حديث في الوسطية والحوار

حديث في الوسطية والحوار

 

أ. محمد حلمي عبد الوهاب

 

 

لا شك أن «الحوار» يعد ضرورة اجتماعية وسياسية وثقافية من ضرورات العصر - كل عصر - فضلا عن أنه يعبر في الأساس عن جوهر الفطرة الإنسانية الخيرة التي فطر الله الناس عليها «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». وبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية لاستكشاف معاني «الحوار» نصادف معنيين رئيسيين: أولهما الحوار بمعنى «تقابل الحجج والبراهين من أجل معرفة الصواب»، وثانيهما: الحوار بمعنى «البحث عن صيغ مشتركة يمكن لأصحاب الثقافات المتباينة أن يتعايشوا على أساسها، فيفيد بعضهم بعضا»، وكلا المعنيين أتى به الإسلام، بل هما من صميم اهتماماته العلمية وممارساته العملية في أغلب العصور.

فالحوار بمعنى «الجدل ومقابلة الحجة بالحجة والدليل بالدليل» من صميم دين الإسلام، بل هو سمة بارزة فيه مقارنة مع بعض تعاليم الأديان الأخرى. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار كون الإسلام عبارة عن فكرة تنتشر بالدعوة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ناهيك عن دعوته الناس جميعا لإعمال العقل والفكر والتدبر، وحربه العنيفة ضد انتهاج أساليب التبعية والتقليد واتباع الظنون والأكاذيب.

وفي اعتقادي أن بحث قضايا «الوسطية، والتسامح، والحوار في الفهم الإسلامي» لا ينفصل - بحال من الأحوال - عن الارتباط بمسألتين رئيسيتين؛ هما: مسألة الشهود الحضاري للأمة الوسط، ومسألة الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض. ففيما يتعلق بالمسألة الأولى - مسألة الشهود الحضاري للأمة الوسط، وفقا لقول المولى عز وجل: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»، وما يرتبط بها من تحقق خيريتها واقعا عمليا، بحسب مدلول الآية الكريمة: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»، يمكن القول: إن كل أولئك يتوقف على - ويرتبط ارتباطا وثيقا - بمقدار التزام المسلمين بسياسة ونهج «الحوار».

خاصة أن كلا من: رسالة الأمة، وواجبها، ودورها، ووظيفتها، لن يتحقق بالصور المطلوبة ما لم ترتفع هذه الأمة إلى مستوى «الشهود الحضاري» المنوط بها. فالأمة الإسلامية التي وصفت في القرآن الكريم بأنها «أمة الخيرية» و«أمة الوسط» لن تدخل في فعل حضاري شهودي كلي ما لم تستوعب حقيقة وسطيتها وطبيعة رسالتها الشهودية، وما لم تمتلك القدرة على اكتشاف سنن الفعل الحضاري وفاجعة الوهن الحضاري التي أصابت الكثير من مفاصلها منذ زمن طويل.

وبديهي أن ذلك كله لن يتحقق بغير انتهاج أسلوب «الحوار» مع الأنا الإسلامية من جهة، ومع الآخر المختلف عقائديا وحضاريا من جهة أخرى. وإلا: فكيف لأمة الإسلام - على ما هي عليه اليوم من ضعف وهوان - أن تكتشف سنن الفعل الحضاري فيما هي منغلقة على ذاتها لا تتحاور مع الآخرين، خاصة إذا كانوا يمتلكون مفاتيح «التحضر» في عالم اليوم؟! وتبعا لذلك؛ فإن «الشهادة» تقتضي توافر مجموعة من الركائز الأساسية وفي مقدمتها: الدعوة، والحضور، والتبليغ، وإقامة الحجة، والفاعلية الاجتماعية، والقدرة على البيان، والبناء لمضامين «الأمة الوسط» في قلب إشكالات الواقع...إلخ.

كما أنها تقتضي كذلك: الارتفاع بالمسلم إلى أسمى معاني إنسانيته، وتوطيد الصلة بينه وبين خالقه من ناحية، وبينه وبين أخيه الإنسان من ناحية أخرى. فشهادة «الأمة الوسط» تعبر إذن عن مسؤولية قبل أن تكون تكريما، ولذلك فإنها تقتضي لزوم الاستقامة بالدرجة الأولى، والاستقامة لا تخرج في أبسط معانيها عن توخي العدل «القسط»، وهو ما شدد عليه القرآن الكريم كثيرا في توجيهه المسلمين ودعوتهم إلى ضرورة فتح نوافذ للحوار مع الآخر: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

فتأمل: كيف ربط الدعوة إلى الإسلام - عبر الحوار - بالاستقامة، وكيف ربطهما معا بتحقق العدالة: «وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ»، وكأنه أراد بذلك أن يقول: عليك أن تبدأ وتباشر بالدعوة إلى الله عبر الحوار، وأن تلتزم نهج الاستقامة في معالجة قضايا الحوار، وأن تتذكر أن ذلك كله رهن بتحقق العدالة مع الآخرين.

ولعله من اللافت للنظر في هذا السياق أن لفظة «الحضارة» ترتبط في الوعي الإسلامي بقضايا «الحضور والشهود»، ومن ثم بفهم المسلمين لمعنى «الاستخلاف الإلهي في الأرض». وإذا كان معلوما أن كل حضارة تتكون من شقين رئيسيين: مادي، ومعنوي (فالمادي هو ما نلمسه من عمران وصناعات وتقنيات وفنون وعلوم ومعارف وقوانين وأعراف...إلخ، أما المعنوي، فيتمثل في النوازع العقدية، والدوافع القيمية التي تكمن وراء صناعة وإنجاز تلك الحضارات)؛ فإنه كلما اقتربت العقائد والأخلاق من المعايير العلمية والأخلاقية والمنطقية، صارت أقرب من «المدنية» التي هي مرادف للحضارة عند البعض، أما إذا أنتجت التصحر والعقم المعرفي، فإنها تكون «بداوة» ورجعية وتخلفا.

فالحضارة نتاج إنساني في الأساس يعبر عن وحدة المنشأ، وتكامل الأدوار، وهي متداخلة فيما بينها، متكاملة في حلقاتها، لا يلغي اللاحق منها السابق، ولا يميت البعض منها الآخر، وإن تباعدت الأقطار، وتفاوتت الأزمان. و«الفاعلية الحضارية» - بهذا المعنى - تتوغل في صميم العمق الاستخلافي بما أن «شهود الأمة الوسط» يدور أساسا حول تحقيق التوازن الكوني والحضاري في المسيرة الإنسانية، وبما أن «الأمة الوسط» أمة رسالية بمقدورها تحقيق الشهود الحضاري وذلك بحكم: تركيبتها الدينية التوحيدية من جهة (جذرها الإبراهيمي، واستيعابها لكامل التجربة الإسلامية بمعناها الشامل «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ»، واستمرار فلسفة الأمة المسلمة وتجسداتها النموذجية بتنوعاتها المتعددة عبر الجهود النبوية المتراكمة تاريخيا)، وبفضل تركيبتها الجغرافية العالمية من جهة ثانية، وتركيبتها البشرية الإنسانية الجامعة من جهة ثالثة.

ومن هنا؛ يمكننا أن نعرف الأمة الوسط بأنها: «تلك الجماعة البشرية المتنوعة والمتنامية التي تعمل على تجسيد وتجديد الوعي بالحقائق الدينية والتاريخية والثقافية والنفسية والعمرانية للإسلام (بمعناه الشامل)». أو أنها: «ذلك التجمع الإنساني المركب المستوعب لخلاصات وخبرات الوعي الرسالي والمشروع الحضاري الاستخلافي المنفتح على الزمان والمكان (وكافة التجارب)، والوعي الهادف إلى تحقيق التوازن الفاعل في الفعل الحضاري الإسلامي خاصة، وفي الفعل الحضاري الإنساني عامة».

فلكي يحقق المسلم سر الوجود في الأرض: توحيدا، واستخلافا، وأمانة، ومسؤولية، وتعميرا...إلخ؛ لا بد أن يربط حياته كلها - ومجالات نشاطه الفكري والثقافي والتربوي والتنظيمي - بالقيم الحياتية العليا التي جاء بها القرآن الكريم، وطالب الناس بتحويلها واقعا في حياتهم، ومرجعا لسلوكهم، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم حين قال: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».

فتأمل: كيف وازى القرآن الكريم بين غاية المسلم في الحياة وتباين الآراء، ثم كيف قرن ذلك جميعا بجعل البشر خلفاء في الأرض، مع ما يقع بينهم من تفاوت في الدرجات، يكون أدعى للالتزام بالصبر والحلم واتباع نهج الحوار.. وتلك قضية أخرى.

المصدر: الشرق الأوسط.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك