كيف يقرأ المسلم التاريخ؟

كيف يقرأ المسلم التاريخ؟

تيسير الفارس

سلسلة من الدراسات نحاول التركيز فيها و فضّ الاشتباك الحاصل بين قراءتين لتاريخ الحدث الاسلاميّ: القراءة الإيمانيّة الورعيّة الإسقاطيّة؛ التي تقول كلّ شيء لتشكّل وعي المؤمن؛ أي تصوغ عقله وطريقة تفكيره، و هي تشمل كافـّة المذاهب الإسلاميّة. و القراءة الاستشراقيّة التي ظلّت -للأسف- تدور في فلك الدراسات الإسلامية؛ معتمدة على المصادر ذاتها، ثمّ راحت تتبع منهجيّة إعادة صياغة التاريخ، وعلى الأخصّ: صياغة تاريخيّة النصّ؛ الأمر الذي أوقع هذه الدراسات -على رغم كمّ الجهود التي بذلتها- في الخطأ ذاته، أو الأخطاء المنهجية التي عانت منها الدراسات الإسلاميّة عبر تاريخها الطويل. سنكشف عن مدى التخبّط الذي عانت منه كلتا المدرستين. ثم سنحاول جهدنا تطبيق منهجيّة أخرى مغايرة و متقاطعة مع كلتي المدرستين، تنطلق من النصّ ذاته؛ من تفكيكه و إعادة تركيبه و ربطة بتاريخه الاجتماعيّ و الثقافيّ و ما حفّ به من أساطير تمّت ترقيتها عبر التاريخ في جدله مع الواقع الثقافيّ الذي راح يسير بشكل مغاير تماما.

سوف نكشف كذلك عن خطورة تحوّل الخطاب من صورته الشفاهيّة إلى صورته الكتابيّة، ثمّ سنكشف كذلك عن خطورة التحوّلات الدلاليّة للمعاني إلى صيغ يغلب عليها الطابع الموسيقيّ، إضافة إلى تفكيك و تحليل مشكلات المجاز في القرآن التي لم يتمّ الانتباه إليها بشكل موضوعيّ، إلى غير ذلك من القضايا الممتعة.

نحن نعلم اليوم إلى أيّ حدّ تمّ استخدام المصادر التاريخيّة و استغلالها من قبل، و هي مصادر نعرف مدى هشاشتها و نقصها، ثمّ بشكل أخصّ نعرف مدى العمليّات التحويريّة التي تعرّضت لها، و نقصد بها عمليّات التنكّر أو التقنيع، ثمّ الحذف و الانتخاب، ثمّ التحوير، ثمّ التصعيد و التسامي، ثمّ جعل الأشياء متعالية و جوهريّة و مقدّسة، ثمّ أدلجتها اليوم بشكل فضّ و خشن. إنّ المنهجيّة الجديدة تأخذ بعين الاعتبار الجدليّات الاجتماعيّة و تأثيراتها على العلاقة بين اللغة و الفكر و التاريخ، و أمّا المنهجية القديمة فتجمّد هذه الجدليّات و تتجاهلها؛ عن طريق تحويل الأفكار المتحرّكة و التصوّرات العابرة العرضيّة و آثار الحقيقة و علاقات القوى المؤقتة و التحديدات الوظائفيّة -أو الاعتباطيّة- إلى ماهيّات مقدّسة لا تمسّ و حقائق متعالية و نواميس أخلاقيّة و تشريعات تتعالى على كلّ تدخّل بشريّ.

ثمّ و بتطبيق هذه المنهجيّة لكي تشمل كلّ المصادر الإسلاميّة؛ أي كتب التاريخ و كتب السيرة النبويّة أو سير الصحابة و توسّعات المخيال القرآنيّ أو إدخال الشخصيّات الرمزيّة التأسيسيّة في البناء العربيّ و الطقوس الدائرة حول الكعبة، كلّ هذه الأدبيات الثريّة يجب أن نطبّق عليها منهجيّة الحفر المعرفيّ العميق، و بالتالي فلم نعد نضيع الوقت و الجهد في تلك الخصومات الدائرة حول المصادر القديمة أو حول صحّتها أو عدم صحّتها أو الحكايات الشعبيّة و الهذيان الحالم للخيال التقيّ الورع، أو على هذه القراءات السطحيّة التي تتناول اللحظة التدشينيّة للإسلام و ما تلاها من أحداث تحرّكت في مجري الزمن حتى هذه اللحظة الراهنة.

نلاحظ هنا أن المؤرخ الحديث يقودنا بعدما ينتهي من استغلاله للوثائق التاريخية أو اعتصارها حتى آخر قطرة، يقودنا إلى نقطة التماسّ و التوتر القصوى؛ بين موقفين متمايزين للروح البشريّة: موقف يحصر المعرفة بالمعلومات النظريّة و العلميّة التي تنتجها الاختصاصات العلميّة، و موقف يستقبل التعاليم الموثوقة و القابلة للتعميم كونيّاً؛ لهذه الاختصاصات بالذات.

إذا كانت الإمكانيّات الحاليّة للبحث التاريخيّ تتيح لنا أن نعيد السيرة النبويّة بشكل علميّ لا يدحض قاعدتها البيئويّة و العرقيّة و الاجتماعيّة و اللغويّة و السياسيّة الخاصّة بحياة القبائل في مكّة و المدينة في بداية القرن السابع الميلاديّ، و أنّ عليه بالتالي أن يغيّر من مستوى النظرة المعرفيّة الخاصّة بالتعامل مع قيم الأحداث المرافقة لهذا الانبثاق التاريخيّ للتعاليم و الأفكار العامّة و الخاصّة التي غيّرت الواقع؛ بل و أعادة تشكيله على أسس مغايرة و انبثاقة تواصليّة عبر التاريخ حتى هذه اللحظة الراهنة، و لكنّ السؤال المنصف هنا للمؤرّخ الحديث: كيف يقيم العدل بين مكانتين معرفيّتين متمايزتين للسيرة النبوية؟ أقصد مكانة السيرة؛ أي الحركة التاريخيّة المحسوسة الملتصقة بالمكان المدنيّ و المكان المكيّ؟ هذه السيرة التي استهلكتها الأمّة و عاشت عليها طيلة قرون عديدة، و سوف تستهلكها طيلة قرون قادمة لا يعرف مداها أحد؛ بصفتها جزءاً لا يتجزّأ من المقدّس الذي تمّت أسطرته و تعليته إلى آفاق لم يعد بمقدور أحد أن يمسّها بسوء، و التي تغذّي الواقع المعاش بكافّة إمكانيّات وجوده الممكنة. أقدّم بهذا السؤال لأعيد التذكير بهذا العنوان الذي نودّ أن لا نجري حسابات عميقة معه، 23 عام دراسة في السيرة النبويّة المحمّديّة؛ للكاتب الإيرانيّ: "عليّ الدشتيّ" بصفته مؤرخاً حديثا، يقدّم نصّاً مغايرا و قراءة مختلفة، للوهلة الأولى نصطدم بذلك العرض السرديّ المبسّط جدا، الذي يكرّره عادة عدد كبير من الكتاب المسلمين و المستشرقين على السواء، و هم عندما يتّبعون هذا التسلسل الزمنيّ للأحداث منذ ولادة محمّد إلى نزول الوحي إلى مسألة النبوّة إلى غير ذلك؛ حتى نصل إلى مشارف هذا القرن أو إلى مشارف الأفكار التي يراد لها أن توصل أو يوصلها الكاتب المؤرّخ إلى القارئ، هكذا يقومون بوصف هذه التجربة الطويلة عبر الزمن و التاريخ؛ مركّزين اهتمامهم فقط على بعض الشخصيّات و على اللحظات الحاسمة لمجرى القدر الجماعيّ للأمّة الإسلامية. من المؤكّد أنّ هذا الوصف الجامد الساكن للأحداث سوف يخيّب آمال رَجُلي البحث العلميّ و السياسيّ؛ فهما يرغبان في التوصّل إلى معلومات جديدة و تفسيرات علميّة دقيقة لما حدث و للنسق التاريخيّ كيف تمحور حول شخصيّة محمّد. في الواقع؛ إنّه يصعب إنجاز هذين الهدفين معا، ذلك لأنّنا نجد غالباً -فيما يخصّ الإسلام- إمّا دراسات أكاديميّة موثـّقة دون أيّ ابتكار أو انفتاح نظريّ، و إمّا تنظيرات سريعة و عموميّة ناتجة عن تأويلات غير ناضجة للإسلام.

لم نعد إلى احتقار القديم أو الماضي أو الدين أو العقائد أو التراث باسم العلم الحديث أو القراءة المتأكّدة من قواعده و مبادئه و مناهجه و نتائجه؛ ذلك لأنّ التضادّ الحادّ و القاطع بين التراث و الحداثة لم يشكّل في التاريخ إلاّ لحظة محدّدة؛ هي لحظة العقلانيّة العلموية التي فرضت تحديداتها. لقد تجاوزنا هذه المرحلة الآن. إنّ المجتمعات تتكلّم على عدة مستويات، و ينبغي أن نتلقّى كلّ خطاب على المستوى المعرفيّ الخاصّ به، و من خلال المقولات التي ساعدت على تشكيله و تمفصله، هكذا نلاحظ أنّ خطاب أغلب الباحثين المعاصرين الإسلاميّين و المستشرقين لم يتوصّل حتى الآن إلى التمييز بين الأسطورة و التاريخ؛ لم يتوصّل إلى تفكيك المعرفة المتضمّنة في النسق السرديّ؛ و التي هي في رأيهم تشكّل الحقيقة التاريخيّة الناجزة و النهائيّة، إنّهم يخلطون بين هذين النمطين أو الطرازين من المعرفة، و يتمّ الانتقال من واحد إلى الآخر دون أيّ انزعاج و دونما أيّة مساءلة لتاريخيّة هذه النصوص و دون أيّ تساؤل أبستميولوجيّ؛ بمعنى دون الشعور بأيّة مشكلة، و هنا تكمن الكارثة. إنّنا لا نشهد تحليلاً نقديّاً لحقل التجربة بالمعنى الاحترافيّ للنقد العلميّ و صياغاته المتقدّمة.

لمّا كانت قراءة التاريخ تفترض -كما رأينا- علاقة محدّدة للفكر باللغة فإنّها تفترض أيضاً رؤيا معيّنة للتاريخ تتناسب مع إطاره و الكتابة الخاصّة بطريقة تعبيره و شكله أو أسلوبه، فنقل العبارات النصّـيّة للقرآن -أي الآيات- و نقل الحديث و الشهادات الخاصّة بسلوك النبيّ و طريقة حياته و ممارساته اليوميّة بكافّة أشكالها و تمظهراتها الآنيّة و المستقبليّة و حتى علاقاته مع زوجاته ودائرة الصراع مع أعدائه؛ و كذلك الصحابة و أعمالهم و حروبهم الدامية و انتقاء الوقائع و الأحداث الدالّة و المهمّة بالنسبة للذاكرة الدينيّة للأمّة، كلّ ذلك يشكّل ممارسات عديدة تفترض مسبّقاً استخداماً خاصّاً للتاريخ و رؤيا خاصّة للتاريخ، فنحن نعلم أنّ المؤرّخين المسلمين يهتمّون بالأحداث الزمنيّة المتسلسلة و بالسيرة الذاتيّة؛ من أجل البرهنة على صحّة المادّة المنقولة و وثاقتها، و ما إن يتشكّل التاريخ على هذا النحو حتى تشرع كلّ المناقشات الجارية بين الفقهاء و المدارس العديدة بإثارة المحاجّات التاريخية أساساً لكي تدعم مواقعها و أطروحاتها، و من المسلّم به أنّ هذه المحاجّات ليست تاريخيّة و إنّما هي مركّبة و مبرهن عليها بشكل لاتاريخيّ؛ أي بالشكل التقليديّ و المفهوم القديم للتاريخ. فكيف نعتبرها إذن حقائق؛ ثمّ نعود لمساءلة هذه الحقائق وفق طرح جديد و مختلف كليّا؟!

إنّ هذا الحرص المستمرّ و الدائم على التمحيص التاريخيّ للأحاديث المنقولة يشكّل -حتى يومنا هذا- أحد مواضيع الافتخار و الثقة بالنفس التي يعتزّ بها المسلمون و يثيرونها ضدّ المستشرقين و النقد الاستشراقيّ، فهم يرون أنّه لا داعي للعودة إلى التساؤل حول مجموعة صحّة الأحاديث المتشكلة و المبلورة من قبل شهود جديرين بالثقة المطلقة، كما أنّهم يرون أنّ المستشرقين -الذين يلقون بالشكوك على هذه المجموعات و المؤلفات التاريخيّة و التراثية- هم إمّا سيّؤوا النيّة و إمّا يجهلون مدى العلم التاريخيّ الممارس في الاسلام.

نلاحظ أن الكتـّاب الحديثون -بما فيهم الدشتيّ و من قبله طه حسين وغيرهما- الذين اهتمّوا بالاستعادة النقديّة للتراث الدينيّ و الثقافيّ أو كليهما؛ لم يعرفوا كيف يزحزحون المناقشة من أرضيّتها السابقة نحو دراسة تمهيديّة للأطر الاجتماعيّة الثقافيّة السائدة و الخاصّة بالمعرفة خلال مرحلة الانبثاق و ما تلاها؛ طيلة القرنين التاليين. لا يكفي التذكير بالقول بأنّ النقل الشفهيّ كان يغلب آنذاك على النقل الكتابيّ، و إنّما الشيء الأساسيّ و الأكثر أهمّيّة يكمن فيما يلي: ينبغي تبيان كيف أنّ بعد الغريب و المدهش؛ و البعد الأسطوريّ و الرمزيّ و المجازيّ كان يتغلّب آنذاك على المقولات العقلانيّة و المنهجيّات المنطقيّة في تشكيل المخيال الاجتماعيّ و طريقة توظيفه و ممارسته. ينبغي أن تستعاد دراسة كلّ التاريخ الثقافيّ للمجال العربيّ و الإسلاميّ؛ ضمن المنظور المزدوج بين العاملين الشفهيّ و الكتابيّ؛ الأسطوريّ و العقلاني؛ المقدّس و الدنيويّ. نجد هنا أنّ التاريخ و التراث بصفته نسيجاً نصيّاً و معنىً يحمل مضمونّا -أي كشكل و مضمون- يحمل علامات هذه المنافسة و آثارها، و هذا ما يجعل لازماً؛ بل و محتوماً -اليوم- إعادة تقييم الشكل و المعنى؛ لأنّ كل هذه المفاهيم الأساسيّة المضطلع بها في المعاش الضمنيّ للمؤمنين من تقديس وغرائبيّ و أسطوريّ و شفهيّ و كتابيّ و مخيال و عقلانيّ و غير عقلاني... هي الآن في طور الانتقال إلى حالة المعروف الصريح؛ بفضل الاكتشافات الجديدة للعلوم الإنسانيّة و الاجتماعية.

إنّ هذه العلوم المنبثقة حديثاً و الضاغطة على الوعي الجمعيّ للأمة الإسلاميّة هي التي ستجعل محمّداً يظلّ فقط داخل جسد الكتابة، و يظل المسجد يمثّل ذكراه؛ ذكراه فقط. أمّا تلك القراءات؛ أو القراءة التي تلقي ظلالاً آسنة -بعيدة أو قريبة- على هذه التجربة الكونيّة الغنيّة و المتميّزة في الوجود البشريّ فستظل تلك ظلالاً لا تنتج معنىً و لا تؤسّس وعياً مغايرا. و هنا أذكـّر بما قاله "جويس" في كتابه "جماليّات التلقّي" و تتلخّص نظريّته أو أطروحته في أنّ العمل الأدبيّ لا يوجد و لا يدوم إلاّ بالمساهمة الفعّالة و التدخّل المستمرّ لجمهوره على شتّى الأصعدة، و هو ينطبق على الأعمال الأدبيّة و الفنيّة ذات المستوى الأعلى؛ و التي هي النصوص الدينيّة. بهذا المعنى نجد أنّ التاريخ الدينيّ مكتنز بالشهادات التي لم يخلّفها لنا أولئك الذين مسّتهم روح الوحي عبر التاريخ، و إنّما هو عبارة عن خلق جماعيّ صنعه و شارك في صنعه كلّ أولئك الذين يستمدّون هويّتهم و وجودهم من هذا التاريخ، و بالتالي فإنّ عمليّة نقل الأحداث من مستوى فاعليّتها المعاشة -كتجربة تاريخيّة- إلى تجربة مفارقة للتاريخ؛ إلى تجربة فوق تاريخيّة؛ هي عمليّة مشروعة تماماً في الوعي المؤسّس لهذه التجربة.
 

المصدر: http://www.ladeenyon.net/index.php?option=com_content&view=article&id=366:2010-04-18-14-27-07&catid=89:2011-02-04-11-58-36&Itemid=147

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك