطف الهادفة ، بربانية يعتمد عليها عند الضرورة . في إيقاظ مشاعر معينة في أصحابه الكرام ، فأُلهم هذا الفقه من الحوار تتمة للتأثير في من يربيهم " عليه الصلاة والسلام " ).( )
من الأمثلة الحاضرة في هذه الجزئية ؛ خطبة النبي " صلي الله عليه وسلم " يوم حنين : حيث خص جماعة من أهل مكة من المؤلفة قلوبهم ، بمزيد من الغنائم ... فوجد بعض الأنصار في نفوسهم من ذلك وقالوا : يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريش ويتركنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم ؟
فبلغ ذلك رسول الله " صلي الله عليه وسلم " فأرسل إلي الأنصار فاجتمعوا في مكان أُعد لهم ، ولم يدع معهم أحداً غيرهم ، ثم قام فيهم ، فحمد الله ، وأثني عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم ؟ ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألّف الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ - كلما قال لهم من ذلك شيئاً ؛ قالوا : بلي الله ورسوله أمنُّ وأفضل – ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل . فقال " صلي الله عليه وسلم " : أما والله لو شئتم لقلتم : فلصدقتم وصُدقتم : أتيتنا مكذباً فصدقناك . ومخذولاً فنصرناك . وطريداً فآويناك . وعائلاً فواسيناك . فصاحوا : بل المن علينا لله ورسوله. ثم تابع رسول الله " صلي الله عليه وسلم " قائلاً : أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم ؛ من أجل لعاعة من لعاعات الدنيا ، تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلي إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار : أن يرجع الناس بالشاة ، والبعير ، وترجعوا برسول الله إلي رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به . والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً؛ لسلكت شعب الأنصار، وأنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتي تلقوني علي الحوض . اللهمّ أرحم الله الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار !
فبكي القوم حتي اخضلت لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله " صلي الله عليه وسلم" قسماً ونصيبا ).رواه البخاري.
( وقد لامست هذه الرقة ، والخفقان ، مشاعر الأنصار ؛ فهزتها هزاً ،ونفضت عنها ما كان قد علق بها من الوساوس ، والهواجس ، فارتفعت أصواتهم بالبكاء . فرحاً بنبيهم ، وابتهاجاً بقسمتهم ، ونصيبهم )( )
هذا الحوار النبوي العاطفي المبني علي صدق التعامل ، والتربية ، يدلنا - من الوجهة التربوية – علي أمور أهمها :
1- أن اللجوء إلي العواطف الربانية في المواقف الحرجة ، يجب إن تسبقه تربية سليمة ...
2- اقتباس الرسول " صلي الله عليه وسلم " من اسلوب القرآن الإستفهامي لإثارة العواطف : مثل ما اقتبس من سورة الضحي ذلك النور الإلهي ...
3- وضع الرسول "صلي الله عليه وسلم " في حسبانه ... موضع البشر ... فقال : أما والله لو شئتم لقلتم ... (2)
رابعا : استخدام الرسم للتوضيح :
عن عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه " قال : خطّ النبي " صلي الله عليه وسلم" خطا مربعاً ، وخطّ خطاً في الوسط خارجا منه ، وخطّ خططا صغاراً إلي هذا الذي في الوسط ؛ من جانبه الذي في الوسط ، وقال : هذا الإنسان . وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج أمله ، وهذه الخطط الصغار الأعراض ؛ فإن أخطأه هذا نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا . رواه البخاري.

وفي أسلوب آخر : عن علي بن ابي طالب " رضي الله عنه " : أن النبي " صلي الله عليه وسلم " غرز عوداً بين يديه ، ثم غرز إلي جنبه آخر ، ثم غرز ثالثا فأبعده ؛ ثم قال : هذا الإنسان ، وهذا أجله وهذا أمله . رواه الإمام أحمد.

ثالثاً: من السمات العامة للحوار النبوي :

الحوار النبوي الذي بلغ قاموس البحر ، كلما تأمل فيه المتأمل خرج بفائدة جديدة : من سمات هذا الحوار المعممة :
تلطيف الخلاف :
لما كان يوم بدر جئ بالأسري ... فقال رسول الله "صلي الله عليه وسلم " : ما ترون في هؤلاء الأُساري ؟ فقال أبوبكر : يارسول الله قومك وأهلك ؛استبقهم . لعلّ الله ان يتوب عليهم . قال عمر : كذبوك ، وأخرجوك ، وقاتلوك ، قدمهم فاضرب أعناقهم . وقال : عبدالله بن رواحة انظر وادياً كثير الحطب فاضرمه عليهم . ...فخرج رسول الله "صلي الله عليه وسلم" فقال : أن الهر يلين بقلوب رجال فيه حتي تكون ألين من اللبن . ويشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبابكر مثل ابراهيم ... ومثلك ياعمر كمثل نوح...

المرونة قدر الاستطاعة والإستجابة للمحاور:
كان النبي "صلي الله عليه وسلم" نافذ الأمر في أصحابه . وربما جادلوه فكان يستجيب لهم ما وسعه ذلك , وما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن أثماَ أو قطيعة رحم . كما جاء في الأثر.
هذه الاستجابة والمرونة يمكن أن تُستهدف بها فضاءات الحوار كله ، وأن تساوي الخصمان ، ولو كانت مساواة جدلية ؛ ومثال ذلك من حديث أبي هريرة "رضي الله عنه" ( بينما نحن جلوس عند النبي "صلي الله عليه وسلم" جاء رجل فقال: يارسول الله هلكت
قال: مالك
قال: وقعت علي امرأتي وأنا صائم !
فقال رسول الله "صلي الله عليه وسلم" : هل تجد رقبة تعتقها ؟
قال : لا !
قال: هل أن تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟
قال : لا!
قال : هل تجد اطعام ستين مسكيناً؟
قال لا !
قال :فمكث النبي "صلي الله عليه وسلّم" فبينا نحن كذلك أُتي النبي "صلّي الله عليه وسلم" بعرق فيها تمر – والعرق : المكتل -
قال : أين السائل؟
فقال :أنا.
قال: خذ هذا فتصدق به.
فقال الرجل: على أفقر مني يارسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي ! فضحك النبي صلي الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : أطعمه أهلك ! ( )
سلك النبي "صلّي الله عليه وسلّم" مرونة مدهشة ، بعد أنه تدرج مع السائل إلى نهاية أفضت في الظاهر إلى مكافأة بدلاً من عقوبة ،ولكن وضح عِقاب من جامع في رمضان . ومفهوم أن هذه المكافأة لن تكرر: لا للرجل ، ولا لغيره ؛ وهذا مقصد الحوار.
الحكمة في توضيح الواضح :
في هذا الزمان تدور حوارات عجيبة . في أُمور محسومة شرعاً :
- فصل الدين عن الدولة !
- مساواة الجنسين في الميراث والقوامة وغيرذلك .
- مواكبة التشريع الرباني للحياة الحديثة ، وغير هذا كثير .
إن جري الحوار بقصد التبيين فلا حرج ، أما أن كان لحل وسط يقتضي مخالفة ما أمر الله به فلا . ومثال ذلك في السنّة : عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن فتيً أتي النبيّ "صلي الله عليه سلم" فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا !
فأقبل القوم فزجروه : مه ! مه ! فقال "عليه الصلاة والسلام" : أدنُ . فدنا منه قريباً وجلس ، قال عليه الصلاة والسلام :
- أتحبه لأُمك ؟
قال : لا والله ، جعلني الله فداك!
قال: ولا الناس يحبونه لأُمهاتهم .
قال : أتحبه لابنتك؟
قال : لا والله ، جعلني الله فداك !
قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم .
قال : أتحبه لأُختك ؟
قال : لا والله ، جعلني إليه فداك!
قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم.
قال : أفتحبه لخالتك؟
قال: لا والله ، جعلني الله فداك!
قال : ولا الناس يحبونه لخالتهم.
قال : فوضع يده "عليه الصلاة والسلام" وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه ! (رواه أحمد في المسند).
الزنا ليس موضوعاً يقبل التنازل و]الاعتدال[ - مع أنه توجد تراخيص له في شتي أرجاء المعمورة - والحوار فيه لا يكون إلا لتبيين ضرره الماحق . ليس إلا واللأمثلة عديدة في السنة لمثل هذا .
الصبر والتأدب مع المحاور:
وأوضح ما يكون ذلك في الحديث السابق الذي خرجه "مسلم" عن "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه : قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله "صلّي الله عليه وسلّم" إذ طلع علينا رجلٌ ؛شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، لا يري عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحدٌ . حتى جلس إلى النّبي "صلّي الله عليه وسلّم" فأسند ركبتيه إلي ركبتيه ، وضع كفه على فخذيه ، وقال يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله "صلّي الله عليه وسلّم " : الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله . وأن محمداً رسول الله .... الخ الحديث.
يقول الشارح وضع - أي الرجل - كفّيه على فخذيه ، أي فخذي النبي "صلّي الله عليه وسلّم" وأنما فعل ذلك (جبريل) للتنبيه علي أنه ينبغي للسائل عدم الإستحياء من السؤال ، وينبغي للمسؤول الصفح عن السائل وإن تعدي ما ينبغي من الإحترام للمسوؤل والأدب معه ( )

القسم الثاني : الحوار التربوي
أولاً: الحوار التربوي التعليمي:
قطعاً لا يسع امرؤٌ أن يجزم بأن زيد أو عمرو هو أوّل من ابتدع الحوار التعليمي ، أو التربوي عموما ؛ غير أنّه ينسب إلى "سقراط" كونه أول من أُثِر عنه هذا النوع من الحوار بصورة منهجية .
والمنهج السقراطي شأنه شأن الفلاسفة الأُول: يشك في كل شئ! ويخضعه للنظر بعقل مفتوح بلا ثوابت. وغنيٌ عن القول أن هذا المنهج الفلسفي ، أوصل بعضهم إلى ضرورة وجود الخالق ، وكثير غيرهم إلى نفيه ، والمنهج السقراطي ( ... يحسر الأقنعة عن الفرضيات ويستجوب اليقينيات ؛ فإذا سمع النّاس يسرعون بالحديث عن العدالة سألهم بهدوء : ماهي العدالة؟ وما الذي تعنونه بهذه الكلمات ، التجريدية الذهنية التي بها تبتون على هذه الصورة : بيسر وسهولة ، في قضايا الحياة والموت) ؟ ( )
نجد أن هذا المنهج التعليمي كان مليئا بالثغرات وأبرزها أنه خلخل اليقينيات الأخلاقية ، وكانت خاتمة صاحبه : أن حُكم عليه بتجرع السمّ ففعل بثبات ورباطة جأش .
(.........أما الذين كابدوا المنهج السقراطي فإنهم قد اعترضوا قائلين بأنه يقدم من الأسئلة . أكثر ممّا يقدم من الأجوبة . وأنه ترك أذهان الناس أشدّ ارتباكاً وحيرة ، ممّا كانت عليه من قبل ). ( )
من بعد "سقراط" طوّر المطورون منهجه آخذين حسناته ، مجتنبين مساويه ، وقد نهج "سقراط" اربعة مراحل:-
1- توجيه التلميذ لاقتراح تعريف أو اقتراح مبدئي.
2- قيادة التلميذ إلى الشك في كفاية معرفته للتعريف أو الافتراض .
3- قيادة التلميذ للاعتراف بعدم قدرته للخروج ، أو التخلص ، من الحيرة التي هو فيها.
4- إرشاد التلميذ في بحثه عن الحقيقة ؛ حقيقة التعريف أو الافتراض الذي بدأ به أولاً . ( )
مع أن "سقراط" بحث بطريقته هذي الحقائق ، والمعاني المتعلقة بكليّات كالعدالة ، والشجاعة ، والحكمة ؛ حمل منهج التعليم الحواري اسمه ونسب إليه . واعتُبر اسلوباً مفضلاً ، مجدياً في التعليم . يقول "الزرنوجي": إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة ؛ أجدي على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار . ويؤكد "ابن خلدون" أن الطريقة الصحيحة في التعلم ؛ هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمي عن ظهر قلبٍ ، ويشير إلى أنّ (ملكة العلم) إنّما تحصل بالمحاورة ، والمناظرة ، والمفاوضة ، في مواضيع العلم ، وهو يعيب طريقة الحفظ على ظهر القلب ويعتبرها مسؤولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق ، عقيمي التفكير لا يفهمون شيئاً ذي بال....... (1)
أهداف الحوار التعليمي:
1- تشويق التلاميذ للدرس ، وتعويديهم سرعة الخاطر والبديهة .
2- إتاحة الفرصة للاسترشاد بتوجيهات المدرس وإنه عبارة عن مرشد موجه.
3- اتاحة الفرصة للمعلم لمعرفة المستويات ، وكشف الفروق الفردية .
4- اتاحة الفرصة للتلميذ للمناقشة بدقة ووضوح ، وموضوعية لزيادة الثقة بالنفس .
5- إعطاء التلاميذ الفرصة لابداء الرأي ؛ مما ينمِّي اتجاهات إيجابية لديهم.
6- وسيلة للتدريب على القيادة .
7- حصول التلاميذ على خبرات تربوية وتعليمية .
8- التدرب فردياً وجماعياً ؛على اكتشاف المشكلات وإيجاد الحلول.
9- تعويد التلاميذ على البحث ، والكشف ، والتتقيب والإعتماد على النفس.
10- الإحساس بالثقة والرضي ؛ مما ينمي الإحساس الإجتماعي .
11- تنمية روح التعاون ، والمسئولية ، والإبداع ، وطرق التفكير.(2)
أسلوب المناقشة والحوار في التعليم يحتاج إلى مهارات عالية ، مثل التطبيق والتحليل ، والتركيب ، والقدرة على التقويم ، وعند استخدام هذا الأسلوب فإنه يعني بالتفكير المشترك ، وزيادة وعي التلاميذ . وهذا الأسلوب من أكثر الأساليب فاعلية في التعليم ،على ضوء قدرات التلاميذ على التفكير العلمي. (1)
من السهل على المعلم المدرس ذي الخبرة أن يتعامل معها ، أما بالنسبة للمعلم المبتدئ فقد تضعه في موقف لا يحسد عليه ، إذا لم يحسن التصرف ، ماذا يفعل المعلم إذا وجه إليه أحد التلاميذ سؤلاً لا يعرف إجابته ؟ في هذه الحالة يجب أن يكون المعلم هادئ الأعصاب ، وألا يظهر أي انفعال يدل على الضعف ، أو التخاذل ، وينبغي ألا يتفادي المعلم السؤال الموجه ، أو يتجاهله ... ويجب إلا يستخدم أسلوب الهجوم أو التحقير أو التأنيب ... يجب أن يعطي نفسه فرصة للتفكير والترتيب . بأن يوجِّه السؤال للفصل برمته ؛ مطالباً التلاميذ أن يحاولوا الإجابة ... وقد يطالبهم بالبحث عن الإجابة لمناقشتها في الحصة القادمة .. ويجب أن يكون واسع الصدر ... وقد يمتدح المعلم وجهة نظر التلميذ ... وفي حالة تصحيح الخطأ ، يجب أن يشكر المعلم التلميذ صراحة .... وخير له أن يكون واضحاً وصريحاً في تقبل الخطأ ، وأن يعمل لكسب ثقة التلاميذ في علمه ومعرفته وثقافته بسعة اطلاعه ، وتجدد معلوماته.(2)
ويتصف المعلم القادر على تطبيق الحوار التعليمي بعدة خصائص أساسية :
1- عمق المعلم في مادة تخصصه ، أو القضية التي يدور حولها الحوار.
2- مهارة المعلم في صياغة الأسئلة وتوجيهها ، والتوقيت المناسب لها.
3- معرفة المعلم في علم النفس.
4- تحضير المعلم المسبق لقضية الحوار.
5- قدرة المعلم على الإنتباه الدائم لأفراد التلاميذ من خلال الصبر المتناهي والطاقة العقلية المثابرة ، طيلة وقت الحوار .(3)
غير أنه مع كل الإجتهادات يبقي أمر تقييم الحوار من الصعوبة بمكان؛ لقابلية الأسلوب للتفرع والاستعراض اللساني ، مع تعدد العناصر المؤثرة فيه .
تقول "مني اللبودي" : يتسم الحوار بالصعوبة ، نظراً لتعدد العوامل التي تتدخل في موقف الحوار ، وتؤثر فيه ، مثل السياق الإجتماعي ،والنفسي ، والثقافي الذي يحيط بالأشخاص ... كذلك شخصيات المتحاورين والرسائل المتبادلة أثناء الحوار.
والتحدي الذي يواجه من يتصدي لتقويم الحوار هو إيجاد وسيلة الحكم على أراء الأفراد، تستند إلى معايير محددة ، وبأعلي قدر ممكن من الموضوعية .(1)
فوائد الحوار التربوي : بحسب هاني السليمان :
1. يعزز استراتيجيات بناء العلاقات الإيجابية بين الوالدين والأولاد من جهة وبين الأولاد ومنسوبي المدرسة من جهة أخرى .
2. يبني ويعزز ثقة الافراد بأنفسهم يؤكد ذواتهم وينمي اسقلاليتهم.
3. يدرب الأولاد على تقبل الاختلاف ..وأن ذلك لا يعد تهديداً لهم .
4. يدرب الأولاد على تحقيق وتقرير مبدأ القيم المقبولة ؛ فهو مناخ ممتاز لتعديل السلوك .
5. ينمي المبادرة ، والمنافسة ،وحب الاكتشاف ؛ فهو تنمية للروح الإجتماعية ...
6. يظهر الحوار للاباء والمعلمين ......ما يعانيه الأولاد من مشاعر عدائية.......
7. يساعد الأولاد علي تصحيح أخطائهم بأنفسهم ...
8. يساعد الأولاد غلي رفع مؤشر التحصيل الدراسي.
9. يساعد الطالب على اكتساب اصدقاء جدد .
10. الحوار يدعم فاعلية التوجيه والارشاد.
11. تعليم المحاورين الشجاعة النفسية .(3)
ومما حسب من عيوب بهذا الاسلوب في التعليم والتربية :
1- سيطرة بعض الاشخاص على معظم وقت المناقشة.
2- غياب التنسيق بين أطراف النقاش.
3- ضياع الوقت في مناقشة تفصيلات هامشية .
4- عدم مقدرة المعلم على متابعة الأفكار إذا كان قليل الإطلاع.
5- قلة توفر المراجع .(3)
ولعل من اكبر عيوبه أن ساق تلاميذ "سقراط" للتمرد عليه ، والتسبب في إحضاره للمحكمة التي أمرته بتجرّع السم .

ثانياً: التربية الدرامية:
في عالم اليوم صار القصص المبثوث ، في إطار الأفلام ، والمسلسلات ، والمسرحيات ، من أكبر المؤثرات التربوية خصوصاً علي الناشئة .
عماد هذا القصص الأُسلوب الحواري بين شخوصه، فتصمم له السناريوهات المخصوصة ، وتطوّع له أبهي الاعمال الروائية ؛ ليبقي أبدع مايكون .
التزم الغرب في أعماله الاعلامية بقيم بعينها ، وحافظ على رموزه ؛ فلم يتطاول بتحقيرها: تجد القسيس - مثلا - دائماً شخصية مهيبة ، مؤثرة . تمثل الكمال الإنساني . كما هي في "البؤساء" للأديب الفرنسي "فيكتور هيجو" أشهر الأعمال الروائية على الاطلاق .
وكشأن رجل الدين نجد الشرطي ، والممرضة ، وغيرهما أمثلة للتفاني والإخلاص .وبالمقابل تتبرع الأعمال الفنية في الدول الإسلامية - وخصوصا العربية - في هدم رموز المجتمع خاصة من حمل راية الدين ؛ فتجد الإمام - مثلاً - جاهلاً ، خارج إطار المعاصرة ، منافق ، كذاب .وتجد الشاب الملتحي رمزاً للشر ، والخداع ،وسوء الظن ، والتعصب المقيت . كل هذا في إطار قصصي مؤثر : مأساة حزينة ، أو ملهاة ساخرة . فيا للمفارقة ! وكذا الطبيب ، والشرطي وغيرهما.
هذا مع ما للإعلام من أثر بالغ ( تشير دراسة أجرتها اليونسكو مؤخرا ، حول معدلات التعرض للتلفزيون لدي الأطفال ، والصبية العرب . تبيّن منها أن الطالب قبل أن يبلغ الثامنة عشر من عمره يقضي أمام التلفزيون اثنين وعشرون ألف ساعة ، في حين أنه في هذه المرحلة من العمر يقضي أربعة عشر ألف ساعة في قاعات الدرس ) .
الإتقان الذي بلغته السينما الغربية – خاصة الامريكية- له تأثيرات أهمها:
1- التأثر بالجرأة اللسانية على أي شخص ، وكل موضوع ، في عالم الغيب ،أو الشهادة .
2- الشهرة الطاغية لشخصيات " ديزني لاند " لدي الناشئة ، وانجذابهم الشديد للمطاردة اللانهائية بين القط والفار ، في إطار خال من المضمون في أحسن حالاته.
3- التعرض المستمر للقصص الغربي ، يحدث رباطاً وثيقاً بالثقافة الغربية بمختلف تجلياتها.
4- الإعجاب بشخوص الممثلين على علاتهم.
5- الإنبهار بنمط الحياة السينمائي الذي هو غير الواقع ...الخ
الأثر الايجابي :
1. تركيز الأعمال الغربية على عاقبة السوء للمجرم .
2. معالجة قضايا حقيقية ، في قوالب درامية : التعامل مع كبار السن ، معالجة أمر المخدرات ،القضايا العرقية، الفروقات الحضارية...
3. المحافظة على الرموز الاجتماعية بعرضها على ما ينبغي ان تكونه لا علي ما هي عليه...الخ,
مميزات الدراما العربية :
1- الثرثرة الخالية من المضمون.
2- تمطيط حلقات المسلسلات ، في قصة يمكن تقديمها في حلقتين ، دون الإخلال بعناصرها.
3- عدم وضوح الهدف .
4- هدم الرموز الدينية والاجتماعية .
5- التخلف عن السينما الغربية .
هذا في الغالب الأعم ، مع وجود أعمال مميزة.
البناء الحواري للدراما الغربية :
الأعمال الدرامية في شتي أقطار المعمورة ، يشكل الحوار الأساس الذي تقوم عليه ، وللتفوق الغربي الكاسح تأتي أعماله دائماً في المقدمة . وبالنظر والتمحيص نجد أن الحوار بها يمتاز بعدة ميزات :
الناحية العلمية :
1- الحوار العلمي في الأفلام الغربية ، غالباً ما يمتاز بالتميز الايجابي ، واحترام عقل المشاهد . ويحاول تبسيط القضايا العلمية .
وصنف آخر يقوم على "الخيال العلمي " الجامح بلا حدود ، وصراع عجيب مع كائنات خرافية ؛ بعضها يحاور ، وبعضها صامت!
2- تسفيه أبطال الأعمال لثقافات الشعوب الشرقية وإظهارها بصورة العجز العلمي والمنطقي.
3-إظهار المسلم والعربي في صورة الجاهل الذي يأتي بالعجب العجاب .
الناحية الإجتماعية :
1- جرأة الأبناء علي الآباء في القول والفعل .
2- التهذيب اللفظي – غالباً – في التعامل مع الغرباء .
3- استعمال بعض الشتائم أثناء الحوار كأمر عادي .
4- الاقتراب الشديد ، والنظر في الوجه باستمرار ، في الحوار بين الجنسين.
5- قابلية أي موضوع للرد والأخذ دون ثوابت .
6-إمكانية المؤانسة في خلوة بين فتيً وفتاة .
7- سهولة افتراق الأسر عقب المناقشة في أمور عادية .
الناحية السياسية :
1- لغة " البطل " متعالية في أحلك المواقف.
2- إظهار " العدو" أو المنافس ، في حالة قوة مادية ، عاجزة أمام المنطق.
3- إظهار الحلفاء ، والأصدقاء ، في صورة التابع الذي لا يناقش كثيراً .
ولا شك أن مجمل هذه الصور تؤثر تاثيراً تربوياً عكسياً في عمومه مع بعض الايجابيات.
جدير بالذكر هنا أن السيطرة والتشفير ، والتوجيه لخيارات محددة ، وتأطير الناشئة عليها غير ذي جدوى ، بل التربية السليمة ابتداءً.
إذا فشل المربى فلا يجزع من تعاطي الناشئة لمواد إعلامية ضارة ، فالتجربة تقول بمللهم ورجوعهم عنها بعد اختبارها بأنفسهم –إذا أُحسنت تنشأتهم- "فألهما فجورها وتقواها " .
الدراما التربوية :
في تاريخ الأدب العربي نماذج حوارية غير أنها تقل عن مثيلاتها العالمية، لا لضعف المادة ، بل لضعف التدوين . ومن أمثلة ذلك حكاية الأرنب ، والثعلب والضب:
زعم العرب أن الأرنب التقطت ثمرة فاختلسها الثعلب وأكلها.فانطلقا يختصمان للضب:
فقالت الأرنب: يا أبا الحسل !
قال : سميعاً دعوت !
قالت : أتيناك نختصم !
قال : عادلاً حكمتهما !
قالت : فاخرج إلينا !
قال : في بيته يؤتي الحكم !
قالت : أنى وجدت تمرة !
قال : حلوة فكليها!
قالت : فاختلسها ثعالة!
قال : لنفسه بغي الخير!
قالت : فلطمته لطمة !
قال : بحقك أخذت !
قالت : فلطمني أخري !
قال : حر انتصر !
قالت : فاقض بيننا !
قال : قد فعلت( )
فذهبت أقواله كلها أمثالاً !
هذا الحوار البسيط يحمل دلالات عميقة : أن القوي مولعٌ بالسلب .وأن الضعيف لا ملاذ له إلا القضاء العادل ، وأن القاضى الضعيف لا يستطيع إنفاذ الحق ، وأن خوفه على نفسه يجعل سلامته اكبر همّه.
ومن أروع الحوار التربوي ما سطره "ابن المقفع" في "كليلة ودمنة"ولو كان هذا المؤلَّف تراثاً غربياً: لوجد سبيله إلى الشاشة ، إذ لم تعد المشاهد الصعبة بمستعصية على المخرجين. ومن أبدع من يوجد من حوار مسرحيات "وليم شكسبير" حيث تتضمن قيماً عالية ، تحض على الاستمساك بالخير كله.
وهنالك إبداعات كثيرة تصلح للتعاطي في هذا الإطار في التراث العربي في الأدب بمختلف ضروبه – حيث يقوم علي الحوار- . في هذا الإطار يقول " جوستاف جرونيباوم" gustave .e.von " grunebaum.في إطار تحليله لحضارة الإسلام:
هنالك فكرة تربوية أخري راحت تتطور استكمالاً لنزعة الاستبحار في العلم ؛ ابتغاء التخصص ، تلك الفكرة الجديدة كانت ترتأي صوغ الفرد بكليته، وتنظيم شكل علاقاته الاجتماعية فضلاً عن أسلوب مناشطه المهنية وأخلاقياتها ، ما يُعبّر عنها بالأدب( ).
فالأدب والحوار القصصي في هذا الإطار جزء منه لا يتعاطي لذاته بل للتغيير الاجتماعي الايجابي المتسق مع القيم.
والحق يقال : فقد استطاعت إيران المعاصرة تقديم دراما تربوية هادفة ، فيما يعرض في أسابيع الأفلام الإيرانية ؛ بشكل تكاملت فيه الرؤي الإخراجية الراقية والتقانة العالية والأداء المتقن للممثلين ، مع الالتزام بالحشمة ، وأدب الإسلام ، غير أن الخلاف المذهبي ، والنزاع السياسي ، يكاد يحصرها داخل إيران فحسب وملحقاتها الثقافية بسفاراتها بالخارج.
" مصطفى العقاد " - رحمة الله عليه - أفاد من تمكنه من أدوات الفن الأمريكي ، واستعانته "بهوليوود" في إخراج أفلام رائعة ، تشكل أساساً حيا ، خالداَ ، للسينما الهادفة . بإخراجه لفيلم "الرسالة" الذي أعطي بنسختيه -العربية والإنجليزية - مثالاً للمخرج الذي يساير الزمان بأدواته ؛ ولا ينعزل عنه. فقدم لكثير من الغربيين معلومات يجهلونها ، عن عظمة الإسلام ، وسيرة النبي "صلّى الله عليه وسلّم" وأصحابه.
وأتبع ذلك بـ" عمر المختار " فلاقى ذات الرواج بالغرب ، رغم كيد "يهود" الذين روجوا : أن هذا الفيلم رمز معرض بالغرب واسرائيل ، وليس ضد الاستعمار الايطالى وسائر أوجه الاستعمار!
وعاجل الأجل المحتوم مخرج الروائع وهو يبحث عن تمويل غير مشروط لـ" صلاح الدين " ليسد به ثغرة رسالية عالمية أولاً وتربوية محلية ثانياً.
يقول محمد وليد جداع( ) : أما السينما ففي اعتقادي أنها آخر فن يمكن أن يدخل في نطاق الفن الإسلامي ؛ لا لأن السينما في ذاتها محرمة ، ولكن لأنها بصورتها الحالية : الهابطة ، العارية ، المنحلة . بعيدة جداً عن الجو الإسلامي .ولكنها ككل فن آخر تستطيع أن تكون إسلامية حين تتبع مفاهيم الفن الإسلامية.

ثالثاً : الحوار في البيت والمدرسة والمجتمع :
في البيت :
يحرص الإسلام حرصاُ شديداً على نطاق الأسرة وتأسيسها فالأسرة هي الحصن والدرع الواقى ينمو فيه الطفل بل هي المناخ المعافى الذي يمد هذا الطفل بالعافية ... مرتكبي الجرائم يكون سببهم الإنهيار الأسري والصراع العائلى .
الانتماء للأسرة فطرة وقد حرص الإسلام على توجيه ذلك الانتماء وتعهده وللأسرة أهداف تتكون من أجلها أهداف طبيعية , وأهداف اقتصادية وسياسية .وقد جعل الإسلام الزواج وسيلة لتكوين هذه الأسرة ، وحدد معايير اختيار الزوجة الصالحة ، كما حمل أعضاء الأسرة أعباء ، ومسئوليات تتكامل فيها مجهوداتهم ، وجعل طهارة المجتمع في طهارة الأسرة.
وألزم الإسلام الأسرة بواجبات عامة تتعلق بالمولود ، وتسميته ، وتعهده بالتربية الإيمانية ، والأخلاقية ، التي تجعله صالحاً لأن الأسرة هي التي تغرس القيم ،والمُثل فى الطفل : تنشؤه على عاداتها ، ولغتها ، ومن هنا تأتي خطورتها كمؤسسة أو وسط تربوي.( )
ويمكننا في هذا السياق تحليل النص السابق بهذه الصورة.
1- يقتضى المناخ المعافى معاملة الطفل كأي كائن عاقل ، إذ أن كثيراً من الآباء يعتبرونه بلا رأي أو فهم مؤهلان للإستشارة ، بل العكس ؛ فالطفل يدرك كثيراً مما حوله ويفهمه وعملية الحوار تنمي فيه الإحساس بالمسؤولية ، وتنفى كبت المشاعر ، والانزواء مما يعزز الصحة النفسية.
2- أهداف الأسرة الطبيعية الحفاظ على الذرية ،وحفظ النوع وهذا لايتاتي إلا بعناصر تتكامل فيها الجوانب الإنسانية وذلك بـ:
أ- تعويد الناشئة على التحية في الصباح وعند الدخول والخروج والسؤال عن أحوال الوالدين والأسرة.
ب- تعويد الناشئة على الاقتراح والاستفسار عما يشكل.
ج-التدريب على إكرام الزائر وإدارة الحوار معه في غياب الشخص المطلوب بالحديث عن الطقس والأسعار مثلاً لتجاوز إشكالية الصمت.
3- لا يتعزز الإحساس بالانتماء بالاستغناء بالأفعال عن الأقوال؛ فلا مناص من تعزيز الأفعال بالأقوال ، كيلا يؤثر الناشئ الشارع بأنسه ، وحديثه والبيت بالوحشة والصمت .
4- التقصير في أداء حق الناشئ لا يعوض بالكلام بل يزيده نفوراً .
5- الناشئ صفحة نقية تحفظ ما يسطر فيها . فتغرس فيه المعاني السامية دون أن يبدي المربى انه مثال الكمال ،لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فلا بد للمربي أن ينمي في الناشئ الاستقلالية وتتاح له الفرصة ليثبت كيانه ويبرز شخصيته ويشعر بالاعتزاز لذلك فلا يلزمه دائماً برأي معين أو إتباع نمط معين من السلوك كما لا يلجأ إلى الفرض والإكراه إلا في حالات اضطرارية قليلة ونادرة ، بل يلجأ دائماً إلى أسلوب الإقناع والاقتناع ما وسعه ذلك وعلى المعلم أن يشجع الطالب على إبراز كيانه ودعمه والنزوع إلى الاستقلالية والاعتماد على الذات خصوصاً ما تعلق بأمور الخاصة( )
في المدرسة : قد يتعرض الطالب للحوار التربوي المذكور آنفاً وقد يتعرض لجرعات أقل بالطريقة التقليدية في التدريس.
في كل الأحوال يحتاج التلميذ لأدب الحوار مع معلميه وزملائه دون تسليم مطلق بكل ما يسمع ، أو الرد الكامل له.
( يتضمن أسلوب المحاورة في التربية الإسلامية ، ضرورة تعريف الناشئة بالأساليب العقلانية ، والمنطقية ، لأي قضية مطروحة أمامهم ، وألا يرددوا المعلومات ترديداً أعمي دون فهم لمضمونها الحقيقي ، أو دون إدراك لارتباطها بواقعهم الفردي والاجتماعي.
كما يجب أن تتاح لهم الفرصة للمناقشة الجادة ، البناءة ، التي تحلل أبعاد الموضوع المطروح للمناقشة وتلقى الضوء على جوانبه المختلفة.
ومن الطرق التي يجب أن يلجا إليها المعلم لإقناع التلاميذ في الأمور الدينية - لاسيما في الغيبيات - أن يوضح لطلابه أن هنالك انواعاً مختلفة من المعرفة من بينها المعرفة الدينية الغيبية والنقل عن السلف الصالح).( )
ملاحظات حول طريقة حوار التلاميذ بالمدارس :
1 - التهيب الشديد من الأستاذ ، وأخذ توجيهاته مأخذ التسليم التام ، ويعالج الأستاذ الامر؛ بتشجيعه للتلميذ على السؤال فيما يأمر به الأستاذ ومدي مقدرته على أداء ما وكل به.
2- في البيئات التي تقل فيها فاعلية العقاب لعوامل اجتماعية واقتصادية ،يجترئ الطالب على الأستاذ بتسفيه قوله ، وهنا يحتاج الأمر إلى مقدرات كبيرة من الأستاذ لرد الأمر إلى نصابه ؛ إذ أن الطالب ترس في ماكينة اجتماعية ، وعوامل بيئية ، تحتاج إلى معالجات منهجية ، وأساسية ، وهنا يعظم دور الأسرة على المدرسة.
3- تفاوت طريقة التحاور مع العمال من قبل الطلاب فبعضهم لا يعبأ بهم ، وأن حاورهم فبنظرة دونية ، وهذا الأمر يحتاح إلى تقييم ،وتقويم ؛لينشأ الطالب على احترام غيره.
ومن المجدي في هذا الإطار تكليف الطلاب ببعض ما يقوم به العمال من تهيئة البيئة ، مما يدفع لاحترام العامل والنظر إليه بإيجابية والتحدث معه باحترام.
ومن المهم ( التنبيه لطبيعة الحوار: إذ أن حوار الصغار يتطلب الدخول في علاقات تفاعلية ، تشاركهم نفس المشاعر وفق الإصغاء ، والتقبل ، والتشجيع على التعبير عن المشاعر ؛ ليستمر المحاور الصغير في قول المزيد دون توجيه أو دون اللجوء إلى المنطق العقلي أما حوار المراهقين فهو مزيج مما ذكر وتوظيف المنطق العقلى معاً مع التذكير أن الهدف بنائى )( )
مع المجتمع :
يقول "محمد مرسى" : يميز علماء المسلمين بين مرحلتين رئيستين في التربية الأخلاقية للطفل :
المرحلة الأولي ويسمونها بمرحلة التخلية ، أي تخلية طبع الطفل من كل رذيلة ، وإبعاده من كل مؤثرات الشر ، والسوء وعدم مخالطته بقرناء السوء : فقد نهانا الرسول "صلّى الله عليه وسلّم" عن قرناء السوء فقال :"إياك وقرين السوء" وقال صلى الله علية وسلم : " لا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره " وقال : الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة "التحلية " والتزكية ويقصد بها تحلية الطفل بالفضائل الكريمة والأخلاق المحمودة عن طريق تشربه لهذه الأخلاق واكتسابه العادات الحسنة من مخالطته للقدوات الحسنة الصالحة.
مرحلة التحلية هي السنوات الأولى للطفل وتستمر مع المرء ما استمرت به الحياة يتعدها بالنقاء من حين لآخر.( )
تخلية الطفل من الرزائل لا تقتضى حبسه بالبيت ، ولا المدرسة ، بل لابد له من مخالطة المجتمع ، مخالطة فاعلة.
وللناشئة والمراهقين عادات في الحوار بالشوارع ، والمنتديات ، والمركبات، والأماكن العامة في التواصل بالانترنت منها ماهو ايجابي وماهو سلبى.
الايجابيات :
1- اتصال اليافعين ببعضهم يكسبهم مقدرات الحوار والجرأة والأنس بالنّاس ، فلا يصمتون في حضرة الزوار ولا يتقبلون كل قول على علاته .
2- الإلمام بأحوال الجيران ؛ بتبادل الحديث فتنمو فيهم روح التكاتف .
3- اكتساب خبرات ومفردات لغوية لا توفرها البيئة المنزلية.
4- توسيع دائرة انتقاء المعارف والتعاطي الايجابي بالتواصل الالكتروني
السلبيات:
1. الأماكن العامة تتيح الحوار مع جميع أصناف البشر منها ما قد يستغله غير المرغوبين للتأثير السالب في الناشئة.
2. اكتساب مفردات غير مقبولة
3. استغلال الوسائط الالكترونية في الثرثرة غير المجدية ، وغير ذلك من ملاحظات يدركها الناظر المتأني.
المربى في هذا الزمان إن اخذ بالشدة والحبس ، والتضييق ، يقبض الريح ، كما هو مشاهد في حياة الناس.
والمربى الذي يجهد نفسه في اختيار الوسائل الإقناعية ، وتنفيس رغبات الناشئة ، بالبديل المقنع : تكون فرصة نجاحه أكبر ، فقط للنظر من حولنا ونتأمل !

المصدر: http://www.soufia.org/vb/showthread.php?8656-%C7%E1%CD%E6%C7%D1-%E3%E4%E5%CC%C7-%E6%CB%DE%C7%DD%C9-.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك