الاستقطاب الأيديولوجي... ضد التسامح

الاستقطاب الأيديولوجي... ضد التسامح

 

د. عبدالله العوضي

 

الأيديولوجيا وحدها لا تكفي ولا تساعد في إدارة الشؤون العامة لأي مجتمع وإن كان ديمقراطيّاً حتى النخاع في الغرب أو الشرق، فالنتيجة محسومة نحو المزيد من التطرف أقصى اليمين أو أقصى اليسار، والخاسر الوحيد هنا هو "التسامح" الذي يصعب أن يسود سواء كان الاستقطاب الأيديولوجي دينيّاً أو سياسيّاً أو اجتماعيّاً.

فالديمقراطية الغربية لم تكن في يوم ما سحابة صيف أمطرت الحرية والعدالة والمساواة، بل هي بذرة غرست في باطن المجتمعات وسُقيت بالكثير من التضحيات، حتى وصلت اليوم إلى هذه المرحلة المتطورة وهي لم تكتمل بعد لأنها أصبحت جزءاً من سيرورة التاريخ وصناعة فكرية تحتاج إلى الرعاية المستديمة.

 

إن المتحمسين لنظرية المعجزة بدل المقدرة على تحقيق الديمقراطية بمجرد الخروج إلى الساحات العامة، والمطالبة اللسانية، لن يحصدوا ثمار هذا الحماس غير المنضبط إلا إحباطاً وتراجعاً، ليس لأن مطالبهم غير مشروعة، لا، بل لأن الطريق إلى الديمقراطية المنشودة كما هو في الغرب غير ممهد للمجتمعات العربية التي خرجت عن طورها، لأن تعبيد أي طريق يأخذ وقتاً أطول من مجرد شراء سيارة عبر الإنترنت.

نتابع اليوم السجالات الدائرة في المجتمع الإيطالي الديمقراطي والخلاف على زعامة برلسكوني للحكومة في المرحلة المقبلة على خلفية قضايا جزئية قد يظن البعض أنها ستفت عضد الديمقراطية في ذلك المجتمع الذي يموج بالمتغيرات.

لقد قام بعض الباحثين في إيطاليا بدراسة وافية عن النموذج الديمقراطي الإيطالي، استغرقت منهم ومن عمرهم عقدين كاملين من التقصي والدراية، وفي الفترة ما بين 1970- 1989 خرجت هذه الدراسة الواقعية في كتاب بعنوان "كيف تنجح الديمقراطية"، وأشاروا في ثناياها إلى أنه "الأكثر أهمية، الذي ظهر في محادثاتنا المتكررة مع كل أعضاء المجالس وقادة المجتمع المحلي فيما بين عام 1970 و1989، هو منع الاستقطاب الأيديولوجي بشكل ملحوظ مع توجه شديد إلى منهج أكثر براغماتية نحو الشؤون العامة، وعندما ضاقت المسافات الأيديولوجية ازدهر التسامح بين الأحزاب".

وهذا النمط من الحراك السياسي في المجتمع الإيطالي يصعب تطبيقه أو حتى تقليده في بعض المجتمعات العربية الملغمة بالأيديولوجيا الدينية أو الفكرية والسياسية. فالديمقراطية المطلوبة اليوم في المجتمعات العربية التي سالت فيها الدماء أنهاراً، لابد أن تكون صناعة ذاتية تحول دون التعصب لحزب ما أو فكر معين يراد من خلاله تطويق المجتمع به، حتى لا تتحول مع مرور الأيام إلى واقع ديكتاتوري آخر ولكن بغلاف ديمقراطي رقيق يسهل نزعه عند أول أزمة.

إن الحراك السياسي في هذه المجتمعات بحاجة إلى مزيد من الترشيد حتى لا يكون الحكم المقبل لسيف الانتقام والتشفي بدل إعطاء العفو والتسامح مساحة كبيرة خاصة عند المقدرة المؤكدة.

لا يعجز أي منظر في هذه الظروف الحرجة من حياة الأمة العربية أن يضع خطوطاً عريضة للنهج الديمقراطي الذي يحبذ أن يسود في المرحلة المقبلة، لأن النظريات السياسية بشتى اتجاهاتها متوفرة بين الأيدي، إلا أن الواقع اليوم قد يتنافر مع كثير من بنود تلك النظريات الجاهزة، للدراسة طبعاً، أما التطبيق، فهذا له شأن آخر، بحاجة إلى دراسة متأنية لا تقل مدتها عما قام به بعض الباحثين الغربيين حيال النموذج الإيطالي وفقاً لتقاليد المجتمع المدني في إيطاليا الحديثة.

جريدة الإتحاد الأماراتية

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك